أثر العامل الديني على توزيع الدخل القومي في مصر١
أولًا: مقدمة
ويقوم هذا البحث على افتراض مقابل وهو أن مفاهيم المساواة والعدالة الاجتماعية وما يتبعها من نظريات في الاشتراكية مفاهيم علمانية خالصة، وأن الدين لم يستخدم إلا كإجراء دفاعي بعد هجوم الرجعية العربية على الاشتراكية في الستينيات باستخدام الدين أولًا. وقد بلغ هذا الجدل الذروة في ١٩٦٢-١٩٦٣م. استخدم الدين إذن في كلا المعسكرين في العالم العربي، التقدمي والرجعي، بنفس الطريقة كوسيلة لتحقيق أهداف اجتماعية وسياسية متباينة. كما تم توجيه المؤسسات الدينية والعلمانية في مصر من أجل استخدام الإسلام لتبرير العدالة الاجتماعية وبطريق مباشر كما كان الحال في الستينيات أو لتبرير اللامساواة الاجتماعية وبطريق غير مباشر كما هو الحال في السبعينيات. كما استخدمت ثقافة الجماهير أيضًا في لعبة السياسة لتدعيم القيم الإيجابية مثل العمل والإنتاج والنضال في الستينيات أو القيم السلبية مثل الصبر والتوكل والرضا في السبعينيات. وكانت إرادة التغيير في كلتا الحالتين متمثلة في القيادة السياسية تتبعها المؤسسات الدينية والعلمانية. ولم تتغير ثقافة الجماهير في كلتا الحالتين، وظلت على حالها كتيار تاريخي متصل تسوده المحافظة، وقد كان هذا العمق التاريخي هو المسئول عن التحول التدريجي من الاشتراكية الصريحة في الستينيات إلى «الرأسمالية» الضمنية في السبعينيات. ويمكن تحليل أثر العامل الديني على توزيع الدخل القومي في مصر على مستويات ثلاثة:
-
(١)
القيادة السياسية.
-
(٢)
المؤسسات الدينية والعلمانية.
-
(٣)
ثقافة الجماهير.
وأفضل المناهج لدراسة هذا الموضوع هو المنهج «الفينومينولوجي» الذي يقوم بتحليل التجارب الحية المشتركة بين الباحث والمجتمع. وسيكون الاعتماد أساسًا على المصادر الأولية التي تكشف عن هذه الخبرات، وتتضمن مجموعة الخطب السياسية، وتصريحات رجال الدين، ونشرات الصحف، وبرامج الإذاعة والتليفزيون، وخطب المساجد، ونماذج من الكتب الدعائية حول الإسلام والاشتراكية أو الاشتراكية في الإسلام، والأمثال العامية، والأغاني الشعبية، ونماذج من الأعمال الروائية والمسرحية ومن القصص القصيرة والقصائد الشعرية … إلخ. ويكشف تحليل هذه المصادر الأولي عن التجارب الاجتماعية المباشرة، وتعبر عن المواقف السياسية الحية للفرد والمجتمع. كما يسمح هذا المنهج بإعطاء صورة صادقة من الداخل في مواجهة الصور النمطية التي تروجها مدرسة «الاستشراق التاريخي» الذي لا يتجاوز المعلومات الخارجية و«الرد» الوضعي. إطارًا نظريًّا مثل تحليل فيبر للقيادة «الكاريسمية» أو وصف دوركهايم للمؤسسات الدينية باعتبارها أشياء أو تشريح ماركس لثقافة الجماهير إلا أن هذا البحث يقدم نموذجًا من «علم الاجتماع الوطني» السائد عند الباحثين الوطنيين في أمريكا اللاتينية من أجل المحافظة على التجارب الحية بلحمها وعظمها ودون تحويلها إلى صياغات ونظريات مجردة مستمدة من العلوم الاجتماعية الغربية من علم الاجتماع الديني أو الأنثروبولوجيا الحضارية أو اللاهوت السياسي. وأن الرؤية الحدسية وإيصالها مباشرة والتعبير عنها بصراحة وصدق لأكثر قدرة على إدراك المعاني والإيحاء بها والكشف عنها عند الآخرين الذين يشاركون في نفس التجارب على استحياء من مجرد استنتاجات العلم وتغليفها داخل أطر مجردة أو نظريات مستمدة من العلوم الاجتماعية الغربية.
ثانيًا: القيادة السياسية واستخدام الدين كإجراء دفاعي في الصراع على السلطة
(١) الإسلام والمساواة الاجتماعية. استخدام الإسلام في الستينيات (١٩٥٢–١٩٧٠م)
يبين تطور فكر القيادة السياسية في مصر في هذه الفترة ثلاث مراحل يتميز كل منها بعدة مفاهيم وهي:
(أ) المساواة، العدالة، تكافؤ الفرص، تذويب الفوارق بين الطبقات (١٩٥٢–١٩٥٦م)
ويبدو أن القيادة السياسية في تعاملها مع هذه المفاهيم الأربعة الأولى لم تستخدم الدين لتدعيمها إلا مرة واحدة بالإشارة إلى أن الله خلق البشر جميعًا متساوين. لم تكن هناك حاجة لمثل هذا التبرير الديني؛ لأن الدافع الثوري كان كافيًا وواضحًا بذاته لإقناع الشعب. وكانت البراهين الإحصائية تغني عن أية حجج نصية. كانت هذه المفاهيم الأربعة علمانية خالصة. ولكن بالنسبة للإسلام قد يكون العلماني هو المعنى الوحيد للدين.
(ب) الاشتراكية الديمقراطية التعاونية (١٩٥٧–١٩٦٠م)
(ﺟ) الاشتراكية العربية (١٩٦١–١٩٧٠م)
والاشتراكية قيمة روحية، ولها عند القيادة السياسية معنًى أخلاقي، وضع حدٍّ لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان. وأحيانًا تبدو وكأنها مفهوم سلبي مثل مفهوم العدالة الاجتماعية أي نهاية حكم الأقلية المستغلة لثروات البلاد والمتمثلة في الإقطاع والرأسمالية والاحتكار. وأحيانًا أخرى تبدو وكأنها مفهوم إيجابي أي اشتراك كل المواطنين في الثروة القومية أو الكفاية والعدل أو تكوين مجتمع الرفاهية. كما تعني القيادة السياسية بها التحول الاشتراكي أكثر مما تعني الاشتراكية، وتطلق على التجربة «مرحلة التحول الاشتراكي». وقد ارتبطت الاشتراكية أخيرًا بمفهوم الوحدة كي تصبح الشعار الجديد للقومية العربية.
والاشتراكية العربية على هذا النحو علمانية خالصة. وقد لجأت القيادة السياسية مرة واحدة إلى العامل الديني، الإيمان بالله كأحد خصائص الاشتراكية العربية التي تميزها عن الماركسية اللينينية. وبالرغم من اللجوء إلى هذه التفرقة كإجراء دفاعي ضد اتهام الاشتراكية العربية بأنها ماركسية. ظهر العامل الديني كعامل رئيسي عندما أصبحت القيادة السياسية موضوعًا لهجوم الدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية أثناء حكم الملك فيصل واليمن أثناء حكم الإمام يحيى. وقد ظهرت كل الأفكار عن العدالة الاجتماعية والاشتراكية في الإسلام في هذا الإطار من الدفاع عن الذات لنفي تهمة وليس لتأسيس الاشتراكية على نحو وضعي.
- (١) الإسلام دين اشتراكي. وقد كون الإسلام في العصر الوسيط أول تجربة اشتراكية في العالم. وكان النبي محمد على رأس أول دولة اشتراكية. وكان أول من أعطى الحجج لسياسات التأميم في الحديث المشهور «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار».١٩ كما أعطى الرسول أكمل نموذج للسلوك الاشتراكي. عاش فقيرًا ومات فقيرًا.٢٠ وبعد موت الرسول استمرت الدولة الإسلامية الاشتراكية في عهد أبي بكر وعمر. فقد أمم عمر أرض القطاع في العراق ووزعها على الفلاحين المعدمين.٢١ قدمت القيادة السياسية هذه الصورة المثالية للمجتمع الإسلامي كنموذج للمجتمع الشيوعي الأول كما فعل ماركس وأنجلز نفس الشيء في وصفهما للمسيحية البدائية.
- (٢) الإسلام دين المساواة والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص. فالإسلام دين اشتراكي والدين والاشتراكية يعنيان المساواة بين البشر، ورفع مستوى المعيشة، وتذويب الفوارق بين الطبقات. وقد جعل الدين تكافؤ الفرص أساس الثواب والعقاب. يبدأ كل إنسان حياته بأعماله وليس بوراثة الطبقة.٢٢ كما لا يسمح الإسلام بوجود مجتمع به أغنياء وفقراء. قبل الثورة كان هناك ٥٪ من السكان يحصلون على ٥٠٪ من الدخل القومي. وقد قامت الثورة لوضع حد لهذا التوزيع اللامتساوي للدخل وللقضاء على الطبقات الرأسمالية والإقطاعية. والثورة بهذا تطبق الإسلام لأنها لم تسمح للأغنياء باستغلال الفقراء. وقد استعملت القيادة السياسية باستمرار هذا الشعار «الإسلام شريعة العدل، وشريعة العدل شريعة الله» للتوحيد بصراحة ووضوح بين الإسلام والعدالة. جوهر الإسلام هو العدل. وجوهر الشريعة أيضًا هو العدل. فالعدل إذن أمر إلهي، وكل إجراء لتحقيق العدالة الاجتماعية يكون بمثابة شريعة إلهية.٢٣
- (٣) العدالة الاجتماعية علاقة طبيعية وإلهية بين الأغنياء والفقراء.٢٤ من يملكون عليهم إعطاء من لا يملكون. وقد دعت كل الأديان، وليس الإسلام وحده، إلى العدالة الاجتماعية. وأقرت كلها، وليس الإسلام وحده، مبدأ الزكاة أي مشاركة الإنسان غيره في أمواله، بل حارب أبو بكر مانعي الزكاة. الزكاة حق الإسلام تهدف إلى إقامة عدالة اجتماعية. ويمكن استعمال العنف ضد الممتنعين عن الزكاة. وهي لا تزيد على ربع العشر من المال الذي يحول عليه الحول دون استخدام. لا وجود للفقراء أو للمعدمين في المجتمع الإسلامي نظرًا لوجود التكافل الاجتماعي. مقومات العدالة الاجتماعية إذن في الإسلام. ولما كانت العدالة الاجتماعية تعني الكفاية فإن الكفاية في الإسلام لا تشير فقط إلى الأسس المادية بل أيضًا الروحية والدينية والأخلاقية.٢٥ فالاشتراكية في الإسلام أقرب ما تكون إلى التصور الأخلاقي منها إلى المذهب الاقتصادي. هي جزء من تاريخ الشعب وتراثه الروحي.
- (٤) تقوم الأخلاق السامية على تقديس العمل مثل الأخلاق الاشتراكية.٢٦ لذلك حرم الإسلام الربا؛ لأنه ضد مبدأ العمل كمصدر وحيد للدخل. فالمال لا يولد المال من تلقاء ذاته دون توسط العمل أي الجهد والعرق والإنتاج. وقد تبنت الثورة نفس الأخلاق عندما ألغت الربا في السلف الزراعية، وأعطت سلفًا أخرى للفلاحين بدون ربا.٢٧
- (٥) وتبريرًا للتحول الاشتراكي استعملت القيادة السياسية بعض الملاحظات الأولى عن التدرج في الشريعة الإسلامية. وأشهر مثل على ذلك هو التدرج في تحريم الخمر. فقد بين القرآن أولًا أن إثمها أكبر من نفعها. ثم حرمها بعد ذلك أثناء الصلاة فقط حتى لا يقف الإنسان أمام ربه مخمورًا. وبعد ذلك حرمها مطلقًا في صيغة النهي. أعطى القرآن إذن نموذجًا للثورة التدريجية وبالتالي التطبيق التدريجي للاشتراكية.٢٨
- (٦) والإسلام ضد الرجعية. ومع ذلك استغلت الرجعية العربية الدين لخداع الشعب. وكان الهدف الرئيسي من ذلك هو إبقاء الشعب على جهله ليسهل استغلال ثرواته. لقد فسرت الرجعية العربية الإسلام تفسيرًا خاطئًا وهي على علم بذلك من أجل استغلال ثروات الشعوب. وأرادت تغطية هذا الاستغلال تحت ستار الدين. كدَّست الأموال من دماء الشعوب، ولم ينتج هذا التكديس من العمل، القيمة الإسلامية، بل من الاستغلال الذي يحرمه الإسلام. وباسم الدفاع عن الدين كانت تدافع عن مصالحها الخاصة. وفي الإسلام ثروات المسلمين للمسلمين وليست للملوك.٢٩
- (٧) هاجمت القيادة السياسية بعض القيم الدينية السلبية مثل الصبر. لقد دعت الرجعية العربية الفقراء إلى الصبر، والصبر في حقيقة الأمر ليس قيمة إسلامية إذا كان يعني الخضوع والاستسلام وقبول الاستغلال.٣٠ كما رفضت اعتبار المساواة الاجتماعية إلحادًا لأن الإيمان بالله يتطلب الإيمان بالمساواة بين البشر أمام إله واحد. إن اللامساواة الاجتماعية هو الإلحاد؛ لأنها تنفي المساواة بين البشر.٣١ كما دافعت القيادة السياسية عن نفسها ضد اتهامها بأنها استبدلت بالإسلام الاشتراكية وأنها جعلت نفسها نبيًّا لدين جديد.٣٢
- (٨)
أرادت الرجعية العربية ترك حل مشكلة العدالة الاجتماعية إلى الآخرة بمعونة الله ومشيئته وليس في الدنيا عن طريق الاشتراكية.
(٢) الإسلام واللامساواة الاجتماعية، استخدام الإسلام في السبعينيات (١٩٧٠–١٩٧٧م)
كانت هزيمة يونيو ١٩٦٧م من الناحية العملية نهاية التجربة الاشتراكية في الستينيات. فقد بدأ التراجع عن الخط الاشتراكي بعد ذلك. كانت خطب القيادة السياسية في السنوات الثلاث الأخيرة قصيرة وفارغة من أي قرارات جديدة أو أي تحولات اشتراكية جديدة (باستثناء قانون الإصلاح الزراعي الثالث، وإلغاء بعض البدلات والمميزات لكبار الموظفين وضباط الجيش من أجل تصفية الطبقة الجديدة كما وضح في بيان ٣٠ مارس). وبالرغم من عزم القيادة السياسية على مراجعة «الميثاق الوطني» في ١٩٧٠م لاتخاذ إجراءات اشتراكية جذرية فيما يتعلق بقوانين الإصلاح الزراعي وتأميم تجارة الجملة وقطاع المقاولات، بل وتكوين تنظيم طليعي يكون عصب الاتحاد الاشتراكي العربي للدفاع عن مصالح الجماهير، في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة تغيرت القيادة السياسية بموت ناصر. ولم تحاول القيادة السياسية الجديدة تنفيذ هاتين الرغبتين. بل إنها على العكس من ذلك بدأت بالتراجع عن اشتراكية الستينيات متهمة أنصارها بتفسير «الميثاق الوطني» تفسيرًا ماركسيًّا. فألغت الاتحاد الاشتراكي العربي، وحلت التنظيم الطليعي باعتباره أحد مراكز القوى.
(أ) التراجع عن اشتراكية الستينيات (١٩٧١–١٩٧٣م)
(ب) سياسة الانفتاح (١٩٧٣م)
(ﺟ) الاشتراكية الديمقراطية (١٩٧٥م)
- (١) أخذ الموضوع المشهور في الستينيات «الإسلام والاشتراكية» منحى جديدًا. فاشتراكية الستينيات تتعارض تعارضًا جذريًّا مع الاشتراكية «الحقيقية». إذ يمكن ضمان حقوق الفقراء من الأغنياء دون حقد أو دون استعمال العنف عن طريق المحبة والإخاء! ولقد أعطت الشريعة الإسلامية رئيس الدولة الحق في أخذ فضول أموال الأغنياء دون حقد أو حسد كما كان الحال في اشتراكية الستينيات.٤٨ كان هدف القيادة السياسية الجديدة هو انتزاع دافع الصراع الاجتماعي من الدين واستعماله من أجل الترابط الاجتماعي دفاعًا عن الوضع القائم.
- (٢) حاولت القيادة السياسية الجديدة أحيانًا أن تجد أسسًا دينية للقرارات الاقتصادية فطالبت مثلًا بإعادة النظر في قانون الضرائب من أجل تحقيق قدر أكبر من العدالة الاجتماعية بناءً على نظرية الاستخلاف! والحقيقة أنه لا توجد أية صلة بين موضوع إعادة النظر في قانون الضرائب وبين هذه النظرية المذكورة التي أصبحت غطاءً يستعمله من يشاء لإضفاء الشرعية على مشروعه الاقتصادي الاشتراكي أو الرأسمالي. بل إن السياسة الجديدة التي لا تشعر بأي حرج في أن يكسب الإنسان ما يشاء بشرط أن يدفع الضرائب على ما يكسب (أو أن يتهرب منها) لا ترتبط في كثير أو في قليل، من قريب أو من بعيد، بالاشتراكية أو بالإسلام، بل تعبر عن توجه رأسمالي خالص واقتصاد حر تم الإعلان عنه في سياسة الانفتاح تحت شعار ديني من أجل أن يزداد الاقتناع بها على نحو عقائدي.٤٩
- (٣) معظم القيم التي روجتها القيادة السياسية الجديدة مثل الإيمان والصبر والقضاء والقدر والتوكل والعون الإلهي والحب ذو طابع سلبي. القصد منها إعداد الجماهير للتسليم بأي قرار سياسي يأتي من أعلى. كما تكشف هذه القيم علاقة فردية خالصة بين الإنسان والله، وليس منها ما يعبر عن علاقة اجتماعية بين الإنسان والإنسان. فهي أقرب إلى العبادات منها إلى المعاملات. وهذا هو الطابع العام الغالب على كل الأيديولوجيات المحافظة ذات الطابع الصوفي الأخلاقي الباطني الفردي. الهدف منها القضاء على الجوانب الاجتماعية في الدين والإبقاء على الجوانب الفردية. وبالتالي تتم التضحية بالعالم الخارجي (المجتمع) في سبيل العالم الداخلي (الفرد) وكأن الأخلاق الفردية هو الحل للمآسي الاجتماعية.٥٠
- (٤) بالمقارنة باشتراكية الستينيات التي كان شعارها «شريعة العدل شريعة الله» لم تذكر القيادة السياسية الجديدة «شريعة العدل» كما أصبحت «شريعة الله» صورية خالصة.٥١ فإذا أشارت مثلًا إلى الزكاة كإجراء اجتماعي في الإسلام وكفرض لتحقيق التكافل الاجتماعي ولتنمية الريف فإنها تعني الفرض الديني أكثر من الإجراء الاجتماعي، ومن ثم حدث هذا الفصل بين الدين والقضية الاجتماعية، وأصبح كل منهما ميدانًا قائمًا بذاته لا رابط بينهما إلا الإحسان والصدقة وفعل الخير للناس.٥٢
- (٥) وقفت القيادة السياسية ضد أي محاولة لاستعمال الدين لصالح قضية العدالة الاجتماعية كما يفعل الثوار المسلمون أو لأجل المعارضة السياسية كما يفعل الإخوان المسلمون. وتصورت الدين على أنه شعائر خالصة لا شأن لها بالسياسة. كما بقيت معظم الأفكار الاشتراكية على مستوى الألفاظ. فما أسهل المزايدة على شعارات الستينيات. فللفقراء حق في أموال الأغنياء طالما أن هذا الحق لا يتجاوز مستوى الكلمات. أما الواقع فإنه يتخذ مسارًا مخالفًا في سياسة الانفتاح والاقتصاد الحر. والحقيقة أن العدالة الاجتماعية في الإسلام ليست فقط إيراد سلسلة من الحجج النصية عليها بل ما يحدث في الواقع بالفعل تطبيقًا لتوجيهات هذه النصوص.٥٣
- (٦) أصبح التمييز بين الاشتراكية (التي لم تعد توصف بأنها عربية أو علمية كما كان الحال في الستينيات بل إنها ديمقراطية) والماركسية أحد مرتكزات النظام السياسي الجديد. فالماركسية كما تراها القيادة السياسية الجديدة تنكر الدين بالرغم من الادعاء بأن هذا الموقف الماركسي الأول قد تغير فيما بعد. ولكن لم يصدر حتى الآن أي قرار رسمي في هذا الموضوع لتأكيد هذا التبدل في الموقف!٥٤
وما أكثر الدراسات عن الماركسية والدين وكيف أن الدين يستخدم أحيانًا «أفيونًا للشعب» كما أنه يكون أحيانًا «صرخة المضطهدين» طبقًا للأوضاع الاجتماعية واستخدامات السلطتين الدينية والسياسية له لصالح الأقلية ضد الأغلبية أم لصالح الأغلبية ضد الأقلية.
- (٧) ظهرت الأخلاقيات «الأبوية» لتكشف عن الطابع الأوتوقراطي للنظام مثل احترام رب الأسرة، وكبير العائلة، ورئيس الدولة، وأستاذ الجامعة، وإمام المسجد، والوزير المسئول، وخفير القرية، وشرطي الطريق … إلخ. وكلهم يمثلون الصورة الأبوية التي على كل إنسان احترامها وطاعتها.٥٥ والخروج عليهم خروج على التقاليد، ونقدهم نيل من المؤسسات التي يمثلونها. ولذلك كانت «أخلاق القرية» أفضل من أخلاق المدينة، وأخلاق الفلاح أقوم من أخلاق العامل، والمطيع للسلطة أكثر صلاحية من المعارض لها.
- (٨) أصبح العلم والإيمان شعارًا للدولة الحديثة. والحقيقة أن العلم مفهوم غربي في أذهان الناس، ويفسح المجال للتكنولوجيا الغربية. واستيراد التكنولوجيا يشابه استيراد البضائع الكمالية واستيراد أنماط الاستهلاك الغربي كما بدت في سياسة الانفتاح. والإيمان قيمة تقليدية تقبلها الجماهير على الإطلاق وتجعلها مطيعة طيعة، مستعد لقبول ما تعطيه لها أية سلطة خارجية، الغرب أو السلطة السياسية أو الإرادة الإلهية. ويستعمل الإيمان هنا كباب خلفي يدخل منه التغريب (وما يتعلق به من رأسمالية واستعمار) والتسلط. والحقيقة أن الإيمان بهذا المفهوم التقليدي لا يساعد الشعب على النضال من أجل التغيير الاجتماعي أو على الإبداع من أجل خلق علومه الخاصة المرتبطة بقضاياه الوطنية.٥٦
وعلى هذا فإن استخدام القيادة السياسية للدين كإجراء دفاعي سواء للدفاع عن المساواة الاجتماعية ضد الرجعية العربية في الستينيات أو للدفاع عن اللامساواة الاجتماعية ضد المعارضة السياسية في السبعينيات كان في حقيقة الأمر دعاية سياسية في أجهزة الإعلام لإقناع الجماهير بمشروعية قرارات السلطة السياسية أو بمشروعية وجودها ذاته وليس كعامل مؤثر تأثيرًا مباشرًا في توزيع الدخل القومي.
ثالثًا: المؤسسة الدينية واستخدام الدين لتبرير قرارات القيادة السياسية
ووزعت وزارة الأوقاف على كل خطباء المساجد خطب الجمعة وموضوعها الاشتراكية في الإسلام، ومفاهيم العدالة الاجتماعية والمساواة. ونشرت سلسلتان «مكتبة الإمام»، «زاد الخطيب» لإعطاء نماذج موحدة لخطب الجمعة حول الموضوعات الاجتماعية في الإسلام مثل العدالة الاجتماعية والمساواة في الإسلام، وتقديس العمل في الإسلام، وحقوق العمال في الإسلام، والقيم الاجتماعية في الإسلام، وتحذير الإسلام من زيادة الاستهلاك.
وأنشأ الاتحاد الاشتراكي العربي مكتبًا خاصًّا للشئون الدينية للقيام بحملة دعائية حول موضوع الإسلام والاشتراكية وللهجوم على الرجعية العربية وكشف استخدامها للدين لاستغلال الجماهير العربية. وعقد المكتب اجتماعات دورية مع العلماء وأئمة المساجد ومفتشيها لإعطائهم توجيهات أيديولوجية لتبليغها إلى المصلين. كما نظم المكتب عدة محاضرات وندوات حول الإسلام والاشتراكية. ونشرت المجلة الأسبوعية «الاشتراكي» التي كانت تصدر في ذلك الوقت عدة مقالات عن الدين والاشتراكية والرد على التفسير الرجعي للإسلام. كما تضمنت الكتيبات التي يصدرها الاتحاد العربي الاشتراكي لتثقيف أعضاء منظمة الشباب في دوراتهم التدريبية عدة فقرات حول الطابع التقدمي للإسلام مماثلة للفقرات التي وردت في «الميثاق الوطني» حول الدين والتقدم بوجه عام.
والحقيقة أن مفهوم التوازن مناقض تمامًا لمفاهيم التحول الاشتراكي والصراع الطبقي. يحدث التوازن بين جانبين عندما يكون لهما نفس الثقل، وهو ما لا يحدث إلا في المجتمعات الطوباوية. إنما الهدف من أيديولوجية التوازن هو الحفاظ على الوضع القائم الذي يقوم على عدم التوازن بين مصالح الطبقات باسم الدين. وبالرغم من استعمال عشرات من النصوص الدينية لتأييد مفاهيم التوازن والوسط والتوسط والاعتدال إلا أنها تستعمل كلها كستار ديني على سوء توزيع الدخل القومي والثروة الوطنية. وكل محاولة لتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية فإنها توصف بأنها مناهضة للدين.
رابعًا: ثقافة الجماهير كاستمرار تاريخي متشابه للمساواة واللامساواة
بالرغم من وجود اختلاف كبير واضح بين القيادة الثورية في الستينيات والقيادة التقليدية في السبعينيات، فإن هذا الفرق يبدو أكثر ظهورًا على مستوى المؤسسات الدينية.
وبالرغم من أنها في كلتا الحالتين أدت نفس الوظيفة وهو الدفاع عن القرارات السياسية إلا أن الاختلاف بينها كان في درجة الالتزام والحماس والاقتناع (بدرجة أقل في السبعينيات عنها في الستينيات). أما على مستوى ثقافة الجماهير فلم يحدث إلا تغيير طفيف. فقد ظلت ثقافة الجماهير كما كانت عليه منذ ألف عام استمرارًا تاريخيًّا تقليديًّا لم يتغير. وقد تم استخدامه أيضًا من القيادتين السياسيتين في الستينيات والسبعينيات على حد سواء لتجنيد الجماهير تأييدًا للسياسات المتبعة في كلا العهدين.
وقد كان اللجوء إلى ثقافة الجماهير نتيجة طبيعية لنوعية المجتمعات التقليدية. فالدين فيها تراث شعبي له فاعليته، يسهل استخدامه لغرس عقائد جديدة في الجماهير. وهو في البلاد النامية يلعب نفس الدور الذي تلعبه الأيديولوجيات السياسية في البلاد المتقدمة. ثقافة الجماهير هي القنوات الطبيعية الموصلة بين القيادة والجماهير فيما وراء الأحزاب السياسية والمؤسسات الدستورية. ومن هنا أتت أهمية الخطابة السياسية في التأثير على الجماهير وتغيير مسارها من اتجاه إلى اتجاه مضاد في يوم وليلة.
- (١)
كان للقيادة السياسية في الستينيات طابع الزعامة «الكاريسمية» للتعبير عن آمال الجماهير ولتلبية احتياجاتها، وكانت على اتصال مباشر بالجماهير تعبر عن مصالحها وتدافع عن كيانها. ولكن القيادة السياسية في السبعينيات لم يكن لها نفس طابع الزعامة «الكاريسمية» حتى بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣م. وبالتالي كانت في حاجة إلى إقناع الجماهير بقيادتها بعد استبعاد أنصار القيادة السياسية السابقة في مايو ١٩٧١م. كانت في حاجة إلى إضفاء الشرعية عليها فاتجهت نحو ثقافة الجماهير تجد فيها مطلبها. ولما كان الدين يمثل تيارًا أساسيًّا في ثقافة الجماهير فإن اللجوء إليه كان أسرع وسيلة للإيحاء والإقناع.
- (٢) لم تكن القيادة السياسية في الستينيات في حاجة إلى تقوية نظامها دفاعًا عن ذاتها وهجومًا على المعارضة السياسية باستعمال ثقافة الجماهير. كانت قوتها نابعة من شخصيتها التاريخية ومن قيادتها للعمل الوطني منذ ١٩٥٢م، ومن زعامتها الثورية ومن جماهيرها العربية ومن تأييدها الشعبي.٨١ وعلى العكس من ذلك لم تكن القيادة السياسية في السبعينيات بنفس الدرجة من القوة. فقد أتت بعد انقلاب صامت في السلطة في مايو ١٩٧١م بعد أن كانت معظم أجهزة الدولة في أيدي الناصريين: الجيش، والبوليس، والمخابرات العامة، والاتحاد الاشتراكي العربي، والتنظيم الطليعي، وأجهزة الإعلام وبالتالي لم يعد أمامها إلا استعمال ثقافة الجماهير للحصول على التأييد الشعبي لها.
- (٣)
كانت الأهداف القومية للقيادة السياسية في الستينيات، الحرية والاشتراكية والوحدة، معبرة عن آمال الجماهير دون أدنى حاجة إلى إقناع الناس بها. كانت الجماهير شغوفة بالحرية والعدالة الاجتماعية. ولكن القيادة السياسية في السبعينيات لم تضع لنفسها نفس الأهداف القومية، ومن ثَم كان عليها أن تجتذب الجماهير بشيء آخر. فلجأت إلى الديمقراطية حجر العثرة في النظام السابق. وحققت بعض التقدم أولًا بالإفراج عن المسجونين السياسيين وعدم الأخذ بالشبهات، ولكنها كانت ديمقراطية صورية أو ديمقراطية «ذات أنياب» وأصبح لها في النهاية نفس الطابع التسلطي الذي كان للقيادة السياسية السابقة مع اختلاف الأسلوب والمنهج إما بالاعتماد على أجهزة القمع أو بالاعتماد على القوانين والاستفتاءات الشعبية. وبعد أن حدث التراجع التدريجي عن الاشتراكية والتخطيط إلى سياسة الانفتاح واقتصاد السوق الحر احتاجت هذه التحولات إلى مبررات لإقناع الجماهير لحشد تأييدها أو على الأقل قبولها لها. ومن ثم كان اللجوء إلى ثقافة الجماهير أمرًا لا بد منه.
- (٤)
كان نضال القيادة السياسية في الستينيات من أجل الاشتراكية يتم خارج مصر ضد الرجعية العربية الممثلة في الملوك والأمراء. ولم تكن بحاجة إلى التوجه إلى الشعب المصري في الداخل الذي كان يوافق على النظام الاشتراكي ويؤيده. وعلى العكس من ذلك كانت معركة القيادة السياسية في السبعينيات إقناع الشعب المصري بشرعية قيادة وبسياساتها الجديدة الداخلية والخارجية. ولما كانت الجماهير أمية سياسيًّا لجأت القيادة السياسية الجديدة إلى أنساق القيم التقليدية كقنوات تعبر من خلالها عن مشروعاتها السياسية.
- (٥)
كان من السهل على القيادة السياسية في الستينيات التعبير عن أفكارها السياسية للجماهير. فقد كان من السهل فهمها وقبولها. وعلى العكس من ذلك فقد كانت القيادة السياسية الجديدة في السبعينيات في حاجة إلى جهد كبير لإقناع الشعب بالتحول عن اشتراكية الستينيات، وبداية سياسة الانفتاح، وحصار المعارضة وعزلها عن الشعب، ومنع ظهور قيادات سياسية شعبية تلقائية تواصل سياسة الستينيات.
وهذا لا يعني أن القيادة السياسية في الستينيات لم تلجأ إلى ثقافة الجماهير على الإطلاق. فالحقيقة أنها منذ هزيمة يونيو ١٩٦٧م لجأت إلى ثلاثة مفاهيم رئيسية مستمدة من ثقافة الجماهير وهي: الدين، والإيمان، والقضاء والقدر. فقد أرادت أن تجعل الشعب يمتص بسهولة الهزيمة المروعة التي لحقت به وأن تبعث فيه الثقة بنصر قريب وسريع. كانت تبحث عن تأييد داخلي معنوي ضد العدو الخارجي، إسرائيل، ولم تستعمل هذه المقولات الدينية لمعالجة المشاكل الداخلية مثل توزيع الدخل. ولا يرجع السبب في لجوء القيادة السياسية في الستينيات إلى الدين الشعبي بسبب تربيتها الدينية بل كضرورة سياسية ملحة للتغلب على الهزيمة. وكانت معظم إشاراتها إلى الدين الشعبي قصيرة ومكررة وباهتة دون أي مبرر عقلي أو وضوح نظري.
كانت السنوات الثلاث الأخيرة (١٩٦٧–١٩٧٠م) عندما لجأت القيادة السياسية إلى الدين كتيار أساسي في ثقافة الجماهير نموذجًا للقيادة السياسية الجديدة في السبعينيات في لجوئها المستمر إلى مقولات الدين في ثقافة الجماهير. فقد استعملت نفس المقولات الدينية وزادت عليها غيرها. ولم يكن السبب في ذلك هو الحصول على تأييد روحي ومعنوي ضد العدو الخارجي، بل تدعيم السلطة الجديدة بالرغم من الاستفتاءات الشعبية الجديدة التي أعطتها أكثر من ٩٩٫٩٪ من التأييد الشعبي لكل قرار أو قانون. كما استعملتها أيضًا للطعن في ذمة المعارضة السياسية والنيل من شرفها والتشكيك في مقاصدها، وإثارة الشبهات حول ولائها لنزع الثقة منها وهي تحاول الدفاع عن الخط الاشتراكي الذي مثلته القيادة السياسية في الستينيات.
وقد اعتمدت القيادة السياسية الجديدة على صفات الطيبة والوداعة والمسالمة في الشعب لدعوته إلى التمسك بالحب والإخاء والتسامح بدلًا من الحقد والعنف كوسيلة للقضاء على التناقضات الاجتماعية في المجتمع المصري. فالمطلوب في نهاية الأمر هو الإبقاء على هذه التناقضات كما هي دون أي تغيير والتعايش معها باسم الحب والإخاء والتسامح.
كما تبنت القيادة السياسية الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية التي تعني في ذهن الجماهير قانون العقوبات. وقد كان الهدف من هذه الدعوة تحقيق أغراض ثلاثة: الأول التأكيد على الطابع الديني للسلطة السياسية مما يسمح بمزيد من طاعة الجماهير لها. والثاني إعطاء النظام السياسي الذي يقوم على «القانون والنظام» ستارًا دينيًّا يخفي تحته الوظيفة الاجتماعية والسياسية التي يقوم بها وهو الإبقاء على الوضع القائم بما فيه من تناقضات اجتماعية. والثالث إخفاء هذه التناقضات الاجتماعية والصراع الطبقي تحت غطاء الشريعة الإسلامية التي تقوم على احترام الملكية الخاصة، ولا تمنع من ممارسة النشاط الاقتصادي الحر. هذه الدعوة إلى نسق القيم يقوم على القهر تخفي في الحقيقة رغبة قوية من السلطة السياسية للسيطرة على كل شيء. والحقيقة أن الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية مجرد دعوى نظرية تكشف عن قدر كبير من النفاق وعدم الجدية والمزايدة على الإيمان. بالإضافة إلى أنها تستخدم كمفتاح سحري قادر على حل جميع المشاكل الاجتماعية.
وقد أخذ البعد الرأسي للدين (علاقة الإنسان بالله) مكان البعد الأفقي له (علاقة الإنسان بالإنسان). فالعمل لا يتم أمام الإنسان لخدمة المجتمع بل أمام الله طاعة له. ولا يقوم الحساب في هذه الدنيا أمام السلطات الاجتماعية والسياسية بل في الآخرة أمام الله. وضمير الإنسان هو الذي يوجه سلوكه وليست مصالح الشعب وحاجات الأمة. هذا التصور للدين جعله مجرد إلهام من الله للقيادة السياسية وطاعة مطلقة من الشعب لها. كل شيء يحدث للشعب يأتي من الله، ثروته وخبزه اليومي وموارده الطبيعية كلها هبات من الله. النظم السياسية إذن ليست مسئولة عن الفقر أو سوء توزيع الثروة. ولا يمكن عمل شيء ضد إرادة الله، ولا يمكن إعطاء شيء منعه الله أو منع شيء أعطاه الله. وكل ما يستطيع الشعب عمله هو الصلاة، ودعاء الله، وانتظار الجود والكرم! والقرارات السياسية الصحيحة تأتي من الله وليست من هيئة المستشارين أو المؤسسات السياسية. فالله وحده هو مصدر التوفيق والهداية. وعندما تعمل القيادة السياسية بتوفيق من الله وتصدر قراراتها السياسية بعون منه تستحيل المعارضة السياسية التي تعتمد على كسب الإنسان الذي قد يخطئ ويصيب، وكثيرًا ما يخطئ، وقلما يصيب!
لم تستعمل القيادة السياسية هذه القيم التقليدية من الدين الشعبي من أجل إضفاء الشرعية على سلطتها ومن أجل خضوع الشعب لها فحسب، بل إنها استعملتها أيضًا ضد المعارضة السياسية متهمة كل نسق آخر للقيم ديني أو علماني بالإلحاد. وبالرغم من أن الدستور (مادة ٥٤) تنص على الحرية الدينية كما نص «الميثاق الوطني» من قبل «على أن حرية الاعتقاد شرط لقيام ثقافة وطنية حرة خالية من أي تعصب ديني» صدر قانون الردة واستُعمل كسلاح سياسي ضد الخصوم السياسيين. وتردد استعمال هذا القانون وتطبيقه بالفعل بعد الانتفاضة الشعبية في يناير ١٩٧٧م. والملحدون في الدين الشعبي لا تجوز مخالطتهم سياسيًّا أو اجتماعيًّا. ويجب على جماعة المؤمنين لفظهم خارج المجتمع، وبالتالي يمكن عزل المعارضة السياسية من قاعدتها الشعبية. والموت في النهاية عاقبة المرتدين والملحدين.
لم تظهر الطائفية في الستينيات. فقد عمل المسلمون والأقباط معًا، وناضلوا معًا ضد الصليبيين. الوحدة الوطنية والهدف القومي قادران على امتصاص أي مظاهر للطائفية واستبعاد مخاطرها. وقد لجأت القيادة السياسية في ذلك الوقت إلى الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط في ١٩٥٨م أثناء تكوين الجمهورية العربية المتحدة طبقًا لنموذج الوحدة السابق أثناء الحروب الصليبية بين المسلمين والمسيحيين في الشرق. وقد حدث العكس في السبعينيات؛ إذ لم يمنع الحماس الديني من وقوع صدامات خطيرة بين المسلمين والأقباط. وكان ذلك فرصة للقيادة السياسية لإصدار قوانين استثنائية لحماية الوحدة الوطنية ولتقوية النظام خشية أن يتحول الصراع الطائفي إلى صراع اجتماعي. والحقيقة أن تاريخ مصر يشهد بوجود وحدة وطنية عضوية بين المسلمين والأقباط كما ظهر ذلك في ثورة ١٩١٩م، وفي مرحلة البناء الاشتراكي لمصر في ١٩٦١–١٩٦٤م، وأثناء حرب أكتوبر ١٩٧٣م. فلا تظهر الطائفية إلا في لحظات ضعف الدولة وعندما يغيب المشروع القومي الموحد لكل الطوائف والمجند لكل الطاقات والقوى؛ إذ إنها تسمح للدولة باتخاذ إجراءات استثنائية للدفاع عن الوضع القائم باسم المحافظة على الوحدة الوطنية. كما تنشأ الطائفية في نهاية الأمر، وجميع مظاهر التعصب الأخرى مثل التعصب الكروي للأندية الرياضية، من غياب الأحزاب السياسية وحرية التعبير للقوى الوطنية التي يمكنها تحويل الولاء الديني إلى ولاء وطني.
خامسًا: خاتمة
- (١)
لم يكن الهدف من استخدام القيادة السياسية في الستينيات للإسلام للدفاع عن الاشتراكية واستخدامه في السبعينيات للتراجع عنها هو سد الفراغ النظري الذي شعرت به الثورة. فقد اعترفت الثورة المصرية بالفعل بغياب نظرية مسبقة، وكانت تفخر بطابعها البرجماتي وتجربتها القائمة على المحاولة والخطأ. كان غياب النظرية اتهامًا من اليسار المصري وليس من الرجعية العربية التي كانت تظن على العكس من ذلك أن الاشتراكية العربية نظرية واحدة مصاغة سلفًا أو ماركسية مقنعة.
- (٢) كانت اشتراكية الستينيات في كل مراحلها علمانية خالصة. وكانت الثورة المصرية منذ البداية ثورة علمانية تحمل أفكارًا علمانية ثورية كما ظهرت في المبادئ الستة. ومع ذلك فإن الإسلام عامل ضمني مكون لروح الشعب، وعقيدة فعالة تتضمن أفكار العدالة الاجتماعية كما ظهرت لدى الإخوان المسلمين أحد الروافد الأساسية في تكوين الضباط الأحرار.١٠٤ وبالرغم من أن هذه المبادئ الستة لم تشر إلى الإسلام كلفظ، إلا أنها ذات مضمون إسلامي. فالإسلام دين علماني من الأساس، دين بلا سلطة كهنوتية. ومفاهيم المساواة والعدالة الاجتماعية ليست فقط إسلامية من حيث المعاني، بل أيضًا إسلامية من حيث الألفاظ. فالعادل اسم من الأسماء الإلهية يشير إلى قانون الاستحقاق وأخلاق العمل. وكل ما قيل في أدبيات «الإسلام والاشتراكية» أو حتى في «الاشتراكية الديمقراطية» فيما يتعلق بنظرية الاستخلاف صحيح بصرف النظر عن النغمة الدعائية الدفاعية لهذه الأدبيات المهنية التي أصدرتها الدولة.
- (٣) لجأت القيادة السياسية في الستينيات إلى الإسلام كإجراء دفاعي ضد النظم الرجعية العربية التي كانت قد لجأت إلى الإسلام من قبل الهجوم على الاشتراكية التي كانت تمثل في ذلك الوقت تهديدًا فعليًّا لهذه النظم. أرادت القيادة السياسية انتزاع أقوى سلاح من أيدي النظم المنافسة، وهو سلاح الدين، وكان الإسلام جزءًا من لعبة أكبر، وهو صراع القوى بين النظم السياسية المتعارضة. كما لجأت القيادة السياسية في السبعينيات إلى الإسلام لإضفاء الشرعية على السلطة السياسية ضد المعارضة اليسارية وكعامل استقرار وترابط اجتماعي ضد محاولات التغير الاجتماعي.١٠٥
- (٤) لم يكن لاستعمال الإسلام في كلتا الحالتين أي أثر يذكر على توزيع الدخل القومي في مصر. فقد كان الاختيار الاجتماعي للمساواة في الستينيات أو اللامساواة في السبعينيات يرجع أساسًا إلى نوعية القيادة السياسية. وبنهاية القيادة الثورية وبداية قيادة تقليدية جديدة تحول النظام السياسي كله كما تغير الاختيار الاجتماعي. فنوعية القيادة السياسية وليس العامل الديني هي التي حددت سياسات توزيع الدخل القومي في مصر.١٠٦
- (٥)
كان لكل نظام سياسي تفسيره للإسلام. وكان الخلاف بين التفسيرات المختلفة، الإسلام والاشتراكية في مقابل الإسلام والرأسمالية، هو في حقيقة الأمر صراع بين مختلف النظم السياسية والقوى الاجتماعية التي يمثلها كل نظام، الاشتراكي التقدمي في الستينيات والرأسمالي المحافظ في السبعينيات. ولم يكن الدين إلا وسيلة لتدعيم كل نظام. وكان العامل الحقيقي الحاسم في توزيع الدخل هي السياسات الفعلية المنبثقة عن اختيار القيادة السياسية وكيفية تنفيذها في البناء الاجتماعي والسياسي. وأن الحسم بين هذه النظم لا يرجع إلى صدق تفسيراتها للإسلام أو كذبه، أي منها الصحيح وأيها الخاطئ. فهذا النموذج المطلق للإسلام لا وجود له بالفعل طالما أن الدين قائم على المجتمع ومغروز فيه. بل يرجع إلى انتصار أحد النظامين في صراعه مع النظام الآخر. فمعارك التفسير هي في حقيقة الأمر معارك النظم السياسية ومعارك القوى الاجتماعية التي يتمثل كل منها أحد التفسيرات في مواجهة التفسير الآخر.
- (٦)
كانت المؤسسات الدينية والعلمانية مؤسسات تابعة للدولة، استخدمت الدين لجعل قرارات السلطة السياسية أكثر قبولًا لدى شعور الجماهير ودون أن تكون عاملًا مباشرًا في توزيع الدخل القومي. وقد استطاع النظامان السياسيان في مصر في الستينيات والسبعينيات بنفس القدرة استخدام هذه المؤسسات لتحقيق أغراضهما. ففي الستينيات كان الإسلام اشتراكيًّا، وكانت الاشتراكية إسلامية. وفي السبعينيات كانت اشتراكية الستينيات ماركسية وكانت الماركسية مناهضة للإسلام. وقد أصدرت نفس المؤسسات الدينية وربما نفس الأشخاص فتاوى متعارضة في كثير من الموضوعات الاجتماعية والسياسية تبعًا لاختلاف النظم السياسية. وكانت النصوص الدينية والشواهد التاريخية من الإسلام جاهزة في كلتا الحالتين رهن إشارة السلطات السياسية.
- (٧) كانت هناك أزمة ثقة بين هذه المؤسسات الدينية والجماهير. فقد عرفت الجماهير من خلال تجاربها المباشرة أن رجال الدين وكذلك كل القيادات والرؤساء موظفون في الدولة.١٠٧ ففقدت الثقة في مؤسسات الدولة وأجهزتها بالرغم مما يبدو على الجماهير من طاعة لها.١٠٨ وينتمي رجال الدين المؤثرون إلى الطبقة المتوسطة وبالتالي فإنهم مثل غيرهم من أفراد الطبقة كانوا يعملون لصالح السلطة السياسية. وفسروا الإسلام كما أرادته القيادة السياسية طاعة للسلطة سواء كانت تقدمية أو محافظة، اشتراكية أو رأسمالية، ثورية أو تقليدية. وروجوا للإسلام الشعائري بالرغم من الكم الهائل من أدبيات المهنة حول «الإسلام والاشتراكية»! واحتكرت السلطة الدينية حق التفسير كما احتكرت السلطة السياسية حق اتخاذ القرار السياسي. وكان رجال الدين سواء في قمة المؤسسات الدينية أو في القاعدة عند أئمة المساجد وخطبائها موظفين في الدواوين منفذين لأوامر الحكومة. يخشى الرؤساء أن يفقدوا وظائفهم ومرتباتهم وسلطاتهم، ويخاف الأئمة من الطرد والنفي والاضطهاد. وأن أزمة الثقة بين الجماهير والسلطتين الدينية والسياسية أزمة واحدة ناتجة عن تزييف كل من السلطتين للوعي الاجتماعي.١٠٩
- (٨) لم تستخدم ثقافة الجماهير في الستينيات كقوة محركة تدفع الشعب نحو الثورة والتغير الاجتماعي. وبدلًا من استخدام ثقافة الجماهير بحثت القيادة السياسية عن أفكار علمانية لم تلمس شغاف قلوب الجماهير ولم تتحد بأرواحها. طرقت آذان الجماهير ولكنها لم تؤثر فيها ولم تكن الجماهير مستعدة للموت في سبيلها. فسرعان ما انتهت هذه الأفكار بنهاية القيادة السياسية بالموت قضاءً وقدرًا! لا تساعد العلمانية إذن على تطوير المجتمعات التقليدية لأنها لا تأخذ في الاعتبار ثقافة الجماهير الذاتية. وثقافة الجماهير في البلاد النامية مثل مصر هو البديل الوحيد للأيديولوجية السياسية. فهي أصيلة ومبدعة وفعالة، لا تحتاج القيادة السياسية إلى أي جهد لإقناع الجماهير بها أو لتكوين حزب للدعوة لها أو لتشكيل قيادات لحشد الجماهير من خلالها، فالدين، والأئمة، والمساجد، وجماهير المؤمنين كلهم يشكلون عصب الحياة السياسية الجديدة. ويكون السؤال: كيف يمكن استعمال هذه الثقافة كوعاء للأهداف القومية؟ لقد أهملت الثورة المصرية كلية إعادة بناء ثقافة الجماهير فلم تجد بعد اختفاء القيادة الثورية ثقافة أو جماهير تدافع عنها.١١٠
- (٩) ثقافة الجماهير في مصر، مثل أي ثقافة أخرى، متشابهة. فهي تدعو إلى المساواة والعدالة الاجتماعية وفي نفس الوقت تدعو إلى اللامساواة والتفاوت الطبقي.١١١ فبينما لم تلجأ القيادة السياسية في الستينيات إلى الجانب الأول لتطوير الجماهير ودفعها نحو مزيد من العدالة الاجتماعية والمساواة لجأت القيادة السياسية في السبعينيات إلى الجانب الثاني الذي يدعو إلى التسليم والقضاء والقدر والتواكل واللامساواة لتدعيم النظام السياسي وتثبيت الوضع القائم وللإبقاء على الثبات الاجتماعي. والحقيقة أنه بإمكان أي نظام سياسي محافظ يقوم على التفاوت الطبقي استخدام هذا الجانب السلبي في ثقافة الجماهير لتثبيت دعائمه ولإطالة مدته.
- (١٠)
تفشل كل القرارات السياسية المتعلقة بالمساواة والعدالة الاجتماعية والتي تهدف إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من المساواة في توزيع الدخل القومي طالما استعصت ثقافة الجماهير على أي نسق فعال للقيم يدفع الجماهير نحو التغير الاجتماعي. وقد تبقى أي ثورة شعبية مثل انتفاضة يناير ١٩٧٧م لفترة قصيرة؛ لأن مطالب الجماهير في المساواة والعدالة الاجتماعية لم ترتبط بثقافتها في مصدريها الأساسيين: الديني في الكتب المقدسة، والدنيوي في الأمثال العامية.
إن مأساة التجربة المصرية كانت في وجود قيادة سياسية ثورية أولًا ثم تقليدية ثانيًا. وغياب المؤسسات الدينية والعلمانية المستقلة، وعدم بناء ثقافة الجماهير كأيديولوجية سياسية.
R. H. Dekmejian, Marx, Weber and the Egyptian Revolution, in Arab Society in Transition: A Reader, ed., Saad Eddin Ibrahim; Nicholas S. Hapkins, pp. 436–76, Cairo, The American University in Cairo Press, 1979.
D. E. Smith: Religion and Political Development, p. 270, Little Brown and Company, Boston, 1970.
Tawney: Equality, Unwin Books, London, 1971.
O’Dea: The Sociology of Religion, p. 58, Prentice-Hall, New Jersey, 1966.
The Political Economy of Income Distribution in Egypt, edited by Gouda Abdel-Khalek and Robert Tignor, Holmes & Meier Publishers Inc., New York, London, 1982.
R. Robertson: The Sociological Interpretation of Religion, p. 174 Schocken, New York 1972.
Glenski: The Religious Factor, p. 329, Doubleday, New York, 1971, R. H. Tawney: Religion and the Rise of Capitalism, Puritanism and Society, pp. 165–75. N. A. L. New York, 1954; N. I. Kitch: Capitalism and Reformation, pp. 151–62, Barnes & Noble, New York, 1967; N. Weber: L’ethique Protstante et l’esprit du Capitalism, Plm, Paris, 1964.
د. حسن حنفي: الدين والرأسمالية. قضايا معاصرة، ج٢ في فكرنا المعاصر، ص٢٧٣–٢٩٤، دار الفكر العربي، القاهرة ١٩٧٧م.
J. Wach: Sociology of Religion, p. 306, University of Chicago Press, Chicago, 1967.
«في العالم الإسلامي يأتي تهديد الأوضاع المستقلة للدين من الحكومة» «وتسود الحكومة الآن … هذه المؤسسة …
Smith: op. cit., p. 204.
الدينية (الأزهر). فهو في الحقيقة آلة طيعة في يد الحكومة وعاجز عن أن يقوم بأي فعل مستقل كجماعة ضاغطة لها مصالحها الخاصة».
Smith: op. cit., pp. 129-30.
D. E. Smith, op. cit., p. 43.
«وقد كانت هذه فتوى محمود شلتوت «الاشتراكية والإسلام» فقد ربط الأزهر نفسه دائمًا بسياسات الحكومة القائمة. فالاشتراكية الإسلامية متطابقة مع الشريعة الإسلامية».
K. H. Karpat: Political and Social Thought in the Contemporary Middle East, pp. 128–32, Praegar, New York, 1968.
D. E. Smith: op. cit., p. 277 cited in W. C. Smith: Modern Islam in India; Social Analysis, p. 105.
Betty R. Schaff: The Sociological Study of Religion, p. 78, Harper & Row, New York, 1970.
D. E. Smith: op. cit., p. 271.
Lenski: op. cit., pp. 300–21.