المذكرة الخامسة عشر
إن الموت الذي عاجل كبار الرجال ومشاهير القادة والكُتَّاب قبل أن تنضج مجهوداتهم «واخد بالك» قد محى بيده الحقيقة فقضى على مجهودي قبل أن أتمه.
نجوتم من يدي يا سادتي من زبائن وزبونات، وطويت مذكراتي، وهي الحافلة بالحوادث والعظات، وحال بينهم وبيني قضاء وقدر، حال بينهم وبيني عجل يطوي الأجل وبأجرة أيضًا، وإلى القراء ما حدث: قدر فكان، ومكتوب على الجبين تراه العيون، ونزلت بي الكارثة التي تهدد الجميع ستصيبهم واحدًا فواحد، ما دامت البقية الباقية من أوتوموبيلات السلطة العسكرية تسير بلا وعي على مبدأ لا أتوموبيل إلا أنا، والحكومة تاركة الحبل على الغارب وحضرات السواقين يلعبون بالنار، ويتسابقون كأنهم في مضمار، لا يأبهون لآدمي أو جماد وأصحاب الامتياز لا يهمهم إلا ملأ الجيب، وعلى الله التساهيل.
شوارع أصبحت كلها «مطبات»؛ لأن الحمل الذي يسير عليها ثقيل لا يحتمل، والتنظيم «مش ملاحق» يصلح، وحوادث الاصطدام ضايقت حتى عزرائيل فلخمته.
لقد رأيت بعيني رأس يومًا من الأيام يلمس الترام فيوقفه ثم يخرج من حدود الشارع إلى رصيف قهوة بعابدين فيصدم بالعامود الحامل لأسلاك الترام، وأخيرًا يقف، وكل هذا أين؟ أمام قسم عابدين!
الله وحده يعلم عدد الضحايا، ومجهود الإسعاف وقصر العيني إذا وقع سلك الترام، فنسف وحرق في ثوان أرواحًا وأبدانًا.
وها أنا أكتب إليكم هذه المذكرة التي ربما كانت الأخيرة، وأنا على سريري بقصر العيني، وقد بتر لي ثلاث أصابع من يدي اليمنى، وعملت لي عملية في رجلي، مع أن آخر ما أذكره قبل أن غبت عن الوجود قول أحدهم لي وأنا بين الانتباه والإغماء «شد حيلك يا بو محمود، سليمة».
ولست أدري كيف تكون المسألة سليمة، وقد قتل في «تكاتيكها» جوز خيل، وتهشمت العربة، وبترت أصابعي، وعملت لي عملية في رجلي، بل ماذا كان يوده القائل أن يحدث لتكون المسألة غير سليمة.
وهذه هي الحادثة بدون تهويش ولا تهويل كما كتبت في المحضر، وكما عرفها موكلي محامي العمال الأستاذ كامل بك حسين ليطالب لي بتعويض عما أصابني من الضرر والتكسير «والخضايض».
حدث يوم الجمعة أنني أوصلت بدرًا من بدور النحس، فأصابني رشاش نحسه المدرار، وكان ذلك في أنحس ساعة من أنحس يوم جمعة مع أنحس زبون.
ركب معي من وصلت إلى محطة حلوان، فبانت لي بوادر نحسه في الطريق، إذ كبت الخيل وكدنا نضيع أمام ملف البنك الأهلي مع أتوموبيل «أيضًا» ووصلنا أخيرًا، فأعطاني الأجرة وأنا أتأمل شاربيه وكيف فتلا، وإلى الطربوش وكيف استوى على ذلك الرأس النحاسي فوق شعره الحجري اللامع، لم تلامس كفي كفه؛ لأن جو البيك البارد جعله يلبس «قفازًا» في هذا الصباح بالرغم من شدة الحر، والله أعلم ماذا كان ملاقيني أكثر من ذلك إذا كنت لامست يده!
تركته وما كدت أظهر في الملف الذي يلتقي بشارع الدواوين حيث محطة الترام حتى داهمني «بدون إنذار ولا نفير وبسرعة مدهشة» أنا وعربتي والجوز الخيل ذلك البيت المتحرك الثقيل الظل، الذي يثير التراب، ويفسد الطريق على المارة، ويهدد المنازل «اللي بتشاور عقلها بهدد مستعجل» وإذا اصطدم بأي متحرك أو ثابت طواه تحت عجله الذي لا يرحم، ويذكرنا بدوشته ورذالة شكله شبح السلطة بأوامرها ونواهيها.
ولما تلاقينا — كما قال الشاعر — كانت النتيجة أن الجوز الأصايل ماتا على الأثر، فتهشمت العربة، فأصبحت «عربة يد».
وتشوه جسد محسوبكم، فلم أستفق إلا وأنا على سريري نمرة ٥ بقصر العيني، يعتني بي دكاترة، أعرف منهم كثيرين، كنت حوذيهم قبل أن يشتروا سياراتهم الفخمة «رحم الله أيام العز» وكان الجراح الواقف بجانبي يشرح لبعض إخوانه سهولة بتر العضو إذا مرت عليه داهية كالتي مرت علي، فإنها كما قال تهرس اللحم وتفشش العظم ولا تترك للجراح إلا مهمة التخليص.
وها أنا على سريري «بين يدي الله» أنادي المحافظة، وأظن أن نداء المرضى والمصابين والذين على أبواب الأبدية جديرة بأن يصغى لها، فتعتبرها على الأقل كالصاعدين على المشنقة.
يا رجال الإدارة: إن الطرق التي تسير فيها هذه السيارات أصبحت لا يُحتمل السير فيها خوفًا على الصحة، إن صح أن لا خوف على الحياة مثلًا، إن سائقي هذه العربات يلعبون بالنار وبأرواح الناس، فترى الواحد منهم يسير وقطر الترام بجانبه، والآخر مواجهه وهو لا يهتم أبدًا، فيسير كأنه في حلبة سباق، مع أن غلطة بسيطة في هذا المقام تجعل الصحف تنشر ببنط ٤٠ العنوان الآتي: «الكارثة الكبرى – تهشيم أتوموبيل وقطار الترام – موت عشرين وجرح الباقي.»
ولكن أين النظر البعيد الذي يجعل هذا الجاهل يرى نتيجة جنونه وتهاونه بأرواح العباد؟ يا صاحب المعالي، يا وزير الداخلية، يا سعادة المحافظ، وأخيرًا يا سيدنا الحكمدار، إن الفجائع التي تحصل يوم فيها الكفاية لإيقاف هذه الزلازل عند حدها.
دعوها تسير خارج البلد تسهيلًا للمواصلات، وتقليلًا للحادثات، وحفظًا لأرض الطرقات، وتفريجًا عن المنكوبين أمثالي أصحاب العربات.
هذه المذكرة ربما كانت الأخيرة — أيها القارئ — وقد كتبها صديق لي أمليته إياها فيحسن بي، وقد كان لساني طويلًا في بعض الأحايين أن أتقدم — لا عن خوف وإنكار لما كتبت — ولكن رجاء نسيان الماضي فقط، إلى جميع من أصابهم رشاش القلم «الغير مأجور» على صفحات الكشكول، إلى سادتي وسيداتي أبطال المظاهرات، الصارخين والصارخات، المصونين والمصونات، إلى أسيادي بالرغم مني رجال الإدارة من أصغر نفر إلى أجعص … إلى سمي النبي عيسى، صاحب الاختراع العجيب لبيع النشوق الأبيض والمورد الأكبر لمستشفى المجاذيب، أن يعتبروا ما كتب «خطرفة» مجنون، ولكن على شرط، أن يعتقدوا بقول القائل: «ما أكثر كلمات الحق في أفواه المجانين» … بل لهم أن يعتبروا صراحتي هذه كمرض وقاهم الله شره، فلا قبل لهم به.
هذه يا أسياد حنفي، ويا صاحب الكشكول الحادثة الختامية لحوذيكم المخلص في خدمتكم، لا أطلب منكم إلا الدعوات الصالحات لأخرج، ولو «على عكاز» من مستشفى قصر العيني، فأنا الآن بين شقي مقص الفناء «كما يقول حافظ بك إبراهيم» فإن مد الله في الأجل فسأظل في خدمة القراء أذكرهم بشخصي من وقت لآخر على صفحات الكشكول، وإن طوى الله كتابي فسيعرفون ذلك على هذه الصفحات أيضًا فيترحموا على العربجي المسكين محسوبهم في الدنيا والآخرة.
الكشكول
نحن نأسف كل الأسف لما حل ببطل الحوذيين الأسطى حنفي، ونبتهل إلى الله أن يمن عليه بالشفاء العاجل، وأن يعاود كتابة مذكراته، فيخدم القراء بقلمه لا بكرباجه.
إن نطاق الصحف يتسع لكاتب قدير كالأسطى حنفي، يكتب في الأخلاق وفي الآداب، ويريح الجمهور من السياسة التي بدأ يمجها الذوق؛ لأنها أصبحت شغل الجميع، وإن كان لا يحسن ممارستها أحد.
لقد كان التحرير يحسد الكرباج على الأسطى حنفي، ولا بد أن يكون ما حدث له نتيجة حسد كل الحوذيين له وحقدهم عليه، شفاه الله وقدره على مزاولة التحرير للاستفادة من مذكراته وآرائه الناضجة.