في السبيل إلى الذروة
هذه الخطوة الأولى تلتها خطوات أخرى سريعة، فإن بسالة محمد علي وإقدامه استوقفا حالًا انتباه رؤسائه، وجعلاهم يَكِلون إليه جُلَّ المَهمات.
ولكن بطلنا ما لبث أن أدرك أن البسالة والإقدام قد ينفعان، وأما التقدم السريع فلا يدرك إلا بالتقرب من الرؤساء، فأخذ من وقته يبحث عن سند ينفعه لدى ذوي الأمر، فوجده في شخص رجل يقال له حسن أغا، أحد ضباط القبطان باشا الأخصاء، فتوسط له حسن أغا هذا، فألحقه القبطان باشا بخدمة خسرو باشا، وأفهم خسرو باشا هذا أن محمدًا رجل يعتبر اكتسابه مغنمًا.
وكان خسرو باشا قد تعين واليًا على القطر المصري بفضل مساعي القبطان باشا سيده، في الأستانة، فرأى أن يعتز برجل أوصاه به ولي نعمته خيرًا. وإظهارًا لمحظوظيته من محمد علي أهداه بعد قليل حصانًا من جياد أربعة قدمت له على سبيل الهدية، ورفعه في أواخر سنة ١٨٠١ إلى رتبة ساري ششمه، أي جنرال أو لواء كما يقولون الآن.
فتمكن محمد علي — من هذا الموقف العالي الذي بلغه في أقل من سنتين — أن يلقي نظرة على مجاري الأمور حوله، وأن يزن الأحوال والرجال بميزان تقديره الراجح.
فرأى أن الأحوال فوضى، يتنازع الأمرَ فيها ثلاثُ قوات: الجيش الإنجليزي والجيش التركي والأمراء المماليك.
•••
أما الجيش الإنجليزي، فبعد فراغه من إجلاء الفرنساويين عن مصر لم تكن له مهمة محدودة، لأن سياسة الحكومة الإنجليزية في ذلك العهد، كسياسة الحكومة الإنجليزية في أيامنا هذه، كانت متخبطة بين الاحتفاظ بمصر أو الجلاء عنها، وبين نصرة الباب العالي على المماليك أو المماليك على الباب العالي، لا تدري أين تستقر، ولا بأية صبغة تصطبغ. وما لبثت كذلك حتى أبرمت بين إنجلترا وفرنسا معاهدة (أميين) التي قضت على الجيش الإنجليزي بالجلاء عن مصر، فسلم الإسكندرية وقلاعها إلى الأتراك في ١٤ مارس سنة ١٨٠٣ وغادر البلاد.
وأما الجيش التركي، فإن قواده كانوا مزودين من لدن الباب العالي بتعليمات تلزمهم — بعد الفراغ من إخراج الفرنساويين — بالقضاء على المماليك، ليستقيم عود الأحكام في القطر المصري على مثال ما كان في باقي الولايات العثمانية، فلم يكن إذًا لأولئك القواد من دأب سوى العمل على تنفيذ تلك التعليمات. ولولا وقوف الجيش الإنجليزي أمامهم موقف المعارض في ذلك والمدافع عن قضية المماليك؛ لتمكن يوسف باشا الصدر الأعظم وقائد الجيش البري، وقجك حسين قبطان باشا أمير الجيش البحري؛ من تنفيذها — إلى حد ما — من باب الاحتيال والقدر.
وأما المماليك فإنهم بعد كسراتهم المتتابعة التي أصابتهم على أيدي الفرنساويين وما وقع بهم من فناء فيها، كانوا قد تضاءَلوا وأمسى عددهم لا يزيد على خمسة آلاف، ولم يكن في استطاعتهم تجديد قواهم؛ لأن الباب العالي الراغب في القضاء عليهم كان قد أصدر أمرًا حال بينهم وبين ذلك بتحظيره بيع الشبان في إقليمي الكرج والشركس. غير أنهم مع ذلك كانوا يُمَنُّون نفوسهم بالعودة إلى ما كانوا عليه قبل الحملة الفرنساوية من الاستبداد بالأحكام. ولو كانوا متحدين متناصرين، ربما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. ولكن زعيميهم الأكبرين: عثمان بك البرديسي ومحمد بك الألفي؛ نزعا إلى منافَسة فتحاسُد فتباغُض، فعداء صريح؛ فأوجب ذلك وهن قوة الأمراء ومكن أعداءهم منهم.
على أن ما كان بين البرديسي والألفي من منافسة كان أيضًا بين يوسف باشا الصدر الأعظم، وقجك حسين باشا أمير البحر. ولكن نفوذ هذا — وكان رفيق صبوة السلطان سليم الثالث، ومجدد بهجة العمارة العثمانية — تغلب على نفوذ ذاك فتمكن من جعل الباب العالي يقلد مملوكه خسرو باشا ولاية مصر — كما قلنا — وأن يعهد إليه في مهمة القضاء على المماليك.
فلما قدم خسرو باشا إلى القاهرة واستلم مهام وظيفته انسحب يوسف باشا إلى سوريا، غير مخلِّف في القطر من جيشه الزاخر سوى ١٣ ألف رجل. وأقلع القبطان باشا بسفنه تاركًا لمحسوبه ٤ آلاف ألباني كانوا من أولئك الثلاثة عشر ألفًا بمثابة القلب من الجسد.
فأسرع خسرو باشا إلى اغتنام العداوة القائمة بين البرديسي والألفي، وشرع يعمل على إضعاف قواهما بالدسائس تارة وبالترغيب أخرى. وكان المماليك — بعد أن تحققوا من نيات تركيا نحوهم — قد نزعوا إلى القتال، وأخذوا يجتاحون البلاد ويمنعون الأموال عن الحكومة.
فسيَّر خسرو لقتالهم فرقتين من الجند: إحداهما تحت قيادة يوسف بك، أحد المقربين إليه، والأخرى تحت قيادة محمد علي.
فتقدمت القوتان بسرعة نحو دمنهور حيث كان ثمانمائة مملوك تحت قيادة عثمان بك البرديسي قد اتخذوا موقعًا حصينًا يهددون منه العاصمة ويتمكنون فيه من الاتصال بالإنجليز — وكان جيشهم لا يزال بالإسكندرية — ولكن يوسف بك سبق محمد علي، وفي صباح اليوم الثالث والعشرين من شهر نوفمبر سنة ١٨٠٢، صف وراء دمنهور جيشه، وكان يزيد على سبعة آلاف مقاتل، وشرع في إطلاق النيران على المماليك، فما كان من عثمان بك البرديسي إلا أنه انقض بفرسانه على جنب الجيش التركي اليسار — وكان مكشوفًا — فاخترقه، وداس الرجال تحت حوافر جياده؛ فذعر العثمانيون وأركنوا إلى الفرار، فركب البرديسي برجاله ظهورهم وأعمل فيهم السيوف فقتل منهم أكثر من خمسة آلاف رجل، بينما لم يقتل من رجاله سوى ستين. ثم عاد واستولى على جميع مدافع أعدائه وذخيرتهم. ولم ينج يوسف بك من هذه الكارثة إلا بكل مشقة. ولكي يخفف من وطأة المسئولية عليه، رأى — بالرغم من أن عدد الجيش الذي قاتل به الثمانمائة مملوك؛ كان تسعة أضعاف هؤلاء — أن ينسب انكساره لدى خسرو باشا إلى تخلي محمد علي عنه في المعركة.
ومن المؤكد أن محمد علي كان يستطيع — لو شاء — الإسراع بجنده، والاشتراك مع يوسف بك في القتال.
ولكن محمد علي كان قد انتهى من النظرة التي ألقاها على مجاري الأمور حوله إلى أنه أدرك أن القطر ممزق مدوس، وأن القوم يشتغلون كلٌ لمصلحته بتأثير منفعة كل منهم الشخصية، ولو أدى تحقيق هذه المنفعة إلى خراب عام. وإلى أنه ليس بين كبار قواد العثمانيين واحد فقط كفؤًا للمهمة التي وضعها الباب العالي نصب أعينهم. ووزن خسرو باشا رئيسهم الأعلى، فوجده ناقصًا لا يصلح لمهمات الأمور؛ لأن إدارته أظهرته رجلًا سيئ التدبير، غير محسن التصرف، محبًّا لسفك الدماء غير متروٍّ في ذلك، لا يضع شيئًا في محله، يتكرم على من لا يستحق، ويبخل على من يستحق، كثير الغرور، ومطاوعًا لمن أحدق به من قرناء السوء، فحكم بأنه إذا هو وضع كفاءته في خدمته كان مغفلًا.
ورأى محمد علي من جهة أخرى، أن المماليك — على ما بهم من وهن — لا يفترون منشقين بعضهم على بعض. ووزن رئيسيهم الأكبرين؛ فوجد أن عثمان بك البرديسي — وإن لم تعوزه صفة واحدة من صفات البطولة الحقة — لم يكن يصلح لتولي زمام الأمور؛ لأنه كان رجلًا قصير النظر، ليس لديه شيء من الحكمة والفطنة اللازمتين لمن يريد أن يحكم الناس ويسوسهم، يغلب عليه تسليم زمام أعماله إلى انفعال أهوائه، وانفعالِ أهوائه إلى وساوس الخناسين من الأبالسة والناس. ووجد أن محمد بك الألفي — على بطولته التي لم تكن تحتمل أن يشك فيها — كان رجلًا كبير الغرور بنفسه، كبير الميل إلى اللذات، متقلب الأهواء، فخورًا، يهمه أن يتزوج من كل بدوية تعجبه، على أن يطلقها بعد أسبوع أو أسبوعين، وأن يرتدي الملابس الفاخرة الساطعة. وأما الشئون العامة فلا تهمه إلا بقدر ما هي ينبوع تنعُّم ونفوذ له.
فحكم بأن رأي الدولة العلية في المماليك صائب، وأن مصير البلاد إلى أيديهم مصيبة كبرى عليها، وأنهم، إن لم يرعَوُوا ويقلعوا عن فوضاهم، ويمتثلوا للأحكام، ويكونوا جزءًا من الهناء العام بدلًا منهم معكريه؛ كانت مطاردتهم واجبة، وكان استئصال شأفتهم بجميع الوسائل الممكنة أمرًا مرغوبًا فيه وعملًا مبرورًا.
ثم وزن نفسه بدقة وبدون محاباة، فوجد أنه الرجل الوحيد الذي يمكنه أن يكفي الأستانة ومصر شر المماليك، والوحيد الذي يمكنه أن يحكم البلاد حكمًا يُصلحها ويُعلي من شأنها، ورأى أن ما خصه به الباري — دون سواه — من مزايا البطولة الحقة والرجولة الحقة، ومن ميزات الرجل المخلوق للإمرة والإدارة، يكفل له تحقيق المنام الذي فسره له الشيخ الوقور، والبلوغ إلى الذروة، إذا هو عرف كيف يستفيد من الظروف، وكيف يجعل الفرص تثمر الثمر المرغوب فيه، بأن لا يستخدم كفاءته إلا في مصلحة فريق يؤدي انتفاعه بها إلى القضاء المبرم على خصمه، وكيف يُسَيِّر بحِكْمَةٍ سفينةَ طالعِه وآماله.
فدخل بها بحر تلك الفوضى العجاج بجانب قوارب الضاربين فيها، ولم يكن بينهم أحد يعلم المصير، بل كانوا يمخرون حيثما تذهب بهم رياح تصرفات الأيام. وبينما هم غافلون ربط سفينة مطامعه — بحبال خفية — بكل قارب من تلك القوارب، وربط دفات الجميع بدفة سفينته، من حيث لا يشعر أحد، فأصبح كل يجذف بمجذافه، ويظن أنه يجذف لنفسه وفي مصلحتها، بينما هو في الحقيقة يجذف ليوصل إلى الفَرْضَة الأمينة سفينةَ ذلك الربان الحاذق، الذي كان يدير الدفات كلها في الخفاء — وهو على ظهر سفينته، ونجمتُه القطبية المنيرة له السبيل بين الشعاب — تحقيقُ الحلم الذي رآه.
هكذا نرى واضع الأنغام عند الغربيين يضع لكل وتر نغمًا، ولكل بوق نفخًا، ولكل منشد ترنيمًا، فيعزف العازفون، ويغني المغنون، وكل واحد لا يدري ما نغم رفيقه، فيجتهد بإتقان نغمه، ظنًّا منه أنه الفائز باستحسان الجمهور وتصفيقهم، وما هو في الحقيقة عامل إلا على نجاح مجموع النغم، وإظهار حذق الواضع واكتساب الشهرة والفخر له.
وكما أن واضع روايات قره قوز يدير من وراء ستار حركات جميع الممثلين فيها، مع أنها تبدو للعيان كأنها حركاتهم الشخصية، هكذا شرع محمد علي يدير حركات الضاربين في تلك القوارب، والملأ يعتقد أنهم هم القائمون بها.
فامتنع لذلك جميعه عن الاشتراك في معركة دمنهور.
ولما كان الذكاء لا يعوز خسرو باشا — وإن أعوزته صفات الرجولة الحقة — فإنه أدرك في الحال سبب امتناع محمد علي من الاشتراك في تلك المعركة. ولدى تصوره أن الرجل مدين له بتقدمه كله ثارت في فؤاده ثورة غضب هائلة، وصمم على الإيقاع به، فأرسل يستدعيه إليه بعد صلاة العشاء؛ بحجة المفاوضة معه في أمر خطير، فلم تنطل الحيلة على محمد علي، وأجاب أنه سيذهب إلى مقابلة الوالي في رابعة النهار وبمعية جنده.
وبما أن البرديسي، بعد وقعة دمنهور وارتحال الجيش الإنجليزي، كان قد سار إلى الصعيد وانضم إلى مماليك إبراهيم بك الكبير، واستولى معهم على مدينة المنيا، فقطع كل اتصال بين القاهرة ومصر العليا، فإن خسرو — لاضطراره إلى إزالة هذا الخطر الجديد، واحتياجه في ذلك إلى محمد علي — أجَّل النظر في أمر معاقبته إلى فرصة أخرى. وأرسل يستقدمه هو وقائدًا آخر يقال له طاهر باشا إلى مصر، ليسيرا منها بعساكرهما إلى المنيا لاستردادها.
ولكن محمد علي رأى أن الوقت حان لإزالة خسرو عن المسرح، فحرك عليه في الخفاء العساكر، فأبوا الزحف إلا إذا دُفعت لهم متأخراتهم، فأحالهم خسرو على الدفتردار، وهذا أحالهم على محمد علي، كأني به قد أدرك من أين الضربة آتية، فأجابهم محمد علي أنه لم يصله شيءٌ من مرتباتهم، فاستشاط الجنود غيظًا؛ لأنهم اعتقدوا أن الدفتردار ومولاه يهزأون بهم. وعادوا فحاصروا بيت الدفتردار، فأبلغ الدفتردار الخبر إلى خسرو باشا، فثارت في رأس الوالي ثورة الغضب، وأمر بإطلاق مدافع القلعة على الجنود، فطار صواب هؤلاء، فتركوا الدفتردار وشأنه، وتدفقوا إلى سراي الوالي يهاجمونها، فرأى طاهر باشا — بإيعاز من محمد علي — أن يتوسط بينهم وبين الوالي. ولكن خسرو لم يخيِّب رأي محمد علي فيه، وأبى بغلظة مقابلة طاهر، فانقلب طاهر عدوًّا صريحًا. وأخذ معه فرقة من العساكر، وسار بها إلى القلعة، فأغلق حَفَظَتُها أبوابها في وجهه. ولكن بعض جنوده تمكنوا من النفوذ إلى داخل سورها الأول، وأفسدوا على الحكم قلوب الحرس المقام هناك، فلم يعد يستطيع خازندار خسرو، المتولي أمر ذلك الحرس؛ المقاومة، وفتح في الحال الأبواب لطاهر ومن معه، فدخلوها وأخذوا يمطرون القنابل منها على سراي الوالي، فأدرك هذا أن القلعة سقطت في أيدي العصاة، فجمع حرسه النوبي وزهاء مائة عثماني ونفرًا من الفرنساويين كانوا في خدمته، ونساءَه، وخرج من سرايه، وسار بجمعه إلى المنصورة.
فخلا الجو لطاهر باشا واضطر قاضي الديار إلى المناداة به قائمقام الولاية حتى ترِد أوامر الأستانة. وكان الدور المخصص في فكر محمد علي لطاهر هذا السعي إلى مصالحة المماليك ليتساعد بهم على الفراغ من أمر خسرو وعلى الوقوف في وجه الانكشاريين وخلافهم فيما لو أراد أحد استخدامهم لمعاقبة الثائرين على خسرو.
فكاتب طاهر المماليك واستدعاهم إليه، فنزل الأمراء من الصعيد وأتوا وأقاموا معسكرهم في الجيزة.
ولكن محمد علي ما لبث أن وزن طاهرًا، فلم يجده كفؤًا للقيام بالدور؛ لأن طاهرًا بدا رجلًا سليبًا مهووسًا، يميل إلى السلباء والمجاذيب والدراويش؛ عمل له خلوة في الشيخونية، كان يبيت فيها كثيرًا، ويصعد مع الشيخ عبد الله الكردي إلى السطح في الليل، ويذكر معه، أو يجتمع بأشكال من الناس مختلفي الصور، فيذكر معهم ويجالسهم، ويظهر الاعتقاد فيهم، فأدى ذلك إلى أن كثيرين من الأوباش تزيوا بما سولت لهم نفوسهم من الأزياء المستغربة، ولبسوا طراطير طوالًا ومرقعات ودلوقًا، وعلقوا جلاجل وبهرجانات وعصيًّا مصبوغة فيها شخاشيخ وشراريب، وطبلات يدقون عليها، وأخذوا يصرخون ويزعقون، ويتكلمون بكلمات مستهجنة وألفاظ موهمة بأنهم من أرباب الأحوال، حتى كادت العاصمة تصبح عاصمة مجانين، وشوارعها ودروبها طرقات بيمارستان عظيم. ويقول الجبرتي: إنه لو طال عمر طاهر باشا هذا لأهلك الحرث والنسل.
بعد ذلك أعلن عفو عام باسم محمد علي وإبراهيم بك وعثمان بك البرديسي — وأما الألفي فكان قد توجَّه إلى إنجلترا مع الجيش الإنجليزي — واستولى المماليك على القلعة واحتل الألبانيون القاهرة.
وما استتب الأمر للمتحالفين إلا وأخذوا يتجهزون للقضاء النهائي على خسرو باشا. وكان هذا الوالي — وقد طارده طاهر باشا حتى ألجأه إلى الاعتصام بدمياط — غادر هذا الثغر وسار إلى مصر أول ما بلغته أنباء الثورة على طاهر. ولكنه علم وهو في الطريق انكسار أحمد باشا ودخول المماليك العاصمة، فارتد على عقبيه. وما عتمت قوى المتحالفين تحت قيادة محمد علي والبرديسي أن أتت وعددها عشرة آلاف مقاتل، وشددت عليه الحصار، فاستولت على دمياط عنوة ونهبتها، فلجأ خسرو إلى حصن عند مصب النيل، ولكنه ما لبث أن نزل على حكم أعدائه ووقع في أسرهم، فأرسله الفائزون إلى مصر وأقاموا إبراهيم بك عليه حارسًا.
في هذه الأثناء وردت أوامر الأستانة التي كان طاهر باشا بعث يطلبها بعد المناداة به قائمقامًا، فهل تظن أيها القارئ أنها تضمنت توبيخًا على ما اقترف ضد خسرو باشا، واليها الرسمي، أو أية إشارة كانت إليه؟ ولا في المنام! ولكنها قضت بالاعتراف بولاية أحمد باشا، الذي كان إذ ذاك في السجن يندب سوء طالعه.
على أن الأستانة، لما بلغتها تفاصيل الحوادث كلها، أحست بأنها إن هي سكتت على تحالف المماليك والألبانيين ضاعت مصر عليها، فلملافاة هذا الخطر المداهم رأت أن ترسل واليًا جديدًا من لدنها، وتعززه بألف رجل، كأن ألف رجل قوة يؤبه لها أمام أربعة آلاف ألباني وخمسة آلاف أمير مملوك.
وكان اسم الوالي الجديد علي باشا الجزائرلي. وهذا اللقب أتاه من أنه بدأ حياته العملية بصفة مملوك باي الجزائر.
فنزل علي باشا إلى الإسكندرية في ٨ يوليو سنة ١٨٠٣ وأرسل أخاه سعيدًا للاستيلاء على رشيد فتمكن سعيد من ذلك بخدعة، فزحف محمد علي والبرديسي توًّا إليها واستردَّاها عنوة، وأرسلا سعيدًا مأسورًا إلى إبراهيم بك الكبير، فلما بلغ نبأ ذلك علي باشا أوجس خيفة، وشرع يتحصن في الإسكندرية، وعزم البرديسي فعلًا على محاصرته فيها، ولكنه — وهو يتأهب لذلك — إذا بشيخ جاوز المائة من العمر حضر للسلام عليه في خيمته، وكان البرديسي يعتقد ببركة الشيوخ أمثاله، فأراد أن يقف منه على مصير المحالفة بين المماليك والألبانيين، فأجابه الشيخ: «ستقع فتنة كبيرة في عيد الأضحى، وستجري الدماء فيها!» فسأل البرديسي: «وماذا يسبب هذه الفتنة؟ وأي دم يسيل فيها؟ ولمن يكون الفوز؟» فأجاب الشيخ: «إن الذئاب ستفترس الأجانب!»
فوقعت هذه الإجابة من قلب البرديسي موقعًا أليمًا؛ لأنه لم يكن يجهل أن أهل البلد كانوا يسمون المماليك بالأجانب، وتوقع فناء طائفته.
واتفق أن النيل شح في ذلك العام، فعلت الأسعار، وبات أمر تموين الجنود متعذرًا، ودب الجوع إلى صفوفهم، فضجوا وتذمروا، وبات من المحال متابعة الأعمال الحربية بهم، فاجتهد محمد علي في تفهيم البرديسي ذلك. وبعد أن طلب منه بتكرار مرتبات جنوده، ورأى طلباته تذهب أدراج الرياح؛ اقتلع خيامه، وسار بألبانييه إلى مصر، فبلغها في أواسط سبتمبر، فاضطر البرديسي إلى العدول عن مهاجمة علي باشا الجزائرلي في الإسكندرية، وعاد هو أيضًا بمماليكه إلى القاهرة، وإذا بالخزائن فارغة، وليس لدى إبراهيم بك الكبير — الذي كانت الإدارة الملكية أوكلت إليه أثناء تغيب محمد علي والبرديسي — ولا اليسير من النقود. وكان — مع ذلك — لا بد من دفع مرتبات الجنود، وإلا ثاروا، فلم يجد البرديسي مفرًّا من فرض ضريبة جسيمة على أهل العاصمة نفَّرت منه القلوب.
فلما توقفت الحركات العسكرية رأى علي باشا الجزائرلي أن يغتنمها فرصة لدسائس يدسها بين المتحالفين يفرق بها بينهم ويبلُغ منهم مرامه، فأرسل من فاوض محمد علي سرًّا وأطمعه فيما لو تخلى عن المماليك. وأرسل من فاوض المماليك سرًّا، ووعدهم خيرًا فيما لو تخلوا عن الألبانيين. ولما كانت فرنسا وإنجلترا أخذتا تتزاحمان على النفوذ في مصر وعلى استمالة البرديسي، أطلع محمد علي هذا الأمير على ما فاتحه فيه علي باشا الجزائرلي، فحمله بذلك على زيادة الوثوق به والانقياد إلى مؤثراته، ولم يجد بعد ذلك صعوبة في إقناعه بأن الالتجاء إلى هذه أو تلك من الدولتين المتنازعتين النفوذ، ينشئ خطرًا هائلا على مصالح الجميع. ثم عرض عليه فكرة العمل من باب الحيلة على إخراج علي باشا من مركزه الحصين بالإسكندرية، فوافقه البرديسي، فحمل محمد علي العلماء — وكانت قد استمالتهم مظاهر تقواه واعتداله — على الكتابة إلى الجزائرلي واستدعائه إلى مصر، مؤكدين له أن الكل يرغبون سرًّا في حضوره، وأن مجرد حضوره يزيل كل صعوبة ويقوِّم كل معوج.
فصدق الرجل الكلام واستعد للسفر، وبعث ينبئ الأمراء بذلك، فاستعجل المماليك حضوره. ولكنهم — لعلمهم بأن الباب العالي كان قد أرسل إليه أمدادًا متتابعة — رسموا له بألا يصطحب معه سوى ألف رجل، وأن يسير بهم من دمنهور إلى القاهرة على شاطئ النيل الأيسر، فوعدهم علي باشا بالامتثال لمرسومهم، وقام من الإسكندرية في ٢٣ ديسمبر سنة ١٨٠٣، ولكن بألفين وخمسمائة من المشاة، وخمسمائة فارس. وقبل الوصول إلى دمنهور حاول الاستيلاء على رشيد مفاجأة، فلما وجد حاميتها يقِظة، وأرسل الأمير المملوك قائدها يستفهم منه لماذا حاد عن الطريق المرسوم له، اعتذر وأجاب أنه إنما فعل ذلك ليقصر المحجة، ولكنه لا ينوي لرشيد سوءًا، فصدقوه، غير أنه ما انسدلت سدول المساء إلا وقبض خفراء المدينة على جنديين من جنود علي. وقادوهما أمام يحيى بك الأمير المملوك، فسألهما عما يريدان، فقالا إنهما يحملان كتبًا من علي باشا إلى عمر بك قائد الألبانيين. وكان عمر بك حاضرًا، ففض الكتب علانية، وإذا هي ملأى وعودًا يبذلها علي باشا للألبانيين ليفصلهم عن المماليك؛ فاستشاط الحضور غيظًا، واستعدوا لقتال المخاتل، وإذا به قد ظهر أمام مدينتهم، وهو يعتقد أن كتبه عملت عملها من التغرير؛ فوجد القوم متربصين خارج الأسوار، فلم يجسر على مهاجمتهم، وعاد صاغرًا إلى الطريق التي رسمت له. وليعوض جنده من عدم الاستيلاء على رشيد، سمح لهم بنهب القرى في السبيل.
وكان القوم في مصر مطلعين على جميع حركاته، فلما علموا أنه اقترب من العاصمة، خرج البرديسي إليه ومعه محمد علي وألبانيوه، وعسكروا أمامه بين شلقان وشبرا، ولما جن الليل هاجموا معسكره، فذعر جنده وفروا بدون قتال، فتذمر علي من هذه المعاملة، ولكن أعداءه لم يبالوا به، ولم يجيبوه بشيء، فأراد الخروج من معسكره والدخول إلى القاهرة فمنعوه، فسأل عن سبب هذا التصرف فقالوا له: «لأنك أخليت بالشروط.» فأجاب معتذرًا بأن معظم الجند الذي معه يقصد الحج، وأبى أن يتركه حتى يقبض متأخراته، فما صدقه أحد وقال له البرديسي: «إنك إذا استمررت مصطحبًا معك كل هؤلاء العساكر فلا بد لي من معاملتك كعدو.» فطلب علي حينئذ أن يسمحوا له بالعودة إلى الإسكندرية، فرفضوا، فوجد أن القتال بات محتمًا، وأخذ يستعد له. ولكن عسكره تخلوا عنه قائلين إن أوامر الباب العالي لا تقضي عليهم بالقتال، وإن قلة عددهم لا تجعل الإقدام عليه محمودًا.
فقام علي من ساعته، واصطحب معه ابن أخته ونفرًا يسيرًا، وقصد خيمة البرديسي، وسلم نفسه إليه، فأكرم الأمير وفادته. ثم أقبل على جيشه، فجرده من سلاحه، وسيره مهينًا إلى التخوم السورية، غير مستثن سوى ستة من رؤسائه تعرفهم بأنهم من أصحاب السوابق في المشاغبات والاضطرابات، فقطع رؤوسهم، ولكن علي باشا — بالرغم من أنه أصبح فريدًا، وأنه في ضيافة البرديسي — أبى إلا الاستمرار على دسائسه، فكتب رسالتين: إحداهما إلى عثمان بك حسن، أحد كبار الأمراء المماليك، والأخرى إلى الشيخ السادات؛ ففي الأول وعد عثمان بك بأن يجعله وكيله إذا هو انشق على إخوانه وانضم إليه، وفي الثانية شرح للشيخ كيف يمكنه إثارة ثائرة الشعب على المماليك، فوقعت الرسالتان في يد عثمان بك البرديسي، وأوقدتا في قلبه غيظًا لا حد له، فاستدعى علي باشا إليه، ووضعهما تحت نظره، فغض الشقي عينيه خجلًا. ولما أقبل المساء أتاه من قبل البرديسي رجل وقال له: «إن الخيل معدة، وهي في انتظارنا.» فقال علي: «لماذا؟ وإلى أين تريدون توصيلي؟» قال: «إلى سوريا، فإن سلوكك جعلك لا تستحق أن تستمر بيننا!»
فأركبوه مع ابن أخته وتوابعه، واحتاط بهم جمع قوي من المماليك. فلما بلغوا ناحية القرين وجلسوا ليستريحوا، ما كان من المماليك إلا أنهم صوبوا بنادقهم وأطلقوها عليهم. ثم أجهزوا عليهم باليطقانات، فأصيب علي باشا برصاصتين، وبينما هو يموت أخرج كفنه من خرجه — وكان لا يفارقه أبدًا — ورجا قاتليه بألا يحرموه من الدفن.
على أن محمد علي وألبانييه — ولو أنهم ساعدوا على الإيقاع بالرجل، بل كانوا هم المحرضين على الإيقاع به — لم يتدخلوا في قتله، وما فتئوا واقفين وراء ستار.
ولما عاد المتحالفون إلى القاهرة بلغهم نبأ وصول رسول من لدن الباب العالي، فذهب وفد من البكوات إلى الإسكندرية لاستقباله، وعادوا به باحتفال عظيم، فلما استقر العاصمةَ أخرج الفرمان الذي حضر به وناوله إلى القاضي، فقرأه بصوت عال؛ أفتدري أيها القارئ الكريم، ماذا كان مضمونه؟ إنه كان يؤيد علي باشا الجزائرلي على ولاية مصر!!!
غير أن البرديسي ومحمد علي إن هزآ بمضمون ذلك الفرمان السخيف، ما لبثا أن وجدا من صروف الأيام سببًا لقلق أخطر بكثير من الذي تلافياه بموت علي باشا الجزائرلي.
قلنا إن الجيش الإنجليزي لما انجلى عن الإسكندرية اصطحب معه إلى إنجلترا محمد بك الألفي، زعيم المماليك الثاني، لتتخذ الحكومة الإنجليزية منه آلة لتنفيذ مراميها في القطر المصري في مستقبل الأيام، فرأت هذه الحكومة في أوائل سنة ١٨٠٤ أن الوقت حان لذلك، فأعادت الألفي إلى القطر، ومعه تحف وأموال كثيرة ليشتري بها الذمم والقلوب.
فما بلغ خبر نزوله مسامع منافسه عثمان بك البرديسي إلا وأظلمت الدنيا في وجهه؛ لأن الألفي كان — لسماحة كفه — محبوبًا في الأقاليم. وكان أتباعه ومريدوه من المماليك كثيرين. ولم يكونوا مدة غيابه يطيعون البرديسي إلا بتذمر، وكثيرًا ما أطلع الألبانيون هذا الأمير على ما كان أولئك الأتباع والمريدون يراودونهم عليه من قتله، فيُذْكُون بذلك كرهه لمنافسه البعيد. وبلغ البرديسي في الوقت ذاته أن الألفي الصغير — الذي كان الألفي الكبير تركه على رأس حزبه لما غادر الديار — ما سمع بعودة مولاه إلا واستدعى رجاله، وأمرهم بالاستعداد للانضمام إلى سيدهم فزاد اضطرابه، وقصد محمد علي — وكان منذ أن تحالفا معًا قد اتخذه ناصحًا ومرشدًا — واستفتاه فيما يجب عمله، فدامت مداولاتهما يومين كاملين. وكان محمد علي قد نظر إلى الحادث الجديد بعين بصيرة ونظر ثاقب، ووزَن بروية حقيقته ونتائجه، فأدرك أن الألفي إنما يعني أصبع الإنجليز، وأن هذه الدولة لم تُعِدْه إلى القطر، إلا لأغراض خفية لم يكن يمكن أن تكون سوى إعادة سلطة المماليك ووضع زمامهم في يد الألفي محسوبها، مقابل امتيازات تنالها منه، واتفقت معه عليها نظير مساعدتها له. وأنه إذا انضم الألفي إلى البرديسي، وعملا معًا بإخلاص وبمساعدة الإنجليز، فقد خسر هو الصفقة وهلك، أو اضطر إلى مغادرة القطر، فعزم — في الحال — على منع حدوث مثل هذا. وما أتاه البرديسي مسترشدًا إلا وأشار عليه بوجوب القضاء على الألفي، قبل أن يتمكن الألفي من القضاء عليه بمساعدة الإنجليز.
فاقتنع البرديسي بذلك — وكان بغضه للألفي يعمي بصيرته عن مصلحته ومصلحة قومه، وتعاهد مع محمد علي على العمل سويًّا لتنفيذ ما صمما عليه، فانتقل — منذ الليلة التالية — إلى بر الجيزة، وباغت الألفي الصغير المعسكر هناك، فتخلى مدفعيو هذا عنه ولم يبق معه إلا بضعة رجال هرب بهم على أجنحة السرعة، فتحول محمد علي إلى فريق من مماليكه كانوا راقدين في إمبابة وداهمهم في نومهم، وقتلهم عن آخرهم.
وفي أثناء ذلك كان الألفي الكبير يصعد النيل في مركب القنصل البريطاني، الخافقة الراية البريطانية عليها، وتتبعه طائفة من القوارب، تحمل التحف والأموال التي جاء بها من بلاد الإنجليز، فلما بلغ بها منوف رأى مراكب موثوقة بألبانيين تتقدم لمقابلته، فسأل رجاله الجند: «ماذا تطلبون؟» فأجابوا: «نطلب محمد بك الألفي!» فقال رجاله: «ها هو هنا!» ولكن الألبانيين لم يتعرضوا له، بل تحرشوا بالقوارب الحاملة التحف والأموال وشرعوا ينهبونها، فرأى الألفي حينذاك أنه يحسن به النزول إلى البر، فنزل وقصد ناحية كانت قبيلة بدوية ضاربة فيها خيامها، فاستقبلته امرأة منها، وأعطته حصانًا ودليلين بهجينين، ابتعد بهما من الغد، وتبعه مماليكه سيرًا على الأقدام. وبينما البرديسي يضرب في طول القليوبية وعرضها للظفر به بلغ الألفي الخانقاه، فهاجمه فيها جمع من العرب. وما نجا الألفي منهم إلا بفضل سرعة حصانه، وذهب هائمًا على وجهه.
فعاد البرديسي إلى القاهرة، وهو طروب بفوزه، ولكن عمله ضد أخيه أساء طائفة من أصدقائه، فابتعدوا عنه، فنظر الرجل حوله، وإذا بأكثر من نصف المماليك الذين كان يعتز بهم قد فارقوه إما للانضمام إلى الألفي وإما لاستنكارهم عمله، فاغتنم الألبانيون الفرصة، وطالبوه بمتأخرات ثمانية شهور من رواتبهم، وضجوا حوله، وهددوه بشر الأعمال إذا هو ماطل في الدفع. وما هي لحظة إلا وحضر محمد علي نفسه على رأس فرقته، ولكنه تظاهر أنه مَسوق إلى ذلك سوقًا، وأنه إنما حضر للتوفيق بين الفريقين.
فوعد البرديسي بالدفع في الغد، وفرض في الحال مالا جسيمًا على كل «الشراقوة» والفرنج المقيمين في القاهرة، فاحتج القناصل، ولكن البرديسي لم يبال، وجمع الضريبة عنوة، غير أنها لم تف بطلبات الجند، ففرض البرديسي ضريبة فادحة على أهل العاصمة، فضجوا وثاروا، وقتلوا نفرًا من المحصلين، وتجمهروا في الأزهر وحوله، فتداخل محمد علي في الأمر، وذهب بمفرده إلى الثائرين ولاطفهم، ووعد العلماء بأن الضريبة المفروضة لن تجبى، فهدأت الثورة في الحال، وعاد الأقوام إلى منازلهم وهم يدعون له، فبات محمد علي مضطرًّا إلى منع البرديسي من جباية تلك الضريبة. وكان بعض أمراء المماليك قد أخذوا يسيئون الظن في صداقته لهم، ووُجدت أسباب حَمَلت محمد علي على الاعتقاد بأن إبراهيم بك الكبير — على الأخص — أدرك غامض نياته، وأنه أوعز إلى مماليكه بالعمل على الإيقاع به خيانة وغدرًا. ورأى المكدوني من جهة أخرى أن البرديسي قد فرغ من لعب الدور الذي خصصه له، فلم ير بدًّا من نزع اللثام عن وجهه، والبروز في حقيقة مقاصده أمام أنظار أعدائه.
فاستمال إلى نفسه في الأول عثمان بك حسن ومماليكه الناقمين على البرديسي. وفي ظهر اليوم الثاني عشر من شهر مارس سنة ١٨٠٤ سيرهم للإحاطة بمنزل إبراهيم بك الكبير، ووجه جنودًا عديدة للإحاطة بدار البرديسي، وكان يدافع عنها جمع من الترك، استمالهم محمد علي إليه برشوة، فحولوا مدافعهم على من في الدار بدلًا من تحويلها على الألبانيين، وشرعوا يدكون جدرانها دكًّا، فأمر البرديسي رجاله بامتطاء جيادهم، وحمل ما ثمن وخف من أمتعته على ظهور هجن، ثم فتح الأبواب بغتة. وانقض على صفوف الألبانيين المحيطة بداره، ففتح له ولمن معه منفذًا فيها، وعدا برجاله وأمتعته نحو البساتين. وإبراهيم بك الكبير من جهته تمكن من الانسلال عند الفجر من منزله إلى ساحة الرميلة، وفر منها إلى الصحراء. ولما علم المدفعيون المقيمون في القلعة أن الأمراء أسيادهم فروا؛ انقضوا على دار السكة، فنهبوها، ثم ولوا — هم أيضًا — الأدبار من باب الجبل، فلم يبق في القاهرة من سلطة سوى سلطة محمد علي، ولو كان قليل التبصر كطاهر باشا، لاقتدى به وتسلم زمام الحكم، ولكنه كان داهية من أكبر دواهي الزمان، ولم يكن ليجهل أن الفرص لا تزال غير مناسبة، وأنه يجدر به أن يستمر عاملًا على إنضاجها.
ففي نفس اليوم الذي طرد المماليك من القاهرة فيه، صعد إلى القلعة، وأنزل منها خسرو باشا المسجون فيها ليعيده إلى كرسي الولاية. ولكن الزعماء الألبانيين زملاءه — بتحريض من ولدَي أخي طاهر باشا — أبوا عليه التعيين، فأنزلوا خسرو عن ذلك الكرسي، وأرسلوه مخفورًا إلى رشيد، ومحمد علي لا يمانع؛ لأنه لم يكن ليهمه البتة أن يتولى خسرو، وإنما كان يهمه أن تبقى مقاصده تحت ستار وأن يؤمن الباب العالي بولائه، ويزداد تعلق العلماء به لاعتداله.
فانضم إلى الزعماء في اجتماعهم للتداول فيمن ينتخبونه للولاية، فأجمعت آراؤهم على تعيين خورشد باشا محافظ الإسكندرية المولَّى عليها من قبل خسرو الوالي المخلوع، وكان خورشد آخر من تبقى في القطر ممن يصح أن تتجه إليهم الأبصار، فإذا جرب ولم يفلح هو أيضًا أصبح من السهل حمل القوم على انتخاب محمد علي.
فذهبت فرقة ألبانية وأتت بخورشد من الإسكندرية في ٢ أبريل، وفي ٢٨ منه أتاه فرمان التثبيت من الأستانة.
وكان خورشد رجلًا أذكى ممن سبقوه وأشد مراسًا، فحاول جهده للخروج من قبضة الرجل القدير الذي أراد تحريكه على المسرح كما حرك عليه أسلافه. ولكن محمد علي لم يمكنه من ذلك، ووقف له بالمرصاد، يستفيد من كل غلطة يرتكبها، لينفِّر منه النفوس، ويثير عليه الضغائن.
فما استقر خورشد في كرسيه إلا ورأى المال يعوزه، فأمر بتحصيل الميري عن السنة كلها مقدمًا؛ فنفَّر هذا الأهاليَ منه، ثم شرع يبحث عن كل من له علاقة بالمماليك ويصادره. ولكن المماليك ثأروا لمريديهم ولأنفسهم بمنع الوارد من غلال وأقوات عن العاصمة، فجاعت وزاد جوعها في نفورها من خورشد، وازدادت أمام خورشد صعوبة الحصول على المال اللازم، فما كان منه إلا أنه أرسل يومًا واستدعى إليه في القلعة الست نفيسة أرملة مراد بك، وكانت — لفضلها وبرها وتقواها — محبوبة ومحترمة جدًّا من الجميع، وأخذ يتذرع بحجج شتى لاستخلاص نقود منها، فبلغ الأمر مسامع القاضي ومشايخ الأزهر، فأسرعوا إلى الوالي، وبينوا له مقدار الخطأ الذي ارتكبه. فادعى أن نفيسة هانم تفسد عليه جنوده في مصلحة المماليك، وتعدهم إن هم انفضوا عنه بدفع مرتباتهم لهم، ففاتح المتعممون الست نفيسة في ذلك، فقالت: «إنه لم يعد لي بين المماليك لا أب، ولا زوج، ولا أخ، فبأي داع أخدم مصلحتهم؟ إني أرى أن كل هذا تحايل لابتزاز أموال مني ليس لديَّ منها ظلها، لأني قد أصبحت في حال لا تمكني من القيام بواجبي نحو نفس من خدمني ويخدمني!» فعاد المتعممون إلى خورشد، واجتهدوا في حمله على إطلاق أسيرته فأبى، وبالرغم من إلحاحهم وتوسلهم أصر على الإباء، فنفروا حينذاك منه، وقالوا له إن إصراره هذا إنما يعتبرونه امتهانًا منه لكرامتهم. فتداخل بعض كبار المرتبة في الشأن، وانتهى الأمر بتصريح خورشد للست نفيسة بالإقامة في بيت الشيخ السادات. وكانت عديلة هانم — بنت إبراهيم بك الكبير — قد لجأت إليه أول ما بلغها ما أصاب نفيسة هانم؛ خشية أن تصاب بمثله.
هذه الحال المؤلمة استمرت إلى أن مل المماليك البقاء على مناوشات لا طائل تحتها، حول القاهرة، فاقتلعوا خيامهم وساروا إلى الصعيد. وكان الخوف كله — حتى هذا الانسحاب — في أن ينضم رجال الألفي إلى رجال البرديسي ورجال إبراهيم بك؛ فإن الألفي — وكان بعد ما أصابه من نكبة، مختبئًا عند شيخ من مشايخ عرب الشرقية — ما درى بما حصل في مصر للبرديسي إلا وخرج من مخبئه وأتى على رأس جانب من رجاله، وأقام في قرية على ضفة النيل اليمنى على مسيرة يومين من القاهرة، وأخذ من جهة يسعى إلى التقرب من البرديسي، ويراسل من جهة أخرى خورشد باشا في السر للوصول إلى اتفاق معه، فاستقبل خورشد رسوله بحفاوة وأهداه محمد علي جوادًا مطهمًا.
غير أن مصادرة خورشد نساء المماليك في القاهرة أغضبت الألفي وجعلته — بالرغم من أن خورشد قلده ولاية جرجا — يعلن عداءَه للوالي وينضم في قتاله إلى باقي المماليك إخوانه، فأرسل إلى خورشد، في هذا المعنى، رسالة ضمنها من المطاعن المرة عليه ما أطار عقل الرجل غضبًا، وحمله على الأمر بقطع رأس الرومي المسكين الذي حمل تلك الرسالة إليه.
وعلى ذلك زحف المماليك من كل جهة، إلى العاصمة، ولكن بدون تفاهم بينهم، فخرج محمد علي إلى مقابلتهم، وما فتئ يناوشهم مناوشات عنيفة يحاول بها إلقاء الاضطراب في صفوفهم، حتى وقع مع ثمانمائة من أتباعه في كمين في جهة البساتين، لم ينج منه إلا بأعجوبة. ولكنه ثأر لنفسه بعد قليل بأن أبلغ عثمان بك حسن والألفي أنه ملَّ الحال، وأنه إذا أبى خورشد مصالحة المماليك، فإنه هو — محمد علي — سيتقرب منهم، فصدقاه وأغفلا الاحتراس، فسار محمد علي بألف رجل تحت جنح الدجى إلى طرة، وهاجم أعداءه وهم نائمون، وأثخن فيهم، ولولا أن الألبانيين خالفوا أوامره وأطلقوا الرصاص قبل إتمام الإحاطة بالقرية لما نجا أحد من المماليك المبيتين.
فحملت هذه الواقعة المماليك على الابتعاد عن القاهرة — كما قلنا — بعد أن بالغوا في تضييق الخناق عليها، وعاد الفلاحون إلى جلب الأقوات لها؛ فزالت شبه المجاعة التي كانت أصابتها، ونسب أهلها الفضل في ذلك إلى محمد علي بحق.
وكان قد ورد على خورشد باشا، قبل ذلك بيومين، أمر من الأستانة يقضي بإرسال خمسمائة رجل إلى ينبع لدفع الوهابيين عنها، وورد على زعماء الألبانيين فرمان استصدره خورشد الراغب في التخلص منهم، يأذن لهم بالعودة بجنودهم إلى بلادهم، فرضي بالأمر بعضهم وأزمعوا الرحيل، ولكن الجند منعهم إلا إذا دفعوا لهم متأخراتهم، فكادت تقع فتنة، لولا أن خورشد — ليتخلص من أولئك الزعماء وعسكرهم — دفع هو نفسه المتأخرات، على أن الزعماء عدلوا حينذاك عن الرحيل. ولم يجْنِ خورشد من تسرعه سوى خسارة المال الذي دفعه.
ووقع بعد انسحاب المماليك حادث أظهر مقدار ما بلغ إليه نفوذ محمد علي في نفوس جنوده بعد انتصاراته المتتابعة على المماليك؛ ذلك أن جنديين من الأرناؤوط تشاجرا مع فرنساوي يقال له روجيه، كان رئيس الصيادلة في الحملة الفرنساوية، وتخلف عنها في مصر، وأرادا قتله، فعاجل الفرنساوي أحدهما بضربة أودت به، وأطلق خادم من خدمه الرصاص على الثاني فجرحه جرحًا خطيرًا، فاجتمع العساكر وأرادوا نهب الحارة، وكثر الهرج والمرج، ولكن الخبر بلغ إلى محمد علي، فحضر إلى محل الواقعة ماشيًا على قدميه، وليس معه إلا نفر قليل، وأمر بفتح باب الحارة، لئلا يكسره الجند، فيحدث ذلك ما لا تحمد عقباه، ثم وضع خفراء عليه، ومنع العسكر الهائج من ارتكاب أية معصية كانت، وما زال بهم من جهة، وبالقنصل الفرنساوي من جهة أخرى؛ حتى حمل القنصل على دفع أربعة آلاف قرش لأخ المقتول، على سبيل الدية وحمل أخا المقتول على قبولها، والجند على الاكتفاء بها ثأرًا.
ثم وقع في خلده أن يرى مقدار ما بلغت إليه منزلته عند الشعب، فاصطحب ذات صباح أحمد بك، الذي كان يقاسمه الإمرة على الأرناؤوط، وذهبا معًا إلى الوالي، وأظهرا له الرغبة في الرجوع إلى بلادهما، فطار عقل خورشد فرحًا واعتبر التخلص من محمد علي غنيمة كبرى. ولما كان قد عينه منذ بضعة أيام حاكمًا على جرجا أقاله من هذه الوظيفة، وعين سلحداره مكانه فيها. وذاع في الشعب الخبر، وتأكيدًا لحقيقته، شرع محمد علي في بيع أملاكه ودوابه.
فاضطربت حينذاك المدينة عن بكرة أبيها، وأقفلت الأسواق والدكاكين، وازدحم الناس في الشوارع والدروب، وبدت على القوم أمارات الأسف الشديد على رحيل الرجل الذي كانوا يعدونه الحامي الوحيد لبيضة أمنهم من تعدي الأجناد عليها، وكاد يخامرهم يأس على أعمارهم، وكأني بالعسكر أرادوا أن يثبتوا لهم حقيقة تقديرهم، فما علموا أن محمد علي راحل إلا وانتشروا في الأحياء يفسدون ويخطفون، وكاد الدم يُهدر.
ولكن محمد علي — وقد اكتفى بما رأى من منزلته في القلوب — نزل وطاف المدينة على قدميه، مهدئًا المخاوف، زاجرًا الجند، ومعاقبًا بالقتل كل من تجاوز منهم حد المحتمل، وإرهابًا للأشرار أمثال المعاقبين، أبقى الرؤوس المقطوعة عدة أيام معلقة على الأبواب. وانتهى الأمر بأن سافر مائتا ألباني ومعهم أحمد بك. وأما محمد علي فإنه أعلن بقاءه إرضاءً للرأي العام، فجعل لنفسه بذلك منة في رقبة الشعب.
فلما تأكد خورشد من عدوله عن السفر، رأى أن يستخدم ميزاته العسكرية في الحملة التي صمم على تسييرها ضد المماليك فيبعده بألبانييه عن العاصمة، ويغتنمها فرصة للتخلص منهم بضربة تصيبهم على أيدي جنود غيرهم أرسل يستدعيهم من سوريا وغيرها.
فقلد محمد علي قيادة ثلاثة آلاف رجل بيم مشاة وفرسان وسيره إثر سلحداره الزاحف بمقدمة الجيش وقدرها أربعة آلاف جندي.
فلما أحس المماليك بالقوى المتقدمة لقتالهم، أدركوا أن تفرقتهم ضارة بهم جدًّا، وأخذ عقلاؤهم يسعون إلى مصالحة البرديسي والألفي، واتفقوا على أن يتقابل هذان الزعيمان في جزيرة قبالة طرا، أقيمت فيها خيام لهذا الغرض، فأتاها البرديسي أولًا، وما لبث أن نزل الألفي إليها أيضًا. ولكنه لم يخط بضع خطوات فيها إلا ورأى على الشاطئ ثعبانًا مقطوعًا نصفين، فتطيَّر وظن أن في الأمر خيانة وغدرًا، وعاد من حيث أتى، فاستمر الشقاق بين المماليك على ما كان.
وفي الأثناء تقدمت فرقتا السلحدار ومحمد علي حتى بلغتا المنيا، وكانت في يد المماليك، فحاصرها القائدان الألبانيان ستة وخمسين يومًا، واستوليا عليها بعد عناء شديد، وبعد عدة وقعات ظهرت فيها قلة جدارة السلحدار وكثرة كفاءة محمد علي.
على أنه بينما كانت القوات الألبانية تبلي هذا البلاء الجيد، كان خورشد باشا يسعى سعيًا حثيثًا — تساعده الأستانة فيه — إلى هدم كيان تلك القوات، وتفريقها أيدي سبأ، وذلك باستحضار قوات أخرى إلى القطر تحل فيه محلها. تلك القوات الجديدة كانت تعرف باسم الدلاة أو الدالتية أي المجانين بالتركية، وإنما سُمُّوا كذلك لشهرتهم بالبسالة المتناهية، وكان معظمهم أكرادًا، سلاحهم سيف وطبنجتان وقرابينة، وكانوا يلبسون على رؤوسهم طراطير مخروطية الشكل من الجوخ الأسود طول الواحد منها عشرة قراريط، لا حافة له وتشده على الرأس عصابة.
فأحضر خورشد باشا ثلاثة آلاف منهم، ولما بلغه نبأ وصولهم إلى التخوم المصرية خرج بنفسه إلى مقابلتهم ودخل بهم القاهرة من باب النصر، فكانت باكورة أعمالهم أن انقضوا على السابلة وأرباب الدكاكين، فخطفوا النساء والمردان ونهبوا التجار، كأنهم إنما حضروا لهذا الغرض فقط. بعد ذلك طلبوا علوفاتهم ومرتباتهم بإلحاح ونعير لم يرَ الباشا معهما بدًّا من إجابتهم إلى طلبهم، ففرض على تجار كانوا منتظرين حرسًا للذهاب إلى ينبع؛ خمسمائة كيس، لإعطائهم ذلك الحرس، وعلى اليهود مائة وعشرين كيسًا، وألزم تجارة السويس بما وازى هذين المبلغين معًا.
غير أن خبر وصول الدلاة ما بلغ محمد علي وهو في المنيا إلا وأدرك الباعث الذي حمل خورشد باشا على إحضارهم، فاتفق في الحال مع حسن باشا زميله، ونهض كلاهما، وسارا بجنودهما إلى القاهرة، فلما شاع خبر قدومهما اضطرب له خورشد اضطرابًا عظيمًا، فبعث واستدعى إليه المشايخ ونقيب الأشراف والوجاقلية وأرباب الديوان، وقال لهم: «إن محمد علي وحسن باشا راجعان من قبلي من غير إذن، وطالبان شرًّا، فإما أن يعودا من حيث أتيا ويقاتلا المماليك، وإما أن يذهبا إلى بلادهما، أو أعطيهما ولايات ومناصب في غير أرض مصر، فإن لديّ أمرًا من السلطان بذلك، فأطلب إليكم إذًا أن تكونوا معي وتعضدوني.» فقرَّ الاتفاق على أن يبيت عنده في القلعة كل ليلة اثنان من المتعممين واثنان من الوجاقلية، وصدر الأمر إلى الدلاة بالخروج بأسلحتهم ومدافعهم إلى ناحيتي طرا والجيزة للوقوف في وجه القادمين.
ففعلوا، ولكنهم لم يجسروا على التعرض لمحمد علي ومن معه. ولما أرسل محمد علي إليهم يقول لهم: «إننا إنما جئنا في طلب المرتبات ولسنا بالمخالفين ولا بالمعاندين.» وعزز قوله بالهدايا والتحف، قال الدلاة بعضهم لبعض: «إذا كان الأمر كذلك، فالقوم محقون فيما يعملون.» وأجابوا من أرسله خورشد لتأنيبهم على جبنهم وتساهلهم: «إذا كنتم تمنعون وتحاربون من يطلب حقه فكذلك تفعلون معنا، إذا خدمناكم زمنًا، ثم طلبنا علائفنا!» واستمروا لا يبدون حراكًا، فدخل محمد علي وزميله بجنودهما القاهرة ونزلا في بيتيهما.
فبلغت الفوضى حينذاك أقصاها؛ فأخلاط العسكر في مصر — ولا سيما الدالاتية — يأكلون الزرع والقوت، ويخطفون ما يجدونه مع الفلاحين والمارين، بل يخطفون النساء والأولاد. والمماليك في الأقاليم، وعند أبواب العاصمة ذاتها؛ يأخذون من البلاد الأموال والكلف عنوة واغتصابًا. والعرب والبدو يغيرون على القرى وينهبونها، ويحرقون الأجران ويسبُون النساء، ويضربون ويقتلون من يتعرض لهم بدفاع. وأسراب الأولاد الصغار يصرخون في أسواق القاهرة والمدن الأخرى، ويأمرون الناس بغلق الحوانيت، ويسبُّون المشايخ ويشتمونهم ويرجمونهم بالحجارة إذا ما صادفوهم في الشوارع، لاعتقاد الملأ أن المشايخ لو تجاسروا وأرادوا لتمكنوا من رفع تلك البلايا. والباشا لا يرى للأمور دواءً إلا العمل على إخراج محمد علي وفرض الأموال على الناس، كأنه لا يكفيهم ما هم فيه من بلاء وشقاء.
فلإخراج محمد علي حمل الأستانة على تعيينه واليًا على جدة. وكان محمد علي — منذ أن عاد إلى منزله — متظاهرًا بالاعتدال التام، يتحبب إلى العلماء بما يحادثهم من محادثات عذبة، وما يشترك معهم فيه من تأدية فرائض الدين، ويزيد في اجتذاب قلوب الناس إليه بمنع كل تعدٍّ من جنوده الخاصة عليهم، ويقوي تعلق جنوده به ببذله لهم مرتباتهم في أوقاتها، وبمضاعفتها أحيانًا.
فلما أتاه فرمان التولية على جدة تظاهر بقبول المنصب، ولكنه رفض ما دعاه إليه خورشد من الصعود إلى القلعة ليتقلده فيها. ومن يعلمْ كيف فتك خورشد هذا غدرًا — بعد ذلك بنحو عشرين سنة — بعلي باشا تبلن والي ينينا؛ لا يسعه إلا أن يقر محمد علي على قلة ثقته به، وحتم عليه النزول إلى المدينة لقراءة الفرمان المنبئ بذلك في بيت شيخ وقور يقال له سعيد أغا، فنزل الوالي على مضض، وخلع على محمد علي، وألبسه فروة المنصب الجديد وقاووقه، فشكر محمد علي وخرج يريد الركوب، ولكن عسكره — بإيعاز سري سابق منه — أوقفوه، وطلبوا منه العلوفة، فقال لهم: «ها هو الباشا عندكم فطالبوه!» وركب وذهب إلى داره بالأزبكية، وهو ينثر الذهب في الطريق، فأحاط العسكر بخورشد باشا، ومنعوه من الخروج أو يدفع المرتبات. وأشيع في المدينة أنهم حبسوه، ففرح الناس وباتوا مسرورين.
ولكنه تمكن في الليل من الصعود إلى القلعة، وفي الصباح التالي — لخوفه من أن ينضم الدلاة إلى الأرناؤوط في المطالبة بالعلوفة؛ فلا يبقى له نصير — بعث إليهم يبيح لهم نهب مديرية القليوبية ليحصلوا منها مطلوباتهم، فعاث الدلاة في البلاد فسادًا، وارتكبوا من المنكرات ما لا يتصوره عقل.
فطفحت بالناس الكأس، فركب المشايخ إلى بيت القاضي واجتمع فيه عدد عظيم جدًّا من المتعممين والعامة والأولاد، حتى غصت بهم الدار، وامتلأ بهم صحنها، وصرخ الجميع: «شرع الله بيننا وبين هذا الباشا الظالم!» وطلبوا من القاضي أن يرسل بإحضار المتكلمين في الدولة إلى مجلس الشرع، فلما حضروا واستقر بهم المكان، قَرَّ الرأي على كتابة عريضة بالشكاوي والمطالب إلى الوالي، فكتبت ورفعت إليه، فأجاب يستدعي القاضي ونقيب الأشراف والعلماء إليه في القلعة ليشاورهم في الأمر، فغلب على ظنهم أنها خديعة منه. وحضر بعد ذلك من أخبرهم — ولا ندري مقدار ما كان في أخباره من الصدق — أن الوالي أعد أشخاصًا لاغتيالهم في الطريق، فتملكهم الغيظ والحنق. وفي الغد — وكان يوم ١٤ مايو سنة ١٨٠٥ — ركب الجميع ساعة العصر وذهبوا إلى محمد علي، وقالوا له: «إنا لا نريد هذا الباشا حاكمًا علينا، ولا بد من عزله من الولاية!» فقال: «ومن تريدون أن تولوا مكانه؟» قالوا: «لا نرضى إلا بك واليًا، لما نتوسمه فيك من العدالة والخير!»
فامتنع أولًا؛ لكيلا يقال إنه هو المحرض، ولكنه — أمام إلحاح القوم — رضي، فأحضروا له كركًا وعليه قفطان، وقام إليه السيد عمر مكرم — نقيب الأشراف — والشيخ الشرقاوي، فألبساه إياه. ونادوا بذلك في المدينة، فاستبشرت وهللت، ثم أرسلوا الخبر إلى خورشد باشا وطلبوا إليه اعتزال الأمر فأجاب: «أنا مُوَلًّى من طرف السلطان، فلا أُعزل بأمر الفلاحين، ولا أنزل من القلعة إلا بأمر من السلطنة!» وشرع يستعد للمقاومة، وانضم إليه فيها زعيمان ألبانيان: عمر بك وصالح أغا أق قوش، حسدًا منهما وغيرة من محمد علي، وأخذ ثلاثتهم يخابرون حسن باشا، زميل محمد علي ليحملوه على التحيز لهم، وكتب خورشد إلى سلحداره في المنيا يستنجده، وإلى المماليك يدعوهم إلى محالفته، وإلى الدلاة يأمرهم بالإسراع إلى الالتفاف حوله.
فاضطر محمد علي إلى محاصرة القلعة من كل جهة، بينما السيد عمر مكرم والمشايخ، ومعهم الكثير من العامة والوجاقلية يحافظون على المدينة بأسلحة وعصي ونبابيت، بعد أن حرروا إعلامًا وقعه المفتي بشرعية الحركة، فرأى خورشد أن يرسل عمر بك إلى السيد عمر مكرم ليحمله، هو والعلماء، على العدول عما هم فيه، فدارت بين العمرين مناقشة طويلة، من جملتها أن عمر بك قال: «كيف تعزلون من ولاه السلطان عليكم، وقد قال الله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم؟» فقال النقيب: «أولي الأمر العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل، وصاحبك رجل ظالم، وجرت العادة من قديم الزمان أن أهل البلد يعزلون الولاة حتى الخليفة والسلطان إذا سار فيهم بالجور.» قال عمر بك: «كيف تحصروننا وتمنعون عنا الماء والأكل وتقاتلوننا؟! أنحن كفرة حتى تفعلوا معنا ذلك؟!» قال النقيب: «نعم؛ فقد أفتى العلماء والقاضي بجواز قتالكم ومحاربتكم، لأنكم عصاة!» قال عمر بك: «إن القاضي هذا كافر!» — وكان تركيًّا مثلهم، ومعينًا من قبل السلطان — فقال النقيب: «إذا كان قاضيكم كافرًا فكيف بكم؟!» فأفحم عمر بك وعاد من حيث أتى.
وزاد التشديد في الحصار، ثم أتى في الأيام التالية كبار الدلاة إلى محمد علي واعترفوا بولايته، وأعلنوا انفضاضهم بتاتًا عن خورشد، وهو الذي كان أحضرهم ليستعين بهم على محمد علي وألبانييه، فما كان أحراه بترديد قول الشاعر:
فخلع عليهم محمد علي خلعًا وكساوي، وارتحلوا بقصد الذهاب إلى محاربة الألفي وأتباعه، والعرب الذين معه، ولكنهم لم يذهبوا إلى ما وجهوا إليه، وساروا إلى البلاد والقرى ينهبون ويقتلون ويفسقون.
وفي ٩ يوليو وصل إلى مصر كابجي من دار السعادة، وكان محمد علي منذ أن قبل الولاية، قد بعث بالهدايا النفيسة إلى رجالها، ليحملهم على إقرار ما فعله علماء مصر، فبعد أن تردد الديوان كثيرًا وماطل كثيرًا، انقاد في نهاية الأمر إلى نصائح السفير الفرنساوي هناك (وكان قد أوصاه بمحمد علي خيرًا القنصل الفرنساوي بمصر واسمه ماتييه دي لسبس، وهو أبو فردينان دي لسبس صاحب قناة السويس) واتخذ عبرة من المصاعب التي قامت حتى تلك الساعة دون أن تستتب في مصر سلطة الباشاوات المرسلين إليها من الأستانة، أو المعينين منها مباشرة، فصدق على اختيار الشعب، وأرسل مرسومًا مع ذلك الكابجي بتأييد محمد علي على ولاية مصر، وعزل خورشد باشا، وتسفيره إلى الإسكندرية مكرمًا حتى يتعين على ولاية أخرى.
فأرسلت صورة من المرسوم إلى خورشد باشا، فأجاب بأنه والي مصر بمقتضى خط شريف وأنه لا يعزل إلا بخط شريف، ولكنه مع ذلك أبطل إطلاق النار من القلعة، وطلب مقابلة مندوب الباب العالي فرفض.
فعاد خورشد إلى مفاوضة المماليك، وكان سلحداره قد رجع من المنيا، فاتفق الجميع معًا على عمل مشترك يقلبون به مجن الدهر في وجوه أعدائهم.
ولكن محمد علي كان يقظًا، فبرز للمماليك وردهم على أعقابهم، ثم تحول إلى سلحداره خورشد فأدبه، وضيق أهل البلد الخناق على الباشا المعزول، وكان أشدَّهم عليه وطأة رجلٌ من جهة السيدة عائشة يقال له حجاج الخضري، اشتهر بالبسالة والإقدام منذ أيام الفرنساويين.
وبينما الحرب دائرة سجالًا ورد نبأ بقدوم عمارة القبطان باشا إلى أبي قير في يوم ١٧ يوليو تحمل ألفين وخمسمائة مقاتل، وتلا النبأ قدوم سلحدار القبطان باشا نفسه، ومعه مكاتبة إلى خورشد باشا، مضمونها الأمر له بالنزول من القلعة، ساعة وصول الخطاب إليه، من غير تأخير، ومكاتبة إلى محمد علي بتثبيته في مركزه.
فلما اجتمع السلحدار بخورشد باشا في القلعة أذعن خورشد للأمر، ووعد بالرحيل، على أن تدفع مرتبات مَن خدمه من الزعماء والجند، ولكنه عاد فأخلف وعده، وأخرج من بالقلعة من النساء والأولاد، واحتفظ بالرجال، وبالاتفاق مع سلحداره والمماليك، أثار نار معركة جديدة، ولكن محمد علي أطفأها بسرعة، وأخذ احتياطاته لمنع تجديد مثلها.
فرأى سلحدار القبطان باشا والكابجي أن عدم تتميم المهمة التي حضرا من أجلها ينقصهما جدًّا فعادا إلى الاجتماع بخورشد وما زالا به حتى أقنعاه بوجوب التسليم والإذعان فقبل، فصعد في ٣ أغسطس سنة ١٨٠٣ حسن أغا سار ششمه محمد علي بجملة من العساكر إلى القلعة، وتسلمها من خورشد، ونزل الباشا المخلوع من باب الجبل في الساعة الرابعة على الحساب العربي من صباح اليوم التالي، إلى جهة باب النصر، ومر من خارجه إلى جهة الخروبي، وذهب إلى بولاق يصحبه كتخدا محمد علي وعمر بك وصالح أغا أق قوش، وفي ٩ أغسطس ركب سفنًا من بولاق، وارتحل إلى رشيد.
فكان آخر وال عثماني على مصر تأتيه الأوامر من الأستانة رأسًا، وخلا الجو منه لمحمد علي، فجلس بدله على سدة الولاية.
•••
وهكذا صدق قول الشيخ الوقور له، وأوصلته الطريق الطويلة الوعرة التي سلكها — عملًا بنصيحته — إلى ذروة المعالي.