وصف محمد علي وتقدير عمله
أما وقد ألقينا نظرة سريعة على أهم حوادث تاريخ محمد علي، فإنه لم يبق علينا إلا أن نعرّف الرجل وصفًا وأخلاقًا — ولو أن الحوادث التي رويناها ومواقفه فيها أظهرت كثيرًا من صفاته وأخلاقه؛ لأن خير ما يصف الرجل التاريخي مواقفه في حوادث تاريخه — وأن نزن في ميزان الإنصاف عمله، ونرى إلى أي النتائج أدى.
•••
كان محمد علي ربعة القامة، واسع الجبين، بارزه، مقوس الحاجبين جدًّا، ذا عينين سوداوين، غائصتين في دائرتيهما، وأنف ضخم يغلب عليه الاحمرار، وفم صغير باسم، وكان يتجلى على ملامحه مزيج موزون من الذكاء الدقيق والبشاشة المحببة، على أن تلك الملامح كانت تتشكل بسرعة، بشكل انفعالات قلبه، وكانت لحيته الجميلة البيضاء — واعتناؤه بها كان كبيرًا — تحيط وجهه بهالة من نور.
وأما يده فكانت آية في حسن صنعها، وكان قوي البنية سليمها، أنيق الحركة، ثابت المشية موزونها، كأن عليها مسحة من الدقة العسكرية، على أن جسمه كان إذا مشى يترجرج قليلًا، مع تمام انتشار قَدِّه، وكثيرًا ما كان محمد علي يجمع يديه خلف ظهره، ويخطر — وهو كذلك — ذهابًا وإيابًا في حجر سراياته.
ولم يكن يحب البذخ في الملابس، بل كان يبالغ في بساطتها إلى درجة أن كثيرين ممن لم يكونوا يعرفونه شخصيًّا، كانوا يظنون أنه أحد الأتباع، لا الباشا العظيم نفسه، وكان الوقار والجلال يكسوان جميع حركاته وسكناته؛ فما كنت تستطيع وأنت في حضرته أن لا تؤخذ بمهابته، وتقول في نفسك «هذا ملك، حقيقة!» مع أنه لم يكن يحتاط البتة بخدم وحشم وحرس مسلح، ولم يكن يقيم على بابه إلا حاجب واحد، وإذا ما دخلت عليه في ديوانه — حيث كان يقيم أكثر أوقاته — وجدته أعزل من السلاح، يتداول في يده علبة نشوق ثمينة أو سبحة نفيسة، وكان كبير الغرام بلعب البليردو، والشطرنج والضامة، لا يستنكف أن يلعبها مع أي ضابط كان من ضباطه، ولو من أصاغرهم، بل مع نفس عساكره.
على أن قناصل الدول وأكابر القادمين في سياحة إلى القطر هم الذين كان يلعب البليردو معهم عادة، غير أنه بالرغم من قلة اعتنائه بمظاهر العظمة كان كبير التدقيق في أن لا تتعدى في حضرته حدود اللياقة والآداب الشرقية.
حكى المستر باركر في كتابه المعنوَن «مصر وسوريا في عهد سلاطين تركيا الخمسة الأخيرين» أنه — وهو قنصل لدولة بريطانيا العظمى في الإسكندرية — قدم لمحمد علي الأميرال سير بلتني مالكولم فقابله محمد علي وكل وجهه بشاشة وابتسام لا سيما أنه كان في ذلك الوقت كبير الاهتمام بعمارته البحرية ويرغب أن يكلم في شئونها ذلك الأميرال الإنجليزي، وحدث أنه أثناء المحادثة أبدى ملحوظة جعلت الأميرال يضحك بقهقهة طويلة فأنكر محمد علي ذلك عليه ونظر إليه نظرة المستغرب الاستغراب كله، فإنه لم يجسر أحد، إلى ذلك الحين، أن يضحك في حضرته ضحكًا عاليًا كضحك ذلك الأميرال، على أن هذا لم ينتبه إلى أن عمله كان مغايرًا للآداب المطلوبة في حضرة الأمراء والملوك، إما لخفة في عقله وإما لاستهتار منه بأمير شرقي، فأغرق في الضحك عينه مرة ثانية، فمرة ثالثة، فأدرك محمد علي أن ذلك عادة عند الرجل ولكنه غضب منها، ولم تنته مقابلته للأميرال بالبشاشة التي بدأها بها.
وحدث بعد ذلك بعدة أيام أن إنجليزيًّا آخر موصى عليه من المراجع العليا طلب مقابلة محمد علي وقابله بواسطة المستر باركر عينه ولكنه أبى أن يمتثل للتعليمات التي أسداها له القنصل بشأن كيفية سلوكه في حضرة الأمير، لظنه أنه أدرى بآداب السلوك من المستر باركر، فدخل على محمد علي مرتديًا جاكتة بيضاء وبطربوش على رأسه، ولما جلس بين يديه انتزع الطربوش من على رأسه، فبدا رأسه أصلع تمام الصلع أمام عيني الأمير.
فاستنكر المستر باركر عمله وما فتئ يومئ إليه بلبس الطربوش لعلمه أن العادات الشرقية تحتم تغطية الرأس في حضرة الكبراء، ولكن صاحبنا لم يلتفت إلى إشارات القنصل واستمر على ما هو عليه وزاد اعتقاده في أنه أدرى بالآداب الشرقية من القنصل.
فلما انتهت المقابلة، وعاد المستر باركر إلى منزله، أتاه ترجمان محمد علي موفدًا إليه من الأمير ليبلغه عدم رغبة سموه في أن يقابل في المستقبل إنجليزيًّا ولينهاه عن طلب مقابلات لهم.
وكان سخيَّ اليد سخاء حاتميًّا يكاد يداني الإسراف، كما أنه كان شديد التأثر سريعه بالمؤثرات المباغتة، لا يستطيع إلا بصعوبة إخفاء ما تحدثه في نفسه، وكان — كالإسكندر الكبير، مواطنه، وعلى الأخص كقيصر الروماني — شديد الميل إلى النساء، كبير الشغف بهنّ، مع كثرة احترامه لزوجته الأولى التي سعد بطالعها السعيد، ولكن شغفه بالمجد كان أكبر، فكثيرًا ما كان يفكر في الرواء المحيط باسمه، ويتكلم بفخار وحماسة عن حوادث حياته العجيبة، ولشغفه بالمجد كان كبير التأثر بما تقوله الصحافة الغربية عنه، فيأمر بترجمة معظم الجرائد، ومتى وجد في إحداها طعنًا عليه تألم منه ألمًا شديدًا، وكان يعتقد أن مطاعن الصحافة أضرت به كثيرًا، وحملت الدول على معاكسته في نزوعه إلى الاستقلال، لا سيما مطاعن جريدة كانت تنشر في أزمير، فتذيع في أوربا أشنع المثالب ضده، وترمي حكومته بأفظع التهم، حتى لقد قال مرة لأحد أخصائه: «ليتني اشتريت بمليون ريال عدم ظهور تلك الجريدة إلى الوجود! فقد كان في استطاعتي؛ لأن صاحبها عرض عليَّ خدمته دهرًا، فرفضتها!»
وكان، لكثرة ما اعترض حياته من الحوادث الجلَّى؛ قليل النوم، مضطربه في الغالب، ولذا فإن عبدين كانا يسهران دائمًا بجانب سريره، ليهذبا الأغطية التي كان لا ينفك يعبث بها في نومه، ولكنه — بالرغم من نومه القليل — كان كبير العمل وكثيره، فيستيقظ الساعة الرابعة صباحًا، ولا يفتأ النهار كله مجدًّا يشتغل في شتى الأعمال، وكان يحسن الحساب، ولو أنه لم يتعلم فنه، ولأنه كان أميًّا أقبل يتعلم القراءة على يد إحدى جواريه، وهو في الخامسة والأربعين من سنه، وذلك بالرغم من انشغال فكره بالشئون العامة العديدة والتي كان الكثير منها كبير الخطورة.
وكان — مع أخصائه — قليل التحرس، مفتوحًا، محبًّا للوقوف على ما لا يفهم، وكثيرًا ما كانت استفهاماته تنم على جهله وسذاجته، ولكنها كانت تنم أيضًا على ذكاءٍ مفرط، وإدراك بعيد الغور، وأما إجاباته في المحادثات فكثيرًا ما كانت تناسب بكيفية بديعة مع المقام والمجال، يحكى من هذا القبيل أن أحد القناصل أطنب ذات يوم في حضرته إطنابًا فائقًا بتصوير لهوراس فرنيه — المصور الفرنساوي الشهير — رسم فيه مجزرة المماليك، وأعجبت باريس به أيما إعجاب، فقال له محمد علي: «إن للمصور في مجزرة مماليك بوناپرت التي قام بها شعب مرسيليا لَمادة لتصوير آخر يضعه إزاء التصوير الذي تذكره!» ويحكى أيضًا أن بعضهم آخذه يومًا على تعاريج ترعة المحمودية ومنحنياتها — وسببها أن المهندسين الذين اشتغلوا فيها تحت رياسة المهندس المعماري كست كانوا من الجهلاء، وأنها عملت بدون تصميم سابق، وبدون تجهيز تمهيدي، وأن الفَعَلة استُدعوا وشغلوا في حفرها تحت مراقبة مشايخ بلادهم وزعمائهم، قبل إخطار المهندسين بحضورهم، فلم يتمكن هؤلاء من تعيين جهات العمل لكل فرقة وطائفة من القادمين، واضطروا إلى جعل كل يشتغل حيثما يشاء، على أن يكون الحفر في الاتجاه الموضوع، ثم لما احتاجوا إلى وصل الحفر بعضه ببعض، اضطروا إلى عمل زوايا ومنحنيات بأحسن ما في الاستطاعة — فسأل محمد علي المعترض، قائلًا: «هل الأنهار في بلادك ذات سير مستقيم ولا تعاريج فيها؟» أجاب: «كلا.» فقال محمد علي: «ومن صنعها؟» أجاب: «الله!» فقال: «وهل تريد أن يكون صنع الإنسان خيرًا من صنع الله؟»
وكان بطبعه ميالًا إلى الأثرة والعنف، ولكنه كان يدري كيف يشكم ميوله، ويسير بمنتهى الفطنة والمهارة فيما يرسمه لنفسه من الشئون، وبالرغم من ميله إلى الغضب بسرعة، كان ما جبل عليه من طيبة طبيعية يحول دون إقدامه على الإساءة، وكثيرًا ما أفرط في التهاون عن المعاقبة إلى حد عدم المبالاة بها بتاتًا، وكثيرًا ما تساهل في الصفح عن طيبة خاطر، بل كثيرًا ما نسي سيئات خطيرة ارتكبت ضده، على أن زمام هواه كان يفلت أحيانًا من يده، فيندفع مع تيار انفعاله اندفاع الرجل المستبد بلا تعقل.
مثال ذلك: أنه أتته مرة ضمن مجموعة نباتات استوردها من أورپا داليا غرسها بستانيُّه في الأرض في محل تتناوله الشمس من كل جهة، بعيدًا عن الكشك الذي كان محمد علي يحب أن يجلس فيه، فأزهرت وتألقت بدون أن يلتفت الباشا إليها، ولكنه اتفق أن زائرًا أجنبيًّا بالغ يومًا ما في وصف جمالها، فلفت إليها نظر محمد علي فأعجب بها، وأمر في الحال بوضعها في صندوق ونقلها تحت الجميزة التي كانت تظلل كشكه، فاعترض البستاني وقال: «إن مثل هذا العمل قد يقتل الزهرة!» فقطب محمد علي حاجبيه وأقسم بأنه يدفن حيًّا من يدعها تموت! فامتثل البستاني للأمر، ولكن الداليا من غد أخذت في الذبول ومالت على ساقها، فما كان من محمد علي إلا أنه — لظنه بأن البستاني تعمد قتلها — أمر به فطرح أرضًا وضرب بالسياط، بالرغم من احتجاجه! ولكنه ما انفك يقول إنه ليس في الاستطاعة حمل الزهور على الطاعة كبني الإنسان، وليس من الحكمة التحكم فيها كالتحكم فيهم، حتى آب محمد علي إلى صوابه، وأوقف الضرب، وما لبث أن بعث بهدية فاخرة للبستاني بمثابة تعويض له عما لحقه من الضرب.
ويحكى أيضًا أنه أوصى بستانييه يومًا بالاعتناء ببضع أشجار برقوق أتته من أورپا، فأطاعوا وأثمرت إحداها ولكن ثمرًا قليلًا، وكان محمد علي قد تتبع حركة نموها وطرحها، وخطر له يومًا أن يذوق من ذلك الثمر وهو فج، فاستطعمه جدًّا، وأمر ناظر بستانييه بالاعتناء بالثمرات الخمس أو الست الباقية الاعتناء كله، فأحاط الناظر الشجرة بشبكة من الخيط ليحفظ الثمر من العصافير، وعهد أمر الاعتناء بها إلى بستاني خاص، ولكنه حدث أن عاصفة مرت بالشجرة، فأوقعت البرقوقات كلها إلا واحدة، على أن هذه الواحدة بلغت من الرواء والحجم والنضوج ما لم يعهد له مثيل، ولكن محمد علي لم يعد يسأل عنها، فتداول الناظر مع مرءوسيه، وأجمع رأيهم على أن وقت قطف البرقوقة قد حان؛ فإن لم تقطف وقعت أو فسدت، فقطفوها ولفوها في قطن، ووضعوها في علبة وأرسلوها مختومة على يد ساع خاص إلى سمو الأمير، وكان الزمان رمضان، ومحمد علي — لتوعك في مزاجه — يتناول طعام الإفطار في دور الحريم، فقَدَّم له البرقوقة — ضمن فواكه أخرى — خَصِيٌّ لم يكن أعلمه أحد بعظم أهميتها لدى مولاه، فأكلها محمد علي بدون انتباه، وبدون التفات إلى أنها الفاكهة التي أوصى بالمبالغة في الاعتناء بها.
بعد بضعة أيام ذهب إلى بستانه، وتوجه توًّا ليرى ماذا جرى ببرقوقه، فلم يجد على الشجرة من ثمرة، فاعترته هزة غضب شديدة، لم تدعه يتأنى ليستفهم، فأمر بناظر البساتين فألقي أرضًا تحت الشجرة، وانهال عليه الضرب، ولكنه ما عتم بصراخه أن جعل مولاه يصغي إليه، فقص عليه الواقع، فأرسل محمد علي يستقدم الخصي، وأول ما وقعت عينه عليه من بعيد، سأله: «أصحيح أني أكلت برقوقة؟!» فأجاب الخصي: «نعم يا مولاي، منذ بضعة أيام في طعام الإفطار!» فصرخ محمد علي: «ولم تقل لي شيئًا يا شقي؟!» وبدت منه إشارة، ما لمحها الخصي إلا وركض ووثب على جواد الباشا — وكان هناك مسرجًا على مقربة منه — وذهب يعدو به الغيطان، قبل أن يفكر أحد في القبض عليه، ثم أقام أيامًا مختبئًا لا يجسر على الرجوع إلى السراي، ولكن محمد علي عاد فصفح عنه.
وكان محمد علي مسلمًا مخلصًا في دينه، يقوم بأداء فرائضه بكل نشاط، ولكنه لم يكن بالمغرق في عبادته، ولا بما يدعوه الغربيون «متعصبًا» بل كان واسع الصدر جدًّا لجميع الأديان، وأظهر من الشجاعة الأدبية في ذلك ما كان عجيبًا في عصره ووسطه.
ولهذا السبب عينِه كان بعيدًا عن الاعتقاد بالخرافات والخزعبلات، فيحكى — للدلالة على ذلك — أن امرأة في دمنهور قامت وادعت أن عليها شيخًا من الجن إذا ما حضر أتى من المعجزات ما تحار له العقول، وساعدها على إثبات إفكها أنه كان في استطاعتها التكلم من بطنها، فيخرج الصوت منها كأنه آت من أعماق ما وراء المادة، فلما رأت نجاح أمرها في بلدها سولت لها نفسها الذهاب إلى مصر، على أمل أن يكون نجاحها هناك أكبر، وكانت العاصمة إذ ذاك غاصة بالجنود المحتشدين فيها للسير إلى مقاتلة الإنجليز، فراج إفك المرأة بينهم واعتقدوا فيها الولاية، وبات لها نفوذ عظيم على عقولهم الساذجة السمجة، ولما كانت عقلية ضباطهم لا تَفْضُل عقليتهم في شيء، شاركهم الضباط في اعتقادهم، وأصبح لا يجسر أحد على الشك في حقيقة الشيخ الساكن في تلك المرأة، لا سيما وأن الكثيرين من المصدقين فيها سمعوا صوته في ظلام الليل، وأن بعضهم تشرف بلثم يده …
وما زال أمر هذه المرأة يكبر ويعظم حتى نمى إلى محمد علي، فجعله يوجس خيفة من أن يَستغل طماعٌ مركزها، فيحدث فتنة قد تكون خطرة على سلطته في تلك الآونة الكبيرة الحرج، فصمم على رؤية الشيخة — كما كانوا يسمونها — وبعث بأربعة من المشعوذين إليها لإحضارها معهم واعدًا كلًّا منهم بعشرة أكياس إذا هم أحضروها، فوافوها وهي في دار الباش أغا — رئيس خفر الليل — وقد التف حولها جم غفير، وأرادوا أخذها إلى الوالي، فمانعهم الحضور، ومنعوهم من إتمام مأموريتهم، لئلا تنهار الدار على من فيها، فعاد المشعوذون من حيث أتوا، والخزي يحيط بهم، وتبجح المعتقدون فيها بأن شيخها حماها وفاز على الوالي نفسه.
فكبر شأن المرأة، وأصبحت لا تمر في شوارع العاصمة إلا وهي راكبة جوادًا ومحاطة بجمهور من الأتباع يتغنون بمدائحها.
فعزم محمد علي على التخلص منها، وأصدر أمره إلى رئيس الشرطة بإحضارها إليه، فجاءَه الرئيس بها قبيل الغروب يتبعها جمهور لا يحصى عدده من الناس، أتوا ليشاهدوا ما يكون من أمرها مع الأمير.
وكان محمد علي جالسًا في ظل جميزة يدخن شيشته، فما بصر بالشيخة، قال لها إنه بعد إذنها يريد أن يتكلم مع الشيخ الذي عليها، فأجابت بأن هذا غير مستطاع إلا في الليل؛ لأن الشيخ ذهب في ذلك الوقت لأداء صلاة المغرب في مسجد سيدنا الحسين، فسألها الباشا: «أو يغيب حتى يحضر؟» قالت: «كلا! سيكون هنا بعد صلاة العشاء.» فصعد الباشا إلى دار حريمه ليتعشى، وبقيت الشيخة مع بعض المفضلين في قاعة بأسفل الدار.
فلما جن الليل نزل محمد علي وسأل: «هل حضر السيد؟» قالت: «نعم.» فأمر — بناءً على طلبها — بإطفاء الأنوار، ولكنه أوصى سرًّا خدمه بإحضار غيرها، حالما يبدي لهم إشارة بذلك، ثم جلس وقال للشيخة: «استدعي أستاذكِ!» فنادته قائلة: «يا شيخ علي!» وإذا بصوت كأنه خارج من أعماق الأرض أجاب النداء، وأخذ يزيد جلاءً ووضوحًا كلما زادت عليه الأسئلة، وظهر حينًا للحضور كأنه يكلم كلًّا منهم في أذنه، فسرت في الجميع قُشَعْريرة، وأعلن محمد علي أنه آمن بولاية الشيخة، ثم طلب أن يشرفه السيد بإعطائه يده ليقبلها، فمُدت إليه أطراف أنامل فقط، فما اكتفى محمد علي بها، وألح بإعطائه اليد كلها، فقدمت له، فقبض عليها بقوة، وأبدى الإشارة المتفق عليها، فانتشرت الأنوار فجأة في القاعة، وإذا بالشيخة تجتهد وسعها لتمليص يدها من قبضة محمد علي، فلما رأت أن أمرها افتضح خرت عند قدمي الأمير، وطلبت العفو منه، ولو كان الحاضرون من ذوي الأفهام المفتوحة لأدركوا في الحال إفك المرأة وانفضوا من حولها، ولكنهم كانوا على جانب عظيم من الغباوة، فاعتقدوا أن محمد علي انتهك حرمة الشيخ، وطفقوا يتململون ويتذمرون، فصرخ بهم محمد علي: «أيها المجانين الجهلاء، أفيخدعكم مثل هذا الكذب الظاهر؟!» ثم التفت إلى حرسه، وأمرهم بإلقاء الشيخة في النيل، فما سمع الحاضرون هذا الأمر إلا وضجوا وهاجوا، وماج لهياجهم الجمع المحتشد بالباب، وكادت تقوم فتنة، ولكن الباشا قال بثبات جأش عجيب: «ممَّ تضجون ولمَ تصخبون؟ فإما أن هذه المرأة عليها شيخ حقيقة، وهو لن يتخلى عنها، بل ينقذها من الغرق، وإما لا شيخ عليها، وتكون قد خدعتكم، فلا يصيبها إلا ما هي به جديرة!» فأمن القوم على كلامه، وألقيت المرأة الشقية في اليم! ومكث جمهور عظيم من أتباعها ينتظرون دهرًا رجوعها وظهورها، على جناحي الشيخ علي القديرين، ولولا تعنت الجهلاء المؤمنين بها لاكتفى محمد علي بإظهار كذبها ولما رماها في النيل.
واتفق في سنة ١٨٢٥ أن النيل شح وأخذت مياهه في الهبوط منذ شهر أغسطس، فأمر محمد علي بإقامة صلاة الاستسقاء، ودعا إليها أحبار جميع الأديان والمذاهب، قائلًا: «إنها تكون مصيبة كبرى إن لم يوجد بين جميع هذه الأديان دين واحد جيد!»
وكان أبًا محبًّا لأولاده، كبير الشفقة والتعلق بهم، فمن أحسن ما يروى عنه للدلالة على ذلك الحادثة الآتية: تمكن الوهابيون يومًا من حصر ابنه طوسن باشا في الطائف، وكان محمد علي في مكة، ليس لديه من الجنود إلا القليل، فأشار عليه أخصاؤه وقواده بالمسير إلى جدة، ليكون على مقربة من مراكبه، فيستطيع الرجوع إلى مصر إذا ما اضطرته الظروف إلى ذلك، أي إنهم أشاروا عليه بترك ابنه وشأنه، فأجابهم محمد علي: «كلا، إني لا أريد الابتعاد، بل إني قائم لإنقاذ ولدي!» وارتحل برفقة أربعين مملوكًا فقط، ووصل إلى قرب الطائف، وهو لم يدبر بعد تدبيرًا، فاختار أن يرتاح أولًا، وبعد أن أوصى أحد مماليكه بإيقاظه إذا طرأ طارئ، توسد الأرض ونام، وبينما هو غارق في سبات نوم عميق، أتي بجاسوس وهابي أسر وهو يجوس خلال الجيرة، ولكن المملوك المكلف بحراسة محمد علي اضطرب لما سمع الجلبة، وأسرع فأيقظ مولاه برعبة جعلت فرائص محمد علي ترتعد، لأنه اعتقد أن جيش الوهابيين داهمه، فاعترته لذلك شهقة لم تعد تفارقه، وأخذت تنتابه كلما اشتدت عليه وطأة انفعال ما، ولكنه ما لبث أن هدأ روعه، وأقبل يستجوب الجاسوس بنفسه، فاسترشد بإجاباته، وقال له: «إني على رأس مقدمة جيش محمد علي، فإذا شئت أن تحمل إلى طوسن باشا خبر قدوم والده إليه، فإنه يعطيك مكافأة قدرها مائة ريال.» فقبل العربي الجشع وذهب بالرسالة إلى طوسن ونال منه الجائزة التي وعد بها، ولكنه أسرع بعد ذلك إلى معسكر الوهابيين، وأنبأهم باقتراب محمد علي على رأس جيش زاخر، فنجحت حيلة محمد علي أيما نجاح، وما هي لحظة إلا واقتلع الوهابيون خيامهم وتفرقوا عن الطائف أيدي سبأ.
فأنقذ محمد علي ابنه بهذه الكيفية وأحرز فوزًا باهرًا جزاء مخاطرته المدهشة في سبيل إنقاذه.
وكان صديقًا صدوقًا كثيرًا ما آلمته مصائب رفاقه وأبكاه موتهم، ولم يدع واحدًا منهم إلا وأشركه في تدرجه نحو المعالي، ورقاه معه إليها، ثم أغدق عليه العطايا والنعم.
وكان بارًّا بمواطنيه المكدونيين، يقابل أيًّا كان منهم ببشاشة وعطف، بارًّا ببلاده وبمسقط رأسه؛ ما فتئ طول حياته يدفع عن أهل قوَله الضرائب المفروضة عليهم، وما فتئ محافظًا على المنزل الذي ولدته فيه أمه.
وكان كبير الإعجاب بالإسكندر الأكبر والبطالسة، كأن مواطنته لهم أوجدت بينهم وبينه أواصر قرابة؛ فيومًا إذ سمع بعضهم يذكر للإسكندر عملًا مجيدًا آخذًا بمجامع القلوب، ومثيرًا للإعجاب، هتف بخيلاء: «وأنا أيضًا من فيليبي!» وكان لا يميل إلى سماع شيءٍ ميله إلى سماع تاريخ المكدوني العظيم وتاريخ ناپوليون، كأنه يشعر بأن التاريخ سيضعه يومًا ما بجانبهما في إعجاب البشر.
وكان شديد الحب لأرض مصر هائمًا بها، حتى إنه قال يومًا لزائر من الغربيين: «إني أحب مصر حب المغرم الولهان بمالكة فؤاده، ولو كان لي عشرة آلاف عمر لأعطيتها كلها في سبيل الحصول عليها.»
لذلك كان كبير الحرص على هذه الأرض العزيزة، متيقظًا تيقظًا غريبًا لسد كل باب قد ينشأ عنه تداخل أية دولة أوربية كانت في شئون البلد الداخلية.
فرفض لذلك الموافقةَ على مشروع إنشاء ترعة السويس كما رسمه طالابو — أحد السانسيمونيين الذين سبقوا دي لسبس إلى درس مسألة الوصل بين البحرين — لأن ذلك المشروع كان يقضي بأن تنشأ الترعة من الإسكندرية إلى مصر، ومن مصر إلى السويس فتجتاز مراكب الدول داخلية البلاد، رافعة علم دولها فيحدث من الطوارئ ما يبرر تداخل إحدى تلك الدول في الشئون المصرية!
وقد روى لي ثقة أن الملكة فكتوريا أرسلت إلى محمد علي كتابًا مخطوطًا بيدها تطلب منه فيه بيع قطعة أرض في السويس لشركة البنينسيولر أند أورينتل، ليبني عليها مهندسون ترسلهم من قبلها فندقًا ينزل فيه القادمون من الهند والذاهبون إليها، عن طريق السويس، وأن قنصل بريطانيا العظمى سلم ذلك الكتاب إلى محمد علي يدًا بيد.
فقبله محمد علي ووضعه على رأسه إجلالًا للملكة وتعظيمًا للمرأة الكريمة، ولكنه قال للقنصل: «إن أرض مصر ليست ملكًا لي، بل هي ملك الأمة، وما أنا عليها إلا أمين، فلا أستطيع إعطاء شيء منها لغريب، ولكن رضا الملكة يهمني جدًّا، وعليه فإني أرجوها أن تتفضل وتأمر الشركة بأن تبعث إليَّ بتصميم الفندق الذي تبغي إقامته في السويس وأنا أكفيها مئونة إرسال المهندسين وأبنيه بمهندسين من عندي، ثم أؤجره لها!»
وهكذا كان، فإن محمد علي شيد ذلك الفندق على نفقته، وأجره لتلك الشركة بإيجار موافق استمرت الحكومة المصرية تقبضه حتى عهد قريب.
•••
ذلك كان الرجل، وقد رأينا ما كان عمله، بعد أن استتب له الملك، فهل قصد منه سعادة مصر ومجدها، أم ابتغى مجرد الشهرة، وما سعى إلا وراء جني منافع شخصية؟ لقد اختلف المؤرخون في ذلك؛ فمنهم من قدح، ومنهم من مدح، وكلٌّ برَّر قدحه أو مدحه بوقائع محددة اتخذها حججًا وبراهين.
على أنه مهما يكن من ذلك، فما من أحد يقدر أن ينكر أن محمد علي بلغ ما بلغ من الرفعة والشهرة والمقام المحمود بفضل قوة إدراك عظيمة وثبات نادر، وروح سلوك وَزَنَتْ كل حركاته وسكناته وزنًا عاقلًا حكيمًا، وحسن ملمس دقيق دقة متناهية، وعزم دُونَ فَلِّهِ خَرْطُ القَتَادِ، وحزم متفنن قضى على كل حزم سواه.
ولا يسع المؤرخ المنصف — مع التسليم بأن الله وحده المطلع على النيات — إلا الاعتراف بأن أعمال محمد علي، إن أفادته قبل الجميع وفوق الجميع؛ فقد أفادت البلاد فائدة لا يمكن أن نجد لها مثيلًا إلا إذا صعدنا مجاري التاريخ وعدنا إلى أيام الفراعنة الكبار.
ولئن اكتنفها مظالم ومغارم كثيرة، ودخل في القاعدة التي أقيمت عليها مزيج كبير من الأثرة والاستبداد — كاحتكار محمد علي الاستغلال الزراعي والاتِّجار بمحصولات البلاد — فإنما كان ذلك لأنها أعمال إنسان، ولا يمكن ألا يمتزج الشر بالخير في أي عمل يعمله البشر، والشر ممتزج بالخير امتزاجًا كبيرًا في طبيعة الوجود ذاتها.
على أن الشر الفردي المرافق للخير والممزوج معه لا يلبث أن يتلاشى ويزول، وأما الخير فيبقى إلى الأبد، وهذا هو الذي يحبب إلى الإنسان الحياة.
فإذا طبقنا هذا المبدأ على أعمال محمد علي نجد أنه لو لم يستأثر بالأطيان لما خدد الأرض المصرية ترعًا وجداول، ولما أدخل إلى الزراعة المصرية شتى النباتات الجديدة، لا سيما القطن والزيتون؛ فاستئثاره بالأطيان زال، وأما الترع والجداول والنباتات الجديدة فباقية.
ولو لم يستأثر بالمحصول والاتجار لاستمر القطر منفصلًا عن العالم إلا قليلًا، كما كان في عهد المماليك، وما انتشرت فيه حركة المدنية الحالية، التي كيفته فجعلته في مدة وجيزة من الرقي والتقدم، بما لم يتيسر مثلهما للأقطار المجاورة له شرقًا وغربًا، أما الاستئثار بالمحصول والاتجار فقد زال، وأما حركة المدنية فباقية، ورقي القطر وتقدمه نبني اليوم عليهما تأكيدنا بأنا بلغنا النضوج، ونحتج بهما للمطالبة بالاستقلال.
ولو لم يجمع المال بكل وسيلة؛ فأرهق أجدادنا إرهاقًا عظيما في جمعه، لما تمكن من إبراز أي إنشاء كان إلى الوجود من المنشآت العجيبة التي ذكرناها، والتي غيرت وجه القطر تغييرًا تامًّا، فأما الإرهاق فزال، وأما المنشآت فباقية.
ورب معترض يقول هنا: «أجل، ولكن هذه المنشآت عينها أو غالبها ما أقامها على قواعدها إلا الإرهاق.» فأجيب: نعم، نعم، ولكنه لم يكن عنه بد، وإني أكرر أن الإرهاق مضى، وأما هي فباقية.
خذوا مثالًا ترعة المحمودية؛ فإن الرواة الطاعنين على محمد علي يزعمون أن في تراب جسريها مدفونة عظام أكثر من عشرين ألفًا من الفلاحين الذين اشتغلوا في حفرها.
قد يكون ذلك، وإنَّ قلبَنا لَيذوب حسرة على نكد طالع أولئك البؤساء، ولكنهم زالوا، وزال معهم بؤسهم، وأما المحمودية فباقية، وليس بين ألوف الألوف، الذين يستفيدون منها — إما للارتواء، وإما للري — من لا يذكر بخير محمد علي منشئها ويبارك اسمه!
هكذا لو لم يستعمل العسف والاستبداد في التجنيد والتعليم، لما وجد لمصر جيش ولا عمارة بَحْرية، ولا وجدت فيها حركة معارف وعلوم وفنون، فإذا اعترض معترض وقال: «ولكنه لم يبق شيء من الجيش والعمارة، وزالت في أيام محمد علي عينها معظم معاهد العلم والصناعة التي أنشأها.» قلت: نعم، هذا صحيح، ولكن الفائدة الأدبية التي اكتسبتها مصر من ذلك جميعه لم تزل، بل استمرت ثمرتها يانعة؛ فلولا الجيش والعمارة لما قامت بين عنصرينا قوائم الوحدة التي تم بناؤها اليوم، والتي نفاخر بها أيما مفاخرة، ولولا الفتوحات لما تغيرت النفسية، ولاستمرت القلوب مستكينة إلى الذل، ولولا معاهد العلم والصناعة لاستمرت روح اقتباسها نائمة فينا، ولما نالت مصر شبه استقلالها.
ومهما دُفع في الاستقلال من ثمن، لا يعتبر غاليًا.
لذلك جميعه نرانا ميالين إلى فريق المعجبين بمحمد علي، ميالين إلى تقليب صفحات حياته الساطعة لا صفحاتها المظلمة، ولو فعل التاريخ ذلك دائمًا، حين يروي أعمال الأعاظم والأجاويد من بني الإنسان، وطوى كشحًا عن سيئاتهم؛ لكان ذلك أدعى إلى رفع مستوى الإنسانية، وأقرب إلى حملها على التزين بحميد الصفات، ولو كنا ممن يعتقدون بتعدد الأعمار — أي بعودة الإنسان مرارًا إلى هذه الحياة الدنيا في شكل بشري مختلف، ليتمكن من التجرد من الأهواء والنقائص، والبلوغ إلى الكمال، فيعود حينذاك إلى الله ويذوب فيه، وهو ما يعتقده البوذيون، ويدعون الرجوع الأخير إلى الله «البلوغ إلى النرفانا» — لقلنا إن محمد علي كان البطليموس الأول، الذي أطلق معاصروه عليه لقب «صوتر» أي المنقذ، فإنه — مثله بل أكثر منه — أنقذ هذا القطر المحبوب من الفوضى وحشرجة الموت، ثم نفخ فيه من روحه فأحياه، ثم فتح أمامه أبواب السعادة في المستقبل وولج به في الطريق الموصلة إليها، فاستحق عن جدارة التعريف الجميل الذي أقرنه باسمه، عارفو الفضل من معاصريه، وأقرته له الأجيال التالية لجيله، ألا وهو «محيي الديار وأبو مصر الحديثة».
•••
وإنَّا — والخشوع يملأ فؤادنا — نقف إليه كما وقف السلطان عبد العزيز أمام مقامه في القلعة، ونقول مع ذلك العاهل: «إنه كان رجلًا عظيمًا من أكبر رجال التاريخ، وإن ذكره مخلد!»