السلوك، المقصد، الباعث
(١) السلوك
(١-١) تعريفه
يقال في اللغة: سلك أي دخل، ومنه قوله تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، وسلكت الطريق سلوكًا من باب قعد ذهبت فيه، وبنوع من التجوز — وهو اعتبار الأخلاقية طريقًا يُسار فيها — يكون هذا المعنى الثاني قريبًا للمعنى الأخلاقي ﻟ «كلمة السلوك»، فقد عرفه «سبنسر» في كتابه «مبادئ الأخلاق» بأنه «مجموعة الأعمال الحيوانية المتجهة نحو غاية»، وعلى هذا يشمل جميع أعمال الحيوان والإنسان؛ الإرادية التي لها غاية يقصدها الفاعل، وغير الإرادية التي وإن صح أن يقال عنها إن لها غاية إلا أنها غير مقصودة من الفاعل مطلقًا.
وهذا التعريف العام كان موضع نقد العلَّامة «ماكنزي» في كتابه «الأخلاق»؛ لأنه يرى بحق أن الحيوان مسوق دائمًا بغرائزه وشهواته، لا يقصد غاية من أفعاله بل لا يفكر في غاية منها، وليس المراد من هذا نفي الغاية عن أفعال الحيوان الغريزية، بل المراد أنه وإن كان لهذه الأفعال غاية تعود على الحيوان كنفع يناله أو ضرر يدفع عنه، إلا أن تلك الغايات لا يشعر بها الحيوان ولا يفكر في شيء منها.
وكذلك أعمال المرء غير الإرادية لا تُعتبر سلوكًا له لخروجها عن نطاق تفكيره وإرادته. لم يبقَ بعد هذا إلا أعمال الإنسان الإرادية، فهي التي يصح أن تُسمى في علم الأخلاق سلوكًا يوصف مرة بالحُسن وأخرى بالقبح، وإذن، فلنا أن نعرف السلوك ﺑ «أنه أعمال المرء الإرادية المتجهة نحو غاية معينة مقصودة» كقول الصدق والكذب، وأعمال الشجاعة والجبن، والكرم والبخل، ونحوها.
والسلوك مظهر الخلق، ودليله ورمزه وعنوانه؛ لأن الخلق إذا كان حالة للنفس داعية لها إلى أفعالها، أي حالة نفسية باطنية، فإن السلوك هو الأفعال التي تصدر عن هذه الحالة الراسخة الكامنة في النفس.
(١-٢) علاقته بالخلق
من ذلك يتضح أن علاقة السلوك بالخلق هي علاقة الدال بالمدلول، فإذا كان السلوك حسنًا دل ذلك على خلق حسن، وإن كان سيئًا دل على خلق قبيح، ومن هذا التلازم بينهما نستطيع أن نتنبأ غالبًا بأعمال المرء متى علمنا خلقه، كما نستطيع أن نعرف أخلاقه من أعماله، فإذا تكونت جماعة من محبي الخير لجمع التبرعات لمنكوبي الملاريا بأعلى الصعيد، يكون من السهل أن نتعجل القول بأن فلانًا سيسارع للتبرع بقدر طاقته، وأن فلانًا سيقبض يده فلا ينزل عن فلس واحد مما حباه الله به من غنى واسع عريض، نستطيع أن نتعجل القول بهذا لما نعلمه من تخلق الأول بخلق الكرم الذي يدعو للبذل عند دواعيه، وتخلق الآخر بخلق البخل الذي يجعله يشح بالقليل مع توفر دواعي الكرم والجود.
ولسنا نريد من تقريرنا أن بين الخلق والسلوك علاقة الدال بالمدلول، أن نقول: إن سلوك الإنسان يتوقف على خلقه فحسب، فالواقع أن السلوك يتوقف أيضًا على الظروف والملابسات التي تحيط بالإنسان، من صحة أو مرض، وجاه أو ضعة، وصيت أو خمول، وغنى أو فقر، ونحو ذلك من الأحوال المختلفة، ألا ترى أن اللص يجد من ظلام الليل وهدوئه عونًا له على أعمال التلصص والسرقة، بينما هذه الحالة نفسها تدفع الفيلسوف أو المخترع مثلًا للتفكير فيما يعود بالخير على الإنسانية جمعاء!
كم منا من يتألم لمنظر الإنسانية المعذبة إذا زار ملجأ لليتامى أو مستشفى قصر العيني، وشاهد بنفسه ما يلقاه اليتيم من ذل وهوان، وما يحسه المريض الذي استعصى داؤه من وَصَب وعذاب، فيعزم عزمًا لا رجعة فيه أن يتبرع بجزء من دخله كل شهر رغبة في تخفيف بؤس هؤلاء المنكوبين، حتى إذا رجع لمنزله ومضى شهر فآخر، وغاب عن عينيه منظر أولئك البائسين، نسي بؤسهم وأمراضهم ولم يجد بعدُ ما يدفعه للنزول عن شيء من ثروته لهم!
(١-٣) نشأته وتطوره
لقد تدرج السلوك الإنساني في مدارج مختلفة، كان المرء في عهده الأول الهمجي ينساق بغرائزه في أعماله وسلوكه كما ينساق بها الطفل دائمًا، ثم تدرج به الزمن فصار سلوكه يتشكل حسب عرف القبيلة التي يعيش فيها؛ يفعل ما وافقه ويذر ما خالفه، وجرى على ذلك حتى صارت تلك الأفعال التي يقوم بها عن تقليد ومحاكاة، متأثرًا بعرف القبيلة وتقاليدها، عادة له يأتيها دون نظر لنفسه كفرد مستقل له شخصيته الخاصة، بل كجزء لا يتجزأ من قبيلته، يعمل ما يتفق ومصلحتها وخيرها ولو ضحى في ذلك بنفسه.
وعرف القبيلة الخاص لا يبقى على حالة واحدة، بل يتغير ويزيد وينقص بسبب اتصال القبائل ببعضها في أيام السلم والحرب، للتجارة وتبادل المنافع وغير ذلك من أسباب التعارف والاتصال، فتأخذ كل قبيلة من تقاليد الأخرى ما يروقها ويتفق مع ظروفها وحاجتها، ومن أجل هذا يعم العرف شيئًا فشيئًا بتطبيقه على غير قبيلة واحدة، إلى أن يأخذ بعض ذوي العقول المفكرة في هذه القبائل في بحث الفروق بين تقاليدها وعاداتها المختلفة، واختيار أفضلها بعد تهذيبها إذا دعت الحال والحاجة؛ ليكون عرفًا عامًّا لهذه القبائل كلها، وبذلك يأخذ هذا النوع من العرف العام صيغة القانون.
يجيء بعد ذلك دور القانون الذي يرتكن على كثير من العرف والتقاليد، فيخضع له الإنسان في سلوكه وأعماله كما كان يخضع للعرف. ونشأة القانون عن العرف ترجع إلى العمل لحماية المجتمع من الفوضى بسنِّ عقوبات رادعة للمجرمين، وكانت هذه العقوبات عرفية أول الأمر، ثم أخذت شكل القانون وصيغته حين أصبحت عامة تطبَّق في جميع الأحوال، وعلى القبائل المجتمعة التي تعيش كأمة واحدة.
وأخيرًا، وصل الإنسان بالرقي الفكري إلى الدور الأخير الذي أصبح يسير فيه على حسب ما يوحي به إليه البحث والنظر السليم، غير مقيَّد في أعماله بالعرف ولا بالقانون، بل يسترشد فيه بالقاعدة والمبدأ النظري المثالي «المثل الأعلى»، الذي يرى الخير المطلق في تحققه. على أنه ليس معنى هذا أن الغرائز زال تأثيرها في السلوك في الأدوار الأخيرة، بل الغرض أن نقول: إن الإنسان في الدور الأول كان يسير تقريبًا طبق ميوله الغريزية وحدها، فأصبح بعده يعيش بغرائزه وعقله وتفكيره، ذلك بأن الغرائز لا يزال لها أثرها في سلوك المرء دائمًا، ولعل من أبرزها أثرًا غريزة المحاكاة والتقليد.
من ذلك نرى أن سلوك الإنسان يتأثر بعوامل مختلفة، منها الغرائز التي يُولد مزودًا بها وتهيمن عليه في أيامه الأولى، والعادات التي ينشأ عليها متأثرًا بالعرف حينًا وبالقانون حينًا آخر.
والغريزة والعادة أهم مصادر السلوك النفسية التي ينبع منها والتي يُسمى مجموعها «أسس السلوك»، ولا بد للمربي الأخلاقي من دراسة هذه الأسس حتى يتسنى له استئصال ما يريد من أخلاق قبيحة، وتثبيت ما يجب من أخلاق طيبة، فإنك مهما ألححت على امرئ بترك الحقد والحسد مثلًا، وأمرته بذلك مرارًا من غير التفات منك لحالته النفسية التي تصدر عنها هاتان الرذيلتان، ما كان لقولك وإلحاحك من أثر، إنما سبيل الفائدة هو أن تتعرف أولًا السبب الداخلي النفسي الذي من أجله يحقد ويحسد، ثم معالجته بما يجب ثانيًا.
- (١)
الغرائز قوى فطرية أودعها الله جسم الإنسان، فتدفعه إلى المحافظة على بقائه وبقاء سلالته، من غير سابق تفكير في هذه الغايات أو تدريب على ما يوصِّل إليها من أعمال.
وهي أساس كثير من الأعمال التي نأتيها كل يوم، فأعمال السعي للقوت، والأكل والشرب، والفرار من الأخطار، والأَثَرة وحب النفس وما إليها، مردها عند التحليل إلى غريزة المحافظة على البقاء أو غريزة حب الذات. كما أن غريزة حفظ النوع، أو بقاء السلالة، منبع لسلوك المرء أيضًا وخاصة أيام الشباب؛ من جد في الدرس، وعمل على نيل الدرجات العلمية والمراكز السامية، وبحث عن شريكة لحياته، وميل إلى الادخار والإثراء ليضمن هناءة أولاده، إلى غير ذلك من الأعمال التي تجيء تلبية لداعي هذه الغريزة.
وإذا كانت الغرائز بهذه المثابة في تكوين الأخلاق، فمن الواجب العناية بها وعدم إهمالها وتركها على طبيعتها، بل يجب أن تُربَّى وتُهذَّب وذلك بتشجيعها إذا بعثت على عمل طيب، والحد منها بل وكَبْتها في الحالات الأخرى.
- (٢)
وإذا تكرر عمل من الأعمال حتى أصبح من السهل على المرء إتيانه، سُمي عادة، فالفرق بينها وبين الغريزة أن هذه قوة طبيعية تُخلق مع المرء، ثم تنمو أو تضعف حسب الظروف والأحوال. أما العادة فتُكتسب اكتسابًا، ومن أجل ذلك نرى أن الغرائز شائعة بيننا جميعًا، بينما لكل منا عاداته الخاصة التي كسبها لنفسه.
ومنشأ العادة الميل إلى عمل معين، ثم إجابة هذا الميل بإصدار العمل المرغوب، مع تكرار ذلك كله تكرارًا كافيًا لجعله يصدر بسهولة، وذلك أن كل عمل يؤثر في الأعصاب ويأخذ فيها مجرى خاصًّا، وبتكرار العمل الواحد يعمق الأثر الذي اختطه في الأعصاب وتميل النفس للإتيان به، وترتاح الأعصاب له لاتفاقه مع الشكل الذي تشكلت به، وهكذا حتى يصير العمل مألوفًا للنفس معتادًا لها، تهش لعمله ويصدر عنها بسهولة ويسر لا أثر فيه للتكلف، فيصبح عادة فخلقًا.
ومن هذا يتضح أن من أهم خصائص العادة تسهيل العمل المعتاد، ومن أوضح المثل لذلك المشي والكلام، فكل منهما في أول الأمر شاق على الطفل غاية المشقة، ولا يزال الطفل يتمرن عليه حتى يصير أمرًا معتادًا سهلًا لا كلفة فيه.
وإذا عرفنا كيف تتكون عادة من العادات الطيبة، أمكن أن نعرف كيف نتخلص من عادة رديئة، وذلك يكون بعدم الترحيب بالميل غير المرغوب فيه، وعدم إجابة هذا الميل — حتى ولو كان شديدًا قويًّا — بإصدار العمل، وبذلك تموت هذه العادة بإهمالها.
هذا من وجهة التربية والأخلاق، وإلا فقد يكون من الخير للمرء الذي يعرف من نفسه مضاء العزيمة، إذا أراد أن يترك عادة مذمومة، أن يتخلى عنها مرة واحدة، ثم يتحمل مشقة ذلك مدة من الزمن محدودة تنتهي بالتحرر منها، وفي الحديث: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى». أما من يخاف الخَوَر في العزيمة، فمن البصر وسداد الرأي أن يأخذ نفسه بالتدريج، حتى لا يؤدي ضعف عزيمته عن إنفاذ ما ليس في مقدوره إلى توهينها وإضعافها عن إتيان السهل من الأمور.
وهذا هو السر في أن الله — جلت قدرته وحكمته — حرم الخمر على ثلاث مراتب، ولم يحرمها مرة واحدة.
(٢) المقصد
(٢-١) تعريفه
المقصد في اللغة: المطلوب، قصدت الشيء وله وإليه قصدًا من باب ضرب: طلبته بعينه، وإليه قصدي ومقصدي. وفي «القاموس»: القصد: استقامة الطريق والأَمِّ، فالقصد «مجرد اتجاه النفس نحو أمر من الأمور»، أما المقصد فهو «كل ما تتجه إرادة الإنسان لتحصيله»، وهو ما نُعْنَى بالكلام عنه الآن؛ لأنه متعلق الحكم الخلقي، فيوصف آنًا بالحسن وآنًا بالقبح.
بهذا التعريف يشمل المقصد نتائج أعمالنا وإن كان بعضها غير مرغوب فيه، أو غير متيقَّن الوقوع، فقائد الغواصة مثلًا إذا أمر بإطلاق قذائفها على باخرة للأعداء فدمرتها وأغرقت ربانها وبحارتها، يكون مسئولًا أخلاقيًّا عن هذا العمل، وليس له أن يتعلل بأنه لم يكن يرغب هلاك البحارة بل كان باعثه إضعاف العدو، فحسبه أن ذلك كان له مقصدًا اتجهت إليه إرادته.
لكن هذا التعريف لا يتناول الظواهر الكونية التي تقع وفق القوانين الطبيعية، ولا دخل لإرادة الإنسان ولا لقصده فيها، فاتصال النار بدار فلان وإحراقها ليس من متعلق الأحكام الخلقية، فهو وإن صح وصفه بالضُّرِّ بالنسبة لنتيجته، لا يصح وصفه بالقبح لأن إرادة المرء لم تتجه إليه. أما لو تعمد شخص وضع النار في هذه الدار، فإنه يكون مسئولًا أخلاقيًّا، ويوصف عمله بالشرِّيَّة؛ لأن إرادته تداخلت فكان الإحراق مقصودًا.
(٢-٢) أقسامه
- أولًا: «يكون خارجيًّا وداخليًّا»، فإن العمل الذي يأتيه المرء قد تكون له نتيجة خارجية لا يلقي لها بالًا، وأخرى وجدانية داخلية هي التي فعل الفعل لأجلها، وذلك كالذي أنقذ الحجاج مرة من الغرق، فلما لِيم في إنجائه وعدم تركه للموت فيستريح الناس من شره، قال: أردت أن أحول بينه وبين الموت شهيدًا! فإنجاؤه مقصد خارجي ظاهري، والحيلولة بينه وبين ميتة الشهداء، وهو ما يرضي نفس المنقذ ووجدانه، مقصد داخلي وجداني. ومثل ذلك أيضًا الرجل يتصدق على فقير يعذبه الجوع بما يدفع عنه غائلته، يقصد من ذلك أن يبعد عن نفسه الألم برؤيته بائسًا مسكينًا يعضه الجوع بنابه، فهذا مقصد داخلي وجداني، وبجانبه آخر خارجي، هو شبع الفقير ورد عادية الجوع عنه.
- ثانيًا: «يكون قريبًا وبعيدًا»، كما لو شوهد مجرم أثيم يطلق النار على
رجل بريء من اثنين أحدهما قريب المجرم والآخر ولي المقتول، وحين
استجوابهما من رجال القضاء أنكرا أن يكونا شاهدا القاتل أو عرفاه.
فكل منهما قصد تخليصه من المحاكمة، وهذا مقصد قريب تحققًا، إلا أن
لولي المقتول مقصدًا آخر بعيدًا هو تمكنه من أخذ ثأره بنفسه منه،
ففي ذلك وحده في رأيه إرواء عاطفة الانتقام. ونحو هذا لو رأينا
قاتلًا يساق لساحة الإعدام جزاء بما قدمت يداه، ويتبعه والد
المقتول ينتظر الساعة التي يبرد فيها من لوعته برؤية القاتل بين
يدي الجلاد، فيعترض المجرم خطر يهدد حياته فيسرع كثير لإنقاذه
ومنهم الوالد الثاكل، كلٌّ من هؤلاء قصد إنقاذه، وهذا مقصد قريب
تحققه، ولكن لهذا الوالد المحزون مقصد آخر بعيد، وهو سلامته من هذا
الخطر المفاجئ ليموت مشنوقًا، وفي ذلك سرور الوالد المسكين.
وقد يقال: إنه بمقارنة هذا النوع بسابقه يكون المقصد البعيد هو الداخلي دائمًا. وهذا غير صحيح؛ لأنه إن كان الأمر كذلك في هذه الأمثلة فقد لا يكون دائمًا، كرجل أخذ نفسه بضروب العبادة لتهذيب نفسه وليفوز برضوان الله وجنته، فتهذيب النفس مقصد داخلي وجداني، وهو هنا القريب تحققًا ووجودًا، والثواب الأخروي هو المقصد الخارجي وإن كان بعيدًا في وجوده.
- ثالثًا: «يكون أصليًّا وتبعيًّا»، وذلك كما أراد رجل فوضوي قتل حاكم
فاعتزم نسف ندِيِّ علم أنه سيحضر فيه، وهو يعلم أن القنبلة ستميت
كثيرًا من الأبرياء، ولكنه يقصد هذا كما يقصد قتل الحاكم أيضًا،
إلا أن قتل الحاكم مقصود أصالة وقتل أولئك مقصود تبعًا. ونستطيع أن
نمثل لذلك أيضًا باجتهاد أحزاب المعارضة في التنقيب عن سقطات
الوزارة التي تكون قائمة بالحكم، والكشف عن مساوئها، تقصد من ذلك
تقويم المعوجِّ منها، إلا أن هذا مقصد تبعي لها، والمقصد الأصلي هو
الفوز بالحكم بعد تأليب الناس عليها وإسقاطها.
ومن هذا نعرف المقصد الأصلي بما اتجهت إليه الإرادة أولًا، والتبعي بما جاء تبعًا له، وقد يُسمى المقصد الأصلي مقصدًا مباشرًا، والتبعي مقصدًا غير مباشر.
- رابعًا: «يكون شعوريًّا وغير شعوري»، فالشعوري ما يقصده المرء وهو متنبه له أكمل التنبه شاعر به تمام الشعور، والآخر ما يندفع إلى تحقيقه على غير شعور به ولا تنبه له، كهؤلاء العلماء الذين يقفون حياتهم وجهودهم في الاكتشافات العلمية الطبية التي تنجي العالم من كثير من الأدواء وتزيد في سعادته، فلو أنك سألت أحدهم عن غايته من أعماله ومقصده منها، لما أجابك إلا بأنه يقصد خير الإنسانية، مع أن له بجانب هذا مقصدًا آخر هو ذيوع شهرته وخلود اسمه، إلا أن المقصد الأول متنبه إليه شاعر به، والثاني منساق إليه بغير تنبه ولا شعور، بمعنى أن الشهرة وذيوع الاسم وخلوده وإن كانت أمورًا مقصودة لكنه لا يشعر بأنها مقاصد ولا يتنبه لها؛ لأن مقرها العقل الباطن، فهو يسعى إليها ويحققها بدون شعور منه.
- خامسًا: «يكون ماديًّا ومعنويًّا»، ويُقصد بالمادي غاية جزئية خاصة، وبالمعنوي مبدأ عام يراد تحقيقه، وذلك كما إذا تقدم رجل يرشح نفسه للنيابة، فقام في وجهه جماعة يسعون لسقوطه لرجعيته، وآخرون يبغون إسقاطه أيضًا ولكن لعدم تدينه مثلًا أو رغبة في نجاح مرشح آخر لهم، فالمقصد المادي لجميع المناوئين واحد وهو عدم نجاحه، إلا أن لهذا المقصد معنى عند هذا الفريق غيره لدى الفريق الآخر، وذلك المعنى عند الفريق الأول عدم نجاح رجل رجعي في آرائه ومبادئه، وعند الفريق الثاني عدم نجاح رجل غير متدين، أو مساعدة لمرشح آخر، وإن كانت الغاية المادية واحدة عند كلا الفريقين وهي سقوط ذلك المرشح في الانتخاب.
وبإعدام الحكومة للقاتل يتحقق المقصدان؛ المادي وهو قتل الجاني القاتل، والمعنوي وهو تحقيق مبدأ «القصاص حياة.»
ومن هذه الظواهر والأقسام للمقصد يتبين لنا أنها مع اختلافها وتعددها يجمع بينها أمر مشترك هو التوجه لتحقيقها، وبذلك يظهر معنى تعريفنا السابق له، وهو أنه «كل ما تتجه إليه الإرادة لتحصيله.»
(٣) الباعث
(٣-١) معناه
يرى الحكماء أن من العلة ما يُسمى «علة فاعلية»، وهي الأمر المؤثر في وجود الشيء، وذلك كتأثير عمل الأعصاب، واليد في حركة الأخذ والعطاء، وكصانع الكرسي بالنسبة له. ومنها ما يسمى «علة غائية»، وهي الأمر الذي لأجله قام الفاعل بالفعل، أو بتعبير آخر قد يكون أقرب للاصطلاح: هي الأمر المؤثر في فاعلية الفاعل للشيء، كالتأديب في ضرب الوالد لابنه، والرغبة في تخليد ذكرى عظيم في إقامة تمثال له.
على هذا النحو نتكلم في «الباعث» فنقول: إن منه باعثًا دافعًا، وهو ما يساوي العلة الفاعلية، وباعثًا غائيًّا، وهو ما يساوي العلة الغائية، فإذا حركتك الشفقة إلى مدِّ يد المساعدة لطفل ينتفض من البرد فكسوته ثوبًا، كانت الشفقة هي الباعث الدافع، ودفع البرد عنه هو الباعث الغائي، والأخلاقي إنما يُعْنَى ببحث الثاني دون الأول.
لا يحتاج دارس الأخلاق إلى بحث الباعث الدافع؛ لأنه إما أن يتسيطر على المرء ويسلبه إرادته ويدفعه للعمل دفعًا، وحينئذ لا يكون هذا العمل محلًّا للحكم الأخلاقي؛ لأن متعلقه الأعمال الصادرة عن وعي وتفكير وإرادة، فمن ملكه الغضب مثلًا حتى أعماه عن القصد وأخرجه عن الوعي، ودفعه لما لا يليق من قول أو فعل، يكون مسئولًا أخلاقيًّا لو كان في مُكْنته الحيطة قبل الغضب الذي سلبه تفكيره، كما قدمنا عند الكلام على موضوع علم الأخلاق، هذا إذا كان الباعث الدافع مسيطرًا بهذه المثابة. أما إذا لم يقوَ على هذا النحو، وكان للمرء معه قدر من التفكير في إصدار الفعل أو عدم إصداره، فلا يكون هو وحده حينئذ الذي دفع العمل، وقصاراه أن يجعل المرء أكثر استعدادًا للعمل من غيره، أو بعبارة أخرى: يكون جزءًا من الباعث لا الباعث كاملًا.
وإذا كان الباعث بين حالتين لا يعدوهما، إحداهما تخرج صاحبه عن المسئولية فلا يكون العمل محلًّا للحكم الأخلاقي، والأخرى لا يكون فيها قويًّا فيكفي وحده للحمل على العمل، فلا حاجة إذن بدارس الأخلاق لبحثه، وإنما حاجته ماسة لبحث النوع الثاني وهو الباعث الغائي حتى يصدر حكمه عن بينة، بعد تعرُّف غايات الفاعل وبواعثه، التي هي مناط الحكم الأخلاقي.
والآن، بعد أن وضح معنى الباعث بنوعيه، نتكلم عن العلاقة بينه وبين المقصد؛ لنتبين ما يصلح منه أن يكون باعثًا.
(٣-٢) العلاقة بين المقصد والباعث
ومن السهل أن نقرر بعد أن علمنا أن المقصد هو ما تتجه الإرادة لتحصيله، وأن الباعث الغائي هو الغاية التي تجذب المرء لعمل معين؛ أن كل باعث بهذا المعنى يكون مقصودًا؛ لأن كل ما جذب الإنسان لعمل خاص يكون دائمًا شيئًا يُراد تحصيله، ولكن إذا صح أن نقول: إن كل باعث مقصد، هل لنا أن نقول أيضًا: إن كل مقصد باعث؟
قبل أن نجيب على هذا السؤال، نتروَّى فنرى أننا نقصد كثيرًا من نتائج أعمالنا الحتمية، ولكن لا نعتبرها غاياتنا التي جذبتنا إلى هذه الأعمال وقمنا بها لأجلها.
هذا سعد باشا زغلول وصحبه حين دعوا الأمة للثورة على الإنجليز عام ١٩١٩ كانوا يعرفون من نتائجها المحتومة ما كان من قتل ونفي وتشريد، وكانوا يقصدون هذا طبعًا، غير أنه لم يكن غايتهم من دعوتهم للثورة، بل كانت الغاية الحصول على استقلال مصر وتحريرها. ومثال آخر: نحن نُطعِّم أولادنا ضد كثير من الأمراض، ونعرف بل ونقصد ما يكون وراء ذلك من ألم وورم في الأذرع، ولكن لا نجعل ذلك غايتنا، بل هي إكسابهم المناعة ضد الأمراض التي لقَّحناهم بالمصل المضاد لها.
وإذن، من الحق أن نقرر أن ليس كل مقصد باعثًا دائمًا. على أن هناك من الأحوال ما يكون فيها المقصد هو الباعث، فإنا لو رجعنا إلى ما ذكرناه في الكلام عن تقسيم المقصد، لتبين لنا أن الباعث يشمل الجانب الكبير من المقصد البعيد دون القريب، وأنه يشمل المقصد الأصلي دون التبعي، وأنه في الغالب يشمل المعنوي لا المادي، كما أنه قد يكون داخليًّا كما يكون خارجيًّا، ومن أجل ذلك تكون النسبة بين الباعث والمقصد العموم والخصوص المطلق، يجتمعان في حالة، وينفرد الأعم.
(٣-٣) ما يكون باعثًا
- الأول: «الباعث هو اللذة»، أي أننا لا نعمل عملًا إلا لنيل لذة أو
للتخلص من ألم، فالحصول على اللذة والفرار من الألم هو الغاية
القصوى التي تقودنا إلى ما نأتي ونذر من أعمال.
ومن أشهر القائلين بذلك من المحدثين اثنان: أحدهما بنتام Bentham١ الفيلسوف الإنجليزي الذي يرى أنه قد وُضعت الفطرة الإنسانية تحت حكم اللذة والألم، فنحن مدينون لهما بأفكارنا، وإليهما ترجع جميع أحكامنا وجميع مقاصدنا في الحياة، ومن يدَّعي أنه أخرج نفسه من حكمها لا يدري ما يقول، فإن غرضه الوحيد طلب اللذة والهرب من الألم في اللحظة التي يرفض فيها أعظم اللذائذ ويقبل أشد الآلام، وهذه المشاعر الأبدية التي لا تُقاوم ينبغي أن تكون الموضوع المهم لدراسة الأخلاقي والمقنَّن، ومبدأ المنفعة يخضع كل شيء لهذين الباعثين.والآخر هو ستيوارت مل Stuart Mill٢ الذي يقرر بأن النوع الإنساني لا يميل لشيء لذاته إلا ما كان لذيذًا عنده أو ما كان فقده مؤلمًا، وأن من المسائل الواقعة المجربة أن الميل إلى شيء ورؤيته لذيذًا، والنفور من شيء واعتباره مؤلمًا، ظاهرتان متلازمتان، أو بالحري جزءان من ظاهرة واحدة.
وقد اعتُرض على هذا المذهب باعتراضات، منها أنه لو كان الباعث لنا على أعمالنا هو اللذة كما يقولون، لكان الاندفاع إليها والإلحاح في طلبها مما يزيدها قوة وتحققًا، غير أن الأمر بالعكس، فإن ذلك مما يفوتها ويذهب بها. ولنتخذ مثلًا لذة شهود رواية تمثيلية، فإن المرء لا ينعم بها إلا إذا استغرق في التمثيل، وشارك الممثلين في عواطفهم، وتلهَّى عن تذكر ما فيه من لذة، أما لو حصر فكره في اللذة وطلبها فإنها تضيع عليه، وكذلك لذات الفكر والدرس والمطالعة ونحوها من اللذات المعنوية.
- الثاني: «الباعث هو المشاعر الوجدانية لذة أو غيرها»، فكل عمل له باعثه
وهو الشعور الوجداني الذي يثير ميلًا إليه، وهذا الشعور قد يكون
لذة أو ألمًا أو حقدًا أو حسدًا أو غيرها. وأشهر القائلين بذلك هو
دافيد هيوم David Hume٣ فقد كان يرى أن ما يبعث إلى العمل هو المشاعر والعواطف
الوجدانية المختلفة، وليس للعقل أثر في ذلك، وكل أثره هو توجيه هذه
المشاعر إلى الوجهة التي تصل بهذا لما تريد، فالمرء يتجه للعمل
ببواعث من وجدانه فقط، والعقل ينير له الطريق الذي يصل لما يشتهيه
بالسير فيه، وبذلك يكون العقل خادمًا لهذه الميول الوجدانية لا عمل
له إلا هذا، حتى لقد ذهب «هيوم» إلى أن العقل ليس إلا خادمًا
للمشاعر، ولا ينبغي أن يكون إلا كذلك، ولا يمكن أن يُدْعى غير
خادمها المطيع.
والذي دفع «هيوم» للقول بأن العقل لا يوجه أعمال الإنسان ولا يبعث عليها، هو فلسفته التجريبية والشكية، هذه الفلسفة التي كانت تقوم على أنه لا سبيل للمعرفة إلا الحواس الظاهرة والباطنة؛ الأولى بما تمدنا به من معارف عن الأشياء التي تقع عليها، والأخرى بالإصغاء إلى بواطن نفوسنا والتأمل فيما يكون منها.
وبالرجوع إلى المقدمات النفسية، التي ذكرنا عند الكلام في تعريف الخلق، يتبين أن الميول التي يرى «هيوم» أنها الباعثة على الأعمال، لا بد أن يكون كل منها تابعًا لعالم خاص يعيش فيه، وهذه العوالم منها ما هو عقلي كما منها ما هو وجداني، وإذن فمن الميول أيضًا ميول عقلية، أي ليست كلها وجدانية وعاطفية فقط، وعلى هذا فنحن نسلم أن المشاعر الوجدانية تكون باعثة على العمل، لكن لا على سبيل الدوام؛ لأن العقل يكون باعثًا في كثير من الأحيان.
- الثالث: «الباعث على العمل هو العقل وحده»، وهذا المذهب مقابل لسابقه؛ لأنه ينكر أن تكون المشاعر الوجدانية من دواعي الأعمال وبواعثها، ويقرر أن العقل هو الباعث الوحيد.
هذا هو ملخص ما يراه السوفسطائيون في حقائق الأشياء، وهو رأي مخالف لما كان عليه الفلاسفة قبلهم من التفرقة بين ما يُدرك بالحواس الخادعة الغاشة في بعض الأحيان — وقد يظن المرء السراب ماء، والظل ساكنًا، والشمس متحركة حول الأرض، وليس ذلك صحيحًا، وقد يتراءى النبات الشديد الخضرة أسود، وليس به — وبين ما يُدرك بالعقل الذي هو الوسيلة الصحيحة لإدراك الحقائق العامة الكلية.
ومن هنا كانوا يفرقون بين ما يدركه المرء من الشيء وبين حقيقة الشيء الخارجية، حتى جاء السوفسطائيون فأنكروا كل هذا زاعمين أن ليس للأشياء وجود خارجي مستقل عما يتمثل في الذهن بواسطة الحواس، وبعبارة أخرى: زاعمين أن ليس هناك فرق بين الوجود الذهني والوجود الخارجي؛ ولذلك كان من تعاليمهم أن ما أراه حقيقة فهو كذلك بالنسبة لي، وما يراه الآخر حقًّا فهو كذلك بالنسبة له، وهكذا دوالَيْك.
وعذرهم في هذا الزعم الخاطئ أن المعلومات لا طريق لها إلينا إلا الحواس، وهي تختلف في هذا عن ذاك فيكون إدراكها لذلك مختلفًا، وإذن فلا يصح أن نعتمد عليها لإثبات أن هناك في الواقع حقائق خارجية غير ما تمثله لنا هذه الحواس، ناسين أو متناسين عمل العقل في المدركات الجزئية الشبيهة بالمواد الخام التي تصله عن الحواس.
وقد بنى أشياعهم الذين أتوا بعدهم على هذه النظرية الضالة — نظرية عدم ثبوت حقائق خارجية للأشياء بل ما يدركه المرء هو حق بالنسبة له — مذهبًا هدَّامًا في الأخلاق هو مذهب اللذة الشخصية الذي يقرر أن الخير الأخلاقي ما يجده كل امرئ خيرًا بالنسبة له، أي ما ينتج لذة شخصية له، وعلى الآخرين العفاء.
استمر الحال كذلك فيما يختص بحقائق الأشياء الداخلية والخارجية حتى جاء سقراط، فكان من الرسالة التي اضطلع بها دحض هذه الفلسفة الخاطئة، وبيان أن سبيل المعرفة هو العقل وحده؛ لأن الحواس لا توصل إلينا إلا مدركات جزئية لكل منها صفاتها الخاصة، كإنسان وفرس مثلًا، وهنا يجيء دور العقل بالجمع بين الصفات المشتركة في جميع أفراد النوع الإنساني وإبعاد الصفات العارضة المنفردة غير المطردة، فيكون من ذلك المدركات الكلية التي هي مهايا الأشياء، وهي التي تسمى معرفة.
غير أن سقراط وإن أصاب في أن أساس المعرفة الفضيلة فلا يكون المرء فاضلًا حتى يقصد الخير ويأتيه وهو عالم به، قد أخطأ في زعمه أن معرفة الخير تبعث على عمله، ومعرفة الشر تباعد بين المرء وبينه لا محالة.
والخلاصة، بعد ما تقدم من بسط كل مذهب ونقده، أننا لا نعدو الصواب إذا قلنا: إن الباعث هو «الغاية التي تتفق مع العالم الذي تظهر فيه.» هذه الغاية قد تكون لذة أو عاطفة وجدانية أخرى، كالكره والحقد اللذين يبعثان على كثير من الأعمال، كما قد تكون أمرًا عقليًّا يتناسب مع العالم الذي نعيش فيه، كالوصول لقوانين عقلية في المنطق والرياضيات مثلًا.
(٤) الضمير
(٤-١) تمهيد
عن وابصة بن معبد — رضي الله عنه — أنه قال: أتيت رسول الله ﷺ فقال: «جئت تسأل عن البر؟ قلت: نعم، قال: البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك.»
للمراقب في عمله نظران: نظر قبل العمل، ونظر في العمل، أما قبل العمل فلينظر أن همته وحركته: أهي لله خالصة، أم لهوى النفس ومتابعة السلطان؟ فيتوقف فيه ويتثبت حتى ينكشف له ذلك بنور الحق؛ فإن كان لله تعالى أمضاه، وإن كان لغير الله استحيا من الله وانكشف عنه. وأما النظر الثاني للمراقب عند الشروع في العمل، فذلك بتفقد كيفية العمل ليقضي حق الله فيه، ويحسن النية في إتمامه، ويتعاطاه على أكمل ما يمكنه.
ينبغي أن يكون للمرء آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة أو شهر أو يوم؛ حرصًا منهم على الدنيا.
وأخيرًا أشار في هذا الباب في مواضع كثيرة إلى قوة جعلها مرة «نورًا إلهيًّا»، وأخرى «معرفة»، مقررًا أنها تهدي المرء وتقوده في أعماله.
كما رأينا مسكويه، حين تكلم عن النفس وقواها الثلاث، في كتابه «تهذيب الأخلاق»، ذكر أن منها القوة الباطنة أو العاقلة، ووصفها بأنها قبس من النور قذف به الخالق إلى النفس البشرية ليكون لها هاديًا ومرشدًا، وصرح بأن أصل هذه القوة هو الميل للخير والنفور من الشر.
ونحن إذا رجع الواحد منا لنفسه عند إتيان عمل من الأعمال وجد أن في قرارتها قوة تأمره بالخير وتشجعه عليه، وتحذره من الشر وتثبطه عنه، وأنه إذا عمل بوحيها أحس ارتياحًا وطمأنينة وغبطة؛ لأنه عرف لنفسه كرامتها، وإن عصاها أحس بألم وتأنيب ينال منه أشد منال، وبندم يدعوه للتوبة والإنابة.
مثلًا: ها أنا ذا الآن متردد بين قضاء هذه الأمسية في الترويح عن نفسي والتسرية عنها ببعض المُلْهيات البريئة بعد ما بذلته من المجهود الشاق في الصباح، وبين إتمام المقال الذي تنتظره مجلة الأزهر، وبين الذهاب لأداء خدمة لآخر هو جدُّ محتاج إليها؛ العاطفة تشير بالاستجمام وقضاء هذه الأمسية في هذا الملهى أو ذاك، ولا عليَّ إن انتظرت المجلة عبثًا ولهذا البائس المحتاج لمساعدتي رب قد يرسل له من يقوم بخدمته على الوجه الذي يريد.
لكني، وقد هممت بتلبية نداء العاطفة، أسمع في أعماق النفس صوتًا قويًّا يثبطني عن إضاعة الوقت باللهو الفارغ، ويذكرني بواجب إسعاف هذا الجار المسكين الذي أنا أقدر على خدمته من غيري، حتى إذا أطعته أحسست بطمأنينة في القلب، وبارتياح في النفس، وبغبطة داخلية تعوض على ما فاتني من الاستمتاع بالرواية التي كنت أشتهي مشاهدتها في إحدى دور السينما أو التمثيل.
(٤-٢) تعريف الضمير
هذه القوة التي أمر الرسول السائلَ عن البر باستفتائها وسماها القلب، والتي تميز الخير من الشر، وتأمر بالأول وتثيب عليه بالارتياح والطمأنينة، وتنهى عن الثاني وتعاقب بالتأنيب والندم، والتي دعاها الغزالي مرة نورًا إلهيًّا وتارة معرفة، ووصفها مسكويه بأنها قبس من النور الإلهي؛ هذه القوة هي ما يسمى في عرف الأخلاقيين المحدثين ﺑ «الضمير».
على أن الحق في رأيي هو أن بين الوجدان والضمير فرقًا كبيرًا؛ الأول هو — كما قلنا — مشاهدة النفس لما يجري فيها وتعرفها حالاتها وإحساسها بما يكون من لذة وألم، أما الضمير فهو، بعد ذلك كله، يقدر الفعل ويحكم عليه بقياسه بما يرى من مثل أعلى، على ما سيجيء بيانه.
هذا، وقد جاء لفظ «القلب» في معنى قريب من الوجدان إن لم يكنه، كما جاء بمعنى العقل أو الضمير؛ من الأول قوله تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وقوله: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ، وقوله: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ. ومن الاستعمال بالمعنى الثاني قوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا، وقوله: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ. ومثل هذا وذاك كثير.
(٤-٣) الدور الذي يقوم به
مما تقدم يتبين أن الضمير يلعب دورًا هامًّا في حياتنا، فهو ناصح حكيم، وقاضٍ عادل، ومنفِّذ أمين، ينصح أول الأمر بالخير ويحث عليه، وبالبعد عن الشر ويثبط عنه، وبعد الفعل يحكم لنا بالخيرية والفضيلة، أو علينا بالشرِّيَّة والرذيلة، وينفذ أخيرًا المثوبة ممثلة في ارتياح النفس وطمأنينتها، أو العقوبة بالتأنيب المر الذي يحزُّ في القلب حزًّا، ويسلم للندم والتوبة.
(٤-٤) مظاهر الضمير
- (١) من هذه العواطف «عاطفة السرور الأخلاقي»، التي تسمى أيضًا «عاطفة الرضاء بالواجب المؤدَّى»، مثلًا، ها أنا ذا أحس حاجة ماسة للاستجمام بعد يوم قضيته في عمل متواصل، فأعزم على الذهاب للاستمتاع بجلسة ممتعة مع جماعة من الأصدقاء، أو بمشاهدة قصة تمثيلية، ولكن جاري يلتمس مساعدتي في أمر له وقد وعدته بها وهذا حينها، ومجلة الأزهر تقتضيني مقالها الشهري، فإذا أعرضت عن داعي العاطفة واستمعت إلى نداء الواجب، أحس سرورًا داخليًّا يعوض عليَّ ما فاتني من الراحة المنشودة؛ لأن عمل الخير — كما يقول فيكتور هيجو٩ — يعطر الروح بأَرَج ذكي ينعم المرء بشذاه طول الحياة.
هذا السرور لا يتوقف على وجدان مصلحة شخصية في الواجب المؤدَّى، فالمرء لا يحس سرورًا أخلاقيًّا عظيمًا إلا إذا ضحى بمتعة كبيرة مرغوبة، أو مصلحة خاصة هامة في سبيل واجب كبير، لعل أسعد ساعات علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — هي الساعة التي نام فيها في فراش النبي ﷺ، مستعدًّا للتضحية بنفسه، ليلة أن اجتمعت قريش على قتل الرسول وإهدار دمه.
وتولستوي الكاتب الروسي المعروف (١٨٢٨–١٩١٠)، يحدثنا في روايته «الحرب والسلام» أن أحد أبطالها حينما رأى أنه ضحى بجزء كبير من ثروته في سبيل ما عده واجبًا وطنيًّا، أحس أنه دخل عالمًا جديدًا، فنراه يقول إن مجرد التضحية التي قام بها جعله يحس سرورًا عميقًا لا يقادر قدره.
ويحضرني أثناء كتابة هذه السطور ما أجاب به زعيم الهند غاندي العظيم حقًّا بعض من ساورتهم الخشية على حياته، حين نذر صومه الأخير احتجاجًا على الإنجليز، حين قال: «لقد وهبت حياتي في سبيل الدفاع عن حقوق بلادي، وإني لأشعر بغبطة عظيمة وسعادة روحية كاملة إذ أضحي بنفسي في سبيل سعادة الهند وسعادة العالم»، هكذا يقول ربيب النعمة وسليل المجد، لا كبعض من يعدون أنفسهم زعماء وهم لا يهمهم أجاع الشعب المسكين أم شبع، وسعد أو شقي، ما داموا ناعمين مترفين، وما دام الشعب بلغ من الجهالة حدًّا لا يفرق معه بين السعادة والشقاء.
السرور الأخلاقي يختلف عن السرور الذي يجده المرء لثناء يوجَّه إليه أو لمكافأة ينالها، هذا فرح وقتي يزول بزوال حينه، أما الأول فسرور داخلي يحسه في أعماق قلبه، ولا يرى الآخرون منه إلا الوميض الذي يضيء وجه رجل سعيد أدى واجبه بنبل وشجاعة.
بتحليل هذا النوع من السرور نجده خليطًا من عواطف مختلفة؛ عاطفة التحرر من أَثَرة الشهوات واستعبادها، ورحابة الصدر بواسطة حب الغير؛ لأنه — كما يقول أرسطو — يجد المرء سرورًا في أن يكون محبًّا كما في أن يكون محبوبًا، وأخيرًا نجد فيه الإحساس بالسمو فوق المستوى العادي، يقول الفيلسوف الهولندي هوفدنج Hoffding، الذي عاش في القرن التاسع عشر: «هذا السرور قد يبلغ من العظمة والقوة حدًّا تكون كل المتع والمسرات الأخرى لا شيء أمامه إذا قورنت به … بين الرضاء للتضحية المبذولة عن طيب خاطر وأي سرور من نوع آخر يكون الفرق كبيرًا جدًّا، حتى ليتضاءل هذا النوع الأخير من السرور أمام الضمير. الحياة بهذه التضحية في سبيل الواجب تبلغ من السمو منزلة تكون الحياة لولاها لا قيمة لها مطلقًا.» - (٢)
العاطفة المقابلة للسرور الأخلاقي هي عاطفة التأنيب، أعني الحزن الذي أحسه عندما أتذكر أني اجترحت سيئة أخلاقية، والذي يحسه من يندفع بالأثرة فيسبب ألمًا لآخر كان من الواجب أن يجنبه إياه، فيتألم كلما يتذكر ذلك ألمًا بالغًا.
ولعل شكسبير، شاعر الإنجليز المعروف (١٥٦٤–١٦١٦)، أحسن من مثَّل التأنيب أصدق تمثيل في روايته الخالدة «مكبث»،١٠ اللادي مكبث بعد أن لوثت يديها بالدم المسفوح لم تستطع أن تزيل عنهما ما علق بهما من أثر الجريمة، برغم ما بذلت من جهد وأنفقت من مال، فكانت تقول: «يوجد دائمًا أثر الدم، دائمًا رائحته الخبيثة، كل العطور العربية التي لها فعل السحر عجزت عن تنظيف هاتين اليدين الصغيرتين!» هكذا كانت تناجي المسكينة نفسها، وقد استُطير قلبها وهلع فؤادها، فلم تنتفع بنفسها بعد جرمها الشنيع!التأنيب عاطفة بعيدة عن الهوى والغرض وتتصل بالماضي الصرف، ومن أجل هذا يجب ألا تختلط بالأسف، العاطفة الأثرة التي تتصل بالحاضر المقارن بالماضي أكثر من اتصالها بالماضي الخالص، حقيقة حينما يأسف المرء لثروته الضائعة لا يتألم إلا لشقائه الحاليِّ، وحينما يأسف لإفراطه في اللذات السافلة يتألم؛ لأن ذلك هد صحته فأصبح لا يستسيغ الماء القُرَاح.
كذلك لا يجب أن يشتبه علينا التأنيب بالخوف من اللوم أو العقاب، فكثير من المجرمين يظلون في نضال مع رجال الشرطة والقضاء، ولا يستشعر الواحد منهم التأنيب إلا حين يجد نفسه في أمن من مطاردة رجال البوليس والأمن العام.
- (٣)
يجيء بعد التأنيب عاطفة أخرى هي عاطفة الندم، وهي عاطفة مزيج من التأنيب والسرور الأخلاقي، التأنيب والألم لتذكره ما عمل من سوء، والسرور لعزمه على ترك الشر وعلى أن يكون رجلًا خيِّرًا. والندم من الناحية الأخلاقية أعلى جدًّا من التأنيب المحض؛ إذ ليس من الخير أن يعيش المرء رازحًا تحت ألم التأنيب المُقعِد المُقِيم، متذكرًا دائمًا الماضي وما كان فيه من سيئات، لا يجب أن يؤنب المرء نفسه إلا بقدر ما يقوِّي في نفسه الإرادة القوية والعزيمة الصادقة، على أن يكفِّر عما مضى، وعلى أن يسلك سواء السبيل.
تلك طائفة من العواطف الأخلاقية التي يحسها المرء بالنسبة لأفعاله شخصيًّا، فإذا نظر لأعمال غيره، وبعبارة أدق: إذا نظر للبواعث والمقاصد التي يعتقد أنه كشفها وراء هذه الأعمال، يشعر بعواطف أخرى غير مغرضة أيضًا. نحن نشعر بالتقدير لمن هم على خلقية عادية وفضيلة متوسطة، وبالاحترام لمن هم على خُلقية عالية وفضيلة سامية، وهذا الاحترام يجب ألا يشتبه علينا بالإعجاب الذي يتوجه لكل من بلغ الأَوْجَ في أية ناحية من النواحي التي هي محل التقدير، كالجمال والقوة والذكاء مثلًا، أما الاحترام فهو الإعجاب بالعلو الخلقي فحسب.
من الممكن أيضًا أن أقدر بكل ابتعاد عن التحيز والهوى أعمال الآخرين السيئة فألومهم وأحكم عليهم، ها أنا ذا أحس الاحتقار لهذا الرجل الذي أعلم ما هو عليه من خلقية سافلة وانحطاط شاذٍّ، هذه العاطفة ليست أبدًا أثرة، فقد أحتقر أخلاقيًّا آخر يسرني من ناحية الأثرة أن أنتفع بخدماته؛ ولهذا يسر رجل الحرب أو السياسة بالخدمات التي يؤديها له جاسوس خائن، مع احتقاره له في الوقت نفسه احتقارًا بالغًا.
كل هذه الأعمال والعواطف، وأمثالها من العواطف الأخرى، تُسمى كما قلنا مظاهر الضمير الأخلاقي، الذي لا يصح أن يشتبه بالضمير النفسي «الوجدان»، الضمير النفسي يتحقق ويتأكد، والضمير الأخلاقي يحكم، الأول يخبرني بأني غاضب، والثاني يعلمني أن من الخطأ أن أغضب وأن أدع عليَّ للغضب سلطانًا.
وأخيرًا، وقد بان تعريف الضمير، والدور الذي يقوم به، ومظاهره المختلفة، يحسن أن نتعرف ماهيته حتى يكون بحثنا عن بينة.
(٤-٥) ماهية الضمير
عرفنا الضمير بخواصه، وليس ذلك بمغنٍ عن تعرف ماهيته متى كان ذلك مستطاعًا. وقد تشعبت في بيان هذه الماهية آراء الفلاسفة إلى شعب كثيرة، وانتهوا من بحوثهم إلى آراء مختلفة، تبعًا لاختلافهم في أسس فلسفاتهم المتعددة، وها نحن أولاء نسوق أشهر هذه الآراء ونقفِّي على كل منها بوجوه نقده، حتى يخلص لنا من ذلك كله الرأي الصحيح في تلك القوة الباطنة التي كان خفاؤها مثار الخُلف فيها.
- الأول: «مذهب الحاسة الأخلاقية»: يقول زعماء هذا المذهب إن الضمير قوة
فطرية غرزية، «موضوعها أو متعلقها الخير والشر، كما أن المحَسَّات
متعلق الحواس الخمس الأخرى»، وهي لا تستند إلى شيء من الكسب
والتربية، ولا ترجع في أحكامها إلى الدُّرْبة والتجربة، وإنها لدى
جميع الناس وإن اختلفت قوة وضعفًا، فكما مُنح الإنسان حاسة البصر
والسمع لتمييز أنواع المرئيات والمسموعات كذلك منحه الله حاسة
أخلاقية فطرية تميز بين الخير والشر والمباح والحرام، وتلازمها قوة
تدفع لعمل ما تراه حسنًا وترك ما تراه قبيحًا. وليس الغرض من هذه
أنها حاسة عضوية كسائر الحواس، بل القصد أنها قوة نفسية بها يدرك
المرء الخير والشر ويحكم على الأعمال، أما الحواس الأخرى فعملها
التأثر بالأشياء المُحَسَّة، والحكم عليها من وظيفة العقل
وعمله.
ومن أشهر الذاهبين هذا المذهب اثنان من الفلاسفة الإنجليز، وهما شافتسبري Shaftesbury،١٣ وهتشسون Hutchesons،١٤ وللأول منهما في إيضاح هذا المذهب كلام طويل؛ إذ يقول:
إذا سألني سائل وقال: لماذا يجب عليك أن تبتعد عن القذارة إذا كنت منفردًا؟ فأول ما يتبادر إليَّ أن هذا السائل رجل قذر، وأنه من الصعب أن أُدخل في ذهن مثل ذهنه الوسخ حقيقة النظافة، ومع ذلك إذا أغضيت عن هذه الصعوبة أمكنني أن أجيبه بأن السبب في ذلك أن لي أنفًا يشم. فإذا تثاقل وقال: فإذا كنت مزكومًا أو فاقدًا حاسة الشم مثلًا، فلماذا؟ أجبته بأني أبغض أن أرى نفسي قذرًا كما أبغض أن يراني الناس كذلك. فإن ألح وقال: فإن كنت في حجرة مظلمة لا ترى شيئًا، فلماذا؟ أجبته بأني حتى في هذه الحالة، وليس لي أنف يشم ولا عين تبصر، لا يزال إحساسي كما كان يألم من القذر، ونفسي الإنسانية تشمئز من الدنس، ولو لم أكن كذلك لانحططت عن درجة الإنسان ولأبغضت نفسي لأنها نفس حيوان، ولما أمكنني أن أحترم تلك النفس التي لا تعرف قيمتها ولا ما يليق بها. كذلك سمعت الناس يتساءلون: لماذا ينبغي أن يكون الإنسان شريف النفس، محبًّا للفضيلة في الخفاء؟ وهو سؤال لا أريد أن أصرح باعتقادي فيمن يسأله.
وإذن فمرد القول بالحاسة الأخلاقية إلى أن الإنسان مفطور بطبيعته على معرفة الخير ويحس بقوة تلزمه باتباعه.
ومن أجل ذلك كان هتشسون يُعلِّم أنه لا حاجة في معرفة الخير والشر إلى فكر ونظر، فإنه بهذه الحاسة نعرفهما سريعًا، هذه الحاسة التي لا يظفر باحترامها وتقديرها إلا الأعمال الخيِّرة، وإذن فليكن مرجعنا في أعمالنا هذه العاطفة أو الحاسة الأخلاقية، وليكن هديها قاعدتنا، ومن رحمة الله أنها فطرية فينا، وأن كلًّا منا يشعر بها تهديه سواء السبيل، وتعطفه لعمل الخير له ولأمثاله، وتكسبه سرورًا ولذة لا يقدر قدرها.١٥لكن هذا المذهب برغم ما له من ظاهر مقبول بادئ الأمر، لا يصبر على النقد الصحيح. حقيقة إن المرء يحس من نفسه بارتياح واطمئنان لبعض الأعمال، وبنفور واشمئزاز من بعضها الآخر، وإن هذا الإحساس فطري فيه لا يحتاج لتفكير وروية، لكن اعتبار الضمير حاسة كسائر الحواس الأخرى، تسير في عملها على ما عرفناه آنفًا، مردود بأن جعل الضمير حاسة يجعل أحكامه غير صائبة دائمًا، مثله في ذلك مثل سائر الحواس التي تضل كثيرًا، وإذن يكون الواجب التحقق فيما يأمر به الضمير وعدم الاندفاع وراء كل ما يريد.
وأيضًا هذه القوة تختلف اختلافًا كبيرًا في الحكم على الأعمال عند الناس بشهادة الواقع، حتى إن الأمر الواحد يكون خيرًا عند فريق من الناس وشرًّا عند آخرين، في الزمن الواحد بالنسبة لاختلاف البيئات أو في الأمة الواحدة باختلاف الأزمان، وهذا ينافي ما يزعمونه من أنه لا دخل للتجربة أو التربية فيها. وأخيرًا كيف يفسرون لنا رضاء الضمير العربي في جاهليته عن وأد الأولاد وعده خيرًا، ثم حسبانه بعد الإسلام من أقبح الجرائم وأشدها نكرًا، أليس ذلك أثر التربية؟
- الثاني: مذهب «كانت»، وهو أن الضمير وإن كان قوة فطرية لا كسبية، إلا أن
هذه القوة عقلية لا حاسية، فهو يراه قوة فطرية عقلية وُجدت كاملة
في الإنسان.
وتفصيل الأمر أن هذا الفيلسوف جعل العقل الإنساني قسمين: العقل النظري والعقل العملي، والأول خاص بإدراك العالم المُحَس، ويعتمد في معرفته على الحس والتجارب، وهو لذلك لا يصلح أن يكون أساسًا للأخلاق لأن وسائل إدراكه وهي الحواس والتجارب كثيرًا ما تضل وتكون خاطئة، وكذلك يعتمد في حكمه على مقدمات غير مأمونة الصحة دائمًا. أما العقل العملي، وهو ما نسميه الضمير، فلا يستند في معرفته لحقائق الأشياء إلى وسائل قد تخطئ كما قد تصيب، بل هو قوة باطنة فُطر عليها المرء وإن كان من الممكن تعليل أوامرها نظريًّا، وقد وُجدت كامنة منذ الأزل وإلى الأبد، بعيدة عن التجربة والكسب ولا تتصل بالمحسوسات المادية، إنما هي شعاع من نور هبط من القوة العليا المطلقة غير المحدودة إلى النفس الإنسانية، وهو هاديها سواء السبيل، ومبين لها طريقَي الخير والشر، كما أنه القاضي المعصوم، والحكم الذي لا يعْتوِر أحكامه الضلال.١٦
ولهذا الذي يراه «كانت»، وهو أن الضمير شعاع من القوة العليا، كان التسليم بوجود الله وخلود الروح عنده من مسلمات علم الأخلاق، كما كان صوته أمرًا مطلقًا غير متعلق بشرط أو متوقفًا على فرض من الفروض.
ذلك أن كل أمر يصدر للإرادة يكون مقيدًا إن كان مرتبطًا بشرط أو فرض، وبعبارة أخرى: إن لجأنا في الحث على تنفيذه إلى العاطفة أو المنفعة كما إذا قلنا: «إذا كنت تحب الاحتفاظ بسمعتك الطيبة بين الناس، إذا أردت أن تنجح في تجارتك، إذا كنت تحب أن تكون ظريفًا محبوبًا؛ لا تكذب مطلقًا وعامل الناس بالحسنى»؛ إذ معنى هذا أننا وضعنا الصدق ومعاملة الغير بالحسنى في كفة، ونتائجها الطيبة في كفة أخرى، وأغرينا المرء بهاتين الفضيلتين بلفت نظره إلى ما يناله من خير ومنفعة إن عمل بهما.
أما الواجب، وهو صوت الضمير، فلا يعرف هذا اللف والدوران، ولا يلجأ لتلك الوسائل الملتوية لغرض خلق من الأخلاق الحميدة، بل يقول في وضوح لا لبس فيه، وصراحة لا غموض معها: «لا تكذب مطلقًا، وعامل الناس بالحسنى، وإن لم تفد من ذلك لنفسك، بل وإن جاءك الضرر من هذا السبيل.» هذا الأمر هو ما يُسمى أمرًا مطلقًا، وما يأمرنا في كثير من الحالات بالتضحية بعواطفنا ومنافعنا الخاصة، وهو لهذا أساس الخلقية الكاملة عنده.١٧ولكن مع دقة «كانت» فيما ذهب إليه، من أن للعقل نظرًا عمليًّا يدرك الحقائق الأدبية للأشياء، ويبين الخير من الشر والصواب من الخطأ من الأعمال، يقابل نظره الفكري أو العلمي الذي يستند للحواس في تفهم المعقولات؛ نقول مع هذا نحن لا نسلم معه أن الضمير وُجد تامًّا كاملًا لدى الجميع على السواء، فلئن كان شعاعًا من نور كما يقول فلم يكن بمثابة واحدة من القوة في كل الأزمان، كما أنه من المسلَّم به أن حكمنا الأخلاقي على بعض الأفعال يختلف اختلافًا كبيرًا عن حكم آبائنا الأولين، وما ذاك إلا ثمرة التجربة والتربية.
- الثالث: «مذهب الكسبيين»: يرى هؤلاء أن الضمير ليس قوة فطرية حسية أو
عقلية، بل هو قوة من الشعور الكسبي استفادها المرء بالتدريج، وهو
لذلك يختلف تبعًا للمؤثرات ويتفاوت باختلاف الأمم والبيئات.
يقول أصحاب هذا المذهب في إيضاحه، ومنهم ستيوارت مل Stuart Mill: إن المرء نشأ عادة في جماعة لها عرفها وتقاليدها وأنظمتها، التي تبيح أعمالًا وتثيب عليها وتحرم أخرى وتحدد لها عقابًا، فكان الناس يألفون الخير ويفعلونه، ويكرهون الشر ويزدرونه رَغَبًا ورَهَبًا، ثم نما هذا الشعور بوازع الشرائع الوضعية والسماوية، وتطاول الزمن فنسي الناس أو تناسوا الأسباب الأولى الحقيقية لحب الخير والميل إليه وبغض الشر والبعد عنه، وزعموا أنهم يفعلون الأول بدافع نفسي باطني كما ينأون عن الثاني بدافع نفسي باطني أيضًا، وهذا ما سُمي بعد بالضمير.
ومن السهل رد هذا الرأي أيضًا، بأن الضمير لو كان كسبيًّا ويتفاوت بهذا القدر لاختلف الناس في أصول الفضائل والرذائل باختلاف الأمم والبيئات والعصور كما تختلف التقاليد والقوانين، وهذا منكور قطعًا لاتفاق الناس على المبادئ الخلقية في كل زمان ومكان وإن اختلفوا في بعض الجزئيات.
كما أن لنا أن نقول في الرد عليهم أيضًا: إن المشرعين الذين بيدهم زمام الأمم والجماعات يعتمدون في كل ما يشرِّعون من قوانين على ما لدى الناس من المبادئ العامة للفضيلة والرذيلة، حتى تنال هذه القوانين من احترام الكافة ما يضمن تنفيذها، وإلا لكان هذا من العسير إن لم يكن من المستحيل، فالمرء في الغالب من الأمر لا يطيع القانون إلا لاعتقاده بعدالته، وهذا الاعتقاد لا بد أن يكون وليد قوة فطرية في أصلها لدى الإنسان.
•••
وقصارى القول بعد ما تقدم من بيان المذاهب السابقة ونقدها، وهي جماع الآراء في تفسير ماهية الضمير، أننا نختار، ويؤيدنا الواقع والمشاهدة فيما نختار، أن الضمير قوة فطرية في كل إنسان باعتبار جرثومتها وأصلها، وأن للتربية العقلية والأدبية دخلًا في نموها وكمالها. ولعلنا لا نبعد عن الصواب إذا قلنا: إننا نتفق في هذا مع الغزالي بعد ما نقلناه عنه من تسميته لهذه القوة الهادية للمرء في أعماله المحاسبة له عليها تارة نورًا إلهيًّا وطورًا معرفة؛ إذ وصفها بأنها نور إلهي يسيغ لنا القول بأنها في أصلها قوة فطرية، وتسميتها بعد هذا معرفة تجعلنا في حِلٍّ من تقرير أنها تنمو وتكمل بالتربية.
(٤-٦) تربية الضمير
يرى بعض الباحثين أن الضمير لا يحتاج لتربية ولا تهذيب؛ لأنه لا يتغير ولا يتبدل ولا يضل ولا يجهل، وأما ما يوجد من انحراف عن الجادة فمرجعه ضعف في العزيمة وفساد في الإرادة والخلق؛ لغلبة الشهوات وقوة أسرها في كثير من الأحيان. وإذن فالمطلوب قمع الشهوات الجامحة والخروج عن سلطانها، فيظهر الضمير بكامل سنائه وبهائه، ويسمعنا صوته وأوامره واضحة جلية.
ويرى الآخرون أن الضمير كسائر القوى يتأثر بالشهوات وغلبتها وبإهمال أوامره ونواهيه، فيخرج عن السبيل السوي في أحكامه؛ ولذلك يحتاج لتربية.
ولعل مما يشهد للأولين هذه الآيات وأمثالها: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ، وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ، كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ. على أن الخلق من الناحية العملية لا قيمة له مطلقًا، فبإضعاف الشهوات وعدم الانصياع لها، وبإنماء القوة العاقلة وتهذيبها، وبإطاعة الضمير فيما يأمر به؛ بذلك يسلك المرء طريق الخير سواء أقلنا مع الأولين: إن الضمير ظهر على فطرته الأولى، قويًّا مرهوب الجانب نافذ الكلمة، بعد أن زال ما ران عليه من حجب الشهوات، أو قلنا مع الآخرين: إنه رجع قويًّا كاملًا كما كان حين باعد المرء بين نفسه وبين الشهوات فلم يلقِ لها بالًا ولم يسمع لها صوتًا. ولهذا نعالج هذا البحث على طريقة القائلين باحتياجه للتربية، فنقول:
قد يعتور الضمير حالات تجعله غير مأمون الحكم صائب القضاء، ولذلك كان من الضمائر: الضمير المستقيم، والضمير الجاهل، والضمير الشاك المرتاب.
فالأول هو الذي لم تستطع القوى الأخرى الشهوانية والغضبية أن تلوي عنانه إلى ناحية الشر وتحيله عن جهة الخير.
وأخيرًا، يحدث للضمير الشك والارتياب والتردد والحيرة، لا في معرفة الخير من الشر، بل إذا عرض للمرء واجبات مختلفة يُطلب منه الحكم فيها واختيار أحدها، وعلاج هذه الحالة الانتفاع بمشورة ذوي الآراء الحكيمة.
ومع هذه الحالات، التي يتعثر في بعضها الضمير في أحكامه، فإنه ليس للأخلاقي أن يطلب من أحد إلا إطاعة ضميره، فإن فعل ذلك أصاب وكان خيرًا، وليس عليه إن كان الحكم الذي أصدره الضمير خاطئًا؛ لذلك وجب أن يمكن للضمير من القيام بمهمته السامية على الوجه الأكمل، ولا يكون هذا إلا بتربيته وتهذيبه.
وتبدأ تربية الضمير أيام الطفولة بتقوية شعور الطفل الأدبي، وذلك بتعويده الإحساس بالخير والشر وأثر كل منهما، وإشعاره بالفرق بين المدح والذم حتى لا يبلد إحساسه فيستويا لديه، ولفته برفق إلى ما يأتيه من مخالفات أدبية وتبصيره بنتائجها فيمن حوله.
يجيء بعد هذا إذا شب الطفل دورُ القوة العاقلة، وإنماؤها وتكميلها بالقدر الممكن، وذلك لخطرها الكبير في تقدير الضمير للأعمال الأخلاقية؛ لأن العقل هو الذي يمحص الأعمال ويهيئها لحكم الضمير، فكلما ارتقى عقل الإنسان واتسعت مداركه كان حكم ضميره أقرب إلى الصواب. ونحن جميعًا نشعر بالفرق في الحكم في أية مسألة لها أدنى صلة بالدين، بين رجل جاهل متعصب وآخر مثقف متعلم استنار فكره بالتعليم والتربية؛ إذ ما أسرع الأول لعدها بدعة سيئة تزلزل الدين من قواعده، بينما الآخر وهو يعلم من الزمن وتطوراته ما لم يعلم الأول قد يعدها أمرًا طيبًا من الخير تنفيذه؛ ولذلك كان قصر النظر وسعة المدارك العقلية سببًا للخلاف دائمًا بين الجامدين والمصلحين.
وأخيرًا، من أهم سبل هذا التربية المبادرة بطاعة الضمير فيما يأمر به، حتى تقوى فيه قوة الحكم الأدبي على الأعمال بالمرانة، شأنها في ذلك شأن سائر الملكات النفسية تضعف بالإهمال وتقوى وتكمل بالتمرن وإعانتها على أداء مهمتها؛ ولهذا كان لا بد للمرء من تربية إرادته وجعلها ماضية صالحة لا تعصي للضمير أمرًا، فإن الإنسان إذا خالفت إرادته حكم الضمير لأول مرة يحس بألم شديد مصدره التأنيب، فإذا خالفته مرة أخرى أحس بألم دون الأول، وهكذا حتى لا يحس لعصيانه بألم ألبتة، فيخفت صوته ويضعف سلطانه. ومما يعين أيضًا على هذا النوع من وسائل التربية القُدَى الصالحة، والبيئة الخيِّرة، والقوانين التي تحمي الأخلاق، والحكومة التي تسهر على تنفيذها، وأشباه ذلك مما يحفظ لقوة الحكم الأدبي نشاطها ويقوي سلطانها.
(٤-٧) درجات الضمير
- الأولى: ضمير يعمل الواجب خوفًا من الناس، فهو يرى خيرًا ما يرونه خيرًا وشرًّا ما يرونه شرًّا، لا يصدر صاحبه في أعماله عن رأي نفسه بل نراه دائمًا مدفوعًا بغيره، هذا الجندي مثلًا يصمد للحرب ويصبر على لَأْوائها، ولا يفر حتى لا يقال عنه إنه جبان رِعديد، وذاك الرجل يصلي أو يصدق في حديثه لأنه لا يرضى أن يرى فيه الناس رجلًا رقيق الدين كذابًا، وأهل هذه الدرجة الدنيا لا يتورعون عن شر إذا خلوا بأنفسهم وأمنوا الرقيب، أو عاشوا في بيئة سيئة لا ترى الشر أمرًا نكرًا.
- الثانية: وهي أحسن حالًا من سابقتها، ضمير يرى الخير فيما أمر به القانون والشر فيما حظره، فهو يطيع القانون أيًّا كان مصدره ولا يسمح لنفسه بمخالفته وإن أمن رجل الشرطة وسلطان النيابة. صاحب هذا الضمير يُعتبر من الأخيار؛ لأنه لا يسرق ولا يقتل ولا يخون ولا يأتي منكرًا حظره القانون الوضعي أو السماوي أو الأخلاقي وإن أمن العقوبة، ذلك بأن ضميره يأمره باتباع القانون وعدم مخالفته في السر أو العلانية.
- الثالثة: وهي الدرجة العليا، ضمير يحتم على صاحبه عمل ما يراه في نفسه
خيرًا، خالف ما تواضع عليه الناس وما أمر به القانون أو وافقه،
يشعر بأن هذا العمل خير لأنه يراه خيرًا، لا لأن القانون أمر به،
ويرى أن ذاك شر لأنه يراه في نفسه شرًّا لا لأن العرف أو القانون
نهى عنه، فهو ينفذ بصره وراء القواعد المتعارفة والقوانين المسنونة
ليعرف أساس الحق والباطل والخير والشر، فإن هدى إلى الخير عمل به
وإن خالف رأي الناس جميعًا، مهما كلفه من مشاق وأرهقه من
آلام.
وهذه الدرجة لا يصل إليها إلا الرسل والأنبياء وكبار المصلحين، الذين يصدعون بما عرفوا أنه الحق ولا يخافون لومة لائم. وتلك الدرجات الثلاث يسلم بعضها بالتربية إلى بعض، وفي مقدور من كان في درجة أن يصل إلى ما فوقها بتهذيب ضميره وتكميله.
(٥) المثل الأعلى
(٥-١) تعريفه
كثيرًا ما يسائل المرء نفسه: ماذا أبغي من هذه الحياة؟ أو ماذا أريد أن أكون؟ فالصورة التي وضعناها ونود تحقيقها ونرى الخير كل الخير في الوصول إليها وتصلح أن تكون جوابًا عن هذا التساؤل؛ هي ما يسمى في عرف الحديثين من الكتاب بالمثل الأعلى، فهو تلك الصورة البعيدة المنال التي رسمها كل منا لنفسه، ويعمل جاهدًا على القرب منها إن أعجزه الوصول إليها، ويستهين في سبيل ذلك بكل جهد ينال من نفسه وماله.
من هذه الناحية كان الفرق بينه وبين الغاية، فهذه يسعى المرء لتحقيقها، بعد أن قدر لذلك الوسائل، وعرف أن في مقدوره الوصول إليها بسهولة ويسر أو مشقة وعسر، أما المثل الأعلى فهيهات أن يصل إليه مهما أنفق من مجهود، فهو يتغير ويرتفع كلما حاولنا الدنو منه؛ ولذلك كان أداة مباشرة صالحة للرقي والكمال.
(٥-٢) اختلافه
كل منا له مثله الأعلى، هذا مثله رجل مغترف من لذائذ الحياة، ويجد سبل المعيشة الراضية أمامه موفورة، وذاك مثله الأعلى إنسان كمل عقله وأخذ بأوفر حظ من العلوم والفنون حتى صار نابغة، وآخر مثله الأعلى عمر بن الخطاب في شجاعته وعدله، وآخر أن يكون معبود الجماهير كالزعماء الشعبيين، وغير هؤلاء من يرى مثله الأعلى أن يكون حكيمًا زاهدًا، لا تستهويه لذائذ الحياة ولا مفاتن العصر، بل يعلو بنفسه على هذه الصغائر ويعيش في عالم روحي كامل، إلى آخر أشباه هاتيك الصور العليا التي تكاد تكون بعدد أفراد الناس.
وليس في وسع الأخلاقي أن يرسم لكل امرئ مثلًا يناسبه، فإن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والبيئة والتربية ونوع الحياة التي يحيونها، وغاية ما يطلبه الأخلاقي أن يكون المثل الأعلى الذي يتخذه كل لنفسه يمثل خير ما يمكن أن يكونه المرء في شأن من شئونه: في عمله الخاص، وسياسته لنفسه، ومعاملته للناس.
(٥-٣) تكوُّنه ونموُّه
يبدأ تكون المثل في زمن الطفولة، ولا يزال ينمو بتأثير العوامل المختلفة، دون أن يشعر المرء به حتى يتحدد تمامًا.
وأهم العوامل لتكوينه هي المنزل والمدرسة والدين، فتربية الناشئ في المنزل، وما يراه ويسمعه من أبويه وإخوته من قصص وحكايات، والنظام الذي يسود البيت، والمدرسة وما يراه فيها ويسمعه من مدرسيه، وما يقرأه في الكتب من قصص الأبطال والعظماء ورجالات التاريخ وما كان لهم من آثار خالدة لم تقوَ يد الزمان على محوها، والدين وما يوقفنا عليه من سير الرسل والأنبياء ونظام الحياة الأخرى التي أعدت خيراتها للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، كل ذلك وما إليه له أكبر الأثر في تكوُّن المثل الأعلى ونموه شيئًا فشيئًا حتى يأخذ الصورة التي يراها المرء أكمل الصور وخيرها؛ ولذلك كثيرًا ما يحس المرء من نفسه تغيرًا في مثله الأعلى، فهذا الطالب مثلًا كان يقنع أول أمره أن يكون كأستاذه، فإذا به بعد أن اتسعت أمامه آفاق الحياة لم يرضَ أن يكون مثله الأعلى إلا أحد الأبطال والزعماء.
وكما ينمو المثل الأعلى حتى يصل للكمال قد يضيق حتى ينعدم، ويشاهَد هذا في أمثال العمال الذين يقضون حياتهم في أعمال يدوية محدودة، يذهب الواحد منهم صباحًا لمحل عمله يفعل ما فعله بالأمس وما سيفعله في الغد، ثم يعود لداره قانعًا بأنه قام بما يسد العَوَز ويدفع الحاجة، لا يفكر في عيشة غير عيشته الرتيبة، ولا في أمد أعلى يصل إليه في حياته، وفي ضيق المثل الأعلى أو انعدامه خطر عظيم على نشاط الإنسان وسعيه للوصول إلى الكمال؛ لأن المثل الأعلى هو مصدر ذلك كله.
(٦) القياس الخلقي والمقاييس الخلقية
(٦-١) معنى القياس
إذا أردنا معرفة مساحة دار أو وزن قطعة من الحديد مثلًا عمدنا إلى وحدة المقياس وهي المتر وعرفنا به مساحة الأولى، ووحدة الميزان وهو الرطل وعرفنا به وزن الأخرى، وهكذا في جميع الأشياء المادية. أما الأمور المعنوية، كالأعمال الأدبية التي تصدر منا ومن غيرنا، فماذا نصنع لبيان خيرها من شرها؟ وبأي الوسائل نتعرف قيمتها؟ نتعرف ذلك بالميزان أو المقياس الخلقي، فهو المستوى الذي نتحاكم إليه لتقدير قيم الأعمال الأخلاقية. ومعرفة هذا المقياس، أو هذا المستوى، من أهم مباحث علم الأخلاق، الذي يبحث في أعمال الناس من حيث خيرها وشرها.
وقد اختلف الناس ولا يزالون مختلفين في هذه المقاييس، فكان منهم من يحتكم في أعماله وأعمال سواه إلى العرف والتقاليد للقبيلة أو الجماعة التي يعيش بينها، فيرى خيرًا وحسنًا ما أقره هذا العرف، وشرًّا وقبيحًا ما خالفه. وكان منهم من يحتكم إلى القانون الوضعي أو السماوي في معرفة حسن الأفعال وقبيحها. وكان منهم من لا يحتكم إلى هذا المقياس أو ذاك، بل لا يحكِّم إلا رأيه الشخصي فهو عنده المستوى الخلقي، فما وافقه كان خيرًا وما لم يوافقه كان شرًّا. ثم كان منهم من لم يرضَ لنفسه واحدًا من هذه المقاييس، ففكر في مستوى نظري من قاعدة أو مبدأ عام يرى تحقيقه هو الخير الأسمى والمثل الأعلى الذي يجب الوصول إليه، وبذلك جعل هذا المستوى هو الميزان الخلقي الذي نزن به الأعمال جميعها.
(٦-٢) تقسيمها إلى عملية ونظرية
إذا نظرنا للعرف والقانون والرأي الشخصي وجدناها تختلف اختلافًا كبيرًا حسب الزمان والمكان، فعرف الأمم القديمة في العُصُر الأولى غير عرفها في العُصر الحديثة، بل عرف كل منها في هذه العُصر الحديثة يختلف حسب أدوارها التاريخية المختلفة، كذلك القانون يختلف باختلاف الزمان والبلاد والأمم. أما الرأي الشخصي فهو جد مختلف، يرى الإنسان حسنًا اليوم ما كان يراه قبيحًا بالأمس، وذلك لاختلاف الظروف والملابسات، ولاتساع مداركه وتغير نواحي تفكيره وتقدمه في التربية والتهذيب، من أجل هذا كانت تلك المقاييس خاصة مقيدة محدودة، وهي في الوقت نفسه أمور موجودة يقاس على مثالها؛ لذلك سميت بالمقاييس العملية لأن كلًّا منها موجود فعلًا وحقيقة.
والقياس بالعرف والقانون أشبه الأشياء بعملية القياس في الأحكام الفقهية، فكما يقول الفقيه مثلًا تناول الحشيش حرام كالخمر لوجود علة التحريم فيه وهي الإسكار وضياع العقل، كذلك يقول من اتخذ العرف أو القانون مقياسًا له؛ هذا الفعل حسن لأن العرف أو القانون استحسن مثله، وذاك قبيح لأن العرف أو القانون عد مثله قبيحًا. أما من جعل مقياسه رأيه الخاص فهو شبيه بالمجتهد؛ لأنه لا يأخذ في حكمه إلا برأيه الذي كوَّنه لنفسه، غير مقيد بعرف أو قانون أو مبدأ نظري عام.
بقي من المقاييس التي عددناها المقاييس المثالية، أي القواعد والمبادئ العامة التي لا تختص بزمان أو مكان أو أقوام معينين، بل هي عامة للجميع على السواء، وهي ما تسمى بالمقاييس النظرية؛ لأن منشأها التفكير والنظر اللذان يهديان إلى قاعدة أو قانون عام أو مثل أعلى ذهني غير موجود عمليًّا تُقاس به الأعمال، هذا هو معنى كونها نظرية؛ إذ ليس المراد من وصفها بأنها نظرية أنها لا تطبق في الحياة العملية، بل إنها مستويات عقلية مثالية ولها مع هذا قيمتها العملية في تقدير قيم الأعمال بها.
وهذه المقاييس النظرية مختلفة متعددة أيضًا، فمن فلاسفة علم الأخلاق من جعل هذا المستوى النظري الذي يقيس به الأعمال الأدبية هو الواجب، ومنهم من جعله المنفعة، ومنهم من جعله الكمال.
وليس من موضوع دراستنا الآن دراسة المقاييس النظرية، بل المراد بحثه هذا العام هو العرف والقانون من المقاييس العملية.
(٧) العرف
(٧-١) تعريفه
العرف في اللغة: التتابع، يُقال: جاء القوم عُرفًا أي بعضهم خلف بعض، ومنه وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا، ويُستعمل في اصطلاح علم الأخلاق في مثل هذا المعنى، وهو متابعة الناس بعضهم لبعض في عادة أو عادات متابعة متكررة حتى تصير ثابتة راسخة.
وهذا المعنى وإن كان يوجد مثله عند بعض أنواع الحيوانات التي تعيش مجتمعة، لا يسمى عرفًا عندنا، مثل النمل يخزن أقواته صيفًا للتغذي منها شتاء ويفعل ذلك منذ خُلق إلى أن ينقرض نوعه، والنحل ومتابعة جَنْيه للأزهار وإحالتها إلى عسل مصفى باستمرار، وهجرة بعض الطيور من إقليم إلى آخر في بعض فصول العام، وأكل دودة القز أوراق التوت وإفرازها حريرًا ناعمًا تنسجه حول نفسها بشكل يودي بها.
كل هذه وأمثالها أعمال متكررة مستمرة من جيل إلى جيل، إلا أنها لا تسمى عرفًا لصدورها من الحيوانات والطيور عن الغرائز وحدها دون إرادة أو اختيار؛ ولذلك نراها تترسَّم نهجًا معينًا لا تحيد عنه في تلك الأعمال، كما أنها وهي تقوم بها لا تشعر بالغايات النهائية لها. أما الأعمال المتعارفة لقبيلة أو أمة من الأمم فالمرء يعمل ما يعمل منها بإرادته واختياره؛ ولهذا قد يعدل منها في كثير من الأحايين، كما أنه يشعر شعورًا تامًّا بالغايات التي تؤدي إليها.
(٧-٢) أصل العرف
يرجع العرف، وهو كما قلنا: مجموعة العادات والتقاليد والسلوك لقبيلة من القبائل أو أمة من الأمم، إلى أصول مختلفة.
فبعض هذه العادات والتقاليد أعمال دعت إليها في الأصل غريزة من الغرائز، مثل أن يعمل شخص عملًا مبعثه المحافظة على الذات فينقله عنه غيره وغيره حتى يصير متعارفًا، وبعضها يرجع للحظ والمصادفة، كالتفاؤل من العمل في يوم معين والتشاؤم منه في يوم آخر، مرد ذلك إلى أن أسلافنا أصابوا حظًّا من القيام بعمل في يوم خاص، أو مُنُوا بكارثة من القيام بمثله في يوم آخر، فاستنتجوا واهمين أن هذا العمل لو تكرر في مثل هذا اليوم نفسه كان له مثل نتيجته الأولى، ثم دَرَج الأبناء على هذا الاعتقاد الفاسد جيلًا بعد جيل حتى صار عرفًا لهم.
وأخيرًا، فبعض الأمور المتعارفة ترجع إلى تاريخ الأمة ودينها، فالأمم التي تسكن الثغور المهددة بالغارات تستحسن الشجاعة وعدم تهيُّب الأخطار، وبتوارث الخلف ذلك عن السلف صارت أعمال الشجاعة مألوفة متعارفة، ومن ذلك ما تعارف عليه المصريون القدماء من تحنيط موتاهم ودفن كثير من متاعهم معهم، مما كان أصله اعتقادهم بخلود الروح والبعث والرغبة في أن يُبعث المُتوفَّى سليم الجسم. ومن ابتناء العرف على الدين والتاريخ أيضًا ما يقوم به المسلمون من التضحية في عيد الأضحى إحياءً لذكرى فداء إسماعيل — عليه السلام — وما تعارفنا عليه في نهضتنا الحاليَّة من تكريم الشهداء واتخاذ أيام خاصة وأعياد وطنية لذكرياتها المجيدة.
من أجل هذا كله يتبين أن العرف ليس مبناه دائمًا على العقل، بل قد يرجع في كثير من الأحوال إلى أمور لا دخل للعقل فيها، كالحظ والمصادفة والتفاؤل ونحوها.
ومهما يكن، فيجب أن نلاحظ الفرق بين العرف والعادة، هذه أسبق تاريخًا، ويصير بعضها عرفًا بالمحاكاة أو التقليد إذا كانت عادة لهذا أو ذاك ممن أوتوا الذوق الحسن والرأي الحكيم والنفوذ. وإذن، لا بد أن يستند العرف إلى أساس قوي من ضمير الجماعة واستحسانه له، وإلى أساس نفسي يتمثل في الاحتذاء والتقليد، حتى تتأكد العادة وتصير عرفًا ثابتًا يُعتبر جزءًا من تقاليد الأمة وعقائدها.
(٧-٣) قوة العرف وسلطانه
للعرف على المرء سلطان كبير، فهو يتأثر بعادات قومه وتقاليدهم وإن كان لا يوافق على بعضها في قرارة نفسه، نرى المرء يسرف في أمور الزواج والمآتم استجابة لداعي العرف وهو ساخط، إلا أنه يخشى أن تصيبه المَعرَّة إن خرج على ما تعارف عليه قومه، وما أكثر من يرى أن هذه العادة العرفية فيها مضرة لأمته وإساءة لسمعتها، فيحدث نفسه بالدعوة لنبذها، فيأخذ العرف على يديه حتى يقعد به عما أراد، ومن هذا إقامة الموالد المختلفة سنويًّا في نظر الكثيرين.
بل إن للعرف سلطانه الكبير كذلك على الأمم والحكومات، فلا تجرؤ على التعديل فيه إلا بقدر، حذر ما يكون من العامة وأشباه العامة، ومن المثل المخجلة لنا كأمة إسلامية ما تعارفناه من الاحتفال رسميًّا بالمحمل والتبرك بالجمل، حتى ليمروا مقوده بين أيدي الوزراء والكبراء، بين ابتسامات السخرية من كثير من المحتفلين والمدعوين، وبرغم زراية الأجانب عن الدين وعن الوطن الذين يذيعون هذا المنظر وأمثاله في بلادهم، رغبة في الحط منا والنيل من عاداتنا وديننا.
ولولا جماعة من المصلحين أنار الله بصائرهم، وعرفوا السيئ مما تواضعت عليه أمتهم، فندبوا أنفسهم لمحاربته، مستهينين بالآلام مستقبلين برحابة صدر ما ينالهم من عنت وإرهاق؛ لبقينا حتى اليوم في غمرة من الضلالة، مأتاها ما كان عليه الأسلاف من سيئ التقاليد.
ومع هذا فكم للعرف من حسنات! كم من مصلٍّ، ومخرجٍ للزكاة، وممتنعٍ عن شرب الخمر، لا لشيء إلا خضوعًا لعرف أهله وبلده وخشية لوم الأهلين! ولقوة سلطان العرف وموافقته للصالح كثيرًا اعتبره فقهاء الحنفية حجة، ورأوا أن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، حتى قال قائلهم:
ولهم في ذلك تطبيقات مختلفة في مسائل الإيمان وغيرها.
(٧-٤) عدم صلاحيته مقياسًا
- الأول: يُشترط في المقياس الأخلاقي أن يكون عامًّا لا يختلف باختلاف
البيئة والعصور، والعرف ليس له هذه الصفة، فأخص صفاته الاختلاف؛
لأن لكل أمة عرفها ولكل قوم تقاليدهم، بل إن العرف ليختلف كثيرًا
في الأمة الواحدة إذا تقدم بها الزمن، وكثير من الأعمال التي كان
العرف يأمر بها في الزمن الأول ويراها خيرًا أصبح يستهجنها ويعدها
شرًّا، والأمثلة لذلك أكثر من أن يتناولها الحصر.
من هذه الأمثلة وأد البنات الذي كان عادة متعارفة لدى العرب الجاهليين، حتى جاء الإسلام فأبطلها وصار لا يفكر أحد في إتيانها. والرق كان متعارفًا عليه عند الشعوب القديمة، وبمجيء الإسلام وانتشار المدنية تبين ما فيه من مناقضة للإنسانية وأنه عمل غير شريف، فقضي عليه لذلك أو كاد. وكان للأب عند الرومان حق الحياة والموت على أبنائه، وهذا ما لا يقره الرومان ولا غير الرومان اليوم. وما تعارف عليه حتى الآن أهل إسبانيا من اتخاذ محاربة الثيران وسيلة للتسلية والرياضة، ينكره أهالي مستعمرة جبل طارق الإنجليزية وهي الجزء الجنوبي من إسبانيا نفسها. وأهل «برنو» يرون أن المرء لا يستحق أن يتزوج بفتاة إلا إذا قتل إنسانًا وألقى رأسه عند قدميها، فهذا القتل هو سمة للنبل والشجاعة عندهم لا يقره قانون سماوي أو وضعي، بل ولا عرف غيرهم من القبائل الأخرى،٢٠ إلى غير هذه الأمثلة التي هي على حبل الذراع لمن يبتغيها في أسفار الرحَّالة الذين جابوا البلاد ونقلوا إلينا كثيرًا من عادات الأمم الغريبة المختلفة، وهي شاهدة على اختلاف العرف وعدم صلاحيته مقياسًا أخلاقيًّا.٢١
- الثاني: عدم ابتنائه في كثير من الأمور على أساس يرضاه الدين والأخلاق؛ إذ ما أكثر تلك العادات التي أصبحت عرفًا، ومبناها كما ذكرنا الحظ والمصادفة أو قصر النظر، ولا يقرها العقل بحال.
- الثالث: إنه قاتل لحرية التفكير في المرء تقريبًا لأنه يفرض أوامره في كثير من الحالات فرضًا، ولو التزم الناس العرف ووقفوا عند حدوده، لما تقدم العالم ولأصيب بالجمود، وحِيل بينه وبين الارتقاء. وليس أكثر حركات المصلحين إلا ثورات على العادات السيئة والتقاليد البالية؛ ولذلك نعى الله في أكثر من موضع في القرآن الكريم على المشركين تمسكهم بما كان عليه آباؤهم من غير نظر ولا تفكير، فقال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ!
واعتبار الشرع له في بعض الحالات لا ينافي عدم صلاحيته لميزان الأعمال الأخلاقية؛ لأن الفقهاء إنما راعوه في الأمور المادية من حيث صحتها وفسادها، فتترتب أو لا تترتب عليها آثارها العملية، أما الأخلاق فمناط نظرها الأعمال الأدبية من ناحية خيريتها وشريتها، وكم من عمل يكون صحيحًا شرعًا وهو شر من جهة الأخلاق، كالذي يقف جانبًا من ماله على بناء ملجأ لليتامى مثلًا وقفًا مستوفيًا لشرائط الصحة، لكن باعثه هو الرياء والسمعة والطمع في رتبة من رتب الشرف الرسمية، هذا العمل صحيح شرعًا لاستيفائه شروط الصحة في مثله، فتلزمه آثاره العملية من حبس العين وعدم التصرف فيها بالبيع ونحوه وصرف غلتها لمنافع الملجأ ومصارفه، إلا أن الأخلاق لا يمكن أن تعده خيرًا لفساد الباعث عليه.
لهذه الأسباب وغيرها يتضح صحة ما رآه الأخلاقيون من عدم صلاحية العرف للقياس الخلقي، فلننتقل عنه إلى البحث في القياس الثاني وهو القانون.
(٨) القانون
(٨-١) أنواعها
- (١)
القوانين الطبيعية.
- (٢)
القوانين البشرية أو الوضعية.
- (٣)
القوانين الإلهية.
- (٤)
القوانين الأخلاقية.
وكلمة «قانون» في اللغة معناها، كما جاء في «القاموس»: «مقياس كل شيء»، وهذا المعنى واضح في القوانين الوضعية والسماوية والأخلاقية دون القوانين الطبيعية، فإن إطلاق لفظ «القانون» على الظواهر التي تربط العناصر المادية بعضها ببعض فيه تسامح كبير. ولكل نوع من هذه القوانين الأربعة مميزات وخواص يجب المبادرة ببيانها حتى نعرف الصالح لقياس الأعمال منها.
(٨-٢) القوانين الطبيعية
هي السُّنن التي تجري عليها الكائنات، والنظم التي قدر الله لها أن نخضع لها: وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى.
وذلك يشمل القوانين التي يتعرفها العقل بالمشاهدة الصادقة والتجربة المطردة، كقانون الجاذبية، والمد والجزر، وتمدد الأجسام بالحرارة، وتجمد الماء إذا انخفضت حرارته إلى ما تحت الصفر، وذوبان الثلج إذا ارتفعت الحرارة إلى درجة الصفر أو ما فوقها، كما يشمل أيضًا القوانين التي وصل إليها العقل بالفكر والنظر دون حاجة لتجربة أو مشاهدة؛ ولذلك أجمع الناس على القول بصحتها، مثل قوانين الحساب التي يقول بعضها: «الكميتان المساويتان لكمية ثالثة تكونان متساويتين»، وقوانين المنطق التي منها قانون التناقض القائل باستحالة اتصاف الشيء الواحد بصفة ونقيضها.
ومما تتميز به القوانين الطبيعية أنها ثابتة لا تتغير، وأنها عامة لا تقبل الاستثناء، وأنها نافذة على من عرفها ومن جهلها، وأنها تكشف لنا عن الواقع لا غير، لا عما ينبغي أن يكون.
هي ثابتة لا تتغير وإن تغير علم الناس بها، فالأرض منذ خلقها الله — تعالى — تدور حول الشمس، وإن اعتقد الناس حقبة من الزمن أن الشمس هي التي تدور حولها. وهي لا تقبل استثناء مطلقًا، فليس في مقدور إنسان أن يمنع الماء من الغليان إذا وصل لدرجة المئة فوق الصفر، كما أنه ليس من الممكن منع النار من إحراق ما تتصل به من الأشياء. وهي نافذة على الصغير والكبير والعالم والجاهل، فالكهرباء تصعق من يلمسها وإن لم يعرف لها هذه الخاصة.
وعلم الأخلاق لا حاجة له ببحث هذه القوانين، وإنما الواجب على الإنسان السعي لتعرفها والكشف عنها لتزيد في رفاهيتنا وسعادة الإنسانية، فبمعرفة قوة البخار والكهرباء مثلًا أمكن استخدامها في جميع مرافقنا استخدامًا عاد علينا بالخير العميم.
(٨-٣) القوانين الوضعية
هذه القوانين هي مجموعة الأوامر والنواهي التي وضعها البشر لأنفسهم، فكل أمة لها قوانينها الخاصة التي وضعها الحاكم مباشرة أو بوساطة الهيئة التشريعية، فيطيعها الناس ويتخذونها مقياسًا لهم، يشكلون أعمالهم على غرارها رغبة أو رهبة؛ لذلك كان المعنى الأصلي لكلمة «قانون» واضحًا فيها.
ومن خواص هذه الطائفة من القوانين أنها لا تبين الواقع فقط كالقوانين الطبيعية، بل تأمر وتنهى، وأنها غير ثابتة بل تتغير تبعًا لرقي المجتمع الذي وُضعت له ولاختلاف الظروف والأحوال؛ ولهذا نجد هذه اللجان المتعددة التي ألفتها وزارة «العدل» لتغيير القوانين وتنقيحها.
كذلك من مميزات هذه القوانين أنه لا يُؤاخذ بها إلا من عرفها وفهمها ووقف عليها، ومن ثَمَّ أوجبت الحكومات نشرها حتى يعلمها الناس، كما لا تنفذ على حديثي السن الذين لا يفهمونها. وأيضًا هذه القوانين الوضعية قابلة للمخالفة، يستطيع أي إنسان ألا يعتد بها إذا كان مستعدًّا لتبعة مخالفته؛ ولذلك احتاجت لقوة خارجة عنها لتنفيذها. وإذا كانت القوانين الوضعية البشرية بهذه المثابة من التغير باختلاف الأمم والبيئات والأزمان، فهي لا تصلح أن تكون مقياسًا أخلاقيًّا عامًّا دائمًا.
(٨-٤) القوانين الإلهية
هذه القوانين هي الأوامر والنواهي التي شرعها الله — سبحانه وتعالى — لعباده، ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها تنزيل من حكيم حميد، شرعها لنا لنتخذها قدوة في جميع أمورنا، ونسير على سننها في معاملاتنا وسائر أحوالنا، واتباعها كفيل بسعادة الدنيا والآخرة.
وهذه الشرائع السماوية التي تُوِّجت بالشريعة الإسلامية ثابتة لا تتغير، عامة خالدة، صالحة في كل زمان ولجميع الناس على السواء، فهي لذلك صالحة لأن تكون مقياسًا أخلاقيًّا إذا فهمنا حكمها وأسرارها. أما حاجتنا للبحث الأخلاقي مع وجودها فموضع الكلام فيها بعد بيان النوع الأخير من القوانين، وهو القوانين الأخلاقية.
(٨-٥) القوانين الأخلاقية
هي مجموع القواعد الأدبية التي تنظم سلوك الناس، بمعنى أن الإنسان العاقل المختار في إرادته يجب أن يشكل سلوكه على ضوئها في ظروف الحياة المتنوعة، وبهذا نصل جميعًا للمثل الأعلى للحياة الأخلاقية الكاملة.
والقوانين الأخلاقية ثابتة لا تتغير وإن تفاوتت الضمائر البشرية قليلًا أو كثيرًا في فهم معانيها أو تطبيقها بتأثير الزمن أو الملابسات المختلفة، فما كان خيرًا في الماضي هو خير في نفسه في الحاضر وفي المستقبل أيضًا، كالصدق والشجاعة والأمانة والمحافظة على الحياة مثلًا. وهي مطلقة لا تقبل استثناء، فلا تتعلق بشرط ولا مفر لأحد منها؛ إذ تفرض نفسها بوساطة الضمير على الناس جميعًا، وهي واضحة يفهمها الجميع على السواء، العالم والجاهل والبدوي والحضري؛ لأن الضمير يقرها لهم جميعًا، وإن اختلفت أنظارهم في بعض الجزئيات. وقد تقدم لهذا زيادة بسط وإيضاح.
ومن خواص القوانين الأخلاقية أيضًا أنها إلزامية يلتزم المرء طاعتها بدون إجبار من قوة خارجة عنها، وأنها من الممكن أن تكون عملية في كل الأحوال؛ لأن الإنسان العاقل يستطيع دائمًا تمييز الخير من الشر، ويريد طبعًا من نفسه أن يكون خيِّرًا في أعماله لا شريرًا، وإنما كانت هكذا لأن من شرط الإلزام الإمكان، وإن أردت أن تُطاع فأمر بما يُستطاع.
(٨-٦) الفروق بين هذه القوانين
بمراجعة أنواع القوانين التي ذكرناها، ومميزات وخصائص كل منها، يُستطاع تبين الفروق بينها، إلا أنه يهمنا إيضاح الفروق التي بين القوانين الوضعية والأخلاقية؛ لأن القوانين الطبيعية ليست كما قدمنا محل بحث علم الأخلاق، وإنما هي موضع عناية دارس العلوم الطبيعية، ولأن الفرق بين القوانين الإلهية والقوانين الأخلاقية لا يكاد يُذكر، فإن استمدادها في جملتها وتفصيلها من الدين وما جاء به من تشريع عادل حكيم.
(أ) الفرق بين القوانين الأخلاقية والوضعية
- (١)
القوانين الوضعية من وضع الإنسان الذي راعى الظروف والأحوال المختلفة حين وضعها، أما القوانين الأخلاقية فمن وضع الضمير.
- (٢)
لهذا كانت الأولى عرضة للتغيير والتبديل برقي الأمة وتقدمها أو تأخرها وانحطاطها، بخلاف الأخرى التي لا تتغير بحال وإن تغيرت آراء الناس فيها وأحكامهم على نتائجها، فعندنا مثلًا مبدأ المحافظة على الحياة يقدسه كل فرد وإن أباح البعض قديمًا قتل الأسرى لضرورة حربية، ووأد البنات لأسباب اجتماعية تبرره في رأيه، مع وجود من كان ينكر هذه العادة في تلك الأزمان أشد الإنكار؛ ولهذا روى لنا المؤرخون أنه كان هناك من أشراف تميم في الجاهلية من مقت الوأد وعابه، فكان يشتري الموءودات من ذويهم بما يُذهب الفقر، وممن عُرف ذلك عنه غالب بن صعصعة جد الفرزدق الشاعر المعروف.
- (٣)
وقد يظهر بالتطبيق عدم صلاحية القانون الوضعي، إما لجهل واضعه بشئون الأمة التي يشرع لها، أو لمحض الزمن واختلاف الحال. أما القانون الأخلاقي فلا يكون إلا صالحًا دائمًا متى ثبت أنه أخلاقي.
- (٤)
القانون الوضعي لا يثيب المطيع وإنما يؤاخذ العاصي المتمرد عليه، كما لا يؤاخذ إلا على نتائج الأعمال دون نظر لبواعثها. أما الأخلاقي فينظر إلى الأعمال والباعث عليها، ويثيب الطائع بالرضاء النفسي والهدوء وطمأنينة القلب والاحترام، كما يعاقب العاصي بالتأنيب الداخلي والاحتقار.
- (٥)
القانون الوضعي يحتاج لقوة خارجة لتنفيذه تأخذ الخارج عليه؛ من شرطة ونيابة وقضاة. أما الأخلاقي فقوته التنفيذية هي الضمير وحده، وهو كما علمنا تلك القوة الداخلية والباطنية.
- (٦)
وأخيرًا لا تكلف القوانين الوضعية الإنسان إلا بالضروريات لصالحه وصالح المجتمع الذي يعيش فيه. أما الأخلاقية فتكلف بذلك وبالكماليات التي تزيد في سعادة الإنسانية ورفاهيتها، وتصل بين المرء والمثل الأعلى للحياة الأخلاقية الكاملة، مثلًا يطالبنا القانون الوضعي بالمحافظة على أموال الناس، أما أموالنا الخاصة فأباح لنا حرية التصرف فيها بما نريد، ولكن قانون الأخلاق يأمرنا فوق المحافظة على أموال الغير بالتصرف في أموالنا بما فيه خيرنا وخير الأمة جميعًا؛ ولهذا تندب الناس للتبرع للمستشفيات وجمعيات الخير، وتعد من الإثم القعود عن العمل للخير العام مع القدرة عليه.
(ب) الحاجة للبحث الأخلاقي مع وجود القانون الإلهي
قد يقال: إذا كان القانون الإلهي بريئًا من عيوب القوانين الوضعية، وكان هو أصل الأخلاق ومنبعها، فما الحاجة إذن للبحث في الأخلاق؟ ولماذا العناء في هذه الدراسات الطويلة المضنية؟
وجوابنا عن ذلك أن الدين وإن بيَّن لنا الفضائل والرذائل والخير والشر، ورسم لنا ما نعمل وما لا نعمل، إلا أنه كما قلنا سابقًا لم يفصِّل لنا علة ما جعله خيرًا أو شرًّا من الأعمال، ولم يقفنا على المستوى الذي نحكم بحسبه على بعض الأعمال بأنها خير، وبعضها بأنها شر، وترك ذلك لعلم الأخلاق الذي يكسب دارسه الدقة في التقدير ووزن الأعمال ويوجه إرادته نحو الصالح منها.
وثَمَّ سبب آخر، وهو أن القانون السماوي، إذا فهمنا علل أحكامه وسبب مشروعيتها، وهذا ما قام به الفقهاء؛ لم يصل للصميم من أفئدة الناس جميعًا، فلو اكتفى الأخلاقيون به لضل كثير طريق الفضيلة التي يرشد إليها الناس. القانون الأخلاقي يهدي إلى الخير، وتسترشد به الأمم التي انقطعت عن الشرائع السماوية حينًا، كما تصل به الأمم التي وصل إليها الوحي في بعض الأحيان إلى تفهم الحقائق التي جاءتها عن الرسل والأنبياء، عليهم أفضل الصلاة والسلام.