الأخلاق والعلم١
(١) تمهيد
سبق أن قلنا إن العلم هو اليقين، وعرَّفناه بأنه المعرفة العامة المضبوطة الصادرة عن نظر وتمحيص، وهذا التعريف لا يختلف في المعنى عما عرفه به بعضهم من أنه معرفة عامة تتجه في جهودها نحو العموم للوصول إلى الحقيقة، وسبق أن ذكرنا أن الأخلاق تبحث في تحديد الخير والشر، والحق والواجب، والمثل الأعلى، وما شابه ذلك من المعاني الكلية والبحوث النظرية. من أجل هذا يكون من الطبعي أن يتساءل كل باحث في الأخلاق عما إذا كانت تصل إلى آراء وأحكام تبلغ من العموم وقبول الناس لها حدًّا يجيز وصفها بأنها حقائق علمية، فتوصف الأخلاق لذلك بأنها علم من العلوم التي تقرر حقائق وقوانين عامة، هل هي دراسة عقلية أي عمل من أعمال العقل، أو دراسة مرجعها التقاليد؟
(٢) الصلة بين العلم والأخلاق
على أننا نتعجل القول بأنه يعرض بادئ الأمر لمن يتساءل هذا التساؤل حقيقة واقعية تفرض نفسها فرضًا، هي أن العلم على اختلاف أنواعه، كعلم الطبيعة والمنطق والرياضة والنفس والاجتماع والتاريخ والحياة مثلًا، لا يعارض الأخلاق ولا يحل محلها بل يتطلبها.
العلم لا يعارض الأخلاق؛ لأن العقل العلمي يدفعنا لمعرفة الحقائق على ما هي عليه وفهمها، دون أن تتدخل في هذا البحث أية فكرة أو نظرية لم تُمحَّص بعد، لكنه لا يمنع مطلقًا أن نقابل بين الواقع وبين ما يجب أن يكون، وبعبارة أخرى: معرفة الواقع والحقائق العلمية لا تحول بيننا وبين أن يكون لنا مَثَل أعلى أخلاقي.
العلم لا يحل محل الأخلاق ولا يغني عنها؛ لأنه يعرفنا الواقع فحسب في مختلف مناحي الكون ومظاهره، غير معنيٍّ ألبتة بما كان يجب أو بما يجب أن يكون، فهو يتحقق ولكن لا يحكم. كل العلوم التي أشرنا إليها وأمثالها، حتى علوم النفس والتاريخ والاجتماع، لا تمدنا بمبادئ للسير والسلوك، ولا بقاعدة نهتدي في أعمالنا بهديها، لكنها في الوقت نفسه لا تريدنا على أن نمتنع عن طلب هذه المبادئ خارجًا عنها.
علم الحياة مثلًا يرينا أن الأنواع الحيوانية في تقاتل مستمر، وتنازع دائم على الحياة، القوي يفترس الضعيف، والغَلَب للقادر على تعديل نفسه حسب البيئة التي يعيش فيها. إذن هل لنا أن نتخذ من ذلك مبدأ لنا في حياتنا، فنقرر أن الناس — كسائر الحيوان — يجب أن يصدروا في أعمالهم عن مبدأ تنازع البقاء وبقاء الأقوى، أو يمكن أن نحكم أنهم على الضد من هذا يجب أن يتساعدوا وأن يحترم الأقوياء حقوق الضعفاء؟
وهذا علم النفس يكشف لنا الميول والعواطف النفسية، ومنها عاطفة الأَثَرَة وعاطفة الإيثار، أليس لنا بعد أن نتبين هذا أن نعطي لكل من هذه الميول قيمته الأخلاقية؟ كذلك علم الاجتماع أتاح لنا أن العالم كان مسرحًا في كثير في العصور، القديم منها والحديث، لحروب طويلة طاحنة، فهل هذا التحقق العلمي يكفينا للبت في اختيار أي المبدأين: مبدأ الاحتفاظ بروح العداء بين الأمم والشعوب، ومبدأ اقتلاع جذور العداوة وبذر عواطف العدالة والمحبة العالمية التي تسمح يومًا أن نصل إلى سلم عام نهائي وأخوة متبادلة؟
الروح العلمي لا يتطلب منا أن نأخذ العلوم كدليل أخلاقي وحيد، وبعبارة أخرى: لا يتطلب منا أن نأخذ مما تكشفه من حقائق وقوانين مَثلًا أعلى نأتم به في أعمالنا ونسير على ضوئه وسناه.
إن العلم لا يعارض الأخلاق ولا يغني عنها فقط، بل يقدر ضرورة وجودها ولا يستغني عنها، وبدونها يكون إثمه أكبر من نفعه، يدل على ذلك تحليل نفسيات العلماء والعواطف التي كانت تسودهم في حياتهم العلمية، ففي هذه الجهود المضنية التي قام بها العلماء لفهم الطبيعة وأسرارها وللوقوف على النظم التي تسيِّرها، وفي تلك المشاق التي عاناها قادة الأمم وهداتها والمحسنون إلى الإنسانية؛ نجد عاطفة أخلاقية كانت تملك على هؤلاء الأبطال ألبابهم وتسوقهم إلى أداء رسالاتهم، تلك العاطفة هي الرغبة في خدمة الإنسانية وتحسين حالتها المادية والعقلية. وأيضًا القيمة العالية التي يراها العلماء للعلم تفرض أن الأعمال الإنسانية ذات قيم مختلفة منها العالي ومنها الدون، فالعلم مثلًا أفضل من الجهل، والهدى خير من الضلال، والسعي لمعرفة الحقيقة خير من مقاومتها.
إذن واجب البحث عن المعرفة وإعلانها يفرض الواجب بصفة عامة، والمثل الأعلى العلمي يفرض أن هناك مَثلًا أعلى عامًّا يجب أن ننشده جميعًا.
هكذا الدراسة العلمية ودراسات نفسيات العلماء، تكفي لبيان أن الخير والشر، وهما موضوع الأخلاق، يُلاحظان دائمًا في كل البحوث والدراسات العلمية على اختلافها.
وأخيرًا، إذا كان العلم كما قلنا لا يعارض الأخلاق ولا يغني غناءها بل يسير معها جنبًا لجنب، هل لنا أن نخطو في البحث خطوة أخرى لنعلم ما إذا كانت الآراء والحقائق الأخلاقية تبلغ من العموم حدًّا يجعلها حقائق علمية فتكون الأخلاق علمًا من العلوم؟ الأخلاق علم إذا كان هناك حقائق أخلاقية عامة، ولكن هل يوجد حقائق أخلاقية عامة للجميع؟
(٣) اختلاف الأفكار والنظريات الأخلاقية
من فلاسفة الأخلاق مَنْ ينكر وجود حقائق أخلاقية؛ لأن القواعد الأخلاقية ليست إلا تقاليد تختلف باختلاف الأزمنة والبيئات.
حقيقة، إن التاريخ وعلم الاجتماع ليؤكدان أن القواعد الأخلاقية اختلفت باختلاف الأزمنة كما اختلفت وتختلف في العصر الواحد بحسب البيئات، هذه مسألة الرق والاستعباد كان نظامًا معروفًا لدى العبرانيين والمصريين القدماء والهنود والصين على اختلافهم في معاملة الأرقاء، كما كانت الجمعية الإنسانية في المدنية الإغريقية القديمة — التي يفخر بها الأوروبيون اليوم — تقوم على استرقاق فريق من المواطنين، حتى إن أرسطو بجلالة قدره يبرره لاعتبارات مختلفة، منها: أنه لا بد من العبيد ليتوفر الرجال الأحرار على الدراسات العقلية العالية، وأنه يوجد أناس بلغوا من السفالة والضعة أن يفهموا أنهم خُلقوا للاستعباد. كما لم تمنعه الديانة المسيحية أيضًا، أما في أيامنا هذه فقد صار الرق معتبرًا من أشنع المظالم الإنسانية، وغدا محرمًا تحريمًا باتًّا.
كما أن أنظار الأمم بالنسبة للمرأة اختلفت في التاريخ أيما اختلاف، كان الأثينيون — وهم من نعلم مدنية وحضارة في الأزمان الماضية — يعتبرون المرأة سلعة تُباع وتُشترى، وجعلوا مهمتها في الحياة مقصورة على تربية الأطفال وتنظيم البيوت، كما أباح بعض الطوائف اليهودية للأب بيع بنته وهي قاصرة، وفي فرنسا قديمًا بلغ من امتهان المرأة أن عقدوا مؤتمرًا سنة ٥٨٦م في بعض الولايات فأخذوا يبحثون فيه ما إذا كانت تعد إنسانًا أو غير إنسان، وانتهى الأمر بتقرير أنها إنسان، ولكنها خُلقت لتخدم الرجل ليس غير!
ولا ننسى ما كان من وأد بعض عرب الجاهلية بناتهم، ومن اعتبار المرأة بعض ما يورث عن أبيها أو زوجها، والآن تغير ذلك كله وأصبحت المرأة مساوية للرجل تمامًا إلا في بعض حقوق يرى بعض الأمم من الصالح العام عدم منحها إياها.
في مقابل هذا نجد بعض البوذيين الدينيين كرهبان الهند الصينية يعتبرون قتل أي كائن حي مهما كان جريمة شنيعة، ويصل الأمر إلى أن يرشح الرهبان مياه الشرب حتى لا يبتلع أحدهم أثناء شربه أية حشرة حقيرة غير مرئية فيتسبب في قتلها. أما نحن فنتخذ موقفًا وسطًا بين الفريقين المتطرفين، فاحترام الحياة الذي يعده هؤلاء الرهبان حقًّا مقدسًا لكل حي لا نعده كذلك إلا للآدميين، ولا يعترف به أولئك المتوحشون إلا لعدد قليل كأسرة الشخص أو قبيلته أو أهل قريته.
كذلك الانتحار الذي يحرمه الدين الإسلامي وتنكره المدنية الأوروبية الحالية، يعده اليابانيون تقليدًا وطنيًّا طيبًا، يكون واجبًا في كثير من الحالات؛ ينتحر الواحد منهم حين يرى أنه تجرد من شرفه أو عانى سقوطًا فاضحًا كبيرًا، أو احتجاجًا ضد مظلمة ارتُكبت، أو نحو ذلك من العوامل الأخرى التي تجيزه في رأيهم.
من الممكن مضاعفة هذه المثل والإتيان بغيرها مستمدة من حياتنا اليومية في الصعيد أو الوجه البحري مثلًا من مصر، وخاصة فيما يتصل بالأفراح والمآتم وعادة أخذ الثأر والانتقام، مما يؤكد أن الآراء والأحكام الأخلاقية تتغير مع الزمن، وتختلف مع الأوساط والبيئات، ولكن هل من الحق رغم تضافر هذه الشواهد كلها أن ننكر أن هنا حقائق أخلاقية عامة؟
(٤) الحقائق الأخلاقية
أولًا من السهل أن نلاحظ أن الناس على اختلاف أجناسهم وبيئاتهم وأزمانهم يمتثلون للواجبات — التي يعتقدونها — على أوجه مختلفة تكون متباينة أحيانًا كما رأينا، ولكنهم جميعًا يقبلون فكرة الواجب، ويعتقدون أن بعض الأعمال أعلى خلقيًّا مع البعض الآخر، الكل يميز أنه يوجد خير وشر، ويحس الاحترام لبعض الناس، والاحتقار لآخرين. الأسود المتوحش في أفريقيا وأستراليا في خضوعه لتقاليده العجيبة وعده ذلك واجبًا، والمجرم الذي يرى نفسه ملزمًا بعدم خيانة عصابته؛ عندهم خلقية مشابهة في صورتها لخلقية الرجل الفاضل في هذه الناحية، ما دام الجميع يعتقدون القيام بالواجب أمرًا مقضيًّا فقط يجب إنارة عقول أولئك المساكين الذين يخضعون هذا الخضوع الأعمى لتلك التقاليد الظالمة، وتفهيمهم أي الأعمال تعتبر واجبات يجب أن يقوموا بها ويُعدُّ الخضوع لها أمرًا إلزاميًّا.
هذا التحقق، وهو أنه يوجد لدى جميع الناس بلا استثناء منذ ابتدءوا يفكرون نظريات وعواطف أخلاقية، يجيز لنا أن نصف فكرة الواجب والخضوع له وعَدَّ من يقوم به خيِّرًا بأنها حقيقة أخلاقية عامة، ثم رغمًا عن هذا الاختلاف الذي لا ريب فيه بين ما يسمى واجبًا هنا وواجبًا هناك، ليس من النادر أن نلاحظ تماثلًا بين بعض النظريات والآراء الأخلاقية لدى جميع الناس، إنه من العسير بل من المستحيل أن نذكر وسطًا أو عصرًا يُعتبر الجبن فيه أفضل من الشجاعة أو الظلم أفضل من العدالة.
العدالة فُهمت وطُبِّقت بطرق متغايرة في الأمم المختلفة، هذا حق، ولكن الرجل العادل أو الشجاع محترم دائمًا بخلاف الظالم أو الجبان.
وأيضًا عاطفة الكرم، تلك العاطفة السامية التي تنبئ بالإخاء الإنساني، نجدها ممدوحة موصى بها في كل الأوساط والأزمان، فمن الممكن وصفها بأنها حقيقة عامة أخلاقية.
وليس عجيبًا أن نرى تقاربًا بل اتفاقًا على كثير من الآراء الأخلاقية، بل لعل العجيب ألا يكون مثل هذا الاتفاق؛ ذلك أن الناس جميعًا، تقدم بهم الزمن أو تخلف، السامي والآري والشرقي والغربي والأسود والأبيض، لديهم جميعًا معين للأخلاق يكاد يكون واحدًا أو هو واحد في أصله وإن اختلف في بعض التطبيقات تبعًا لاختلاف الأزمان والبيئات، ذلك المعين هو الضمير.
ولنؤكد من غير أن نخشى الزلل أن حقائق علم الأخلاق في الساعة الراهنة عند الأمم المتمدنة، ليست منذ الآن محلًّا للجدال بين النفوس الفاضلة، وأن تلك الحقائق لا خوف عليها، يمكن أن يقع الجدال في النظريات، ولكن بما أن سلوك الناس الأخيار هو في الواقع واحد، يلزم حتمًا أن يكون بينهم قدر من الحق مشترك، يستند إليه كل واحد منهم، من غير أن يستطيع مع ذلك في الغالب أن يقف غيره عليه، ولا أن يدركه هو نفسه.
غير أن قانون الأخلاق ليس قانونًا شخصيًّا بل هو قانون عام، قد يكون في ضمير أشد قوة وأكثر وضوحًا منه في ضمير آخر، ولكنه موجود في كل الضمائر بدرجات تختلف قوة وضعفًا.
ولعمر الحق إن هذا لا يحتاج إلى أي تعليق لبيان صحة ما فيه من آراء، فهناك كثير من المبادئ الأخلاقية مسلم بشهادة الواقع من الجميع لصدورها من معين واحد، قد يختلف قليلًا أو كثيرًا بعض الأحيان، لكنه واحد على كل حال.
ثم التاريخ يكشف لنا أمرًا آخر لنا أن نعلق عليه أهمية لها خطرها، المثل الأعلى الأخلاقي يقاسي الكثير من التقاليد في بعض الأزمنة والبيئات، هذه التقاليد التي نراها حجر عثرة في وجه المصلحين دائمًا.
تصفح تاريخ أمة من الأمم تجد في فترات مختلفة بعض كبار الأحلام والفكر الراجح يعارضون التقاليد الضيقة التي تسيطر في أيامهم، بمُثل عليا رحبة واسعة صالحة للجميع.
حقًّا إن الرأي العام كان يقف ضد هؤلاء العباقرة، إلا أن المستقبل كان يحكم بأنهم كانوا على حق فيما بشَّروا به، كما أن الإنسانية باركت هذه الثورات المدينة لها بخُلُقية أعلى وأفضل، وأذاعت في الخافقين أنهم النبلاء المحسنون للإنسانية عامة. ولعل من الطريف أن نلاحظ أن تلك التقاليد التي عارضها أولئك المصلحون كانت مختلفة أشد الاختلاف فيما بينها، وأن هذه الآراء الأخلاقية والمُثُل التي كانوا يدعون لها في الأزمنة المختلفة والبيئات المتعددة تعطينا مشابهة مدهشة عجيبة وانسجامًا خارقًا كأنها صادرة من معين واحد.
من الممكن أن يُذكر في معرض التمثيل في الأزمنة العريقة في القدم «بوذا» الحكيم الهندي، و«كونفشيوس» الصيني، وسقراط الإغريقي، وأنبياء بني إسرائيل وفلاسفتهم وحكماؤهم، وأخيرًا المسيح ومحمد خاتم الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام.
يجد الباحث في تراث الهند الروحي وتعاليمها السامية تعاليم أخلاقية صالحة حقًّا، أو يجب أن تكون كذلك لكل الناس، منها: لا تقتل، لا تكذب، لا تشرب المسكرات، لا تأخذ مال غيرك ولا زوجته، هذه بعض التعاليم الأخلاقية السلبية، وفي التعاليم الإيجابية نجد الأمر بالصبر والرحمة والتسامح والإغضاء عن الأذى والتضحية ونكران الذات، «بوذا» نفسه يقول في بيان وجوب مقابلة السيئة بالحسنة: «إذا كان الحقد يرد على الحقد بالمثل كيف ينتهي إذن؟!» وللبوذيين مثل بديع في وجوب الإحسان، هو أن أرنبًا لا يملك من حطام الدنيا شيئًا عز عليه أن يرد سائلًا طلب ما يمسك به رمقه، فشوى نفسه له حتى لا يرده خائبًا! هذا المثل يبين بإعجاب وجوب أن يساعد المرء غيره بما يملك من وقت ومال، وبذات نفسه أيضًا، ويحضرني بهذه المناسبة قول الشاعر العربي:
وإذا تركنا الهند إلى الصين، نجد كونفشيوس الفيلسوف يبشر في القرن السادس قبل الميلاد كسابقه بأخلاق يحكم العقل السليم بصلاحيتها للجميع، كان يوصي بالاعتراف بالخير والجميل للأموات، وبالشفقة البنوية، وبالإخلاص الأخوي، وبالأدب الذي منبعه القلب، وبالمعاملة الحسنى لجميع الناس؛ ولهذا نجد بعض كلماته تمثل نمطًا عاليًا من التفكير، وأخلاقًا تفرض نفسها فرضًا على الجميع، ها هو ذا يقول: «من المعرفة الحقة أن يكون المرء عارفًا ويعلم أنه عارف، أو جاهلًا ويعلم أنه جاهل، العاقل لا يرفض كلمة طيبة لأنها جاءت من شرير، يجب مقابلة الشر بالخير والظلم بالعدل، أحبوا الآخرين كأنفسكم»، ولما حانت وفاته رفض أن يصلي تلاميذه لأجله، وقال في نبل وإيمان: «حياتي كانت عبادتي وصلاتي.»
وبنو إسرائيل كان من تقاليدهم الضيقة في فجر تاريخهم أنهم لا يعتقدون واجبًا إلا إلههم المحلي وأنفسهم، حتى جاءهم أنبياؤهم وحكماؤهم بالمثل الأخلاقية الرحبة الواسعة، وفي ذلك يقول أحدهم في القرن السادس قبل الميلاد: «ليس لجميع الشعوب إلا إله واحد، كل العالم معبده، وتكريمه أن يكون الكل عادلًا.»
وجاء في كلمة لمكسيم غوركي، أحد كتاب الروس المعروفين، هذه الحكمة السامية لهليل الحكيم السابق ذكره: «إن لم تكن لنفسك فلمن تكون؟ ولكن إن كنت لنفسك فقط فلم تكون؟» ويقول غوركي عن نفسه إنه تأثر بما في تلك الكلمة الخالدة من معنى دقيق وحكمة عميقة، فجعل مبدأه أن يُعْنَى بنفسه، فلا يكون كَلًّا على غيره، وألا يحيا لنفسه فقط، وإلا أضحت حياته هباءً منثورًا، وأخيرًا يختم كلمته بقوله: «إن حكمة هليل هي النبراس الذي هداني السبيل وما كان سهلًا سويًّا.»
نترك اليهود وتقاليدهم وأخلاقهم إلى المسيح — عليه السلام — فنجده جاء معارضًا لما وجده من تقاليد عتيقة ضيقة بمثل أخلاقي صالح للجميع؛ كان مما بشر به «حب المرء لله هو أن يحب قريبه كنفسه»، وليس القريب هنا هو الإسرائيلي للإسرائيلي مثلًا بل الإنسان للإنسان: «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، إن وصيتي أن يحب بعضكم البعض كما أحببتكم، لا يوجد حب أعظم من أن يعطي المرء من حياته لأصدقائه.»
أما محمد، صفوة الخلق كافة وخاتم الأنبياء والمرسلين، فقد جاء في الأخلاق بما يعتبر بحق المثل الأعلى الكامل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا … إلى آخر هذه الأوامر الحكيمة الذهبية العالية التي احتوتها تلك الآيات الكريمات، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، ويضاف لهذا ومثله قوله ﷺ: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.»
وهكذا نرى أن كثيرًا من ذوي الضمائر الإنسانية عارضوا التقاليد والأفهام الضيقة التي كانت مقبولة في أزمانهم وبيئاتهم بمُثُل عليا، وبعبارة أخرى: بمثل أعلى أخلاقي حكموا حقًّا بصلاحيته للجميع دائمًا. وصلوا لذلك لأنهم أتيح لهم أن يتخطوا الجماعات التي كانوا يعيشون بينها، ونجحوا في الدخول في حظيرة الإنسانية الخالدة والحياة العامة التي لا يحدها مكان أو زمان.
هذه الأفكار الأخلاقية العالية التي جاءنا بها أصحاب الضمائر العالية النيرة بعد تفكير عميق تجاوزوا به أزمانهم وبيئاتهم وأممهم إلى الإنسانية العامة في أوسع حدودها، هذه الأفكار السامية التي يجب أن تكون مقبولة منا جميعًا، أليس لنا أن نقدر بأنها حقائق أخلاقية عامة، فتكون الأخلاق لذلك علمًا من العلوم؟
إنه مما لا ريب فيه أن هذه الأفكار ليست شعارًا أو مبادئ مقدسة للناس جميعًا يصدرون عنها في أعمالهم دائمًا، هذه حقيقة لا ريب فيها، ولكن الحقائق العلمية لا تزيد عنها في هذا المعنى. حينما يُعرِّف العلماء الحقيقة العلمية بأنها الاتجاه العقلي العام نحو مركز واحد أو نتيجة واحدة، وبعبارة أخرى بأنها الشيء الذي تتجه إليه العقول كلها وتقبله، لا يقصدون من ذلك أن هذا الاتجاه العام محقق، بل يقصدون أنه أمنية يرجون أن تكون يومًا ما.
وفي الواقع لا يقبل سود أفريقيا أو أستراليا أو زنوج أمريكا مثلًا التفسيرات العلمية الصحيحة لكل الظاهرات الكونية كالرعد والبرق والمطر والكسوف والخسوف، بل لا يزال منا معشر المصريين من يعلل هذه الظواهر ونحوها بما لا يتفق مع العقل، مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ! فحينما يعلن العلماء أن الحقائق العلمية تنتج اتفاق جميع العقول، يكون الغرض إما أنها تؤدي لاتفاق جميع العقول الموهوبة القادرة على الحكم الصحيح، أو الأمل في أنها تؤدي حقًّا ذات يوم لاتفاق جميع العقول بلا استثناء، إذن يكون من الممكن أن نأمل هذا للحقائق الأخلاقية السابق ذكرها هي وأمثالها، فنقول: هناك حقائق أخلاقية تفرض نفسها على الضمائر السليمة، وأنها من الآن مقبولة من كل من وُهب القدرة على الحكم الصائب، كما أنها ستكون يومًا ما مقبولة من الجميع عندما يُرزق المرء رحابة الصدر والنظرة الواسعة التي تنتظم العالم بأسره، وتعتبر الناس إخوة متساوين فيما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات.
هذا الرجاء الذي يجب أن نقنع به الآن، نجد لحسن حظ الإنسانية أنها تقترب منه شيئًا فشيئًا لعوامل عديدة؛ هناك قوى هامة مختلفة تعمل في الإنسانية الحالية للتقريب بين الضمائر وجمعها على مبادئ واحدة من الناحية الأخلاقية كما من الناحية العلمية، من ذلك انتشار العلم في كل البقاع، وسهولة اتصال الناس في كافة أرجاء الأرض، وسرعة ذلك الاتصال وتزايده يومًا فيومًا، لا فرق في ذلك بين السود والبيض وغيرهما من الأجناس المختلفة، هذا الاتصال المستمر، الذي طابعه الحدة والعنف بل الوحشية في بعض الأحيان كما في حالات الاستعمار، أنتج كثيرًا من المظالم والآلام، ولكنه كان من نتيجته أيضًا تعارف الأمم وتفاهم الشعوب والقضاء على التقاليد والعادات الأخلاقية الضيقة الخاصة، وتبادل المبادئ الأخلاقية واختيار أنفعها، وسيؤدي استمراره إلى إتاحة الفرصة إلى أن يوسع الناس جميعًا مداركهم ويسموا بتربيتهم حتى يتخطوا بذلك الحواجز الطبيعية من محيطات وبحار وأنهار وجبال، ويصلوا إلى أبعد الآفاق، وحينئذ يجمعون في عقولهم وقلوبهم كل ما أمكن لشعوب العالم قاطبة كشفه أو خلقه من حقيقة وجمال، ويذكرون في ضمائرهم كل ما يوجد في الحياة العامة من عقل وحكمة ومبادئ أخلاقية نبيلة.
والآن، وقد ثبت أن هناك حقائق أخلاقية عامة، نرى الضمير المستقيم مجبرًا على قبولها، ونرى أن من الواجب أن يقبلها الجميع يومًا من الأيام قريبًا كان ذلك أو بعيدًا، الآن لنا من غير إسراف أن نقدر أن الأخلاق علم من العلوم، وأن نعتبره عملًا من أعمال العقل كسائر العلوم الأخرى، لا وليد التقاليد أيًّا كان مصدرها، الأخلاق عمل من أعمال العقل الذي يبحث بكل ما يملك من قوى مختلفة للوصول لحقائق أخلاقية صالحة للجميع، وإذن فلننظر مكان هذا العلم من الفلسفة.