المذكرة الثالثة
وعدتك أيها الزبون الفاضل بحوادث الاضطرابات والاعتصامات، وبالاختصار أيام العز والمكسب «والنغنغة» أيام أقفرت الطرقات من «التراموايات» وأخذ عزرائيل إجازة غير اعتيادية من الشركة وتهيأت لنا الفرصة، وامتلكنا نواصي الشوارع، وبعد أن كنا نرجو الزبون ونتمسح وننادي بأعلى صوت «آجي يا بيه؟» أصبحنا محط الرجاء، وفي بعض الأحايين كنا نرفض بشدة ما دامت الخيل تعبانة، والجيوب مليانة، والزباين كفرانة.
كانت اضطرابات الترام ربيع أيامنا، فيها كان محسوبك الأسطى حنفي زايط؛ لأن الشغل ماشي والحالة «فل» ولم نكن بعد قد فوجئنا بمصائب الأتوموبيل «التاكس» و«تزانيقه اللي زي الهباب» وثانيًا لأني بصفتي صاحب «عجل» في البلد، كنت أفتخر إذا ركب معي بعض كبار رجالاتنا إلى بيت الأمة أو إلى «كلوب محمد علي» فحفظت في هذه الأوقات أسماء معظمهم على حسب الجودة في التوصيلة، أو على حسب الخلقة «والسحنة».
وبالرغم من انتباه الواحد منا «للخواذيق» التي اعتاد فريق الأونطجية أن يلبسونا إياها، فقد حدث كثيرًا أنني أوصل نفرًا من هؤلاء المزيفين الذين تبدو عليهم الوجاهة من الظاهر فقط إلى «جروبي» ثم أنتظر عبثًا؛ لأن حضرة الوجيه «فك» من الباب الآخر، وبما أن المؤمن و«خدامك أولهم» لا يلبس الخازوق مرتين، فقد تنبهت إلى واحد منهم، وبعد أن نزل من باب انتظرته على الباب الآخر، وأثبت له في هذه المرة أنني على الأقل متعلم أفهم أن الدنيا «دايرة».
في هذه الأوقات كان بيت الأمة محط الرحال، وشارع الرئيس المحبوب موقف مختلط من عربات أجرة وأتوموبيلات خصوصية وعربات ملاكي، وقد اختلط صوت النفير بصوت الزمامير، وبين هذا المجموع الهائل الذي كان يغدو ويروح كانت عربة الدكتور محجوب بحصانها «القروشي» كالزنبلك، لا تهدأ دقيقة واحدة في خدمة الوفد وزوار بيت الأمة وطلبة المدارس، وأخيرًا كانت سببًا في «عكننة مزاج أغلب إخواني» وكثيرًا ما كنا «ولا مؤاخذة يا دكتور» ندعو على حصانك بمأمورية في السلطة فنأمن بعد ذلك مضايقاته.
ولا نظن يا سيدي القارئ أنني كعربجي لا أعرف للحنو معنى لأني أحمل أداة التعذيب في يمناي، فلي قلب وإحساس «زي أحسن زبون يعجبك» فقد تألمت لسائق عربة الدكتور، فقد رأيته يأكل على كرسيه وينام أثناء تأدية وظيفته، ويتداخل كالزوبعة في أي مناقشة يسمع فيها لفظة «السودان» وقد كان يقول في أثناء أحاديثه مفتخرًا: «أنا سوداني، وفرسي هذا سوداني، وسيدي مدين للسودان بمولده، ومصر حياتها في السودان، ولا حياة لنا إلا من السودان، فليحيَ السودان ومصر معًا.»
ظهر صاحبنا على ما أظن في الأيام الأخيرة، ولدته الأيام:
فوصل إلى رتبته من طريق مجلس المديرية، وعرف كيف يظهر على صفحات جريدة الأهرام «باللت والعجن» وأخيرًا بالدخول في غمار «ليحيَ الاستقلال».
ابتدأت حياته السياسية «بلا رئيس إلا سعد» ثم تحول قليلًا إلى صيحته «عدلي فوق الجميع» ثم ظهر في خطبته بعد ذلك أن لا حياة إلا لثروت، وهناك وقف؛ لأن «التالتة تابتة» والله أعلم أن المسألة ستنتهي على ما يرى نظري القصير «بلا رئيس إلا ما تقتضيه الأحوال».
ركب معي من بار اللواء، وقد كان خارجًا من إدارة الأهرام بعد أن «تمطع» طبعًا، وسخ الجمهور مقالة من أفكاره «وربنا يسامح داود بك بركات» قال لي بصوته الرنان الذي يصلح لترتيل سورة الكهف يوم الأحد.
– فاضي يا عربجي، سوق على بيت سعد باشا، وسكت هنيهة ثم نظر إلي بتأن وقال: بسرعة ألا مفيش وقت. فلهلبت الخيل، وفي أقل من لمح البصر كنت أمام بيت الأمة، نزل البيك بدون أن يدفع الأجرة، وانتظرت وأنا — وهنا يحلو الحديث والمسامرة — ومرت ساعة بدون أن يخرج فضيلته، وضاع مني زبائن كثيرة، وأخيرًا طلبت بواسطة أحد الخدم أجرتي لأنصرف على الأقل، فأخبرني أن أحمد بك ليس له أثر في بيت الأمة، كيف خرج؟ بل كيف زاغ؟ هذا ما لا أدريه بالرغم من أني لم أنم مع وجود عربجي الدكتور محجوب نائمًا بجانبي؛ لأنه — على ما قاله لي — أوصل سيده متأخرًا ليلة البارحة، وأخيرًا خرج فراش معالي الرئيس، ودفع الأجرة أكثر مما أستحق، وهكذا كان بيت الأمة يدفع من مال الأمة «لجدعان» القضية الوطنية حتى أجرة عرباتهم.
تصادف بعد ذلك أنني أركبته مرارًا بعد ذلك، وأذكر من أطيبها موقفًا أيام كان الخلاف بين معالي سعد باشا ودولة عدلي باشا وأحمد بك معروف حتى في دوائرنا نحن أنه سعدي صميم.
ناداني في ميدان الأوبرا، وقد كان ساهمًا مفكرًا، وقال لي بصوته الرخيم: سوق على بيت سعد باشا، لا يا أسطى بيت عدلي باشا، أيوه أنا قلت لك سعد باشا.
فظننت، ولست من أولياء الله، أنه يريد بيت الأمة، ولم أعلم أنه يستفهم مني بسؤاله الأخير، فما وقفت أمام بيت سعد باشا إلا وأحمد بك قد رفع الكبوت، وهو يقول بصوت واطي ولكن بحدة: يا ابني … أنا قلت لك بيت عدلي باشا مش سعد باشا، سوق بلاش فضيحة، الله يفضحك يا غبي، فسرت وأنا أضحك في سري، أضحك؛ لأن وجود هذه الشخصيات الجوفاء على مسرح السياسة في كل أمة لازم لتفريج الهم عند نزول الضيق:
«وكمل يا أحمد بك».
وصلنا إلى منزل دولة عدلي باشا، وأخذت الأجرة بطلوع الروح؛ لأنه أراد أن أنتظر، وتشبثت بعدم الانتظار، «فكع» التوصيلة بكل هدوء؛ لأن قصر الدوبارة ليس كشارع عماد الدين، وكما أن هناك أحياء مباح فيها الصريخ والعويل، فهناك أحياء لا يجوز فيها حتى الهمس، وأحمد بك زكي ونبيه يعرف كيف يتخلص.
وقد دفع بعد أن نظر إلى نمرة العربة، وأنا أراهن أنه نسيها في دقيقة لانشغال باله بتحضير ما سيقوله لدولة الرئيس.
سرت وأنا متأكد أن الأزمة ستنفرج «زي كل أزمة» وستنجلي عن رئيس آخر غير عدلي باشا طبعًا، وسيكون من يوصل أحمد بك إلى منزل صاحب الدولة الجديد إلى بولاق الدكرور محسوبكم الأسطى حنفي، وقد كان — أيها القارئ الأديب — هذا آخر عهدي به، فلم أره إلا في أوتوموبيلات «فينو» وكان يمر علي بدون أن يعرفني وأنا في موقفي كما يمر الغزال الفريد.
والآن إلى الملتقى أيها القارئ الأديب، ففي هذا الكفاية وإلى الأسبوع المقبل.