المذكرة السادسة عشر
لقد نفدت من الموت بأعجوبة، كما يقول كبار الكتاب، أو أن يد الموت فرقت بنط، كما يقول أسيادنا اللعيبة، وعلى هذا تأجلت مهمة «عزرائيل» إلى مصادمة أخرى مع إحدى تلك البيوت المتحركة التي تجوب طرق العاصمة بسرعة المفتخر، وحينئذ إذا صح أن مصرعي سيكون بهذا الشكل، تصعد الروح إلى خالقها مدهوسة مفرومة مدشدشة، وبالاختصار جاهزة.
لنمت جميعًا وليحيا السيد يسن والصبان وإخوانه وشركاهم.
«لمني» عمال جمعية الإسعاف الذين حضروا بسرعة البرق، كأنهم كانوا على موعد، أو أن السواق اتفق معهم وباشروا مهمتهم كما قيل لي؛ لأني كنت في عالم آخر، ولا أطول عليك أيها القارئ، فقد نقلت من هناك إلى قسم عابدين، ومن القسم إلى قصر العيني، وهو مفترق الطرق، فأما من هناك إلى سيدك زينهم، وربك يرحم الجميع، أو تريد العناية أن أخرج حيًّا، وهو ما حصل ولله الحمد.
ستصل إليك هذه المذكرة يا بو داود مع أخينا التمرجي؛ لأنهم منعوني من الخروج بالرغم من أن الجرح ابتدأ «يلم» وربك يبارك في عمر علي بك إبراهيم وإخوانه زي «اللهاليب» في الشغل، والمشرط في إيديهم طالع نازل، وها أنا أروي لك ما حصل بعد ما دخلت.
لم أنتبه إلا وأنا في السلم محمولًا على محفة بين اثنين من التمرجية، لقد كان المنظر مضحكًا، ولكن أين القابلية للضحك في مثل هذا الموقف؟
تصور — أيها القارئ — أن التمرجي الأول وهو يصعد إلى السلم تبرم من الآخر الذي كان يحملني من الجهة الأخرى، وحدثت المناقشة الآتية وأنا بينهما لا يمكنني حتى النطق.
قال الأول: أنت مش حتبطل الدلع ده يا مرسي، ما تشيل زي الناس!
– يا شيخ خليك راجل، أمال أنا بلعب!
– بقى اسمع، أنا مش رايق لك النهاردة، وديني أستغنى عن وظيفتي وألخبط خلقتك.
– خلقة مين يا واد؟
– خلقتك وخلقة أبوك كمان.
– طيب، امشي بقى أحسن والله ما اضربك إلا بالعيان أجيب خبرك.
– تضرب مين يا واد؟
وأنا في هذه الأثناء «مشعلق» وجل خوفي أن يتركني واحد منهم فأنزل أهوي على السلالم، بالاختصار انتهت الخناقة كالعادة، كما تنتهي أغلب خناقاتنا المصرية «دردشة فقط».
وعلمت فيما بعد أنهم لم يجدوا لي سريرًا، فبسطوا لي بطانية على الأرض، وأطلقوا علي اسم مريض نمرة ٥ ونصف؛ وذلك لأني كنت بين السريرين ٥ و٦، وهاجمتني الخيالات ليلًا وانتابتني الهواجس والأحلام، فصحوت نصف الليل، وإذا بالمرضى كلهم جلوس على أسرتهم، وأنا أنادي بصوت عالٍ قائلًا: «يمينك شمالك، ورده أوعى الملف يا جدع.» وبالاختصار طلع النهار، وشرف أسيادنا الدكاترة، وعدوك يا سيدي على تلامذة مدرسة الطب «جعانين علم» فإنهم هاجموني وابتدءوا «يقلبوا» في جسمي، فأسمع منهم من يقول: «دي حالة خطرة، يجب عمل العملية حالًا.» والثاني يقول: «يجب بتر الذراع كله.» فيرد عليه واحد من إخوانه قائلًا: «أما جرح الرجل ده بسيط، شوف جرح غيره.» كأنني معرض جروح! وأنا في هذه الأثناء مستسلم كطرد بوستة، وأخيرًا تقررت عملية بتر الأصابع، ونقلت إلى سرير العمليات، وابتدأت أستنشق الكلوروفورم، ورأيت بين الأشباح التي رأيتها الدكتور محجوب يهز رأسه بهيأة المتأثر، وأحمد بك الشيخ يلوح لي بعمامته كما يلوح الإنكليز بالكاسكيت، وهو يقول: «آدي نتيجة طول اللسان والمعايبة على الناس اللي ما لهمش مبدأ واحد، يا قليل الحيا، لا رئيس إلا ما تقضيه الأحوال.»
بل رأيت بعيني الأستاذ «عيسى» ماسكًا بيده زجاجة صغيرة بها مسحوق أبيض، لست أدري أكان «كاربونات الصودا» أم «ملحًا إنجليزيًّا» أو — أستغفر الله — كوكايين، وهو يبتسم لي بشماتة مناديًا: «كانت بثلاثة قروش، بقت بخمسين «إحنا المتعهدين يا هوه» لا تقف أمام إرادتنا حكومة ولا غيره يا عالم، بفلوسك تاخد اللي أنت عاوزه.»
وصحوت بعد ذلك بي اسمي نمرة ٤ وبجانبي على اليمين جدع محروق، كله مربط والقطن باظظ من كل حتة في جسمه، وطول الليل — أيها القارئ — «وعيني لم تدوق النوم» لأنه كان كمزيكة حسب الله، آه أوه إيه أواه، وعلى اليسار مريض بالدوستاريا عملت له عملية في المستقيم، ويا سيدي على مصارينه التي كانت تغني على المزيكة التي بجانبي على اليمين بطريقة خيل لي بها أني بأعلا تياترو الكورسال.
إني قبل أن أختم مذكراتي، لا أنسى أن أتقدم شاكرًا مقبلًا يد علي بك إبراهيم الخفيفة هو وإخوانه «وصبيانه» تلامذة مدرسة الطب على عنايتهم بالعلم والطب، وأخذهم بيده إلى هذا المستوى الذي هو فيه.
وهناك دكاترة «إنكليز» لا يدهشك منهم إلا معرفة اللغة العربية، فأكاد أنسى مثلًا أن الدكتور مادن من ليفربول، وأنه ربما كان من «الصنادقية».
وعلى هذا خرجنا من «الأشلة» كما كانت تقول «الحرمة» لجماعات المهنئين بخروج حنفي سليمًا، ولكن على المعاش، وعلى رأي أحد إخواننا العتر حينما قالي: «روق يا بو محمود، الحمد لله اللي جت على كده، يا ما السلطة كفنت ودفنت، فداك ستين صباع يا عم، إذا كانت الحكومة عايزة كده خلينا ندهس، دي رخصتهم سواقة ودهس.»
وودعت قصر العيني وداعًا حارًّا، ودعت أكل المرضى اللي «ضناني» وخرجت بالطبل والزمر، وقامت «الولية» بالواجب فاستقبلنا في منزلنا الحقير الحبايب والجيران، وجيران الجيران، وحليت «الصهبة» ولعلعت في فضاء التعالية المواويل الحمر، وانفرد الحاج برعي قائلًا: «حن الحديد لجل حالي وأنت لم حنيت.»
فنظر إليَّ أحد إخواننا المعلمين قائلًا: «ده بيقول على الكوتش بتاع الأوتوموبيل اللي دهسك يا بو محمود.»
وانتهت الليلة على خير كما انتهت حياتي العملية، وأصبحت الآن في المعاش، عربجي قديم كهنة، يلذ له أن يجلس بين إخوانه، ويحدثهم بما وقع له أيام كان في الخدمة على نغمة تعميرة التنباك، وطعم القهوة السادة، مد الله في آجالكم أيها القراء وأماتكم مستورين، وبأي طريقة إلا تلك التي كنت على وشك أن أضيع بين براثنها.
وأنا في الخدمة وخارجها، محسوبكم.