الدين والتنمية في مصر١
مقدمة
كان الدين في مصر دائمًا هو تاريخها. فمنذ الفراعنة القدماء حتى العصور الحديثة كان الدين محورًا في الحياة المصرية. كان فرعون ابن الله، وكانت روحه إلهية، وكان الكهنة طبقة قوية تملي قوانينها وتقاليدها على الدولة، وكان الشعب يطيع قوانين الدولة باعتبارها قوانين إلهية، وبنى الشعب الأهرامات تعبيرًا عن عواطفه الدينية. كانت الطبيعة أيضًا إلهية. فالنيل والشمس والعجل والحيوانات الأليفة آلهة. وكان للعلم والفن وظائف دينية. وكان للاستقرار السياسي والاجتماعي أو عدمه أسس دينية. ولم يتغير الوضع عما هو عليه طول تاريخ مصر.
ولسنا في حاجة إلى تحديد مسبق لمفهومي «الدين» و«التنمية»؛ إذ يستعمل مفهوم «الدين» هنا في معناه الواسع الذي يشمل العقيدة والشعائر والنظم والقوانين والقيم … إلخ. ويستخدم مفهوم «التنمية» أيضًا في معناه الواسع الذي يشمل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية.
وقد اتبعت طريقة عرض المادة العلمية بأقل قدر ممكن من التدخل، فتركت ناصر يتكلم بنفسه بما في أسلوبه من خطابة وحماس وتكرار. يشفع ذلك بعض التعليقات والحكم عليه. الأساس هو خطب ناصر وكلماته وأحاديثه حتى يشارك القارئ في نفس التجربة، ويشعر من الداخل بوضع الدين في فكره السياسي. وبالرغم من عيوب هذه النقطة التي «تعرض» ولا «تحلل» إلا أنه بها يستطيع القارئ أن يتذوق المادة الخام للبحث ويشارك في الحكم عليها. وكان الهدف العملي القريب أن تقرأ أجيال جديدة في عصر الثورة المضادة في السبعينيات الخطاب السياسي الذي كان يعبر عن حلم الستينيات.
أولًا: التطور الديني في مصر الحديثة
إن أثر الدين على الحياة الاجتماعية والسياسية في مصر الحديثة يمتد إلى ما قبل ١٩٥٢م. ودون ما حاجة إلى الرجوع إلى محمد علي وبداية مصر الحديثة فإنه يكفي وصف الاتجاهات الدينية الأساسية التي ظهرت مباشرة قبل ١٩٥٢م.
(أ) الاتجاهات الدينية قبل ١٩٥٢م
- (١) يمثل الإخوان المسلمون أقوى الاتجاهات الدينية في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات. كانت أيديولوجيتهم الإسلامية الجذرية، ولكن ليست بالضرورة يسارية، في جوهرها كلية، فالإسلام يؤخذ كله أو يترك كله. وعلى الواقع أن يكيف نفسه طبقًا للإسلام لا أن يكيف الإسلام نفسه طبقًا للواقع. وكانت أيديولوجية حركية قادرة على تجميع أعضائها من كل الطبقات الاجتماعية في خلايا مطيعين لرؤسائهم ومكونين لأنظمة شبه عسكرية. وكانت أيديولوجية تقوم على التعصب، ترفض أي شكل من أشكال الحوار مع الجماعات والأيديولوجيات السياسية الأخرى. وكانت معادية للماركسية، تربط الماركسية بالإلحاد والمادية، وإن لم تكن معادية للاشتراكية بالضرورة. فالإسلام له رؤيته الخاصة للعدالة الاجتماعية وله نظمه الاقتصادية الخاصة به. ومن ناحية أخرى كان الإخوان المسلمون معادين للاستعمار. شاركوا في حرب فلسطين في ١٩٤٨م. وكانوا قوة أساسية في الصراع ضد الاحتلال البريطاني لقناة السويس في ١٩٥١م. وكانوا معادين للملكية التي كلفتهم زعيمهم في ١٩٤٩م.٤
والمؤسسة الدينية هي أحد الأشكال الهابطة والفاسدة أحيانًا للاتجاه المحافظ. فقد كانت دائمًا وحتى بعد ١٩٥٢م، المبرر المعتاد للموقف الرسمي للنظام السياسي في كل وقت. وكانت تستخدم دائمًا ضد الخصوم السياسيين ويطلق عليهم أوصاف الخوارج والملحدين. كان كبار رجال الدين بصفتهم موظفين في الدولة مجرد مبررين للقرارات السياسية لأي نظام. وقد أفتوه بأن الملك من نسل النبي، وبالتالي فمن حقه أن ينصَّب خليفة للمسلمين!
ولم يمنع ذلك بعضهم من الحفاظ على التراث الديني الصحيح. فقد رفضوا كل أنواع الضغط من النظام السياسي لتبريره أو لتأييده. بل إنهم على العكس أصدروا بيانات مضادة تعارض القرارات السياسية. وقد تم فصلهم أو استبعادهم.٥ - (٢) ويمثل الغربيون اتجاهين أساسيين: الماركسية والليبرالية. فقد اعتبر الماركسيون الدين طبقًا للتصور الناقص الذي ينقل عادة عن ماركس أنه أفيون الشعب. الدين مظهر من مظاهر التخلف، وعامل من عوامل الاستغلال، ومضاد للعلم. ولكن بعض الماركسيين الآخرين اعتبر الدين «صيحة المضطهدين» وهي نصف العبارة التي قالها ماركس ونسيها الناس ورأوا فيه عاملًا ممكنًا للتغير الاجتماعي والسياسي.٦أما الليبراليون فإن البعض منهم نظر إلى الدين من وجهة نظر وضعية أي وسيلة غير علمية للمعرفة، ومرحلة تاريخية في تطور الإنسانية. ونظر البعض المستنير منهم إلى الدين على أسس عقلية وإن لم تكن عقلية خالصة. ورأى فريق ثالث في الدين تعبيرًا وجدانيًّا خالصًا أقرب إلى الوجودية ومقولاتها في السر والتناقص واللامعقول. وهي كلها اتجاهات غربية امتدت داخل الفكر العربي المعاصر.٧
- (٣) أما الاتجاه الإصلاحي أو التجديدي فإنه قد توقف وانتهى وعاد إلى الاتجاه السلفي كما هو الحال عند رشيد رضا أو الاتجاه المحافظ عند حسن البنا.٨ كما انتهى إلى الليبرالية تقليدًا للغرب عند علي عبد الرازق وخالد محمد خالد. وقد أصبح الاتجاه التقدمي بعد ١٩٥٢م التطور الطبيعي للاتجاه الإصلاحي المتوقف. ويؤيد ذلك ما يذكر الميثاق في باب «جذور النضال المصري» والتأكيد على دور الفتح الإسلامي في تأهيل الثورة المصرية، وكيف أن الإسلام كشف لها هذه الحقيقة وأعطاها ثوبًا جديدًا من الفكر والوجدان الروحي في إطار التاريخ الإسلامي. وعلى هدي رسالة محمد قام الشعب المصري بأعظم الأدوار دفاعًا عن الحضارة الإنسانية. ثم أتى الغزو العثماني فدخلت مصر عصور الإسلام، وظهرت عوامل الضعف والتفتت التي فرضتها الخلافة العثمانية استعمارًا ورهبة باسم الدين والدين منها براء. ثم ارتفع صوت محمد عبده في الفترة الأخيرة ينادي بالإصلاح الديني، وارتفع صوت لطفي السيد ينادي بأن تكون مصر للمصريين، وارتفع صوت قاسم أمين ينادي بتحرير المرأة.٩ بل إن الاشتراكية الديمقراطية تنتسب أيضًا حسب رأي بعض أساتذة جامعة طنطا من الذين عهد إليهم كتابة الأيديولوجية الجديدة في عصر الثورة المضادة في السبعينيات إلى محمد عبده ولطفي السيد وأحمد أمين وطه حسين والعقاد ومن إليهم من هذا الرعيل العظيم.١٠
(ب) التكوين الديني للضباط الأحرار
(ﺟ) القرارات الدينية الرئيسية أو أثر التنمية على الدين
يبين هذا العرض التاريخي للقرارات الدينية الرئيسية في مصر منذ ١٩٥٢–١٩٧٧م كيف أن الدين لم يكن خارج التنمية، وكيف كانت التنمية شاملة تضم الدين أيضًا. كما يبين أثر التنمية على الدين أكثر مما يبين أثر الدين على التنمية. ومعظم هذه القرارات جمهورية مثل قانون الأحوال الشخصية وقانون تطوير الأزهر. والبعض منها قرارات وزارية بناءً على توجيهات من الرئيس مثل البرامج الدينية في أجهزة الإعلام. لم تنشأ هذه القرارات في معظمها بناءً على معارك سياسية بل بناءً على رغبة في الإصلاح، وغالبًا لم تحدث لها معارضة في الداخل أو في الخارج.
(١) إلغاء المحاكم الشرعية
(٢) قانون الأحوال الشخصية
أما فيما يتعلق بالنواحي الشرعية فإن تعدد الزوجات تتم ممارسته بطريقة خاطئة؛ إذ يكذب الرجل على زوجته الثانية ويخبرها بأنه غير متزوج. وهذا ليس من الشرع أو الدين. هذه أشياء ممكن إصلاحها بعد بحثها. فليتزوج وليكن صادقًا ويقول إنه متزوج وطلق أو تزوج اثنتين أو ثلاثًا حتى لا يغرر بفتاة بريئة مسكينة قد تكون أخت كل مواطن أو ابنته. هذه هي الشريعة. فالفتاة التي تتزوج ثم تكتشف أن زوجها متزوج من قبل تكون حياتها قد انتهت تمامًا. الممارسة الحقيقية للشريعة هي سبيل الإصلاح دون المساس بها. ولكن لا تكون العصمة بيد المرأة، وهذا الموضوع متروك للشريعة تدلي فيه برأيها. إنما المهم أن يكون للمرأة حياة كريمة وشريفة. ولكن وزير العدل يحبذ أن تدخل المرأة قاضية في جميع المحاكم ما عدا الجنايات والنقض سيرًا في رفع القيود المهنية على المرأة.
(٣) إلغاء الوقف
لقد صدر قانون إلغاء الوقف رقم ٦٢٨ لسنة ١٩٥٥م من أجل استثمار قطع كبيرة من الأراضي ومبالغ كبيرة من المال بدلًا من إبقائها بلا استثمار أو زيادة خدمة للناس وانتفاعًا بها وحرصًا على بقائها وزيادتها. وبالتالي شيدت أبنية عديدة، واستثمرت الأموال في البنوك. فزادت الأعمال الخيرية وأصبحت أكثر نفعًا خاصة في مشاريع الإسكان. وأصبح الوقف ليس فقط موضوعًا للاستهلاك بل أيضًا موضوعًا للاستثمار. ولم تحدث معارك حول هذا الموضوع. بل إنه بعد ١٩٧٠م ظهر تسيب في أموال الوقف وممتلكاته، وحدثت سرقات ومبايعات صورية وعمولات فيما يسمى بقضية المغربي التي يحتمل أن يكون الشيخ الذهبي قد ضحى بحياته بسببها. فقد كان أول من نبه على هذه الاختلاسات.
(٤) قانون تطوير الأزهر
الهدف إذن من التطوير هو حفظ التراث وتنقيته ونشره، ونشر الدعوة الإسلامية وإظهار الدور التقدمي للإسلام في رقي الشعوب، وبيان حضارة العرب والاعتزاز القومي بها. والأهم من ذلك كله إعداد جيل جديد من العلماء يجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا، أو كما يقال بلغة القدماء بين علوم النقل وعلوم العقل. ولكن يظل الأزهر تابعًا لرياسة الجمهورية، ويعين وزيرًا لشئون الأزهر بقرار جمهوري، وبالتالي فهو ليس هيئة مستقلة. ومن ثَم يسهل على الدولة إعطاء توجيهاتها إلى شيخ الأزهر. وهو أيضًا معين بقرار جمهوري تتجمع السلطات كلها في يده. فهو الإمام الأكبر وصاحب الرأي في كل ما يتصل بالشئون الدينية والمشتغلين بالقرآن وعلوم الإسلام. وله الرياسة والتوجيه في كل ما يتصل بالدراسات الإسلامية في الأزهر وهيئاته. وفي نفس الوقت هو موظف في الدولة يأتمر بأوامرها، ويبرر قراراتها. ويرأس المجلس الأعلى للأزهر. وإن لم يكن شيخ الأزهر قبل تعيينه عضوًا بمجمع البحوث الإسلامية، وهو الشرط الوحيد لتعيينه، فإن لرئيس الجمهورية الحق في تعيين شيخ أزهر من خارج المجمع ويصبح بقوة التعيين عضوًا في المجمع، أي إن هذا الشرط الوحيد وهو شرط العلم، ليس ملزمًا لرئيس الجمهورية. ولشيخ الأزهر حق مقاضاة نظَّار الأوقاف. كما يُعيَّن وكيل الأزهر أيضًا بقرار جمهوري ويشترط أن يكون عضوًا بالمجمع. ولكن رئيس الجمهورية له الحق في تعيين الوكيل من خارجه. بالتالي يصبح عضوًا في المجمع بقوة القرار الجمهوري. لذلك يثار هذه الأيام سؤال: لماذا لا يتم انتخاب شيخ الأزهر من المجلس الأعلى للأزهر أو من مجمع البحوث الإسلامية أو من هيئة كبار العلماء أسوة بانتخاب بابا روما؟
ويشمل الأزهر الهيئات الآتية:
(أ) المجلس الأعلى للأزهر. ويتكون من شيخ الأزهر وله رياسة المجلس، ووكيل الأزهر، ومدير جامعة الأزهر، وعمداء الكليات بجامعة الأزهر، وأربعة من أعضاء مجمع البحوث الإسلامية يختارهم المجمع ويصدر بتعيينهم قرار جمهوري بناءً على ترشيح شيخ الأزهر لمدة سنتين، وأحد وكلاء الوزارات أو الوكلاء المساعدين من وزارات الأوقاف والتربية والتعليم والعدل والخزانة بقرار من الوزير المختص، ومدير الثقافة والبحوث الإسلامية، ومدير المعاهد الأزهرية، وثلاثة أعضاء من ذوي الخبرة في شئون التعليم الجامعي يكون أحدهم على الأقل من أعضاء المجلس الأعلى للجامعات ويُعيَّن بقرار من الوزير المختص بناءً على أخذ رأي المجلس وترشيح الأزهر لمدة سنتين. ويختص المجلس الأعلى للأزهر بالتخطيط، ورسم السياسة العامة للأزهر، ورسم السياسة التعليمية، والنظر في الميزانية، واقتراح إنشاء الكليات والمعاهد، وقبول الأوقاف والوصايا والهبات، والنظر في كل مشرع قانوني أو قرار جمهوري يتعلق بالأزهر، والنظر في منح العالمية الفخرية، وتشكيل اللجان الفنية الدائمة، وتدبير أموال الأزهر، والنظر في كل ما يعرضه عليه شيخ الأزهر.
(د) جامعة الأزهر، وتختص بكل ما يتعلق بالتعليم العالي وبالبحوث، وتحقق رسالة الأزهر المنصوص عليها في الباب الأول. وتتكون من كليات للدراسات الإسلامية، وكلية للدراسات العربية، وكلية المعاملات والإدارة، وكلية الهندسة والصناعات، وكلية الزراعة، وكلية الطب. ويجوز إنشاء كليات أو معاهد أخرى بقرار من رئيس الجمهورية. وتتكون كل كلية من عدة أقسام. اللغة العربية هي لغة التعليم إلا بقرار من مجلس الجامعة ينص على لغة أخرى. والتعليم بالمجان للطلاب المسلمين بصرف النظر عن جنسياتهم. ويجوز توقيع العقوبات التأديبية على أعضاء هيئة التدريس ابتداءً من الإنذار واللوم حتى العزل والحرمان. وكل فعل يزري بشرف عضو هيئة التدريس أو لا يلائم صفته كعالم مسلم أو يتعارض مع حقائق الإسلام أو يمس دينه ونزاهته يكون جزاؤه العزلَ. وكل من يخلُّون بواجباتهم أو يتصرفون تصرفًا لا يلائم صفتهم كعلماء مسلمين يطلب نقلهم إلى وظائف أخرى خارج نطاق الأزهر.
وفي ١٤ مايو ١٩٧٥م تم بحث تعديل قانون تطوير الأزهر، وذلك بتقديم المجلس الأعلى للأزهر مشروعًا بتعديل بعض مواد قانون التطوير ١٩٦١م. ويستهدف التعديل دعم المركز الديني العالمي للأزهر وتمكينه من أداء رسالته في الداخل والخارج.
(٥) المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
أُنشئ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية في ١٩٦٠م. وامتد نشاطه إلى جميع أرجاء العالم الإسلامي والوطن العربي وجميع القارات للتعريف بالإسلام وإحياء التراث الإسلامي. وقد نشر المجلس موسوعة جمال عبد الناصر للفقه الإسلامي سدت فراغًا كان موجودًا. ويصدر شهريًّا سلسلتين: الأولى «دراسات في الإسلام»، والثانية «كتب إسلامية». كما يصدر كل أول شهر مجلة «منبر الإسلام». وبجانب طبعتها العربية تصدر طبعات أخرى بالإنجليزية والفرنسية والإسبانية. وقد جمع المجلس القرآن الكريم جمعًا صوتيًّا (المصحف المرتل)، وأوفد بعثات الوعظ والإرشاد وتعليم اللغة العربية وأنشأ المراكز الإسلامية في أرجاء العالم. وابتداءً من يونيو ١٩٦٠م حتى يوليو ١٩٦٠م تم توزيع أربعة ملايين نسخة من المطبوعات على العالم الإسلامي، وثمانية آلاف نسخة من القرآن المرتل، وسبعمائة ألف أسطوانة صلاة. هذا بخلاف ما تم توزيعه داخل الجمهورية العربية المتحدة.
وينقسم المجلس إلى عدة لجان: لجنة التعريف بالإسلام، لجنة إحياء التراث الإسلامي، لجنة الخبراء، لجنة إحياء مصادر كتب السنة، اللجنة العامة للقرآن والسنة، لجنة تجديد مبادئ الشريعة الإسلامية.
ويبدو من أسماء الكتب القومية التي نشرها المجلس مثل «الميثاق الوطني»، «شريعة العدل شريعة الله»، «وحدة الهدف قبل وحدة الصف»، «دراسات في الميثاق»، «رسالة إلى اليمن»، «إخوان الشيطان»، «وثيقة للتاريخ» … إلخ الهدف السياسي منه، وملاحقته للأحداث السياسية، وسيره في ركاب السلطة، تملي عليه ما يفعل، وتوجه نشاطه.
ودخل المجلس معركة الإسلام والاشتراكية ليس بالضرورة بتوجيه من السلطة، ولكن لأن الخادم يعرف من تلقاء نفسه ما يريده السيد. فقد صدرت في سلسلة الرسائل والدراسات الإسلامية: «دراسات في الإسلام»، «الإسلام والمذاهب الاقتصادية»، «اشتراكية الإسلام واشتراكية الغرب»، «الربا بين الاقتصاد والدين»، «مجتمعنا الجديد والشريعة الإسلامية»، «الفرد في المجتمع الإنساني»، «الملكية الخاصة وحدودها في الإسلام»، «المساواة في الإسلام والمدنية الغربية»، «دعوة الميثاق الوطني من دعوة الإسلام»، «النظام الاقتصادي والإسلام»، «الإسلام والتحرر من الجوع»، «الإسلام ومنهجه في الاقتصاد والادخار». ومن سلسلة كتب إسلامية صدر: «الاشتراكية العربية في حدود الإسلام والواقع العربي»، «التكامل والضمان الاجتماعي في الإسلام»، «فلسفة الحرية في الإسلام»، «أثر التشريع الإسلامي في الوحدة العربية»، «الحرية عند العرب»، «العمل في الميثاق». وكلها صدرت في وقت المد الاشتراكي العربي.
(٦) التربية الدينية
لقد نص الدستور المصري لسنة ١٩٥٦م ولسنة ١٩٦٤م الصادر في ٢٥ مارس على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة؛ إذ تقول المادة الخامسة: الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية. لذلك أصبحت التربية الدينية إجبارية في كل المدارس للمسلمين والأقباط على السواء. وتقول المادة السابعة: «الأسرة أساس المجتمع قوامها الدين والأخلاق والوطنية». ويعلل الرئيس ذلك بأن مصر من أكثر البلاد تمسكًا بالدين باعتراف كل الناس. فإن القانون الجديد للتعليم جعل تعليم الدين بالنسبة للديانات المختلفة مادة أساسية؛ لأن الدين هو الوازع. لقد تعلم الناس الدين من الأسرة، وتعلموا الفرق بين الحلال والحرام، وتوارثوا هذا أبًا عن جد. فالمسلم لا يكون مسلمًا بالبطاقة ولكن بالتعليم وحفظ القرآن. ويظهر نفس الموضوع بعد ١٩٧٠م. فردًّا على سؤال طالبة لماذا لا يُدرس الدين في الجامعات نظرًا لاحتياج الشباب للناحية الدينية، ولماذا لا تحسن مستوى اللغة العربية التي هي في انهيار مستمر لدرجة امتلاء الكتب الجامعية بأخطاء لغوية وبالرغم من وجود مجمع اللغة العربية وهو مجرد برج عاجي يعيش بعيدًا عن مشاكل اللغة؟ استحسن الرئيس السؤال، وأثنى على صاحبته، وكلف د. شمس بتولي تنفيذه بالنسبة للدين واللغة العربية والتربية القومية قبل السنة الدراسية القادمة. وهنا تبدو المزايدة المتبادلة من السائل والمجيب، وإغفال الواقع العربي ذاته بكل مشاكله، وطلب حماسي مكشوف. وتزداد حمى التربية الدينية بعد ١٩٧٠م. فقد أنشئت لجنة التربية الإسلامية لبحث التربية الإسلامية ومناهج تعليمها ومراجعة شاملة لكتبها. أصبحت التربية والأخلاق مادة أساسية للتعليم في المدارس بقرار آخر من المجلس القومي للتعليم والبحث العلمي والتكنولوجيا! ودعا الأزهر لتطوير التعليم الديني بالجامعات. واقترح جعل مادة التربية الدينية من مقررات الجامعة على كل المستويات وفي كل الكليات. وتم تكليف الأزهر بتولي التوجيه الديني بالجامعات لتصحيح المفاهيم وتعبئة الشباب دينيًّا والقضاء على الفراغ الديني لديهم وعلى الانحرافات الأخلاقية البارزة. كما أصبح من واجباته التصدي لمحاولات الغزو الفكري والإلحاد، وإدانة الشغب! ويشكل لجنة لمواجهة حوادث ١٨ / ١٩ يناير ١٩٧٧م دفاعًا عن الحكومة، وتأييدًا لقرارات زيادة الأسعار التي تخلت عنها الحكومة فيما بعد. وقد بلغ الأمر الذروة بموافقة مجلس الدولة بتاريخ ٦ / ٨/ ١٩٧٧م على مشروع قانون بإقامة حد الردة القاضي بإعدام المرتد عن الإسلام عمدًا بقول صريح وبفعل قطعي وبعشر سنوات لمن ارتد أكثر من مرة، وبعقوبات رادعة إذا وقعت الردة من قاصر! وتثبتت الردة بالإقرار مرة واحدة أو بشهادة رجلين ومنع المرتد من التصرف في أمواله!
وفي الحمية الدينية الأخيرة أصبحت عبارة تطبيق أحكام الشريعة تجلب التصفيق والمزادة واستجداء الشعبية الرخيصة. ففي أبريل ١٩٧٦م أُعطيت توجيهات لوزارة الثقافة والإعلام في اتجاه تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. وفي أغسطس من نفس العام ظهرت برامج في أجهزة الإعلام للتعريف بالشريعة الإسلامية تمهيدًا لجعلها مصدرًا للتشريع. وناقش مجلس الشعب قانون تحريم الخمر وقطع يد السارق تمهيدًا لإصدار قانون يستثنى منه العرب والأجانب خدمة للسياحة!
(٧) الموضوعات والبرامج الدينية في ميادين الثقافة وأجهزة الإعلام
لقد امتد نشاط القطاع العام إلى ميدان الثقافة والإعلام. فقد أنشئت الدار القومية للطباعة والنشر والتي تسمى الآن «الهيئة العامة للكتاب»، وزادت كمية النشر للكتب الدينية. وأصبحت سلسلة «تراثنا» من أشد الكتب رواجًا مما يدل على أن المثقفين لم يجدوا شيئًا يقرءُونه أفضل من تراثهم القديم. كانت التنمية الاقتصادية موازية لسلفية الثقافة. كما أُنشئت عدة سلاسل إسلامية لعرض وجهات النظر الإسلامية في الموضوعات السياسية والاجتماعية التي تثيرها القيادة السياسية مثل التحرر من الاستعمار، العدالة الاجتماعية، المساواة. وقد راجت هذه الكتب مما يدل على أن التنمية في المجتمع من الداخل ذات أثر فعال. كما ظهرت عدة مجلات إسلامية جديدة وبالرغم من طابعها التقليدي إلا أنها تعبر عن الحماس الديني للمثقفين.
وقد خصصت الصحف اليومية صفحات خاصة للدين يوم الجمعة من كل أسبوع. وبالرغم من طابعها التقليدي أيضًا إلا أنها تعبر عن الرغبة في التغير من خلال الاستمرارية. وقد أخذت إحدى هذه الصفحات الدينية مرة الموضوع على نحو جدي، وبدأت في نقد التجارة بالدين والطرق الصوفية ورجال الدين فتوقفت في الحال وعزل محررها. وهذا يدل على أن أي عمل جاد في الدين كعامل للتنمية أكثر مما يتطلبه النظام السياسي. فالدين يأتي خلف التنمية وليس قبلها. تأتي المبادرة من السياسة ويترك التبرير للدين.
وقد قام مكتب الشئون الدينية بالاتحاد الاشتراكي العربي بمهمة مماثلة. وكان الهدف من إنشائه إعداد البحوث المختلفة فيما يختص بالعلاقة بين الدين والاشتراكية اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا حتى يؤمن كل فرد بأن اشتراكيتنا علمية لا تتنافى مع تعاليم الإسلام. وكذلك التصدي للفئات الضالة المعرقلة من الرجعيين، من يستغلون الدين ضد طبيعته وروحه لعرقلة التقدم وكشف خروجهم على الدين ومفاهيمه، وكذلك القضاء على الإسرائيليات التي يراد بها الإضرار بالإسلام وصيانة الدين من دعايات المستشرقين. ويعقد المكتب عدة اجتماعات أسبوعية مع علماء الإسلام من مفتشي المساجد وأئمتها ورجال الوعظ والإرشاد ومشايخ أروقة البعوث الإسلامية والمهتمين بالمسائل الدينية من أساتذة الجامعات وغيرهم من العلماء والمثقفين ورجال الدين المسيحي وذلك لشرح المفاهيم الاشتراكية والرد على معارضيها. كما يعقد المكتب اجتماعات عامة بأكبر عدد ممكن من علماء المسلمين ورجال الدين المسيحي. بالإضافة إلى عدة اتصالات فردية عن طريق زيارات الكبار من رجال الأزهر والأوقاف والبطريركية القبطية ولبعض الجمعيات الإسلامية. وكانت خطة المكتب تنظيم محاضرات خاصة وعامة للربط بين الحقائق الدينية والمقاصد الاشتراكية، وإعداد ندوات لها صبغة اشتراكية روحية، وإعداد منشورات وتوزيعها تربط بين الاشتراكية والدين، والاستعانة بالأعياد الدينية كشهر رمضان وعيد رأس السنة الهجرية والمولد النبوي لإلقاء محاضرات أو عمل ندوات لربط المناسبة الدينية بخير المجتمع، وإعداد مناهج دراسية لعلماء الإسلام بالاتفاق مع المسئولين بالأوقاف لربط الخطب والمواعظ بالتعاليم الإسلامية الصحيحة التي تتضمن كل ما يحتاج إليه البشر في حياتهم الاجتماعية والسياسية، والعمل على تقوية فعالية الهيئات الإسلامية وربطها مع مكتب الشئون الدينية. واستعمال نشاطها لإبلاغ الفكر الاشتراكي إلى الشعب، والاتصال بالشعوب الإسلامية في أفريقيا وآسيا وأوروبا والأمريكيتين، وتوثيق الصلة بقيادة الهيئات الشعبية فيها لنشر الوعي الديني والمناهج الصحيحة. وقد أُنشئت جرائد جديدة ومجلات شهرية من أجل الدعوة الجديدة. فنشرت مجلة «الاشتراكي» عدة مقالات عن الدين لخدمة المعركة مثل مناهج التاريخ الإسلامي، وهي الجريدة التي تصدرها أمانة الدعوة والفكر بالاتحاد الاشتراكي العربي، أمانة التنظيم السياسي وتوجيه الدين.
(٨) تنظيم الطرق الصوفية
ويجب أن يبلغ الرئيس محاضر الجلسات إلى الوزراء الممثلة وزارتهم في المجلس وذلك خلال خمسة أيام من تاريخ الجلسة. ولا يجوز إنشاء أو تنظيم أية طريقة صوفية جديدة إلا إذا كانت لا تشابه طريقة من الطرق الموجودة في اسمها أو اصطلاحها. ويصدر بذلك قرار من وزير الأوقاف وشئون الأزهر بالاتفاق مع وزير الداخلية بناءً على موافقة المجلس الأعلى للطرق الصوفية. وعند خلو منصب الشيخ يعين الابن الأكبر ثم أخوه ثم ذو القربى ثم كبار رجال الطريقة، ويعين شيخ الطريقة نوابه وخلفاءه وخلفاء الخلفاء بسائر المحافظات. ويُعد بمقر كل طريقة سجلات بأسماء أعضاء الطريقة والنواب والخلفاء وخلفاء الخلفاء. ويجب تقديم هذه السجلات لمشيخة الطرق الصوفية ولغيرها من السلطات المختصة للاطلاع عليها عند طلبها. وينظم القانون الأنشطة الصوفية والموالد والمواكب ومجالس الذكر والاحتفالات الدينية والمعاهد الصوفية الإسلامية.
ويلاحظ على هذا القانون الرغبة في جعل نشاط الطرق الصوفية مطابقًا لأحكام الشريعة وتخليصها من الانحرافات ومظاهر الشعوذة والفساد. ولكن يلاحظ أيضًا رغبة القيادة السياسية في السيطرة عليها وذلك بتعيين شيخ مشايخ الطرق الصوفية بقرار جمهوري وبوجود ممثل للسلطة السياسية، سواء من وزارة الأوقاف أو من وزارة الثقافة أو من وزارة الحكم المحلي أو من وزارة الداخلية، وهو الأهم من أجل الحفاظ على الأمن العام. كما أن تبليغ الوزراء بمحاضر جلسات المجلس الأعلى للطرق الصوفية وتسجيل أسماء الأعضاء والخلفاء لتقديمها إلى السلطات يجعل الطرق الصوفية تحت عين وبصر السلطة السياسية. بل إن نظام الخلافة على مشيخة الطرق هو نظام وراثي خالص، الابن الأكبر، فالأخ، فذو القربى. لم يمس إصلاح الطرق الصوفية طابعها الأوتوقراطي، بل كان هدف السلطة السياسية وضعها تحت المراقبة حتى لا يستغلها أحد لأغراض سياسية مناوئة وحتى تستغلها القيادة السياسية لصالحها الخاص في احتفالاتها ومواكبها مما يفيض على السلطة السياسية الشرعية الدينية الواجبة أمام الشعب المتدين وأمام الناس.
(٩) حركة بناء المساجد وتوجيه الأئمة
وقد وصل الإكثار من بناء المساجد لدرجة التنافس بين الحكومة والمواطنين، وبين رجال الحكومة أنفسهم وبين المواطنين فيما بينهم. فبناء مسجد جميل عظيم في ميدان عام علامة على الوجود الفعلي للقيادة السياسية ودليل على إنجازاتها. وقد ينافس مسئول المسئولين الآخرين في المساهمة في بناء المساجد قرارًا أو تبرعًا أو رعاية لإثبات أفعاله الحسنة أثناء ولايته من أجل إعادة انتخابه أو تعيينه. وحملة التبرعات في حقيقة أمرها حملة حكومية لأنها تتم بموافقة وزارة الشئون الاجتماعية. وأكثر المساهمين في بناء المساجد هم الفنانون ورجال الأعمال لأسباب عديدة. إذ يريد الفنانون، بصدق أو عن سوء نية، أن يبينوا أن الفن قد أرجعهم إلى الله! أما رجال الأعمال فإنهم يريدون مباركة الله لأعمالهم والإكثار منها ووقايتهم من الحسد، أو يغطون بها أعمالهم اللاشرعية وتلاعبهم في الأسواق. وقد يهدف البعض من ذلك إلى إلغاء الضريبة العقارية إذا ما جعل أحدَ أدوار عقاره مصلًّى! وتوضع الأنوار ومكبرات الصوت على رءوس المآذن أو حول أسطح المساجد. ويقول الناس ساخرين من كثرة المساجد: بين كل مسجد ومسجد يوجد مسجد. ولا تُبنى المدارس والمستشفيات بنفس الكثرة. يعني الدين هنا فقط دور العبادة وليس عاملًا للتنمية مع أن عديدًا من الأمثلة العامية تجعل خدمة المجتمع أولى من بناء المساجد، مثل: «اللي محتاجه البيت يحرم على الجامع». وقد شيدت وزارة الأوقاف منذ الثورة ١٥٠٠ مسجد جديد، وأثثت كثيرًا من المساجد القديمة، وأمدتها بمكتبات ومقرئين. كما وضعت حوالي ١٦٠٠٠ مسجد تحت الإدارة المالية للوزارة. وبالرغم من أن هذا النشاط الزائد في بناء المساجد لا يصدر بقرار جمهوري إلا أنه يعبر عن تيار أساسي للقيادة السياسية وهو الحرص على الإسلام الشعائري الذي يبتعد عن الإسلام السياسي.
وقد استعملت الخطب في صلاة الجمعة من أجل التوجيه السياسي. وأصبحت وزارة الأوقاف ترسل نماذج من الخطب الدينية لأئمة المساجد من أجل إشراف مركزي على دور العبادة نظرًا لاتصالها بالناس وخطورتها في توجيه الرأي العام إيجابًا أم سلبًا. والغالب على الموضوعات المرسلة الموضوعات التقليدية مثل الطهارة، والصلاة، والإيمان، وقليل منها في السياسة باستثناء المعارك السياسية التي تخوضها القيادة السياسية باستخدام الدين. ولكن هذا التوجه الديني لم يحدث أثرًا كثيرًا لأن صورة خطيب المسجد أمام الناس هي أنه يخاف قول الحق، ويؤثر السلامة في حديثه. ولكن الموضوعات التقليدية التي توزعها وزارة الأوقاف على خطباء المساجد هي في حد ذاتها قرار سياسي بتحجيم أثر الخطباء في توجيه الرأي العام والقضاء على حريتهم في اختيار الموضوعات واستقلالهم في طريقة تناولها.
ومنذ أبريل ١٩٦٨م بدأت وزارة الأوقاف إصدار سلسلة دينية باسم «مكتبة الإمام» عن الإدارة العامة للدعوة تتضمن خطب الجمعة المذاعة ونشرات التوعية الدينية. «ولقد حرصتْ على تقديم هذه السلسلة في مجموعتها الأولى تأكيدًا لأهمية الرسالة التي يضطلع بها المسجد في مجال الربط بين الدين والحياة، وإبرازًا للدور الكبير الذي يقع على عاتق الإمام في هذه المرحلة الحاسمة من حياة شعبنا المؤمن بربه ووطنه وعروبته، المتمسك بقيمه الروحية والأخلاقية، المتفاني في سبيل مبادئه وأهدافه، الصامد في معركته المقدسة، معركة الحق والشرف والكرامة حتى يتحقق له النصر بإذن الله». الغرض من هذه السلسلة هو تجنيد الأئمة والوعاظ ليكونوا بمثابة المدافعين عن نفس المبادئ والقيم والعقيدة التي يدافع عنها الجيش. فبعد الهزيمة في ١٩٦٧م تحولت المعركة من جيش يقاتل إلى دولة تدعم المعركة بعنصر هام من عناصر تكوينها وهو الدين والإيمان. ولكي تؤثر في هذه الجماهير العريضة تم اللجوء إلى الحماسة الدينية من خلال رجال الدين وأئمة المساجد. «إن الإمام جندي في جيش الدعوة لا يقل أثره عن أخيه الجندي الرابض على أرض الميدان. هذا يجاهد بالسلاح وذلك بتدعيم العقيدة والإيمان. وكلاهما يجاهد في سبيل وطن واحد ومبادئ واحدة. فلا جرم أن يكون رجال الدعوة وأئمتها بمثابة الجيش الروحي الذي يشارك في صنع النصر وصنع المستقبل بالعقيدة والإيمان». وفي هذه الفترة التي يقف فيها الوطن ممثلًا لقوة الحق والسلام صامدًا أمام قوى الظلم والطغيان فإنه أحوج ما يكون إلى التعبئة الروحية الرشيدة التي كُرست لها كل وسائل الإعلام وكل أجهزة الدعاية حتى حاربت الملائكة معنا في معركة النصر، معركة رمضان. ولم تمر مناسبة دينية إلا وأقيمت الاحتفالات، وذكرت العبر والمواعظ التي من الممكن أن تفيد. «لقد مرت بنا خلال الشهور الماضية نغمات من هذا الفيض الغامر استروضنا منها عظمة الإسلام وروعة القرآن وسمو تعاليمه حين احتفلنا بمواسم كريمة مباركة كذكرى الهجرة النبوية الكريمة». لقد كان الاحتفال يتم على المستوى الشعبي ولكنه الآن على المستوى الشعبي والرسمي وبكل أجهزة الدعاية واستحداث احتفالات أخرى مثل ذكرى مرور أربعة عشر قرنًا على بدء نزول القرآن. هذه الاحتفالات والمناسبات الدينية ترتبط بالمناسبات القومية المصيرية كما ترتبط بمعركة التحرير والنصر. فمن توفيق الطالع أن الاحتفال بهذه المناسبة الدينية قد تم في نفس الوقت لمناسبة قومية سيكون لها أبعد الأثر في حياة الشعب الصامد وتقرير مصيره وهي صدور بيان ٣٠ مارس الذي قرر فيه الرئيس أن لا صوت أعلى من صوت المعركة. وإذا كان الرئيس قد حدد خطة العمل في كافة المجالات القومية لحشد جميع الطاقات الجماهيرية على طريق العمل الديمقراطي لكسب معركة التحرير والنصر بما يحقق للمجتمع العربي دعم المكاسب الاشتراكية ودفعه إلى مزيد من الصلابة والقدرة والصمود، فإن الدين يأتي بعد ذلك ليقوم بدور هام في هذه الفترة الصعبة التي يمر بها الشعب. وليس أولى من بيوت الله أن تكون أول مكان لتزويد دعوة القائد إلى الإعداد للمعركة والاستجابة لندائها. وليس أولى من خطب الجمعة والدروس الدينية التي تلقى في بيوت الله في جميع أنحاء الجمهورية أن تكون مجالًا لإبراز هذه القيم والمعاني السامية التي تنطوي عليها رسالة الإسلام الخالدة. إن رسالة الإمام في المقام الأول هي التعريف بالأصول الصحيحة للدين الحنيف، وتعبئة القوى الروحية والمعنوية حول الغاية الشريفة التي يجاهد في سبيلها وتمت المعركة من أجلها. ولكي يقوم رجال الدين بهذه المهمة ولكي يكونوا تعبيرًا عن طبيعة هذه المرحلة تمت صياغة هذه النماذج لخطب الجمعة والنشرات الدينية لكي تكون أصداءً قوية تعبر عن طبيعة المرحلة التي يجتازها الشعب في هذه الفترة على أساس فهم مشكلات المجتمع المعاصر والربط بينها وبين مصادر الإسلام وتوجيهاته. وتتولى الوزارة إصدار مجموعة الخطب والنشرات وتقوم بطبع مختارات من الخطب التي أعدها السادة الأئمة في مختلف المحافظات حتى تكون هذه السلسلة مجالًا لإبراز الكفاءات الممتازة من بين الأئمة الشبان.
ويعرض د. عبد العزيز كامل نائب وزير الأوقاف لموضوع «الهجرة والتغير» بتناول شخصيات الهجرة وتوزيع الأعمال والتنظيم العملي وصورة الهجرة وأهدافها مستخدمًا هذه العناصر في الاستعداد الإيجابي لبناء الفرد المسلم الذي ظهرت الحاجة إليه بعد الهزيمة. وهو ما تحتاج إليه البلاد في المرحلة التي تجتازها الآن، صعودًا فوق النكسة، وتجمعًا من أجل الهدف الكبير، واستنقاذ الأرض السليبة، واستعادة للحق الأصيل. ويقوم الشيخ علي الرفاعي بنفس الشيء في خطبة ألقاها بمسجد عمر مكرم في ٢٩ / ٣/ ١٩٦٨م بعنوان «الهجرة منطق المسلمين إلى النصر». ويربط الخطيب بين تعامل النبي مع اليهود وغدرهم في زمنه وبين غدر اليهود والصهيونية الحالي. «إن الصهيونية الباغية ما زالت تدبر الفتن وتمكر بالمسلمين وتحاول أن تجد لها مكانًا في أرض العروبة، وها هي ذي آخر محاولاتهم الدنيئة حيث اعتدوا على العرب الآمنين وشنوا عدوانهم بتأييد من الاستعمار. فالقتال الذي بيننا وبين اليهود لم يكن من أجل وطن سُلب فقط، وإنما هو قتال مقدس يجب أن يشارك فيه كل مسلم بنفسه وماله. ففي انتصار الأمة العربية على اليهود انتصار للإسلام». وفي خطبة للشيخ إبراهيم جلهوم بمسجد السيدة زينب في ١٥/ ٤ / ١٩٦٨م عن تعبئة القوى المادية والمعنوية لمواجهة المعركة فيقول: «إن الواقع الذي نحيا فيه هذه الأيام يحتم علينا أن نكون في تعبئة كاملة مادية ومعنوية لمواجهة هذا العدو الغادر الذي يحاول بكل سبيل أن يسلبنا حقنا ويغتصب مقدراتنا. إن المعركة كما تُخدم بالمال والسلاح فإنها تُخدم أصدق خدمة بالعمل الجاد المخلص». وهناك خطب كثيرة عن الثبات والصبر كطريق إلى النصر. وكلها لشحذ الهمة وتعبئة الجماهير. ولكنها لم تتجاوز الوعظ الديني السياسي الذي سرعان ما يتبخر بمجرد مغادرة المصلين المساجد شأنه شأن الوعظ الديني التقليدي تمامًا. فالواقع ذاته لا يعد للمعركة، ورجل الشارع يقف متفرجًا. لم يُطلب منه شيء فعلي إلا من إقامة ساتر على منزله أو طلائه زجاج سيارته باللون الأزرق أو وضع أشرطة لاصقة على زجاج النوافذ!
وتهدف خطب عديدة إلى التركيز على الصلة الوثيقة بين الإيمان والعمل، بين العقيدة والسلوك. ففي خطبة الشيخ عبد الرحمن النجار في مسجد كفر الدوار في ٣/ ٥/ ١٩٦٨م بعنوان «تكافل العقيدة والعمل» يقول: «العقيدة لا بد لها من أن تتجسد في عمل إيجابي. وكما أن العمل من مظاهر تكريم الإنسان فالثورة كذلك صورة راقية من صور رفع مستوى الجماهير إلى مستوى المسئوليات العامة. والواجب علينا مقابلة هذا التكريم بكلمة الحق نقولها في برنامج ٣٠ مارس وفيمن يمثلنا، وأجمل واجبات التحرير والنصر وآمال ما بعد التحرير النصر. ويطبق الإيمان في المجتمع في صور متنوعة في صورة دعوة إلى مواجهة الأعداء والتصدي للمعتدين والكفاح من أجل إزالة آثار العدوان واستخلاص الحق السليب، وفي صورة كفاح ضد طغيان رأس المال واستغلال الكادحين الذين يبذلون عرقهم وجهدهم ويذهب ناتج عملهم إلى غيرهم.»
ثانيًا: دور الدين في معارك التنمية
بيَّن العرض التاريخي السابق أن الدين كموضوع مستقل كان موضع الاهتمام، ودخل في عملية التنمية كأحد مظاهر البناء الاجتماعي. ولكن ظل محدود الأثر، يتم التعامل معه على نحو سطحي وكأنه موضوع اقتصادي أو سياسي في حاجة إلى إصلاح وإعادة بناء عن طريق القرارات الجمهورية أو الوزارية. كان الدين غاية والتنمية وسيلة. ولكن دخل الدين أيضًا كعامل مؤثر في عمليات التنمية خاصة في المعارك السياسية، فأصبح الدين وسيلة والتنمية غاية. لم تعد القرارات الجمهورية تجدي بل حلت محلها توعية الناس واستعمال الدين كأساس أيديولوجي لتبرير الأنظمة الاجتماعية والسياسية الجديدة.
- (أ)
المرحلة الأولى: من ١٩٥٢–١٩٦٠م وهي المرحلة التي تم فيها استخدام الدين من أجل تحويل الانقلاب العسكري أو الحركة المباركة في يوليو ١٩٥٢م إلى ثورة شرعية تقوم على التضحية والجهاد، تناهض الاستعمار، وتقضي على الإرهاب والتعصب، وتعمل للوحدة العربية، وتحارب الطائفية، وتقف أمام الماركسية والإلحاد. وقد استُخدم الدين في تأييد هذه القيم الجديدة الثورية من أجل سد النقص النظري عند الضباط الأحرار ومن أجل الارتباط بالجماهير التي أيدت الثورة في بدايتها عن طريق صياغة عدة شعارات ظلت مع الثورة منذ بدايتها حتى الآن.
- (ب)
المرحلة الثانية: من ١٩٦١–١٩٦٦م وهي المرحلة التي بلغ فيها استخدام الدين في معارك التنمية الذروة، سواء في البناء الاشتراكي بعد قرارات يوليو في ١٩٦١م، ومعارك الإسلام والاشتراكية أو في مقاومة الحلف الإسلامي والرجعية العربية لمحاصرة القوى الثورية العربية. وهنا يظهر الدين كأسلوب للدفاع عن النظام الاشتراكي ضد تهم الكفر والإلحاد وكهجوم على الحلف الإسلامي باعتباره صورة أخرى لحلف بغداد الاستعماري القديم.
- (جـ)
المرحلة الثالثة: من ١٩٦٧–١٩٧٧م وهي المرحلة التي ابتدأت بهزيمة ١٩٦٧م وانتهت فيها كل المعارك، وظهرت فيها قيم سلبية جديدة مثل الإيمان والصبر والقضاء والقدر، تحول بها الدين من معركة خارجية إلى انفعالات وعواطف داخلية. فانتهى المد الثوري، وسادت الاتجاهات المحافظة من أجل الإبقاء على النظام السياسي الذي عاد بلا مقومات إلا من شعارات دينية تتملق أذواق الجماهير.
(أ) المرحلة الأولى: الدين والثورة الوطنية ١٩٥٢–١٩٦٠م
(١) الاتحاد والنظام والعمل
ولكن لما كانت الزعامة الفعلية لعبد الناصر فقد ظهرت القيم الثورية مثل الثورة والتحرر والتضحية والجهاد منذ بداية الثورة في أقواله وأحاديثه. واعتمد في الدعوة لها على تراث الشعب الديني الذي لا يحتاج إلى إقناع أحد به. وقد كان اللجوء إلى الدين هو وسيلة كل زعيم جديد يريد أن يحصل على شرعية من الشعب.
(٢) الثورة ضد الفساد والتحرر من الاستعمار
إن ثورة الضباط الأحرار ليست بالجديدة. فقد سبقتها ثورة رجال الدين على طول تاريخ مصر. كان رجال الدين يقودون مصر، ويحملون شعلة الحرية وينادون بالجهاد دائمًا. وقفوا في وجه نابليون، وكانوا أسبق الناس للاستشهاد. كافح الأزهر أيام الحملة الفرنسية. وقاسى رجاله وعُذبوا وقُتلوا وشُردوا. واقتحم المحتلون الأزهر، ولم يتأخر الأزهر في الدفاع عن العروبة والإسلام. واستمر يحمل الرسالة حتى سلمها إلى الجيش في ثورة عرابي الذي قام متسلحًا بروح الأزهر يطالب بحقوق الوطن. ثم اشترك رجال الدين في ثورة ١٩١٩م واستشهد رجال الأزهر. وقد كان غرض الاستعمار دائمًا القضاء على قوة الجيش والقضاء على قوة رجال الدين.
في مصر إذن قوتان: قوة الجيش وقوة العلماء، قضى الاستعمار بعد ثورة عرابي على قوة الجيش ثم اتجه للقضاء على قوة العلماء؛ لأن الأزهر كان مشعل الحرية في الدول الإسلامية كلها. فثورة الجيش موجهة ضد الاستعمار لتحرير البلاد ولإعادة رجال الدين إلى قوتهم الأولى. لذلك يجب أن يتفق الجيش مع الأزهر، ويتوحد الضباط الأحرار مع العلماء من أجل استئناف الجهاد حتى تعود لمصر حريتها واستقلالها وحتى تتحرر مصر من كل فساد داخلي أو طغيان خارجي.
إن أمام الأزهر عملًا كبيرًا، فرسالته ليست في مصر وحدها بل في العالم الإسلامي كله. ورسالته ليست في العاصمة وحدها، بل في القرى والنجوع من أجل النصح والإرشاد بدلًا من الشكوى من الاستعمار أو إلقاء العبء على الحكومة وحدها، وحتى لا تصبح صلة الشعب بالقادة كما قال قوم موسى له: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ.
فإذا كان في الأزهر رجال قاموا بالثورة وكان الدين لديهم مقاومة للاستعمار، فقد كانت الخلافة العثمانية من ناحية أخرى نموذجًا لاستغلال الدين ضد الجماهير والتستر وراءه من أجل الإبقاء على الظلم والطغيان. قام الاستعمار التركي تحت اسم الدين والخلافة، نظرًا لتدين الشعب، وتلاعب به باسم الدين، وكانت أسوأ فترة في تاريخ مصر. عمل الخليفة العثماني باسم الدين على بث الرشوة وإفساد الضمائر واستخدام فئة صغيرة ضد عامة الشعب. استبد وتحكَّم في الرقاب. فقاسى المصريون ذل الفقر تحت اسم الخلافة وبريقها. تم خداع الشعب باسم الدين، وهو أمضى سلاح، حتى أصبحت مصر مزرعة للخليفة. فلما ثار الشعب اصطفى الخليفة بعض المصريين لتفتيت قوى الشعب. وبقي الاستعمار التركي في مصر حوالي ٤٠٠ سنة ذاق فيها المصريون العذاب باسم الدين. ولم يكن اسم الدين إلا المخدر الذي خدروا به هذا الشعب الأمين. ثم دخل الإنجليز فوجدوا الخديوي يحكم باسم الخليفة، فأغرقوا إسماعيل، ممثل أمير المؤمنين بالدين. ثم ثار عرابي، واعتبره الخديوي والإنجليز خارجًا على الدين، «كان كل فرد في هذا الشعب يتمسك بدينه فكانوا دائمًا يخدعونه باسم الدين ثم بدأ الشعب ينسى القيم الروحية، وبدأت مرحلة الخداع والتضليل. وكان السلطان يستمد قوته من الإنجليز. خدع العثمانيون الأمة العربية تحت اسم الدين وتحت اسم الخلافة وتحت اسم أمير المؤمنين وسيطروا عليها مدة ٥٠٠ سنة وعاثوا في أرجائها فسادًا بالتحكم والسيطرة».
(٣) الجهاد والتضحية
وحياة الرسول نفسها حياة تضحية وجهاد. فقد أتى الإسلام برسالة تحرر للإنسانية جميعًا من الذل والعبودية والمادية لتعتنق روحانية السماء. وكان الرسول وحيدًا في غار حراء يعبد الله تاركًا قومه حتى جاءته الرسالة، اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. ثم جاء الوحي، يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، ثم يقول الرسول لزوجه: «انقضى يا خديجة عهد النوم والراحة فقد أمرني جبريل أن أنذر الناس وأن أدعوهم إلى الله وإلى عبادته فمن ذا أدعو؟ ومن ذا يستجيب لي؟» ثم امتدت يد الغدر إلى الرسول وأعلن الباطلُ الحرب عليه. ولكن الرسول جاهد وجعل الحرب شرعه، وقاتل المشركين. ثم فتح الله عليه مكة وعفا عن أهله ولكنه انتقم ممن أضلوا الناس. وحال المسلمين اليوم كحالهم بالأمس. تحكمت فيهم يد الاستعمار، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ. لقد آن للأمة أن تحطم قيود الاستعمار وتدك حصون الظلم والطغيان، «والله أكبر والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين»، والله أكبر والعزة لمصر، والله أكبر وتحيا الجمهورية!
وهنا يبدو الوعظ الديني السياسي خطابي النزعة، لا يفترق عن الوعظ الديني التقليدي في سماته، مجرد معانٍ عامة وعواطف شعبية مألوفة سرعان ما تتبدد بعد انتهاء الحفل ودون تغيير فعلي لنفسية الجماهير ودون إيجاد وسائل عملية وقنوات شعبية لمشاركتهم السياسية من أجل الجهاد ومقاومة الاستعمار. وقد بدأت شعارات دينية تأخذ مضمونًا سياسيًّا من «الله أكبر والعزة لله» إلى «الله أكبر وتحيا مصر». وهو ما سيسبب النزاع بين الثورة والإخوان فيما بعد وحتى الآن.
ويتضح من ذلك أن الإسلام كان مجرد وعظ عام تتداخل فيه موضوعات الحرية والمساواة والعدالة والكرامة والوطنية دون معانٍ محددة ودون تحديد لمواقف معينة أو لنظم اجتماعية محددة، كما يفعل خطباء المساجد، كما تظهر موضوعات الوحدة بين المسلمين والعرب قبل أن تبدأ معارك الوحدة العربية في ١٩٥٨م. كما يكثر الاستشهاد بالآيات القرآنية مما يدل على نقص في التأصيل النظري لاستخدام الدين، يُكتفى بالاعتماد على سلطة الكتاب. وكان من الطبيعي أن يعتمد أصحاب السلطة السياسية على حجج السلطة الدينية. كما تظهر بعض قيم عامة مثل الإيمان والصبر وهي التي ستتحول فيما بعد إلى قيم للدفاع عن الذات في فترة الانحسار الثوري بعد الهزيمة في ١٩٦٧م.
وبمناسبة عيد العمال الذي اتفق أيضًا مع عيد رأس السنة الهجرية. يضع ناصر مضمون الأول في صورة الثاني، ويصبح العيد حاملًا لمعاني الإيمان والعمل في سبيل المبدأ والعقيدة. وبعد ١٩٧٠م كادت أن تختفي هذه القيم باستثناء بعض المناسبات مثل المولد النبوي والكلمات العامة بلا موقف سياسي محدد. فاحتفال المسلمين بذكرى مولد النبي عظات عن حياة النبي وكتاب الله، الشجاعة في الذود عن العقيدة والدفاع عن الوطن بالروح والمال والدم.
ويستجيب رجال الدين لدعوة الضباط الأحرار ويتبدلون معهم التراشق بالزهور. فمثلًا أصدر الإمام الأكبر الشيخ حسن مأمون في العيد الرابع عشر للثورة بيانًا يبين فيه أن الثورة أعادت إلى مصر وجهها العربي الإسلامي. ويستعرض حال مصر قبل الثورة وبعدها، ويبين التغير الجذري الذي شمل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ويبرر الثورة بأنها من مظاهر رحمة الله بعباده. فكلما اشتد الكرب جاء الفرج من عند الله. وقد أحس الجيش بذلك يوم عبر عن إرادة التغيير في هذا الشعب. فقام بدك معاقل الظلم، وتقويض أركان الفساد. فكان الله معه، والشعب من ورائه. وعاد إلى مصر وجهها العربي المسلم، تعلو جبينها عزة وكرامة وسيادة على أرضها.
(٤) التقدم والشورى
(٥) حرية المواطن وحرية الوطن
(٦) الديمقراطية والنظام الجمهوري
(٧) التضامن بين الشعوب
(٨) التعصب والإرهاب
كانت المعركة الحقيقية التي استخدم فيها جمال عبد الناصر الدين هي معركته مع الإخوان المسلمين التي بلغت ذروتها في ١٩٥٤م ثم عادت من جديد في ١٩٦٥م أي في بداية المد الثوري ثم في نهايته وبداية الانكسار. وبالرغم من وجود علاقة وطيدة بين الإخوان والثورة من خلال اتصالات ناصر بحسن البنا ووجود بعض الضباط الأحرار من الإخوان المسلمين مثل عبد المنعم عبد الرءُوف ومساهمة الإخوان ليلة الثورة وبعدها في تأييد الثورة والدفاع عنها إلا أن الصراع ظهر بينهما حتى وصل إلى درجة القطيعة في ١٩٥٤م. ولم يكن صراعًا على مبادئ أو نظم بل كان صراعًا من أجل السلطة. وقد بدأ ذلك قبل الثورة عندما طلب عبد المنعم عبد الرءوف انضمام حركة الضباط الأحرار إلى الإخوان المسلمين حتى تؤمن الجماعة حياة الضباط الأحرار ومستقبلهم في حالة فشل الثورة. ولما رفض ناصر لأن المسائل الوطنية لا ترهن بموضوعات شخصية استقال عبد المنعم عبد الرءُوف قبل الثورة بستة أشهر. وكان الضابط أبو المكارم عبد الحي رئيس التنظيم الإخواني بالجيش وفي أول يوم للثورة قد طلب أسلحة لتوزيعها على الإخوان تأييدًا للثورة، ولكن رفض عبد الناصر بالرغم من إبدائه استعدادًا للتعاون. وعرض عليهم الاشتراك في الوزارة ولكن حدث التصادم بعد ذلك.
والحقيقة أن الثورة نفسها أطلقت شعارات اجتماعية وسياسية دون مضامينها. فالتجربة المصرية في نهاية الأمر كانت أقرب إلى شعارات الحرية والديمقراطية المتمثلة في «ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد» في حين أن النظم والمؤسسات الدستورية لم تكن تحقيقًا لهذه الشعارات. كما أن شعارات العدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص والاشتراكية كانت في جانب والنظم الاجتماعية والاقتصادية لم تكن تطبيقًا جادًّا وحاسمًا لهذه الشعارات. فما تنقد به الثورة الإخوان هو أيضًا نقد ذاتي للثورة قامت به في أوقات انحسارها، وقام به نقاد التجربة المصرية ومحللوها السياسيون.
(٩) الوحدة العربية
وقد بدأ استخدام الإسلام في معارك الوحدة العربية في ١٩٥٨م بعد اتحاد مصر وسوريا وتكوين الجمهورية العربية المتحدة. كان موضوع وحدة المسلمين والعرب والتفكك والفرقة من الموضوعات العامة التي ظهرت بعد قيام الثورة كنوع من الوعظ الديني السياسي دون أن يكون له واقع سياسي معين. فلما قام أول مظاهر الوحدة العربية بالفعل دخل الإسلام في المعركة على نحو تاريخي عن طريق استرجاع الحروب الصليبية، أحد مظاهر الاستعمار في صورته القديمة، وتوحيد المسلمين تحت قيادة صلاح الدين الأيوبي الذي وحَّد مصر وسوريا أمام الهتافات مثل «وحدة مصر وسوريا باب الوحدة العربية». وقورن ناصر بصلاح الدين. وقد زادت ثورة العراق في ١٤يوليو ١٩٥٨م من عواطف الوحدة العربية. كما زادت الحرب اللبنانية بين القوى الوطنية والقوى اليمنية الحماس للعروبة حتى ظن العرب جميعًا أنهم على أبواب الوحدة العربية الشاملة!
ولكن في مقابل ذلك لم يستعمل ناصر دين الإسلام مثلًا، في مواجهة دين المسيحية. ولم يدعُ إلى الجهاد الإسلامي في مواجهة الحملات الصليبية الجديدة. ولكنه دعا إلى الوحدة العربية وتوحيد مصر وسوريا بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة لا قبلها كتبرير سياسي لقيامها. ولم يفسر الإسلام تفسيرًا ثوريًّا بقدر ما واجه التستر الديني الصليبي بقيم علمانية خالصة مثل القومية العربية. لم يجعل تاريخ الوحدة العربية بين مصر وسوريا وسيلة لتحقيق الجمهورية العربية المتحدة بل لتبرير قيامها بعد أن قامت بالفعل. وهنا يسقط ناصر الحاضر على الماضي، ويؤوِّل الماضي بمفاهيم الحاضر. فلم تكن الحروب الصليبية ضد القومية العربية بل ضد المسلمين. ولم يدافع المسلمون بقيادة صلاح الدين عن العرب والعروبة بل عن الإسلام والمسلمين.
(١٠) الوحدة الوطنية
وقد تعني الوحدة الوطنية أحيانًا وحدة قوى الشعب العامل أو وحدة التيارات الفكرية أو وحدة الأحزاب السياسية وذلك بعد حل الأحزاب في مصر أولًا ثم في سوريا ثانيًا بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة. ولكن الغالب عليها هو الوحدة الوطنية في مقابل الطائفية. فالثورة السياسية قضاء على الطائفية ونهاية لتجار الطائفية. أرادت فرنسا وهي تحتل سوريا أن تتاجر بالطائفية، وأن تشجع تجار الطائفية. ولكن الشعب الحر الواعي رفض أن ينقاد وراء تجارة الطائفية. فحارب المسلم والمسيحي الاستعمار، وأجلوا فرنسا. واستشهد المسلم والمسيحي، وسفك دم المسلم والمسيحي، سفك الدم العربي. لقد حاولت فرنسا تقسيم الشعب بالطائفية. ولكن الثورة السياسية قضت على أساليب فرنسا وعملائها، ووحدت الشعب تحت راية الوحدة الوطنية. لم يستطع الاستعمار بذر بذور الفتنة الطائفية؛ لأن هناك أمة عربية واحدة تعمل من أجل تحقيق الأهداف العربية، وتقوم على الوحدة الوطنية.
ويبدو أن من عيوب الوعظ السياسي الديني السياسي أنه تغيب عنه التحليلات الاجتماعية. يلجأ ناصر إلى الطبيعة البشرية، فيجد فيها الخبيث والطيب، ويلجأ إلى المجتمع البشري فيجد فيه المتعصب والمتسامح، وكأن الطبيعة البشرية ثابتة لا تتغير، بها صفات أزلية أبدية في حين أن التعصب ينشأ من ظروف نفسية واجتماعية معينة، مثل وجود الأقليات وسط الأغلبية، والجهل الديني للأغلبية، وإيذاء شعور الأقليات بمظاهر النفاق الديني، والسيطرة الاقتصادية للأقليات تعويضًا عن النقص. كما يعالج ناصر المشكلة عن طريق حكمة العقلاء في مقابل جنون المتعصبين دون تغيير للأوضاع الاجتماعية ذاتها التي نشأ فيها التعصب. لذلك لم تنتهِ مظاهر التعصب حتى الآن وفي كل مرة تتم مواجهة المظاهر بالوعظ الديني السياسي لأن الواقع الاجتماعي نفسه لم يتغير.
ويأتي الاستشهاد من جديد بالحروب الصليبية على التستر بالدين من جانب الغزاة وعلى الوحدة الوطنية بين عنصري الأمة. فقد شهدت المنطقة ثلاث غزوات عنصرية تعتبر الدين ستارًا وواجهة للتمويه والتغطية: التتار، والصليبيون، وإسرائيل. وفي مصر لا يستطيع أحد أن يعرف ضريح المسلم من ضريح المسيحي لأنهم متعانقون جميعًا في قبورهم نتيجة شعورهم بوحدة وطنية كاملة. وقد واجه الشعب الغزوتين اللتين ليس فيهما شيء من الدين لمناعة وسلامة التفكير والصفوف المرصوصة. وعندما انتصر الشعب على المستعمرين الذين استغلوا اسم الصليب لأهداف توسعية وتجارية واقتصادية منعوا أقباط مصر من زيارة القدس لأنهم لم ينصروهم ضد وطنهم. وقد كتب أحد المؤرخين وقتذاك ما نصه: «ولم يكن حزن الأقباط في مصر بأقل من حزن المسلمين. لهذا قضى مسيحيو أوروبا على أقباط مصر بحرمانهم من الحج إلى القدس.» وهذا يبين عمق الوحدة الوطنية، والترفع عن التفرقة الدينية في مصر. وسيواجه الشعب الغزوة العنصرية الإسرائيلية الشرسة كما واجه الغزوتين السابقتين.
ويرجع الرئيس الطائفية الدينية إلى ظهور النعرة الدينية والتعصب والمغالاة في المظاهر، وهذه رد فعل على سيطرة المادية والإلحاد على أجهزة الإعلام. بالتالي يكون السبب الأساسي والأول لكل المآسي والشرور المادية والإلحاد التي تسبب التعصب الديني كما ظهر في التكفير والهجرة والذي يسبب بدوره تعصب كل طائفة لدينها فتظهر الطائفية، فالماركسية هي المسئولة عن الطائفية!
(ب) المرحلة الثانية: الدين والتنمية المستقلة ١٩٦١–١٩٦٦م
(١) الاشتراكية والإسلام
(أ) الإسلام أول دين اشتراكي. إن معركة الاشتراكية والدين هي أهم المعارك على الإطلاق في سنوات الثورة المصرية التي ظهر فيها الدين للهجوم على الاشتراكية أو الدفاع عنها. وقد ظهرت المعركة بعد قوانين يوليو الاشتراكية في ١٩٦١م، واستمرت حتى بداية معركة أخرى في سنة ١٩٦٥م، هي معركة الحلف الإسلامي، وبعد استتباب النظام الاشتراكي في مصر.
ولكن المعركة الحقيقية عن الدين والاشتراكية بوجه عام وعن الإسلام والاشتراكية بوجه خاص بدأت بعد قرارات يوليو الاشتراكية في سنة ١٩٦١م. وبصرف النظر عن دوافع هذه القرارات مثل الانفصال الذي وقع في فبراير ١٩٦١م فإن دخول الإسلام كأساس للاشتراكية كان أولًا محاولة غير مقصودة لسد النقص النظري عند السلطة السياسية لأنها لم تكن لديها نظرية اشتراكية متكاملة واضحة المعالم لتطبيقها. صدرت قرارات يوليو الاشتراكية كرد فعل على الانفصال. وكان لا بد من تأجيل هذه القرارات نظريًّا. لا تكفي حجة المصلحة العامة وحقوق الجماهير، ولكن لا بد من سند نظري وجدته السلطة السياسية في الدين، وهو البديل التقليدي عند الجماهير عن النظرية السياسية. ففي هذه المرحلة بدأ الحديث عن الإسلام دين الاشتراكية قبل هجوم الرجعية العربية على الاشتراكية. وكانت الاشتراكية تعني التأميم، تأميم الشركات الأجنبية، وتكوين النواة الأولى للقطاع العام.
وقد حارب أبو بكر مانعي الزكاة، وهي حروب الردة في الإسلام، فالردة عن الزكاة ردة عن الإسلام، ردة عن النظام الإسلامي كله وعلى الدعوة الإسلامية كلها. وهذا نموذج للثورة الاجتماعية التي لا بد أن تسير في طريقها ويتم تأمينها حتى تنتصر وتزال الفوارق بين الطبقات، وتقام العدالة الاجتماعية، وتقام الفرص المتكافئة بين الناس. لقد انتصر النبي، ورجع إلى مكة منتصرًا. وحدث خلاف في ذلك الوقت هل يتم العفو عن الذين ناهضوا الدعوة وقاوموها ووقفوا ضدها أم لا؟ فقال الرسول: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وقال أيضًا: «من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن». وكان هذا سبيل الثورة في بدايتها وهو سبيل الرسول عندما رجع من إحدى المعارك التي أصيب فيها «معركة أحد» وقال: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». فكل دعوة لها مؤيدون ومعارضون، والمعارضون يتم العفو عنهم إذا ما تحولوا إلى الإسلام كما فعل عمر بن الخطاب عندما تحول من العداوة إلى التأييد، أو قتالهم كقتال أبي بكر مانعي الزكاة. يبدو أن السلطة السياسية هنا تقيم حجة لتأييد العنف الثوري فيما يتعلق بحقوق الفقراء في أموال الأغنياء بدليل حروب الردة وقتال مانعي الزكاة. هذا في الوقت الذي كانت تريد فيه الثورة تأمين القرارات الاشتراكية والتنظير لها وإضفاء الشرعية على التأميم. ولكن إذا ما أرادت اتجاهات أكثر تقدمية مثل الماركسية مزيدًا من التحول الاشتراكي بعد التحقق من المسافة بين القرارات المعلنة والنظم الفعلية، بين الأهداف المنصوبة وبين الواقع العملي، بين الشعارات الثورية وبين تطبيقاتها، اتهمت بالعنف الثوري وبأنها ضد السلام الاجتماعي. فالسلطة السياسية تستعمل العنف الثوري ضد الإقطاع والرجعية، وتستعمله أيضًا ضد المتقدمين عليها ممن يطالبون المتخلفين عنها بمزيد من التحول الاشتراكي.
(٢) الحلف الإسلامي
وفوق ذلك فهي لا ترى أي تعارض بين قوميتها العربية المحددة وبين تضامنها القلبي والأخوي مع الأمم الإسلامية. إن الأمة العربية بقواها الثورية التقدمية لا ترى في الإسلام عائقًا عن التطور بل تراه بحق وإيمان دافعًا إلى هذا التطور. كما أن الأمة العربية بقواها الثورية والتقدمية لا ترى في القومية العربية عازلًا عن تضامن الأمم الإسلامية بقدر ما ترى أن مواقع النضال من أجل الحرية السياسية والاجتماعية في كل القارات تعزز بعضها بعضًا وتؤازرها وتدعمها.
(ب) الرد على الحلف الإسلامي. إن الروابط الروحية تدعو مصر إليها بكل الوسائل وفي جميع المجتمعات ومع كل الدول الإسلامية.
الحقيقة إذن هي أن الحلف الإسلامي عملية تجميع لكل القوى الرجعية المتعاونة مع الاستعمار في خط دفاعي أخير ضد المد الثوري العربي التقدمي في البلاد العربية. إن وصف الحلف الإسلامي بالرجعية والتعاون مع الاستعمار ضد العروبة وضد المسلمين وضد فلسطين يسانده أصحاب الدعوة الأصليون في صحفهم في لندن وواشنطن. فقد قيل في صحف لندن إن الحلف الإسلامي حلف سياسي وليس حلفًا اجتماعيًّا. قال أيزنهاور لسعود في سنة ١٩٥٧م على فكرة الحلف الإسلامي، وتحدث سعود في هذا الأمر في القاهرة.
لقد أزعجت القيادة العربية الموحدة الصهيونية والاستعمار فبدأت الحركات الرجعية في الحديث عن الحلف الإسلامي ثم بدأت الاتصالات بشاه إيران. والكلام عن الحلف الإسلامي ليس بالسياسة الجديدة. فقد كانت تريد أمريكا حلفًا إسلاميًّا في المنطقة منذ ١٩٥٧م كما ذكر أيزنهاور في مذكراته. ثم دعي الملك سعود إلى أمريكا وعاد. ولكن لم ينجح في إقامة الحلف الذي طلبه أيزنهاور من أجل ضرب القوى الثورية التي كانت تتزعمها مصر في هذا الوقت. وحينما يتحرك فيصل وحسين وبورقيبة فهذا يعني أن الاستعمار قد دفع أصدقاءه للعمل وتحقيق عدة أهداف منها إضعاف القيادة العربية الموحدة، وإضعاف الكيان الفلسطيني وجيش تحرير فلسطين. كان الهدف الأساسي من الحلف الهجوم على القوى الثورية العربية. فعندما دعت مصر إلى مؤتمرات القمة تصورت أنها بذلك تصل إلى تعايش سلمي بين الأنظمة الاجتماعية المختلفة. وفجأة بدأ الملك فيصل يعلن عن الحلف الإسلامي، وبدأت دعاية واسعة جدًّا ضد النظام الاشتراكي في مصر. وأعلن فيصل والشاه عن الحلف. ودعا بقية الدول الإسلامية لتنضم إليه. والحقيقة أن الولايات المتحدة وراء الملك فيصل في سياسته، وتحاول تحقيق نفس الأهداف وعلى رأسها الدفاع عن الشرق الأوسط بجمع كل الدول العربية في صف واحد تحت السيطرة الغربية. وكانت هناك في نفس الوقت مؤامرات ضد سوريا والعراق. وكان الأردن مسئولًا عن التنظيم والسعودية عن التمويل. بدأ فيصل يعمل من أجل الحلف الإسلامي لخدمة مصالح أمريكا ومصالح الإنجليز وتصور أنه يستطيع أن يقوم بهذا العمل في حماية مؤتمرات القمة.
(ﺟ) المرحلة الثالثة: العودة إلى الإيمان (١٩٦٧–١٩٨١م)
(١) رد فعل على الهزيمة
(أ) تهمة الكفر والإلحاد
وقد بدأت بوادر هذه الردة عن القيم الثورية الأولى في عنفوان الثورة وشبابها بالسؤال عن مدى حرية العقيدة الدينية وهل تشمل الردة عن الإسلام، وما هي الوسائل العلمية لبناء الجيل الصاعد على أسس دينية وأخلاقية، وهل ستمنع الشعوذة والاتجار بالدين وتبرير خطة دعاة الإلحاد والكفر؟ وهي أسئلة توحي بالردة، وذلك أن التساؤل عن الاعتقاد الداخلي تفتيش في ضمائر الناس، وطرح موضوع الردة حكم على إيمان الناس، وتأسيس المجتمع على أساس أخلاقي ديني ردة عن بناء المجتمع على القيم الثورية الأولى، وتكفير دعاة الكفر والإلحاد هو بداية القضاء على الطليعة الثورية في كل مجتمع.
(ب) الدين والإيمان
والدين هو المرشد الصحيح لكل إنسان ولكل شخص لأنه يعطي الإنسان القدرة على التفريق بين الحلال وبين الحرام. وكان الشعب أيضًا يشعر بهذا الشعور مثل قادة الثورة وهم من هذا الشعب. الدين يحدد عمل كل إنسان يعمل الحلال ولا يعمل الحرام. الدين هو الذي يضع المقاييس السليمة، ما يقره الدين يعمل وما لا يقره لا يعمل. الدين هو الميزان، وعدم التمسك بالدين ضياع للميزان واستحالة للتفرقة بين الحلال والحرام بأي حال من الأحوال. الدين هو الذي يهدي إلى القيم السليمة وإلى القيم الحقيقية. واضح هنا وجهة النظر التقليدية في الحلال والحرام وهي أنهما ينبعان من الدين ولا يستطيع العقل أن يستقل بإدراكهما.
(ﺟ) القدرية والتسليم
(د) القيم الروحية
(٢) الهوس الديني
(أ) قيم الإيمان
ويقرن الإيمان بالأمل والأصالة والصلابة والأمانة قبل أن يستقر في النهاية على شعار العلم والإيمان. يقرن الإيمان بالأمل النفسي دون دلالة معينة أو نظرية مجردة. بل مجرد تحول من الخارج إلى الداخل، ومن المجتمع إلى الفرد. وحدث نفس الانقلاب في مفهوم الجهاد، من جهاد الأعداء إلى جهاد النفس.
ويعتمد على الحجج الزمنية في الدعوة إلى الجهاد بمعناه العام الذي لا يعني فقط الجهاد في سبيل الله بالقتال بل يعني الجهاد في سبيل العلم وخدمة المجتمع. فالجهاد أعظم عبادة لقول الرسول: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم لا يفتر عن صلاة ولا صيام حتى يرجع». وطلب العلم جهاد لقول الرسول: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله». فالإيمان لا يتناقض مع العمل أو البحث أو العلم. فقد وضع الله طلب العلم في مستوى الجهاد في سبيل الله وجعله قرينًا للإيمان بقوله: يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ. ويقرن بالإيمان الأصالة، فالإيمان هو اتجاه الله، والأصالة اتجاه نحو التراث الحضاري. فأهم صفات هذا الشعب تمسكه بالإيمان واعتزازه بالأصالة والإيمان نقي خالص بريء من التعصب والمتطهر من الشوائب التي علقت بجوهره في عصور الاضمحلال البعيد بما ينسب إليه زورًا من روح التواكل التي لا تعرف المسئولية والتعلق بالخرافات ونفي دور إرادة الإنسان والمجتمع في أن يواجه أمور حياته المستمرة مستعينًا بما أودعه الله فيه من عقل ميزه به على سائر المخلوقات. ولكن شتان ما بين الكلام المعسول والواقع المر، فقد ازدادت الاضطرابات الطائفية، كما عمت الروح الاتكالية، وسادت الخرافة أكثر فأكثر، وقلت نسبة التفكير العقلاني.
(ب) العلم والإيمان
(ﺟ) الدين ضد المعارضة
وقد انتشرت بعد ١٩٧٠م حمى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وكثرت المباريات فيها سواء بين الاتجاهات الدينية والأحزاب السياسية في الداخل أو بين مصر والأنظمة العربية الأخرى في الخارج. ويهاجم النظام الليبي النظام في مصر لأن ليبيا أخذت نشيد الله أكبر. ولم تأخذ مصر بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في ليبيا لا لأن مصر ضد الإسلام ولكن لأن ليبيا أصدرت بعض قوانين الشريعة. ويدافع النظام في مصر عن نفسه بأن الدستور المصري ينص على أن الشريعة الإسلامية مصدر أساسي للتشريع وأنه ليس هناك خلاف على مبدأ الأخذ بالشريعة الإسلامية، ولكن القضية عبر أربعة عشر قرنًا من تاريخ الإسلام كانت هي اجتهادات المفسرين للشريعة في كل عصر، وكان من علامات عصور الاضمحلال رضوخ هذه التفسيرات لمفاهيم أصحاب السلطة السياسية.
خاتمة
ويمكن القول إن استخدام ناصر للدين في المعارك السياسية خضع لقانون الفعل ورد الفعل. ففي المرحلة من ١٩٥٢–١٩٥٤م برزت القيم الثورية كمضمون للدين مثل التحرر، الثورة، القضاء على الاستعمار، التضحية، الجهاد، العمل … إلخ. ولكن في المرحلة التالية ١٩٥٤–١٩٥٦م ظهرت قيم أخرى للرد على الثورة المضادة مثل الحب، التسامح، التعاون، الألفة، الرحمة، الإيمان. فالقيم الثورية الأولى قيم إيجابية في حين أن القيم الثانية للدفاع عن الذات قيم سلبية. القيم الأولى هجومية والثانية دفاعية، الأولى تقدمية والثانية تراجعية. ثم ظهرت القيم الثورية من جديد في ١٩٥٨م بقيام الوحدة بين مصر وسوريا. وأعيد تاريخ العرب الماضي إلى الأذهان ووحدتهم في مواجهة الصليبيين والتتار. ولكن في ١٩٦١م بعد الانفصال بدأ الهجوم على الإلحاد السوري، والدفاع عن قيم الدين والإيمان والدفاع عن الوحدة الوطنية ضد مخاطر النعرة الطائفية. ثم صدرت قوانين يوليو الاشتراكية في ١٩٦١م. وبرزت قيم ثورية جديدة عن العدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص. ولكن في ١٩٦٥م عندما بدأت الرجعية العربية بتطويق النظام الاشتراكي في مصر بالحلف الإسلامي ظهرت قيم للدفاع هجومًا على الحلف وألاعيب الاستعمار. وبعد هزيمة ١٩٦٧م ظهر رد الفعل السلبي في العودة إلى الإيمان حتى الآن، وأصبح الدين سلاحًا مشهرًا ضد الناصريين والماركسيين بوجه خاص وضد كل المعارضة السياسية بوجه عام. كان استخدام الدين تابعًا لمعارك النظام السياسية ولم يكن بادئًا بأية معركة.
ويمكن ملاحظة أمرين: الأول المعارك السياسية التي لم يكن الدين طرفًا فيها، والثاني كيفية استخدام الدين في المعارك السياسية.
(أ) الدين والمعركة ضد إسرائيل
ولم يستخدم ناصر الدين من أجل معركة ١٩٥٦م. وخطابه المشهور في الأزهر «سنقاتل … سنقاتل» لم يشر إلى الدين في شيء مما يدل على أن المعارك الوطنية الواضحة لم تكن بحاجة إلى أدلة وبراهين، ولم يكن فيها هجوم من الخصوم أو دفاع من الأنصار. وهذا يدل على أن الدين لم يكن عاملًا مقصودًا للتنمية بل كانت تفرضه الظروف والأوضاع السياسية.
وفي السبعينيات لم يستعمل الإسلام لخدمة سياسة الانفتاح الاقتصادي وذلك لعدم الحاجة إليه. وذلك أن الانفتاح يعبر عن رغبة الطبقات الحاكمة في الإثراء السريع ورغبة الطبقات الشعبية في الغذاء. هذا بالإضافة إلى أنه لم تنشأ مقاومة لسياسة الانفتاح في الداخل أو في الخارج تستعمل سلاح الدين للهجوم عليه حتى يمكن استعمال نفس السلاح في الرد.
(ب) الدين ومعارك التنمية
لم يستخدم الدين كعامل للتنمية، بل استُخدم كوسيلة للدفاع عن النظام الاجتماعي وتغيراته الثورية ضد الهجوم عليه بنفس السلاح من النظم الرجعية المجاورة. فهو سلاح مفروض على القيادة السياسية، للدفاع عن تغير حدث بالفعل ولتجريد المعسكر المعارض من أمضى سلاح معه وهو سلاح الدين أمام الجماهير، وإعادة تصويبه إليه. وبالتالي فإن حجة استخدام الرجعية لسلاح الدين حجة واهية؛ لأن ناصر يستخدم الدين في مقابل ذلك لخدمة التقدم. فالوسيلة واحدة وهو الدين. والغاية مختلفة، التقدم ضد الرجعية، وكأن الموضوع أصبح مشكلة تفسير وتأويل للنظام الاجتماعي ومصلحته. لم يكن الدين عاملًا من عوامل التنمية بمعنى أنه لم يكن البادئ بالتغير الاجتماعي. كانت الثورة هي البادئة ثم يأتي الدين كمبرر لقرارات الثورة وكسلاح في معاركها إذا ما بدأ الهجوم عليها. كان الدين مثله مثل الفن والفكر والثقافة وكل نشاطات الذهن الإنساني في تاريخ الثورة المصرية. يُستعمل الدين كسلاح للدفاع حسب الظروف بصرف النظر عن التناقضات في المواقف. فسلاح الإلحاد الذي تشهره الرجعية العربية في وجه النظام الاشتراكي الثوري في مصر هو نفس السلاح الذي تشهره مصر في وجه النظام البعثي في سوريا بعد الانفصال وتحول سوريا ابتداءً من ١٩٦٤م إلى نظام أكثر جذرية، وتأكيد الثورة المصرية على قيم الإيمان.
وبصرف النظر عن تطبيق أية نظرية في علم الاجتماع الديني لمعرفة الصلة بين الدين والسياسة في الثورة المصرية سواء دوركايم أو ماكس فيبر أو غيرهم من منظري علم الاجتماع الديني، إلا أن الخطاب السياسي للقادة لم يتجاوز الأمر أكثر من الوعظ الديني السياسي لنظام يريد الإبقاء على نفسه فيلجأ إلى الجماهير بأسلوب ديماجوجي. لذلك ظلت الجماهير في محافظتها وتهاوت الزعامات وظل سلاح الدين باقيًا في يد كل سلطة تشهره ضد خصومها في الداخل والخارج. لم يتحول الدين إلى تصور للعالم ولم يصبح تراث الشعب الديني أيديولوجية سياسية يعبر عن ثقافته الوطنية. وكما كان كل نقد اجتماعي لا بد وأن يبدأ بنقد الدين. وكانت المعارضة هي القائمة بمهمة النقد سيظل الدين في أيدي السلطة القائمة ما لم يتم تجريدها من السلاح بإعادة تفسير الدين وهو تراث الشعب والمخزون النفسي عند الجماهير دفاعًا عن مصالح الأغلبية.
خطاب ومناقشات مع الشباب بمعسكر إعداد القادة بمنظمة الشباب الاشتراكي العربي بحلوان في ١٨/ ١١/ ١٩٦٥م، ج٥، ص٤٤٢.