المذكرة الثامنة
خرجت مبكرًا بعربتي، وهواء الصباح العليل ينعش القلب ويرد إلى النفس جدتها.
الطرقات لا تزال خالية إلا من قليل من المارة، فقصدت ميدان السيدة زينب، وكما تركت الخيل تسير كما تريد، تركت لنفسي عنان الذكرى، ومرت علي حوادث الليلة الماضية، لا تظن أيها القارئ أنني رجعت متأخرًا، فقد كانت البهدلة «التي شملتني مع الزبون والزبونة» تكفي لدخولي المنزل مبكرًا، بل تجعلني أفضل استعفائي من هذه الصنعة التي أورثنيها أبي وجنى علي، كما قال أبو العلاء: وما جنيت على أحد. فما رسل الرخصة والنمرة إلى المحافظة بطريق البريد المسوكر، واتخذ قهوة «راجي عفو المرتجي جاد عل القهوجي» محلًّا مختارًا للدردشة والكلام الفارغ.
وإليك ما حصل يا سيدي بدون مبالغة: ركب معي من قهوة لونا بارك وهواء العصر يلعب «بكرافتته» الحريرية الحلوة، وعلى ميدان المحطة، وأمام المستشفى القبطي في شارع عباس وقفنا، ونزل زبوني زين الشباب الناهض كأنه سيوضع في فترينة خياط، حلو مقطقط مدندش، كانا على ميعاد، فقد وافت بعد أن وصل قطر الزيتون بقليل، تظهر عليها آثار النعمة من شنطتها الذهبية إلى حذائها «المارون دوريه» وقد وضعت على رأسها نقابًا أسود شفافًا، يبين منه ملامح وجهها الجذاب. وبالاختصار كانت مثال الشابة الجميلة التي ينقصها في منزلها لسان متكلم يستولي على حواسها بلذة حديثه، فوجدته — على ما أظن — في فم صاحبنا.
– على حدائق القبة يا أسطى.
– حاضر يا بيه.
فسرت وسمعتها تقول: حدائق القبة إيه يا شيخ! يمكن حد يكون نازل بالأتوموبيل من معارفنا بالزيتون يشوفنا، قوله يرجع. فأوقفت الخيل توًّا انتظارًا لأمر جديد، وحينئذ سمعته يقول: وقفت ليه يا عربجي؟ فيه حد قالك استنى؟ يظهر إنك بتسمع كويس، أما قليل الحيا!
– وأنا مالي يا بيه، ما هي الهانم اللي خايفة من حدائق القبة، شيه.
وسرت وأنا أبتسم إذ سمعته يقول لها: يا ستي جناين القبة أحسن، لو رحنا الجيزة ولا الجزيرة حنمر من البلد كلها تقريبًا، ولو شفنا حد تبقى مش كويسة.
ووافقته على رأيه، وسرنا في صمت وهدوء، وأذنت الشمس بالمغيب، وابتدأ ظلام الليل يطمن العاشقين، وما وطئت حوافر خيلي أرض حدائق القبة المقدسة، أرض الحب والغرام، حتى ابتدأت أسير متمهلًا تنفيذًا للوائح الحبيبة، واتباعًا لسنة المغرمين، وقال صاحبنا: ارفعي البيجة واقلعي رأس الملايا علشان لو حد شافك ما يفتكرش أنك بنت عرب، ووافقته، ثم أمرني أن أركن فركنت، وأن أنزل فنزلت، وزال الكلفة وابتدأت الشكوى تجر العتاب، والألم يزيد نار الحب، والظلام يثير الوجد، وهواء المساء البليل يعصف بنفسيهما، فنسيا أنهما في طريق عمومي، فخرجا عن حدودهما، لا كثيرًا — أيها القارئ — ولكن قليلًا.
ولمحهما نفر البوليس، فتقدم غير هياب ولا وجل، وخرج عليهما بخفة اللص وشجاعة رجل الإدارة شاتمًا لاعنًا قائلًا: ديهده يا سيدنا الأفندي؟ هي حمام بلاميه؟ إيه جلة الأدب دي؟ فين ابن المركوب العربجي اللي معاكم؟
ووصلت أنا على قول زبوني: معلهش يا شاويش مفيش حاجة برده.
– معلهش إزاي؟ أمال كانوا شنجوه ليه؟ والله إلا على القسم.
والتفت إلي بهدية من يده الثقيلة، نزلت على صدري فلبشته قائلًا: أمال سايب الدنيا تهوي، وقاعد هناك والعربية داير فيها اليخني؟
فقال له البيه: اختشي يا شاويش عيب.
– عيب! طيب اتفضل على القسم معايا، أشوف العيب على مين فينا، والسيدة أثناء ذلك كادت تفقد رشدها، وصاحبنا ملخوم، وتلعثم لسانه الذي كان طلقًا منذ هنيهة، وبالاختصار قبل ما تتلم الناس اضطررت أن أتداخل، ووجدنا الحل النهائي للمسألة في ورقة ذات لون غير أبيض، أخرجها صاحبي من جيبه، وأوصلها إلى يد حارس الآداب العمومية بلطافة، فجاءت كبرشامة الكالمين، عقب هياج حاد هدأت بعدها أعصابه، فقال: لكن ده مش كويس أبدًا، سوج بجى يا أسطى من هنا.
فسرت وأنا أقول في نفسي «ليحيا العدل»!
كل هذه الذكريات جالت في خاطري، وأنا في طريقي إلى الموقف، فلم أنتبه إلا على صوت يناديني قائلًا: استنى يا بو محمود، ألا البيه مسافر على العزبة.
والبيك هذا أيها الزبون الأديب عمدة من العمد الملآنين، يربو سنه على الستين، وجيه وجاهة قروية خشنة، انتفع بأحلام سنة ١٩١٩، لم يهده الله إلى قراءة مقالات حسين بك هلال — لا تتبعوا أقطانكم إلا بمائتي ريال — فعرف كيف يستفيد، وامتلأت الخزانة على سعتها، واضطرته كثرة الخيرات أن يتزوج مرة ثانية فتزوج، وما أسهل الزواج لمثله، والمال مبرر لكل جريمة، والمسكينة من خريجات السنية منذ عام، لم تتجاوز الستة عشر عامًا، قضى عليها جمالها الفضاح أن تذوي في غرة صباها «قتيلة الورق الفسدقي».
ولا أصف لك فصل الوداع الأخير، والحزن الذي استولى على نفسي ساعة رأيت «الكتكوتة» التي كنت أراها منذ سنتين تقفز أمامي إلى مدرستها، وهي ساهمة مفكرة حزينة، تركب عربتي إلى منفاها كما تظن، بالاختصار ركب الثلاثة: البيه والست معًا، وقفز برعي خادمه الخصوصي، وسرنا على بركة الله بدون لخمة ولا خوتة؛ لأن العفش سبقنا على المحطة مبكرًا.
وصلنا إلى بار اللواء، وميدان القتال الداخلي هادئ، لم يتبادل الفريقان بعد الحديث، وعند البنك الأهلي سمعته يقول: انتي يا ستي زعلانة ليه، هي البلد يعني اللي ما فيهاش شكوريل ولا سمعان أو هباب أزرج ما ينقعدش فيها؟
– ولا حنا هنا. يا ستي متردي، كلها يومين ونرجع والله، انتي زعلانة علشان الست الوالدة مش معانا؟ نبعت نيجبها؟ مش كده يا برعي؟
فأجابه برعي بدون أن يسمع قائلًا: بريمو، سكندو، أهو كله وابور، ورايحين البلد رايحين.
فقهقه البيك قائلًا: الله يجازيك يا برعي، إحنا ف إيه ولا ف إيه؟ أنا بجول على الست يا ولا يابن المرتوب.
ووصلنا أخيرًا إلى المحطة ونزلوا، والبنية لا زالت كما هي عليه، وبرعي يسير كظلها، وأعطاني البك أجرتي، وهو يقول: دي مش عيشة، كأن الواحد واخدها اللومان.
ودخل وهو يتمتم بما لا يمكنني أن أسمعه، ولكني رأيت بعيني خيالي مسافرًا رابعًا يتبعه هو كظله، ذلك هو الشقاق الدائم بين الشباب الغض المتطلب حياة هادئة ناعمة توافقه، والسن المتقدم الذي لا يريد إلا حياة رجعية محضة، وبينما أفكر في حالته التي ستنتهي على يد القاضي الشرعي، وإذا بشاويش المحطة يناديني قائلًا: اطلع يا برنجي.
فسرت قليلًا، وأوقفني ضابط «قطقوط» بنجمة واحدة لسة طاظة، ركب معي، فخرجت من الميدان بعد أن نظرت إلى الشاويش نظرة المنتصر الفائز، وعلى مهلي كمان، لم ينبس ببنت شفة، مع أن الراكب لو كان ملكيًّا لشرفت قسم الأزبكية بعد خمس دقائق.
هذه حقيقة أيها الملكيون من حضرة الكاتب إلى معالي الوزير، وإن أعوزكم برهانًا، فأنا مستعد، وذاكرتي متينة تحفظ، وإليكم المثل الآتي في مذكرتي الآتية.