بعد التثبت فوق القمة
فلما زالت الصعاب من سبيله، وشعر أنه أصبح حرًّا في حركاته، وضع نصب عينيه العمل على الاستفادة من كل سانحة لتحسين مركزه وتعزيزه، وإنشاء دولة على ضفاف النيل تعيد إلى مصر سؤددها ومجدها التالد، وتجلسها مكرمة في مصاف الأمم الحية.
وأدرك أنه لن ينال الغرض المقصود إلا إذا جمع على ولائه عواطف العالم الإسلامي، وإلا إذا نقل مصر — ولو بعنف — من البيئة التي بنت القرون المنصرمة جدرانها حولها، إلى بيئة جديدة تكون مصطبغة القاعدة والجدران بصبغة المدنية الغربية، ومتشربة النفس بمبادئها اصطباغًا وتشربًا متفقين مع روح الشرق.
•••
فلِجَمْعِ ولاء العالم الإسلامي حوله هب بإخلاص إلى قتال الوهابيين.
ثم هب بإخلاص كذلك إلى نجدة الدولة العثمانية على إخماد ثورة اليونان.
ولِنقْل مصر إلى البيئة المرغوب فيها قلب كيانها رأسًا على عقب، وأخرجها بعد عناءٍ شديد إلى وجود جديد.
•••
أما الوهابيون، فقوم من عرب نجد، قاموا ينشرون تعاليم شيخ عالم يقال له محمد عبد الوهاب، بقوة الحسام، وببرهان السطو والغزو.
وتعاليم الشيخ محمد عبد الوهاب كانت ترمي إلى حركة إصلاحية في الإسلام، القصد منها إعادة هذا الدين الحنيف إلى سلامته الأصلية وتنقيته من كل الشوائب التي أدخلتها بدع القرون إلى كيانه المقدس.
فلم يكن إذن من بأس في نشر تلك التعاليم، بل كان في ذلك خير عميم.
ولكن القوم الذين قاموا بهذه المهمة لم يكونوا أهلًا لها؛ لأنهم اتخذوها حجة ووسيلة للنهب والسلب، والتعرض للمسلمين في إقامة شعائر دينهم، ولا سيما في تأدية فريضة الحج.
فبعد أن نهبوا «الإمام حسين» — وهي مدينة واقعة في الصحراء، غربي الفرات، في المكان الذي قتل فيه ابن بنت الرسول ﷺ، وجردوا مسجدها الحرام من جميع تحفه وكنوزه، استولوا على مكة المكرمة في سنة ١٨٠١ وشرعوا يضايقون الحجاج بفرض ضرائب عليهم ما أنزل الله بها من سلطان، ثم لم يلبثوا أن حظروا الحج كلية، إلا على الكيفية التي يريدونها.
وفي سنة ١٨٠٥ استولوا على المدينة المنورة ونهبوها، وتعرضوا لذات قبر الرسول بسوء، وفي سنة ١٨٠٦ منعوا الحج بتاتًا.
•••
فندب الباب العالي لقتالهم سليمان باشا والي بغداد، فعبد الله باشا والي دمشق، فيوسف باشا الصدر الأعظم المهزوم في واقعة عين شمس، ولكن الوهابيين قهروهم جميعًا، وأرجعوهم على أعقابهم خاسرين.
فطلب السلطان حينئذ إلى محمد علي باشا السير إلى قتال أولئك العصاة المنشقين.
فرأى محمد علي في إجابة الطلب ثلاث فوائد كبرى لنفسه: الأولى: إمكان إبعاد جيشه الألباني غير المنظم والكثير التمرد، بحجة لا سبيل إلى الشك في حقيقتها، فإمكان تنظيم الجيش المرغوب فيه، المدرب على الطريقة الغربية، أثناءَ غياب أولئك الألبانيين. الثانية: إمكان تحصيل ما في الرغبة من أموال، والاستيلاء على أكثر ما يمكن من الأملاك بحجة لزوم النقود للإنفاق على الحرب المقدسة، وفي سبيل استرداد الحرمين الشريفين. الثالثة والأهم: جمع عواطف مسلمي الأرض قاطبة على حبه وولائه، بصفته منقذ الحرمين، ومعيد مناسك الحج.
•••
فأقدم على تجهيز مهمات حملة هائلة، منذ أواخر سنة ١٨٠٩، وأظهر في ذلك لأول مرة مقدار تأثير قوة إرادته وثبات عزمه على ماجريات الأمور، فإنه لوعورة الطريق البرية بين مصر والبلاد العربية صمم على نقل جيوشه إلى ميدان القتال عن طريق البحر.
ولكنه لم يكن لديه مركب واحدة في موانئ البحر الأحمر كلها، فعزم على إنشاءِ عمارة بحرية في السويس، تنفعه لتلك الحملة وللمستقبل.
وبالرغم من أن كل الأدوات اللازمة كانت تعوزه، وأنه كان مضطرًّا إلى إحضارها من الخارج، فإن عزمه لم يخر، وإرادته لم تضعف، بل أرسل واشترى من موانئ تركيا كل ما كان في احتياج إليه، وأنشأ في بولاق ترسانة جمع فيها كل من تسنى له جمعهم من الصناع ذوي الخبرة بعمل المراكب، وأقبل ينفذ تصميمه.
فصاروا كلما عُملت قطعة يضعون عليها رقمًا خاصًّا بها، ويرسلونها إلى السويس على ظهر الجمال، حتى بلغ عدد ما استعمل من هذه الحيوانات في ذلك أكثر من ثمانية عشر ألفًا.
فنزل جيش الحملة فيها يوم ٣ سبتمبر سنة ١٨١١، فأقلعت إلى ينبع، وما استولى عليها إلا وقامت الحرب بينه وبين الوهابيين سجالًا؛ تارة يفوز طوسن فيها، وطورًا يُقهر، وأبوه ينجده ويمده، حتى تمكن من إنقاذ المدينة المنورة أولًا، فمكة المكرمة فيما بعد.
ولكن الدائرة عادت فدارت عليه، فأسرع محمد علي إلى نجدته بنفسه، وبعد أن أدى فريضة الحج أقام يحارب في البلاد العربية ما يزيد على ثلاث سنوات، أظهر في خلالها من الثبات على المكاره، ومن شدة المراس، وقوة العزم والحزم وتفتق الذهن؛ ما لا نظير له إلا في أخلاق أعظم رجال التاريخ.
فحق للأقدار أن تساعده، ولملاك الموت أن يؤازره على أعدائه، كسابقة عهده، فمر بسعود أمير الوهابيين الهمام، في درية — عاصمة ملكه — في ١٧ أبريل سنة ١٨١٤ واغتاله، فبات أمر المنشقين في يد عبد الله ابنه، ولم يكن على شيءٍ من فضائل أبيه وميزاته.
غير أن حادثة لطيف باشا ما لبثت أن استدعت محمد علي إلى مصر على جناح السرعة، فثابر طوسن على القتال، ولكن عبد الله — أمير الوهابيين — لم يكن راغبًا إلا في الراحة واللذات، فأرسل إلى طوسن من فاوضه في الصلح، فقرر طوسن شروطه على ما شاء، وكانت شديدة صارمة، فقبلها عبد الله وامتثل، فعاد طوسن إلى مصر، ووصلها في ٧ نوفمبر سنة ١٨١٦.
ولكن محمد علي أبى المصادقة على تلك الشروط، إلا إذا رد الوهابيون ما سلبوه من مكة والمدينة، فأجاب عبد الله بأنه لم يعد لديه شيء من ذلك، فلم يصدقه محمد علي — لغرض في نفس يعقوب — وجرد عليه حملة جديدة، تحت قيادة إبراهيم باشا ابنه.
فباشر إبراهيم الحرب بعنف، وبينما أخوه طوسن تقتله في بونيال حمى طاعونية اعترته عقب ليلة قضاها بين ذراعي جارية وهبت له حديثًا، فمات عن ابنه عباس الأول وهذا لا يزال في الثالثة أو الرابعة من عمره، ما فتئ إبراهيم يتقدم من فوز إلى فوز، ومن نصر إلى نصر حتى استولى على درية عاصمة الوهابيين، بعد حصار دام سبعة شهور، فدمرها تدميرًا، وأرسل عبد الله بن سعود إلى مصر أسيرًا، فسلمه محمد علي إلى نفر من التتر أتوا من الأستانة لاستلامه، فعادوا به إليها، وهناك — بعد أن داروا به الشوارع ثلاثة أيام؛ ليهزأ به الملأ ويهينوه — قطعوا رأسه، ثم حشوه تبنًا، وأبقوه معلقًا على سور الباب العالي مدة، يتفرج عليه المارُّون ويشتمونه.
•••
فبادت في ذلك ثلاثة جيوش وثلاث عمارات، وما لبث السلطان محمود أن فهم أن إخماد نيران تلك الثورة الهائلة فوق طاقة قواده وجنوده غير المنظمة، فاستنجد محمد علي، ولكن استنجادًا جزئيًّا، وطلب إليه العمل فقط على إخماد الفتنة القائمة في جزيرة كريت، ولهذا الغرض ولاه الإدارة العسكرية في تلك الجزيرة.
غير أنه لما دخل جيش عثماني مؤلف من مائة ألف مقاتل شبه جزيرة المورة في ربيع سنة ١٨٢٤ لإخضاعها — وما عتم أن هلك فيها — كبح محمود جماح كبريائه الهمايونية، واستنجد محمد علي استنجادًا كليًّا، فلبى محمد علي دعوته، على شرط أن تكون له إدارة الأقاليم التي يخضعها حسام جيوشه لسلطة الباب العالي.
•••
وفي ١٠ يوليو سنة ١٨٢٤ أقلع إبراهيم باشا ابنه — قاهر الوهابيين — على رأس جيش مصري بحت مدرب على النظام الجديد، يربو عدده على ثمانية عشر ألف مقاتل، تقله عمارة مصرية بحتة، مؤلفة من ٧٣ مركبًا حربية، وسبعون سفينة شراعية أجنبية، ونزل في ثغر مورون في ١٦ فبراير سنة ١٨٢٥، فاستولى في مدة وجيزة على جميع الساحل، وما أتى آخر سنة ١٨٢٥ إلا وكل مدن المورة قد وقعت في قبضة يده، ما عدا نوبليا.
وكان الجيش التركي من جهته تحت قيادة رشيد باشا؛ يحاصر مدينة ميسولونجي، ولا يستطيع الاستيلاء عليها، فهاج ذلك غضب السلطان محمود، فأرسل إلى رشيد باشا رسولًا يقول له: «ميسولونجي أو رأسك!» فهجم رشيد باشا على أسوار المدينة مرتين، وردَّ عنها مرتين، بخسائر فادحة.
فتوسل إلى إبراهيم باشا بأن يتفضل وينجده، فسار إبراهيم إليه بعشرة آلاف رجل من المشاة، وخمسمائة فارس، واستلم زمام الإمرة العامة، وشدد في الحصار تشديدًا سد على أهل ميسولونجي جميع المنافذ والمسالك، واضطرهم إلى الهلاك جوعًا، فأشعلوا النيران تحت أسوار مدينتهم وتحت بيوتها، ونسفوا نفوسهم معها، فما استولى الجيشان المصري والعثماني، إلا على خرائب وأطلال.
وعاد إبراهيم من هناك إلى المورة، فجعلها قاعًا بلقعًا، وسبى كثيرًا من أهلها، لا سيما النساء والأطفال، وأرسلهم إلى مصر، حيث ملأت الرقيقات الروميات دور الحريم، وملأ الغلمان الأروام عرصات القصور، وكان ذلك من حسن حظهم! لأن كثيرين من باشاواتنا اليوم — وليس من أقلهم شأنًا، ولا أحطهم قدرًا — ما هم إلا سلالة أولئك الغلمان الأروام، بعد أن اعتنقوا الإسلام، وتعلموا تعاليمه وتشربوا بمبادئه.
فأثارت أعمال إبراهيم عواطف محبي اليونانية من أهل الأدب والعلم في أوربا؛ لأنهم كانوا يعتقدون — وهم بالأسف لا يزالون يعتقدون، حتى يومنا هذا، وفي مقدمتهم المستر لويد جورج، كبير وزراء بريطانيا العظمى السابق — أن يونان اليوم هم أولاد هوميرس وأزيودس وبندارس، وصولون وليكرجس وپريكلس، وهيرودتس، وملسياد وتمستكل وأشيل وسوفوكليس وأوربيد وتوسيديد وكزينوفون وسقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس، وديموستين، وأبل، وفيدياس وأرستوفان وهبوقراط وإقليديس وغيرهم من منشئي المدنية اليونانية القديمة، إحدى والدتي المدنية الغربية الحديثة، وأبهر الاثنين جمالًا وجلالًا، فما فتئوا ولما يفتأوا يعطفون عليهم، مع أن نسبة يونان اليوم إلى أولئك الأفاضل الأعاظم كنسبة إغريق الإمبراطورية البيزنطية إلى رومان عصر هنيبال، أو كنيسة الأجلاف الضاربين في شبه جزيرة سيناء اليوم، إلى القبائل العربية الشهمة التي مزقت مملكة الأكاسرة وإمبراطورية القياصرة، تحت قيادة خالد بن الوليد والمثنى، وأبي عبيدة الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وعمرو بن العاص.
فتحالفت إنجلترا وفرنسا وروسيا على وضع حد للحرب القائمة بين الدولة العثمانية واليونان، وأتت أساطيلها ورست في مياه نافارين بجانب العمارة العثمانية المصرية، فصدم قارب بريطاني حراقة تركية إما عمدًا وإما صدفة، فأمر القارب الحراقة بالابتعاد فأبت، فحاول من في القارب الوثوب إلى سطحها، فأطلقت الحراقة عليهم رصاصة فما كان من الفرقاطة الإنجليزية التابع القارب لها إلا أنها أمطرت الحراقة صيبًا من الرصاص.
وكان ذلك بدون سابقة إعلان حرب، وبينما كانت العلاقات سلمية بين تلك الدول الثلاث وتركيا ومصر.
ويروى عن محمد علي أنه لما بلغه النبأ المزعج — نبأ تحطيم عمارته — قال بشخوص نظر مِلئه الأسف العميق: «إني لا أدري كيف صوب الفرنساويون مدافعهم على سفنهم!» إيماء إلى ما كان يربط إمارة مصر بفرنسا من روابط الوداد المتين، وإلى أن المصالح الفرنساوية والمصالح المصرية، في البحر الأبيض المتوسط كانت واحدة.
•••
فقضى دمار العمارة المصرية على إبراهيم باشا بانقطاع كل مدد عنه، حتى إمداد الطعام والمؤن.
وفي ٣٠ أغسطس سنة ١٨٢٨ نزل جيش فرنساوي مؤلف مما يزيد على ١٥ ألف مقاتل، تحت قيادة الجنرال ميزون إلى خليج كورون لمساعدة اليونان، فرأى محمد علي نفسه مضطرًّا إلى استدعاء ابنه.
فعقد مع الأميرال كودرنجتن، أمير القوات البحرية الإنجليزية، اتفاقًا قضى بجلاء الجنود المصرية عن المورة ورجوعهم إلى مصر!
فعادوا إليها في شهر أكتوبر التالي، وراياتهم لم ينكسها عار انكسار!
هذا ما كان من جمع محمد علي عواطف العالم الإسلامي على ولائه.
•••
- أولًا: بأن أقلع عن طريقة الحكم التي سبقت عهده، واقتدى بما وضعه الغربيون، لا سيما ناپوليون الأول، من نظامات حكم وإدارة، فاحتاط بديوان مؤلف من نخبة الرجال المحنكين — دعاه الديوان الخديوي — وأنشأ وزارتين: إحداهما للحربية — وكانت الأولى من نوعها، لانصراف أفكاره في البدء إلى الحروب فالفتوح — والأخرى للداخلية لتدير شئون البلاد، بينما يكون هو مشتغلًا في شئون السياسة الخارجية وتنظيم البلاد المفتوحة، وتسهيلًا للعمل على الوزارتين قسَّم البلاد المصرية إلى ٦٤ قسمًا، وجعل على كل قسم رئيسًا دعاه ناظر القسم، وكوَّن من تلك الأقسام مجموعات دعاها مراكز، عين على كل منها رئيسًا سماه المأمور، ثم كون من تلك المراكز مجموعات أخرى دعاها مديريات، عين على كل منها رئيسًا سماه المدير، وكان كل قسم من تلك الأقسام الأربعة والستين يشمل عدة نواحٍ ونجوع وكفور، يدير شئون كل منها شيخ أو عدة شيوخ يقال لهم مشايخ البلدان جعلهم محمد علي المسئولين عن التجنيد وعن جباية الأموال.
- ثانيًا: بأن أنشأ من أبناء البلد جيشًا زاهرًا مدربًا على الطريقة الغربية،
بالرغم من صعاب كانت الواحدة منها كافية لتفل الحديد وتدك الجبل! وللجندية
في الشكل الذي أنشأ محمد علي جيشه عليه؛ مزايا ومنافع مادية وأدبية، لا
سيما في قطر كقطرنا تتعدد فيه الأجناس والملل والنحل، ما لا يمكن أن تغيب
عن أحد؛ منها: إزالة الفوارق بين هذه الأجناس والملل والنحل، وإيجاد رباط
أخوة في الراية والشرف بين أفرادها، ومنها تقوية الأجسام بالتمارين
الرياضية، وعلى الأخص تقوية الأرواح وتغذيتها بألبان فضائل فردية كالهمة
والنشاط والترتيب، واجتماعية كتضحية الأنانية والمروءة واحترام القوانين
والولاء للوطن وحبه، وهذه المزايا والمنافع كانت أمتنا في أشد الاحتياج
إليها، بعد أن مضى عليها ما يزيد على أربعة عشر قرنًا — وهي تعبير
اتنوجرافي فقط — وهي مدوسة تحت أقدام الفاتحين!
وأنشأ، بجانب هذا الجيش، عمارة فخمة خولت الراية المصرية مهابة معظمة في مياه البحر الأبيض المتوسط ومياه البحر الأحمر، وأنشأها من العدم، وبالرغم من عدم وجود مادة واحدة لديه من المواد اللازمة لبنائها، ثم إذ دمرتها دونمات الدول الثلاث المتحالفة في مياه نافارين، عاد فابتنى غيرها في ظرف وجيز وسلحها بما يزيد على ألف وخمسمائة مدفع، فدفع بها عن شواطئ ديارنا الأخطار والخطوب، ولم يكن يمكن ولا لملوك الجن، في بلد كانت تعوزه كل الوسائل، وكانت كل الآراء فيه معارضة؛ أن تنجز ما أنجزه محمد علي في هذا الباب الهام.
- ثالثًا: بأن جدد بجدة المعارف بتغييره برامج التعليم وطرقه، وفتح ميدانًا جديدًا
للعلم أدخل الأمة فيه قسرًا، فقد كان التعليم، حتى قيام دولته، قاصرًا على
تلقين أصول الدين وأصول اللغة العربية، ولم يكن في البلاد سوى كتاتيب
يُعلَّم فيها القرآن الشريف، لا كينبوع علوم دينية — محيية، إن لم يكن
لشيء، فللأخلاق الحميدة — بل كمادة تحفظ على ظهر القلب بدون أن يفقه حافظها
معناها، وسوى الجامع الأزهر، وقلما أخرج عالمًا واحدًا يشار إليه بالبنان،
بعد القرن العاشر للهجرة.
ففتح محمد علي المدارس تترى: ابتدائية وثانوية وعالية، أذكر لكم بعضها ليكون عندكم فكرة منها كلها.
فالمدارس الابتدائية كانت سبعًا وأربعين، منها: مدارس المحلة الكبرى وزفتى والمنصورة والزقازيق والجيزة وبني سويف والفيوم والمنيا وأسيوط وسوهاج وإسنا إلخ.
والمدارس الثانوية والعالية والخصوصية كانت أربعًا وعشرين، منها: مدرسة قصر العيني، ومدرسة اللغات، والمدرسة البوليتكنيكية، ومدرسة المعادن، ومدرسة الطب البيطري، ومدرسة الطب والتوليد، ومدرسة العمليات (أي الفنون والصنائع) ومدرسة الموسيقى إلخ.
وأدخل في هذه المدارس التلامذة والطلبة رغم أنوفهم وأنوف أهلهم، وأحضر إليها الأساتذة الأكْفاء من بلاد الغرب، وعلم فيها العلوم الوضعية، التي كانت — ولا تزال — سببًا كبيرًا من أسباب رقي الغرب وتقدمه، وأنشأ بعضًا من تلك المدارس — كمدرسة التشريح مثلًا — رغم كل معارضة وكل مقاومة، حتى من لدن رجال الدين، ولم يكتف بذلك، بل أرسل البعثات تلو البعثات إلى المعاهد الأوربية؛ لا لكي يقتبس المبعوث بهم علوم الأمم الغربية وفنونها وصنائعها فحسب، بل ليتخرجوا أساتذة فيها، فيعلموها مواطنيهم بعد عودتهم إلى البلاد.
وأضاف إلى تجديد بجدة المدارس، إقامة المعامل والمصانع في طول البلاد وعرضها؛ ليتمكن قطرنا من ترويج المصنوعات على الطراز الغربي؛ لاعتقاد محمد علي أن تغيير معالم البيئة المادية يساعد كثيرًا على تغيير معالمها المعنوية، ولتتمكن البلاد من الاستغناء جل الاستطاعة عن الواردات الأجنبية.
- رابعًا: بأن غطى وجه القُطر بالأشغال والأعمال المفيدة، وسخر فيها الأيدي تسخيرًا، ولولا ذلك، لما اشتغلت ولما تمت تلك الأعمال، فمن سد أبي قير — وكان الإنجليز قد كسروه في حربهم مع الفرنساويين، فأغرقوا جزءًا عظيمًا من مديرية البحيرة، ودمروا القرى والبلدان جنوبي بحيرة مريوط حتى حوش عيسى، إلى سد الترعة الفرعونية — وكانت تحول جانبًا عظيمًا من مياه فرع دمياط إلى فرع رشيد، فتسبب — لا سيما في أيام التحاريق — شرقًا عظيمًا لمزروعات شمالي الدلتا والدقهلية، إلى سد فتحة ديبي ببحيرة المنزلة، لمنع مياه النيل من الانصراف بسرعة إلى البحر الملح، ومنع مياه البحر الملح — في أيام التحاريق — من الدخول بغزارة في تلك البحيرة، مسوقة إليها من الرياح الهابة من جهة اليم، إلى تقوية جسر قشيش — وهو الذي كان يصون مديرية الجيزة من الغرق، إلى بناء جسر لسد قطع في البحر اليوسفي غربي ناحية (هوارة المقطع) في جهة (طميه)، إلى تعزيز قنطرة اللاهون، إلى حفر الترع العديدة وأهمها المحمودية والخطاطبة، ومسد الخضراء، والنعناعية، والسرساوية، والباجورية، والبوهية، والمنصورية، والشرقاوية، إلى إقامة قناطر حاجزة عليها ومسهلة للري، إلى بناء الترسانة وحوض تصليح السفن، وتشييد قناطر بحر شبين بالقرنيين، والقناطر الخيرية الكبرى — وهي معجزة أعماله المعجزة — إلى ابتناء الحصون والقلاع على السواحل المصرية لدرء هجمات الأعداء عليها، وابتناء السرايات العديدة، وأهمها سراي رأس التين، وسراي شبرا، وسراي قصر النيل، إلى الشروع في تحويل الأزبكية إلى منتزه عمومي، إلى إنشاء شارع ما بين باب رشيد بالإسكندرية وسراي رأس التين، وكسائه بمسحوق من الجير والبتسولانة الصناعية لجمع الحجارة بعضها إلى بعض، إلى غير ذلك من الأعمال العظيمة التي غيرت وجه القطر تغييرًا محسوسًا.
- خامسًا: بأن هدم الحواجز التي كانت العصور السالفة قد أقامتها بين تعامل الغرب والشرق، ومكن العالمين من الاختلاط معًا، لا بالاتِّجار الواسع فحسب، بل بالاحتكاك اليومي في العادات والأخلاق والعقلية؛ فحبب إلى الغربيين المجيء إلى القطر والإقامة، بل والتوطن فيه، واستغلال رؤوس أموالهم في أرضه، وإنشاء مدارس لأولادهم على سطحه، وفتح أمام قومه أبواب السفر إلى الغرب، والتعرف بحاله والاقتباس عنه، وكان أجدادنا في ذلك العصر يكادون لا يعلمون عن الغرب أكثر مما كان يعلم الأوربيون عن أميركا حتى أواسط القرن السابع عشر، وليس من يجهل أنه لولا اختلاط العالمين معًا، لما تخلصنا من أفكار كثيرة كانت من أكبر أسباب قعودنا عن جري شوطنا في الميدان الذي تتسابق فيه الأمم المتمدينة نحو الرقي المادي والأدبي، ولو تسنى لعصر الرشيد والمأمون ما تسنى لمصر وسوريا بعمل محمد علي، من توسُّع دائرة هذا الاختلاط وتشعُّب أسباب الاحتكاك بين العالمين واقتباس المدنية الإسلامية عن المدنية اليونانية ما اقتبسته النهضة العلمية العلوية في القطرين عن المدنية الغربية، لما دالت للخلافة العباسية دولة ولما غربت للمدنية الإسلامية شمس.
- سادسًا: بأنْ سنَّ قانونًا للبلد كل مواده متشربة بالرغبة في فتح عصر جديد للأمة؛ عصر تكون المساواة تامة فيه بين الأفراد، ويكون الفرد آمنًا على حريته الشخصية من كل عبث ما دام لا يرتكب جرمًا، ولا يأتي أمرًا تؤاخِذ عليه الشرائع، ولئن لم يُنفَّذ ذلك القانون في أيامه تنفيذًا مُرضيًا، واستمر الأقوياء يعبثون بالضعفاء، لئن أقدم مختار بك — أول ناظر للمعارف العمومية المصرية — على قتل غلام له تحت العصا، لأنه أبى أن يفرط له في عرضه، وأقدم سليم باشا — للسبب عينه، أو لسبب يماثله في سماجته وقبحه — على إلقاء أحد مماليكه في النيل، وأقدم محو باشا على قتل أحد أتباعه تحت العصا أيضًا لهفوة ارتكبها، ولم يعاقَب أحد منهم بأكثر من الحكم عليه بدفع دية ضئيلة، فإنه لا يجب أن يغيب عن الأذهان ما في قول مونتسكييه من حقيقة عميقة: «إن الناس ينشئون في الأول النظامات، ثم لا تلبث النظامات أن تنشئ الناس!»
- سابعًا: بأن فتح أذهان المصريين إلى أمرين، لم يكونوا ليفكروا فيهما البتة لولاه: الأول: أن مصر والسودان قطران توأمان، أبوهما النيل، فإما أن يدوما ملتصقين كما ولدا، وإما أن يكونا متحالفين أبدًا، وإلا فللقوي منهما أن يجبر الثاني على إحدى هاتين الخلتين، كما أجبرت ولاياتُ الشمال الأميريكية ولاياتِ الجنوب على البقاء متحدة معها، بحرب الانفصال بين سنة ١٨٦١ وسنة ١٨٦٥. والثاني: أن لمصر قومية شخصية منفصلة تمام الانفصال عن قوميات الشعوب الأخرى القاطنة في الأقاليم المتكونة منها القومية العثمانية في ذلك العصر، وإنما فتح أذهان المصريين إلى هذين الأمرين بالحربين اللتين قام بهما في مجاهل السودان، وفي سوريا والأناضول.
أما حرب السودان، فإن الباشا العظيم صمم عليها؛ أولًا: ليقضي على البقية الباقية من المماليك، وكانوا مقيمين في جهة دنقلا. ثانيًا: ليتخلص مما تبقى من فيالق الجيش غير النظامي التي لم تهلك في حرب الوهابيين، وعادت إلى مصر. ثالثًا: لاعتقاده بوجود مناجم ذهب وماس في السودان، ولا سيما في سنار. رابعًا وأخيرًا: لأن فتح السودان كان من شأنه أن يضع بين يديه أممًا وشعوبًا عديدة وقوية، يستخدمها إما في تعمير الجهات المصرية التي قللت الكوارثُ عددَ السكان فيها، وإما في تكوين صفوف الجيش النظامي المرغوب في إنشائه.
فسيَّر جنوده تحت قيادة إسماعيل باشا ثالث أولاده، فدوخت الأقطارَ الجنوبية تدويخًا، ولم تلاق لصد غزواتها قوة في استطاعتها الثبات أمام مدافعها، فاستولى إسماعيل باشا على السنار، وبلغ إلى فازوغلو، ولما لم يجد فيها ذهبًا ولا ماسًا، ورأى أن أحمد بك الدفتردار — صهره — وافاه بمدد، ترك له جيشه ونزل إلى شندي، وقال للملك نمر مليكها: «إني أريد أن تملأ مركبي هذه ذهبًا، وتقدم لي ألفَي رجل لجيشي في ظرف خمسة أيام!» فطلب نمر مد المهلة، فزجره إسماعيل، وضربه بشبكه، وهدده بالخازوق، إذا تأخر عن القيام بما أمره به، فما كان من الملك النوبي إلا أنه دبر مكيدة لإسماعيل، فأغراه بسكنى بيت في شندي، وكدس حول ذلك البيت أكوامًا من الحطب والقش بحجة الرغبة في إطعام خيل الباشا، ثم أبدى إلى قومه علامة، فوثبوا على حرس إسماعيل وأدخلوهم البيت عنوة، وأشعلوا النار في الوقود المكدس حولها، فحاول إسماعيل ومن معه من رجاله أن يفتحوا لأنفسهم ممرًّا في وسط الأتون المتقد حولهم، ولكن حراب نوبيي الملك نمر ما فتئت تدفعهم في وسط النيران حتى احترقوا وماتوا عن آخرهم.
فلما نمى خبر ذلك إلى الدفتردار أقسم بقتل عشرين ألف شخص؛ ثأرًا لموت نسيبه، وزحف في الحال بجنده إلى شندي، فلم يبق ولم يذر، وزاد عدد من قتل على عدد من أقسم بقتلهم.
ولما تم الفتح واستتب الأمر عيَّن محمد علي ضابطًا كبيرًا يقال له رستم بك مديرًا عامًّا على السودان، وأرسله على رأس جنود نظاميين ليحل محل الدفتردار، واستمر السودان تابعًا لمصر منذ ذلك الحين إلى أن فصلته عنه ثورة محمد أحمد المهدي.
•••
وأما الحرب في سوريا والأناضول، فسببها أن عبد الله باشا — والي عكاء — كان يحبب إلى فلاحي مصر المهاجرة من القطر إلى البلاد الخاضعة لحكمه، ولما آخذه محمد علي على ذلك أجابه أن المصريين رعايا الباب العالي، لا عبيد محمد علي، فلما أعيت هذا المطالبة الودية عزم على تفهيم عبد الله باشا أن المصريين مصريون قبل كل شيء، وأن بلادهم أحق بجهودهم من كل بلد آخر، فأرسل إلى عبد الله باشا كتابًا قال له فيه: «إني سأقدم لأستعيد الثمانية عشر ألف مصري الذين أغريتهم فحملتهم على الذهاب إليك، وسأعود بهم وبواحد فوقهم إلى مصر!» وعنى محمد علي بذلك الواحد عبد الله باشا نفسه.
وفي الحال سير إبراهيم ابنه إلى فلسطين على رأس جيش مؤلف من ٢٤ ألف مقاتل، ومعه ثمانون مدفعًا، وعلى رأس عمارته الزاهرة التي أقلته — هو وأركان حربه — إلى يافا.
فاستولى إبراهيم على جميع مدن الساحل الفلسطيني، وأتى وحاصر عكا، فهب والي حلب إلى إنجادها، على رأس أربعة آلاف مقاتل، فترك إبراهيم باشا معظم جيشه أمام أسوار المدينة المحاصرة، وذهب بزهرة جنوده لمقاتلة ذلك الباشا، وكان قد انضم إليه واليان عثمانيان آخران، فبدد جموعهم في معركة دموية، وعاد إلى تشديد الحصار على عكاء برًّا وبحرًا، وبعد أن قضى أمامها ستة شهور في قتال كاد يكون مستمرًّا، استولى عليها عنوة في ٢٧ مايو سنة ١٨٣٢، وأرسل عبد الله باشا واليها أسيرًا إلى أبيه في الإسكندرية.
فكان ذلك فاتحة الحرب بين مصر والدولة العثمانية.
فسار إبراهيم باشا لمقابلة الجيوش المتقدمة لقتاله، فأرسل فرقة للاستيلاء على طرابلس الشام، وزحف ببقية جيشه إلى دمشق فدخلها فائزًا، وسار منها إلى حمص، حيث كان في انتظاره جيش عثماني مؤلف من خمسة وثلاثين ألف مقاتل.
فدار القتال بينهما، وأسفر عن انهزام العثمانيين، تاركين ألفي قتيل في ساحة الوغى وثلاثة آلاف أسير وعدة مدافع، ولم يخسر المصريون سوى مائتي قتيل ومائتي جريح، فطارد إبراهيم الجيش المهزوم إلى حلب وطرده منها، واستولى عليها، ولكنه لم يستقر فيها إلا برهة ثم قام يتعقب أثر الفارين، وكانوا قد تحصنوا في موقع منيع في بيلان، فوثب إبراهيم بجيشه عليهم وثوبًا برؤوس الحراب، فانهزموا مرة أخرى تاركين ألفي أسير وخمسة وعشرين مدفعًا بين يديه، وما كان من الضباط والعساكر العثمانيين إلا أنهم أخذوا يهجرون راياتهم، وينضمون إلى صفوف الجيش المصري المظفر.
فتقدم إبراهيم، واستولى على أطنه وطرسوس وعلى مضايق جبال الطورس وممراتها، ولكن السلطان محمودًا جهز جيشًا عظيمًا عززه بمدفعية هائلة، وسلم قيادته إلى رشيد باشا — الصدر الأعظم — وسيره إلى قتال المصريين، فقام إبراهيم وزحف إلى قونيه، وما بلغ سهول الأناضول إلا وفَتحت أزمير ومدن أخرى عديدة أبوابها له، فوجد في قونية كمية عظيمة من المدافع والمؤن، تركها العثمانيون الفارون منها، ووافاه إليها الجيش التركي، وعدده ستون ألف مقاتل، يوم ٢٤ ديسمبر سنة ١٨٣٢، واصطف أمامه تاركا فراغًا كبيرًا بين فرسانه وشمال مشاته، فما رأى إبراهيم باشا ترتبه إلا واندفع بسرعة في ذلك الفراغ، فقلب كردوس الفرسان، وأسرَ الصدر الأعظم، وألقى الخبل في صفوف المشاة، فتوقفت عن المقاومة، وانسحبت من ميدان القتال بمنتهى الصعوبة؛ فباتت طريق الأستانة مفتوحة أمام المصريين الفائزين، ولو سار إبراهيم إليها من غد لتغيرت مجاري التاريخ!
ولكنه لم يسِر إلا بعد شهر، وكان السلطان قد استنجد للدفاع عنه قوة روسية وعقد مع نقولا الأول — القيصر الروسي — معاهدة أنكيار سكيلاسي، فاضطربت أوربا لذلك وتداخلت في الأمر، وأجبرت المتحاربين على عقد معاهدة قوتاهيه.
فآلت سوريا بمقتضاها إلى محمد علي، ومقاطعة أضنا فوقها.
ولكن السلطان محمودًا لم يكن ليستطيع صبرًا على هذا الذل، فما فتئ يدس الدسائس في سوريا فيثير شعبها على الجيش المصري والإدارة المصرية، ولم يفتر لحظة عن إعادة النظام إلى جيشه وتعزيزه؛ حتى إذا أحس بأنه أصبح كفؤًا للقتال، حشد منه ٢٣ ألف راجل و١٤ ألف فارس، وعززهم بمائة وأربعين مدفعًا، وسيرهم إلى آسيا الصغرى، تحت قيادة حافظ باشا الساري عسكر.
فنهض إبراهيم في الحال، وتقدم لقتالهم على رأس ٤٣ ألف مصري، وتقابل الجيشان في نزيب.
فلما كان صباح يوم ٢٤ يونيو سنة ١٨٣٩، علم الساري عسكر العثماني أن عدة آليات سورية تستعد للتخلي عن الجيش المصري والانضمام إلى الأتراك، فعزم على تسهيل الأمر لها بمهاجمة المعسكر المصري بغتة، وأخذ يطلق قنابله عليه، فأجاب إبراهيم بالمثل، وأصبح القتال عامًّا، وانجلى — هذه المرة أيضًا — عن فوز المصريين، بالرغم من وجود فون مولتكي الألماني مع أركان حرب الجيش العثماني، يدبر آراءَهم ويرشدها، وفون مولتكي — كما لا يخفى — هو الذي قهر فرنسا في الحرب السبعينية، ذلك القهر الفظيع المشهور، فترك حافظ باشا في ساحة الوغى أربعة آلاف قتيل وألفي جريح وأربعة آلاف خيمة وألفًا وخمسمائة أسير.
ومن غرائب هذه الواقعة أن الذخيرة في أشد اشتداد المعمعة أعوزت المدفعية المصرية، فأرادت الآليات السورية المخامرة اغتنامها فرصة لتمر بما معها من أسلحة إلى صفوف العثمانيين، ولكن إبراهيم باشا وهيئة أركان حربه بأجمعها اندفعوا إلى مقدمة الصفوف المقاتلة شاهرين سيوفهم وعيونهم تقدح نارًا، وهددوا بالقتل كل من يتزحزح من مكانه، فخاف المخامرون ولم يتحركوا.
ولحظ فون مولتكي توقف المدفعية المصرية عن الضرب، فأشار على حافظ باشا بأن يحمل في الحال حملة عنيفة برؤوس الحراب على الجيش المصري الذي أقلقه ذلك التوقف، ولو عمل حافظ باشا بالنصيحة، ربما أمال النصر إلى جانبه، ولكنه لم يفعل، وما لبثت الذخيرة أن أتت المدفعية المصرية، فعادت إلى إطلاق النيران أشد مما كانت، وما لم يعمله حافظ باشا عمله إبراهيم؛ فإنه حالما وقع نظره على أول اضطراب أحدثته مدفعيته في صفوف الأتراك وثب عليهم بجيشه الباسل شاهرًا حرابه، فبددهم شذر مذر.
ولما بلغ نبأُ هذه الكسرة السلطانَ محمودًا قال: «إذا كان محمد علي الرجل الحاذق الذي أنا أعرفه، فإنه سيقدم إلى دار السعادة ويقبل يدي، فأعيِّنه صدرًا أعظم، وأعين إبراهيم ابنه ساري عسكر السلطنة؛ فينهضان بها كما نهضا بمصر!»
فنقل كلامه هذا إلى الصدارة العظمى — وكان القائم على مهامها خسرو باشا، عدو محمد علي اللدود القديم والسبب الأصلي في هذه الحروب التي دارت رحاها بين مصر والدولة العلية — فلم تمض ستة أيام إلا والسلطان محمود في عداد الأموات، وكان أحمد فوزي باشا — أمير العمارة العثمانية — يرى رأي السلطان محمود، ويعتبر أن محمد علي وحده قادر على إنقاذ الدولة من الخراب المحيط بها، فسار بعمارته وسلمها إليه، يوم ١٤ يوليو سنة ١٨٣٩.
ولكن إنجلترا أيضًا — لسوء الحظ — رأت رأيه، فأبت أن تقوم على ضفاف النيل دولة مصرية قوية تجعل طريقها إلى الهند غير أمين، فألَّبت على محمد علي روسيا وپروسيا والنمسا، وأبرمت معها معاهدة لندن سنة ١٨٤٠ التي اتفقت تلك الدول فيها على وقف محمد علي عند حده، وعلى عدم السماح له بأن يكون إلا تابعًا لسلطان تركيا، أما فرنسا فإنها لم تشترك في تلك المعاهدة، وعضدت الباشا العظيم جهارًا.
وبعد عقد تلك المحالفة تقدمت الدول المتحالفة إلى محمد علي بأن يتخلى عن الأناضول وسوريا، ويكتفي بولايتي عكاء ومصر، فرفض.
فاشتغلت النقود في الخفاء، وبثت الدسائس، فثار دروز لبنان على إبراهيم، واستولى الإنجليز على صيدا، فعلى بيروت، فعلى عكاء أيضًا، بعد قتال يسير وخيانة جلَّى، وظهر الكومودور نابيير بعد ذلك أمام الإسكندرية وعرض الصلح على محمد علي، فدارت المخابرات بين الدول والباب العالي، وسعت فرنسا لدى الباشا العظيم، فاتفق أخيرًا على أن يَردَّ محمد علي إلى الباب العالي عمارته، ويأمر ابنه بالانسحاب من سوريا.
فعاد الجيش المصري الفائز إلى أوطانه، وأصدر السلطان عبد المجيد — بالاتفاق مع الدول — فرمانَي ١٣ فبراير سنة ١٨٤١، اللذَيْن بقيا دستور الحكومة المصرية، حتى أبطلت مساعي إسماعيل الأول معظم نصوصهما، وأوصلت القطر إلى استقلال تام، لا يقيده سوى قيد الجزية السنوية.
•••
هكذا انتهت حرب سوريا، ولو لم تتداخل السياسة الأوربية المشئومة في مجاري حوادثها، وتركتها وشأنها، لنشأ عنها — على ضفاف النيل من ينابيعه إلى مصبه، وعلى ربوع الشام حتى جبال الأناضول — دولةٌ مصرية عربية، على رأسها الأسرة العلوية المجيدة، ربما استطاعت — مع تمادي الأيام — أن تعيد إلى الشرق عِزَّه وسؤدده، ربما أثار شأنها روح الغيرة في صدر الدولة التركية، فجعلها تقوم فتعمل، منذ ذلك الحين ما أقدمت عليه وأتمته في أيامنا هذه تحت قيادة بطلها الأكبر مصطفى باشا كمال! وربما حدا مثلهما بفارس وأفغانستان إلى الاقتداء به، فتنظمتا وتقويتا وترقيتا، فاتحدتا مع الدولة المصرية العربية والدولة التركية، فكونتا اتحادًا شرقيًّا عظيمًا، كان يكون له في عالم السياسة قدح معلى، وكانت الأمور لا تجري إلا بإشارة بنانه.
ولكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن.