المذكرة الرابعة
رمضان كريم أيها القارئ الأديب، والزبون «الفينو» رمضان الخير وفسح «الضلمة» شهر الحرية وتزاور الليل، وما ينطوي تحت ذلك كله من أسرار تقع في يد مثلي، فلا يصونها ويعرضها عليكم، فكل عام وأنتم بخير.
هذه تهنئة محسوبك حنفي يا زبوني الفاضل، أرجو أن تقبلها بنية حسنة، ولو أنها صادرة من قلبي «الديمقراطي» إلى سادتي وأسيادي بين مذكر ومؤنث، وأنا لا أطالبهم إلا بدعوات صالحات، تقيني من خوازيق قلم المرور وقسم الرخص.
حديثي اليوم كله يختص تقريبًا بسيداتي أبطال كل قصة في العالم، والتي لا تروق حكاية، إلا إذا كان لهن فيها أثر، وبالاختصار بالجنس اللطيف، بالملايات اللف «المنقرشة» والحبر «الكريشة والأبلسيه» والبرانيط من مختلف النحل والملل، ولا يحلو الحديث إلا بذكر …
تصور معي الدنيا في العصاري، والوقت رايق «بلوزة» وموقف الست «الباتعة» أم هاشم به خمس عربات أنا على إحداها، استلفت الأنظار بنشاط خيلي ونظافة مركبتي، وإذا بثلاث سيدات «يا سيدنا» قام لهن الميدان وقعد، تقاسمن الجمال والخفة «والشخلعة» وقصدن عربتي بكل تأنٍ، ويا سيدي على التلاقيح والنكت من رايق وبارد حتى من زملائي، فقد سمعت واحد منهم يقول: حلال عليك يا حنفي مين زيك يا أخويا!
وآخر يرد عليه قائلًا: على مهلك يا عم، معلوم يحق لك مركب الأنس واللطافة!
وبالاختصار خرجت من الموقف في «وسط زفة» إلى شارع خيرت طبعًا، وأنا أظن أني ذاهب بحضرات «الدرر المصونات» إلى زيارة أو على الأكثر إلى شيكوريل، وإذا بإحداهن تأمرني أن أقصد تيرو روض الفرج.
التيرو؟ أقسم لك أيها القارئ أني غالطت سمعي، وسألت مرة ثانية قائلًا بعد أن أحنيت رأسي لأسمع: سيادتك بتقولي على فين؟
– شيء غريب! على التيرو، أنت ما بتسمعش؟
والله ما كان يخطر لي على بال أنا العربجي الذي أقضي أكثر أوقاتي في معاشرة البهائم أنه يقصد سيداتنا عمدًا مع توفر «سوء القصد أو النية».
وفي عصرية من رمضان هذه البؤر التي أولها «أونطة» وآخرها موت وخراب ديار مع ما يتخلل ذلك من إراقة ماء الوجه، وبالاختصار يسدل الستار أخيرًا على بيع العِرض، و«طيران» العقل، وخراب البيوت المستعجل.
سارت الخيل تسابق الريح حسب الأمر، وأنا أحدث نفسي قائلًا: والله طيب يا حنفي، ياما لسة نشوف، ثلاث سيدات من صميم الأحياء الوطنية يخرجن من بيوتهن، ويسافرن إلى آخر القاهرة بقصد المقامرة، ومهما كسبت الواحدة منهن فهي أولًا وأخيرًا «خسرانة خسرانة» ولكن أنا مالي «سيبك» الأجرة مدفوعة «وليحيا الرجال العاملون».
ووصلن التيرو أخيرًا، ونزلن بسرعة، وأمرتني بالانتظار، ولا أطول عليك، فقد خرجن «يا ربي كما خلقتني» ويظهر أن ترمومتر الخسارة هبط إلى درجة عدم وجود أجرتي؛ لأني سمعت واحدة من الثلاثة تقول: نفوت بقى على … هانم في شكولاني ناخد منها جنيه «ثم بصوت واطي» نديله أجرته ونصرفه، وقد كان، وسترها ربك، وخلصت بأجرتي من مال السلف.
إني أحس بالاندهاش يعلو أساريرك أيها القارئ؛ لأن ربات البيوت عندنا وصل بهن الأمر إلى المجازفة حتى بمصروف البيت مثلًا، ولكن يظهر أننا تقدمنا في كل شيء حتى في الجراءة «والوقاحة» إذا شئت، وإليك الحادثة الآتية دليلًا لا أنساه على ما نحن فيه وما وصلنا إليه.
كنت سائرًا في شارع خيرت، فنادتني سيدة «بملاية لف» هي مثال الحشمة والأدب، تظهر عليها آثار النعمة والوجاهة، وبيدها نسخة من مقطم المساء، ركبت معي بكل تؤدة، وأمرتني أن أسير بها إلى شارع بولاق، وهناك أمام دكان شملا، والعالم يموج موجًا، نزلت سيدتي المهذبة صاحبة العفة.
ولكنها لم تكن هي التي ركبت معي، فقد تغيرت كل المعالم فاختفت الملاية اللف، ولم يبق أثر للبرقع الأسود ولا القصبة المذهبة، ورأيتها بحبرة وبرقع أبيض، وفي يمينها جرنال المقطم ملفوف فيه رداء التنكر الذي خلعته.
ولاحظت هي دهشتي، وتكذبني عيناي وخوفي من أنها ربما كانت من قلم المخابرات، فنظرت إلي قائلة: خذ الأجرة، الله! جرى لك إيه يا أسطى؟
– أنا ما جراليش حاجة يا ستي، لكن أنت إيه اللي جرالك؟
– امسك أجرتك وبلاش قلة حيا، أما مجنون!
واختفت من أمامي داخل محل شملا، وأنا لا أزال منذهلًا! أفكر وأبحث عن الأسباب التي ألجأت هذه السيدة إلى تغيير وتبديل شكلها، وأخيرًا نبهني زميل لي لاحظ الحادثة قائلًا: ما لك مبلم يا بو محمود؟ يظهر إن الست اللي معاك عصبية قوي!
– عصبية إيه يا عبد الغني، دي ركبت بملاية لف، ونزلت بحبرة، خذ بالك منها، يمكن تطلع لابسة برنيطة، أما الستات دول نكتة قوي، سعيدة.
نعود إلى سيداتنا بطلات التيرو، لقد تركتهن ومدفع رمضان على وشك أن يؤذن لعباد الله الصائمين بالإفطار، فركنت بجانب كوبري شبرا، وغيرت ريقي على اللي فيه القسمة، وبعد السيجارة صعدت متمهلًا جسر شوبرا، ووقفت بجانب محطة المترو، وما مرت دقائق حتى شعرت بمركبتي تهتز قليلًا، فالتفت وإذا «بآنسة» من اللاتي يقصدهن الشاعر في قوله:
أمرتني بالمسير قليلًا إلى أن اكتنفنا الظلام تحت ظل شجرة كبيرة، وأمرتني بالوقوف، ولم يمض علينا أكثر من عشر دقائق حتى رأيت شابًّا يقترب منا متمهلًا، وبيده سبحة كهرمان «واخد بالك» قال يعني خارج من تراويح إلى تراويح، وقفز بجانبها «ولا سأل عن محسوبك أو عبره» وبصوت الأمر أصدر إرادته الكريمة بالذهاب إلى الجزيرة، ووقفنا قليلًا لتأدية واجب الزيارة للبار الصغير بجانب سميراميس، تبادلا فيها مقدمة الحديث على رنين الكأس، وسرنا بعدئذ على بركة الله، ورنت القبلة الأولى في أول تحويدة بعد الكوبري والليل هادئ ساكن، وسمعت تنهيدة خرجت من قلب ستي لخبطت كياني، وأردت أن أستعيد مركزي فأسرعت الخيل، وقال لي جنابه: على مهلك يا أسطى إحنا مش مستعجلين.
– العارف لا يعرف يا بيه، بس الخيل جامدة شوية، ومش على بعضها، آه، فتهامسا وضحكا، ورنت القبلة الثانية، فقلت في نفسي: قسمتك يا بو محمود، واللي مكتوب على الجبين تسمعه الودان، وقضا أخف من قضا.
فدار الحديث، وللحديث شجون، فكان يلقبها بتوتو، وهي تناديه «بسوسو» ويستولي عليهما عفريت الحب والغرام، إلى أن يلمحا خفيرًا أو شويشًا، فينقلب الحديث توًّا إلى القطن والعزبة والناظر الجديد، ومركز الوزارة، وقانون التضمينات إلى أن يمر الخطر، فأسمع منها: هئ هئ، ويعودان لتوتو وحبوب، وأنا سايح «شفهيًّا» مستسلم بحكم المركز والوظيفة، متأكد أن أبي — رحمه الله — رأى أضعاف ما رأيت، ولكن ما باليد حيلة، المسألة وراثة.
وتنبها من حلمهما اللطيف نصف الليل، وأنا من شارع إلى آخر في الجزيرة والزمالك، وسمعتها تقول له: نرجع بقى أحسن بابا يرجع قبلي، يمكن يزعل.
فقلت في نفسي كأني أرد عليها: والله يا ستي لا يزعل ولا حاجة، يعني هو مش حاسس!
وبالاختصار، وقفنا في ميدان الأزهار، فانتقلت إلى عربة أخرى «كالعادة طبعًا» فأوصلت البطل إلى مأواه، وقصدت منزلي توًّا؛ لأن السحور منتظر، وأبو محمود مسلم يصوم رمضان ويشوف فيه العجب، وكله «مقدر» يا زبايني الأفاضل، فإلى الملتقى قريبًا.