وفي الختام
الحمد لله آلاف المرات على ما وصلت إليه، وصح المثل القائل «آخر خدمة الغز علقة» والغز هنا يا سيدي القارئ هو الجمهور، ولله درك أيها الأستاذ فكري بك أباظة حيث قلت لي في مقدمتك: «إن من يتعرض لخدمة الجمهور يجب أن يدوسه الجمهور» قول جدير بالاعتبار والنظر، فوشرفك لم يسأل علي من زبائني الأخصاء اللذين كانوا يستخدمونني وعربتي وخيلي في سبيل مآربهم وغاياتهم أحد، بل الأدهى أنني كثيرًا ما رأيت الواحد منهم يتعامى عني، كأني أصبحت «مرضًا أو أنه ينظر إلي نظرته إلى سائل سيطلب منه المعونة» مع أن محسوبك متيسر، والأشيا معدن، وحالته رضا، منحني الله النعمة السابقة التي ورثتها نفسًا تفضل الموت على سؤال من لا يفهم معنى لكلمتي البر والإنسانية.
نهايته، لقد بعت الأنقاض «أنقاض العربية» وأجرت «الإسطبل» وأضفت ذلك إلى ما عندي، فكان فيه الكفاية وأكثر، وخرجت من هذه المعمعة كلها بفكرة لا يمكن أن تفارق مخيلتي أبدًا، تلك هي مداومة تعليم «ابني» وإبعاده قدر الطاقة عن كرسي الصنعة، فهي محتقرة في هذا البلد، ومن يدري! فربما وصل يومًا من الأيام إلى درجة أن ينادى عليه بلقب «يا متر» أو «يا دكتور» أو يا حضرة الباشمهندس، ووقتئذ يمكنه بعمله وآدابه وإنسانيته أن ينسى من يعرفه أنه نجل «الأسطى حنفي».
كم في البلد — أيها القارئ — من كراسي تحمل فوقها من ينتهي نسبه إلى «معلم عربيات» أو خفير أو «سقاء» أو «بلانة» مثلًا، وقد كفى التعليم والكفاءة لاعتلائه منصب الإدارة أو القضاء أو الوزارة، وحينئذ لا تسمع إلا «سافر صاحب المعالي، حضر صاحب المعالي، مرض صاحب المعالي، شفى الله صاحب المعالي» وتنوسيت مسألة الأصل إلى أن تبدر منه بادرة شر أو غلطة تدفعه إلى هاوية السقوط، وحينئذ يتناسى الجمهور كل خير تناوله من يمين هذا المسكين، ولا تسمع إلا قول هذا «الأصل تمام يا سيدي، ده أبوه غفير» وقول الآخر «معذور أصله دون، وأبوه سافل» … إلى آخره.
ولكني رغمًا عن كل هذا سأستمر في تعليم ولي عهدي؛ لأضيف لهذه الأمة التي أنا مدين لها بحياتي فرعًا طيبًا جديدًا، فهي في احتياج هائل إلى العلم تداوي به مرضها.
«يرجع مرجوعنا» أيها السادة القراء إلى كلمتي الختامية، وهي جديرة بالاحترام من الجانبين، فريق الزبائن أولًا، وزملائي العربجية ثانيًا.
يا أسيادي ويا زبائني: يقول المثل البلدي الصريح «من فات قديمه تاه» ونحن هذا القديم، نحن بعرباتنا التي اتخذتموها مأوى لكم في لهوكم وجدكم، نحن بخيولنا التي رمحت بكم القاهرة والإسكندرية وجميع مدن القطر شارعًا فشارعًا، وطالما انتظرت في حر الشمس وبرد الليل لا تشكو ولا تتذمر، قانعة هي ومحسوبكم بالأمل في رضاكم، لا يهمها ما يحدث داخل العربة إن كان همسًا أو «زعيقًا» إن كانت المناقشة غرامية أم سياسية، إذا كان الحديث هزليًّا أم جديًّا، مهما حدث كنا نتعامى ونحتمل، وكل هذا في سبيل رضاكم لتكونوا معنا لا علينا إذا حلت المصيبة ونزلت النازلة.
أما «جديدكم» يا زبائني القدماء فهي تلك «السيارات التاكس» التي تجوب الطرقات بسرعة البرق، وغلطة واحدة تكفي لتشييع ثلاث أصوات: الراكب والسائق والسائر.
نحن نرضى بقليله، أما هناك فمع السرعة الهائلة التي تجعل الوقت يمر بغير معنى «عداد» لضبط الحساب على معدل الثلثماية متر بقرش صاغ، هذا فضلًا عن غطرسة السائق الذي ينظر إليك كما ينظر إلى نفسه، وأخيرًا وهي النقطة المهمة في الموضوع أيها الحبيبة قرب مكان السائق حيث لا يتيسر الحديث إلا بصعوبة، فضلًا عن اﻟ …
وعلى هذا إذا غلط أحدكم، وركب عربة فليضع بين أصابعه قليلًا من عصير «الرحمة» لتحنو على العربجي المسكين، الممثل لأغلبية الشعب المصري الساحقة وهم الفقراء، الحنو والبر والإنسانية من صفات الكرام، كونوا آدميين قبل كل شيء.
أما زملائي العربجية، رفايق الهنا و«التقصيع» وضرب الزفف، وإخوان المحاضر والتهم والمحاكم، فأحييكم بكل احترام، كما يحيي الموظف إخوان مكتبه بعد سن الستين، سن المعاش.
أرجوهم قبل كل شيء أن يتعففوا مع ما يقاسونه من ألم ومصائب، كما أتألم وأتضايق حينما أسمع أحدهم يرى زبونًا مارًّا ويقول له: «آجي يا بيه؟» آجي «ولا لأ؟» «آجي أوصلك؟» ثم لا يجد ردًّا على جوابه حتى ولا قولة: «ما نستغناش يا أسطى.»
لكل إنسان كرامة يحافظ عليها، فلم لا يكون لنا نحن أيضًا كرامة ندافع عنها ولا نمتهنها، دعوا الزبائن يتمتعون بحريتهم، إن أرادوا الركوب معكم فعلى الرحب والسعة، وإلا فكل على هواه.
لماذا لا تتعاونون جميعًا على إحياء هذه الصنعة التي تكاد تموت بإهمالكم، وأمام هذا السيل الجارف من ماركات «الفيات والرولس رويس والرينو»؟ أتعرفون الطريق إلى ذلك؟
نظفوا عرباتكم، وأطعموا خيولكم «وكلوهم شعير مش كرابيج» أما مع الزبائن فصهينوا في الوقت اللازم، وتشددوا حينما تستدعي الحالة ذلك، لا تدعوا صغيرة ولا كبيرة تمر دون أن تعرفوها، فإن صنعتنا تطلب أكثر من ذلك «القاهرة حلة، وأنتم مغرفتها» لا يجب أبدًا أن يكون جواب واحد منا لزبون «معرفش» نحن كتالوج البلد المتحرك العارف بأسماء شوارعها وحواريها، قهاويها، ومطاعمها، مطابعها، وإدارات صحفها، وبيوت الوجهاء خصوصًا يا زملائي، إن الأجرة يمكن أخذها مضاعفة إذا أخذت الباشا مثلًا أو سعادة البيه من النيوبار إلى منزله بدون أن يدلك هو على مقره، وقتئذ يصح «البلف» والأونطة، وتخرج من المعركة فائزًا منتصرًا.
إلى هنا يقف القلم متعبًا، فالجرح لا يزال جديدًا يضايقني.
سلام عليكم زبائني وزبوناتي الناهضات، من مخلص لكم ولصنعته، يذكر أيامكم ولياليكم بكل طيب وخير، أنا في المعاش ولله الحمد، مركزي معروف، هو القهوة الموجودة بميدان للست الباتعة أمام القسم، من أراد منكم سعة في الحديث، ومعلومات لا يصح ذكرها في مذكرات كهذه، ستتداولها أيدي سيدات وآنسات، فليشرفني بشرب فنجال قهوة «بيشة» على حسابي، وحينئذ يحلو الحديث، أبقاكم الله متمتعين جميعًا بالصحة والرفاهية «وروقان البال» وهو الأهم، بل هو ما يتمتع به الآن محسوبكم.