المذكرة الثانية
ابتدأت حياة المهنة بالعمل نهارًا؛ لأن تعرضي وأنا جديد للخدمة الليلية لا يمكن احتماله بالنسبة لما كنت أسمعه من زملائي عما يصادفونه من الحوادث التي تضيق منها الصدور، وتحتاج إلى «نفس طويل» وبال هادئ، وتمرين على البهدلة من كل لون.
فكم يخفي الليل تحت ستاره، سكران «ألسطة»، يركب مع الواحد منا ويأمره بالسير، وبعد ذلك «يتلوق» فلا يمكن حتى الإسعاف أن تعرف منطق لسانه ولا أين يسكن، بل إلى أي جهة يقصد، والواحد منا حيران بين الالتجاء إلى البوليس وتفويق صاحبنا على حساب الحكمدارية أو «دلق» هذا الزبون الفاضل على أقرب رصيف، وفي كلا الحالتين لا يعلم إلا الله كيف يمكن أن نتحصل على الأجرة.
وأما إذا كان «نصف لبة» فانتظر منه أن يتداخل معك أو مع من هو في صحبته في كل شيء في السياسة والأخلاق والآداب والغراميات وصلاحية الفول عن البرسيم بالنسبة للبهائم.
وإذا توقفت إلى خدمة شاب من شباب العصر الأغنياء، فيجب أن أحتمل ممن يسيرون وراءه من سكرتارية وهواشين وأونطجية أنواع النكت الباردة والتعرض لما لا يعنيهم، وأما إذا كنت ممن غضب الله عليهم، وحنن عليك بنفر من جنود جلالة الملك «أيام الحرب طبعًا» وهم «مشقعين» وأمروك بتوصيلهم إلى ضاحية من الضواحي «العباسية أو الجيزة مثلًا» فثق أنك ستتعلم منهم في فن الزوغان أحدث الطرق، وإذا خطر لك أن تتعرض لأحدهم طالبًا حقك أعطاك إياه لكمًا ورفصًا، وجعلك تتعلم آداب المطالبة بطريقة إنكليزية، بعد هذا كله يا حضرة القارئ الكريم كنت أفضل عمل النهار، وكم في النهار يا سيدنا من حوادث وروايات! ففي الصباح تشتغل على أسيادنا الموظفين «السقع طبعًا» وهؤلاء فيهم الجواد الذي يعطيك فوق ما تستحق، وفيهم المدقق الذي يدفع لك بالمليم، وإن تكلمت كانت الداهية السوداء، وبتداخل عسكري البوليس تنتهي المسألة على أخذ الأجرة من عسكري النقطة أقل من الأول؛ لأن الفرق أخذه جنابه قيمة أتعاب.
وفيهم من يناديك بكل كبرياء وعجرفة، وهو لا يملك في جيبه الأجرة، فكم حصل كثيرًا أن يركب معي بعض هؤلاء ويأمرني بالسير إلى المالية أو الحقانية، وفي الطريق يصطاد هذا الوجيه «الذي أحس بأطراف حذائه في نصف ظهري» موظفًا آخر يكون سائرًا على قدميه وفي حاله، فيدعوه للركوب معه، وبطريقة غريبة ينتقل معه من حديث إلى حديث إلى أن يداهمه بطلب جنيه «سلف لله» وإن اعتذر فنصف ريال هو أجرتي طبعًا.
وأنا في هذه الآونة متردد بين السير إلى وزارة البيك أو إلى القسم، وفي الوقت نفسه أدعو بالخير لمن دفع، والله يعلم إلى أي نتيجة كانت المسألة تصل لو لم تصادف «المجني عليه» في طريقنا.
وبعد الظهر وفي العصاري إذا كان الواحد منا سعيد الحظ وصادفته توصيلة «مجوز» إلى الجزيرة أو الجيزة أو حدائق القبة يسمع فيها لمبدع مطرب، ويتعلم من الحديث فن السبك كيف يكون، بل كيف يضطر الواحد منا بحكم الصنعة والوظيفة «ورقبته تحت رجليه» أن يترك لهما حرية الحديث والتنهد والتقبيل والبكاء والهمس والعتاب.
واسمع ما شئت من أقسام الحب «الطاهر» وأنه يقاسي الموت في البعد عنها، ويسهر ليله وينام نهاره، أما هي فإنها أصبحت «بالرغم من ٩٥ كيلو وزن» مريضة بسببه وانسأمت وربما ماتت ضحية لهذا الغرام الشريف.
وفي أثناء الحديث يا حضرة القارئ تمر على ألفاظ جديدة في اللغة، فأسمعها تقول «حبوب» «وتوتو» وهو يقول «قطقوطة» ولا أفهم لها معنى، ولكني علمت أن لكل مقام مقال، بل قد تعودت إذا سمعت أحدهما يتنهد أن أقلده، وهكذا يصبح الجو كله غرام وحب، وينطبق علينا قول القائل «كلنا في الهوى سوى» ولكن المصيبة أنني أجهل من أحب.
ولا أراك الله أيها القارئ الكريم الحوادث التى تنتهي «بغم»، وربنا ما يوقعك في يد البوليس إلا طارف، فكثيرًا ما تتفق قلة الحوادث مع قلة الأدب، فيضطر إما أن يأخذ إجراءته أو يأخذ … وتنتهي الحادثة على خير وسلامة.
وكما أن للاجتماع آداب وللحديث آداب، فلنا معشر العربجية آداب أيضًا نتبعها في أمثال هذه التوصيلات، فيجب أولًا السير بهدوء في الشوارع الخالية ليظهر الفرق الكبير بين الفسحة في عربة ومثيلتها في أتوموبيل أجرة، بل يجب أيضًا الانتباه إلى أوامر الزبون، فربما كانت غلطة صغيرة كافية لعكننة مزاجه فينتقم جنابه من الأجرة في شخصي، وتنتهي الرواية على حسب الظروف إما بمأساة أو بفصل مضحك يتداخل فيه الجمهور، وتحلو وقتئذ النكت الرائقة «وعينك ما تشوف إلا النور».
هذا ما عنَّ لي أن أدونه هذا الأسبوع، فإلى الملتقى يا حضرة الزبون الفاضل، فسأوافيك في القريب العاجل بأخبارنا أيام إضرابات الترام «رحم الله تلك الأيام!» وتقبل احترامات عمك الأسطى.