أثر العامل الديني على توزيع الدخل القومي في مصر١

أولًا: مقدمة

أكد بعض الباحثين الوطنيين بصورة قاطعة، وهم بصدد تحليل التطور الاجتماعي في مصر منذ ١٩٥٢م، أن الاشتراكية التي كانت أهم معالم هذه التجربة في الستينيات كانت استمرارًا لحركة الإصلاح الديني التي بدأت في القرن الماضي وتطبيقًا لها.٢ وبالتالي فإن مفاهيم المساواة والعدالة الاجتماعية مفاهيم دينية، وأن الاشتراكية في الستينيات كانت اشتراكية إسلامية. وطبقًا لهذا الرأي لعب العامل الديني دورًا حاسمًا في تشكيل سياسات توزيع الدخل القومي في مصر. والحقيقة أن هذا حكم متسرع يعوزه الدليل القاطع والبرهان المادي. كما أيد بعض الباحثين الغربيين هذا الرأي بناءً على بعض الأحكام الدينية والحضارية المسبقة.٣ منها أن الإسلام في المجتمعات الإسلامية ما زال يقوم بدور كبير في الحياة الاجتماعية والسياسية. فالمجتمعات الإسلامية، على خلاف المجتمعات الأوروبية، ما زالت تعيش عصر ما قبل العلمانية، والعامل الديني الذي تم تحييده في الغرب ما زال فعالًا ومؤثرًا في الشرق. والحقيقة أن هذا الحكم الصادر عن وعي أو عن لا وعي مجرد وهم. فالمسيحية في الغرب ما زالت فعالة ومؤثرة إن لم تكن كفعل، فعلى الأقل كرد فعل. وقد تكون العلمانية في العالم الإسلامي هي المعنى الوحيد الحقيقي للإسلام. فالإسلام ذاته منذ البداية دين علماني. وتأتي علمانيته من الداخل كوضع إلهي وليس من الخارج كمكسب بالجهد الإنساني.

ويقوم هذا البحث على افتراض مقابل وهو أن مفاهيم المساواة والعدالة الاجتماعية وما يتبعها من نظريات في الاشتراكية مفاهيم علمانية خالصة، وأن الدين لم يستخدم إلا كإجراء دفاعي بعد هجوم الرجعية العربية على الاشتراكية في الستينيات باستخدام الدين أولًا. وقد بلغ هذا الجدل الذروة في ١٩٦٢-١٩٦٣م. استخدم الدين إذن في كلا المعسكرين في العالم العربي، التقدمي والرجعي، بنفس الطريقة كوسيلة لتحقيق أهداف اجتماعية وسياسية متباينة. كما تم توجيه المؤسسات الدينية والعلمانية في مصر من أجل استخدام الإسلام لتبرير العدالة الاجتماعية وبطريق مباشر كما كان الحال في الستينيات أو لتبرير اللامساواة الاجتماعية وبطريق غير مباشر كما هو الحال في السبعينيات. كما استخدمت ثقافة الجماهير أيضًا في لعبة السياسة لتدعيم القيم الإيجابية مثل العمل والإنتاج والنضال في الستينيات أو القيم السلبية مثل الصبر والتوكل والرضا في السبعينيات. وكانت إرادة التغيير في كلتا الحالتين متمثلة في القيادة السياسية تتبعها المؤسسات الدينية والعلمانية. ولم تتغير ثقافة الجماهير في كلتا الحالتين، وظلت على حالها كتيار تاريخي متصل تسوده المحافظة، وقد كان هذا العمق التاريخي هو المسئول عن التحول التدريجي من الاشتراكية الصريحة في الستينيات إلى «الرأسمالية» الضمنية في السبعينيات. ويمكن تحليل أثر العامل الديني على توزيع الدخل القومي في مصر على مستويات ثلاثة:

  • (١)

    القيادة السياسية.

  • (٢)

    المؤسسات الدينية والعلمانية.

  • (٣)

    ثقافة الجماهير.

وأفضل المناهج لدراسة هذا الموضوع هو المنهج «الفينومينولوجي» الذي يقوم بتحليل التجارب الحية المشتركة بين الباحث والمجتمع. وسيكون الاعتماد أساسًا على المصادر الأولية التي تكشف عن هذه الخبرات، وتتضمن مجموعة الخطب السياسية، وتصريحات رجال الدين، ونشرات الصحف، وبرامج الإذاعة والتليفزيون، وخطب المساجد، ونماذج من الكتب الدعائية حول الإسلام والاشتراكية أو الاشتراكية في الإسلام، والأمثال العامية، والأغاني الشعبية، ونماذج من الأعمال الروائية والمسرحية ومن القصص القصيرة والقصائد الشعرية … إلخ. ويكشف تحليل هذه المصادر الأولي عن التجارب الاجتماعية المباشرة، وتعبر عن المواقف السياسية الحية للفرد والمجتمع. كما يسمح هذا المنهج بإعطاء صورة صادقة من الداخل في مواجهة الصور النمطية التي تروجها مدرسة «الاستشراق التاريخي» الذي لا يتجاوز المعلومات الخارجية و«الرد» الوضعي. إطارًا نظريًّا مثل تحليل فيبر للقيادة «الكاريسمية» أو وصف دوركهايم للمؤسسات الدينية باعتبارها أشياء أو تشريح ماركس لثقافة الجماهير إلا أن هذا البحث يقدم نموذجًا من «علم الاجتماع الوطني» السائد عند الباحثين الوطنيين في أمريكا اللاتينية من أجل المحافظة على التجارب الحية بلحمها وعظمها ودون تحويلها إلى صياغات ونظريات مجردة مستمدة من العلوم الاجتماعية الغربية من علم الاجتماع الديني أو الأنثروبولوجيا الحضارية أو اللاهوت السياسي. وأن الرؤية الحدسية وإيصالها مباشرة والتعبير عنها بصراحة وصدق لأكثر قدرة على إدراك المعاني والإيحاء بها والكشف عنها عند الآخرين الذين يشاركون في نفس التجارب على استحياء من مجرد استنتاجات العلم وتغليفها داخل أطر مجردة أو نظريات مستمدة من العلوم الاجتماعية الغربية.

وتنقسم خطة هذا البحث إلى خمسة أقسام: الأول، المقدمة عن الموضوع والمنهج ومادة البحث. والثاني، تحليل الخطب والتصريحات للقيادة السياسية في الستينيات والسبعينيات.٤ والثالث، دور المؤسسات الدينية (الأزهر، وأئمة المساجد، والجمعيات الدينية … إلخ) والعلمانية (الجامعات والأحزاب السياسية، والجمعيات العلمية والثقافية … إلخ) في تبرير قرارات السلطة السياسية، والرابع، الاستمرار التاريخي لثقافة الجماهير وسيادة المحافظة الدينية عليها من ١٩٥٢–١٩٧٧م. والخامس، النتائج العامة للبحث.

ثانيًا: القيادة السياسية واستخدام الدين كإجراء دفاعي في الصراع على السلطة

كانت القيادة السياسية في الخمسينيات والستينيات تقوم على الزعامة «الكاريسمية». وكانت مصدر معظم القرارات السياسية والاجتماعية (تأميم قناة السويس في ١٩٥٦م. الوحدة المصرية السورية في ١٩٥٨م، قرارات يوليو الاشتراكية في ١٩٦١م، حرب يونيو ١٩٦٧م).٥ وقد سمح هذا النمط الأوتوقراطي للنظام السياسي في مصر سواء في الستينيات أو في السبعينيات بهذا الدور الكبير للقيادة السياسية. وبين تحليل الخطب والتصريحات السياسية للقيادة السياسية في هاتين الفترتين بوضوح تام كيف تم استخدام الدين كإجراء دفاعي في الصراع على السلطة، سواء بين النظم السياسية المتعارضة (مصر والسعودية) أو بين السلطة السياسية والمعارضة (مصر والمعارضة).٦

(١) الإسلام والمساواة الاجتماعية. استخدام الإسلام في الستينيات (١٩٥٢–١٩٧٠م)

يبين تطور فكر القيادة السياسية في مصر في هذه الفترة ثلاث مراحل يتميز كل منها بعدة مفاهيم وهي:

(أ) المساواة، العدالة، تكافؤ الفرص، تذويب الفوارق بين الطبقات (١٩٥٢–١٩٥٦م)

كانت هذه المفاهيم الأربعة الأولية مفاهيم علمانية خالصة. ولم تكن هناك معالم واضحة بينها، بل كان يمكن استبدال أحدها بالآخر. ومع ظهور مفهوم العدالة الاجتماعية كمفهوم رئيسي له معنيان: الأول سلبي والآخر إيجابي. فالعدالة الاجتماعية بمعناها السلبي ضد الظلم الاجتماعي والاستغلال والاحتكار والإقطاع والرأسمالية والفوارق بين الطبقات والانتهازية والعبودية والرجعية والاستعمار، وهي تعريفات فضفاضة خطابية متضمنة من قبل في المبادئ الثلاثة الأولى للثورة: القضاء على الإقطاع، والقضاء على الاستعمار، والقضاء على الاحتكار. وهي بمعناها الإيجابي متضمنة في المبدأ الرابع من المبادئ الستة: إقامة عدالة اجتماعية. وهي بهذين المعنيين هدف القيادة السياسية وأمل الشعب، وهي الأساس الذي يقوم عليه توزيع الدخل. فلكل فرد حقه في الثورة الوطنية. وهي تتطلب زيادة الإنتاج وإلا كان توزيع الثروة القومية الحالية توزيعًا للفقر. وترتبط العدالة الاجتماعية بالكفاية. فقد كان هدف القيادة السياسية هو قيام مجتمع الكفاية والعدل. والعدالة في التوزيع هو المعنى الحقيقي للديمقراطية لأن الحرية الاجتماعية شرط الحرية السياسية. كما أن العدالة الاجتماعية هي السبيل للمحافظة على الوحدة الوطنية وتأسيس الدولة الحديثة. وقد تم تحقيق العدالة الاجتماعية بعدة إجراءات منها: إيجاد التوازن بين القطاع العام والقطاع الخاص، استخدام رأس المال لخدمة الاقتصاد الوطني، تشجيع الشركات المساهمة، توسيع قاعدة التأمينات الاجتماعية، التخطيط القائم على نظام الأولويات، التأميم، ملكية الشعب العامل لرأس المال الكبير، قوانين العمال، والنص على العدالة الاجتماعية في بنود الدستور.٧
وتنبثق المفاهيم الثلاثة الأخرى: المساواة، وتكافؤ الفرص، وتذويب الفوارق بين الطبقات من مفهوم العدالة الاجتماعية كمفهوم رئيسي. فالمساواة وتكافؤ الفرص مفاهيم أخلاقية إنسانية تتسم بنفس طابع العمومية وعدم التحديد. المساواة بمعناها العام تشير إلى المساواة في الخلق، وهي المساواة الطبيعية، كما تعني أيضًا المساواة في الحقوق والواجبات، وفي الأخذ والعطاء، وهي المساواة المدنية. كما تعني القضاء على الفوارق بين الطبقات في المجتمع الواحد، والمساواة بين الدول النامية والدول المتقدمة على الصعيد الدولي. ويتحقق تكافؤ الفرص في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أي في توزيع الثروة وفي التعليم وفي التمثيل السياسي. وإن كانت الفوارق بين الطبقات موروثة من الماضي فإنه يجب تذويبها في الحاضر. أما الفوارق الفردية فهي طبيعية يجب الإبقاء عليها. ويمكن القضاء على الأولى تدريجيًّا عن طريق تثبيت الأسعار، ومقاومة التضخم، ورفع مستوى معيشة الفلاحين والعمال، وتشجيع الصناعة والتجارة الحرة، واستغلال المواد الأولية ثم الإصلاح الزراعي أولًا وقبل كل شيء.٨ وقد كانت مهمة «هيئة التحرير» كتنظيم سياسي شعبي العمل على تنفيذ هذه الإجراءات والإشراف عليها.

ويبدو أن القيادة السياسية في تعاملها مع هذه المفاهيم الأربعة الأولى لم تستخدم الدين لتدعيمها إلا مرة واحدة بالإشارة إلى أن الله خلق البشر جميعًا متساوين. لم تكن هناك حاجة لمثل هذا التبرير الديني؛ لأن الدافع الثوري كان كافيًا وواضحًا بذاته لإقناع الشعب. وكانت البراهين الإحصائية تغني عن أية حجج نصية. كانت هذه المفاهيم الأربعة علمانية خالصة. ولكن بالنسبة للإسلام قد يكون العلماني هو المعنى الوحيد للدين.

ومع ذلك، ظهر الارتباط بين الإسلام والاشتراكية مبكرًا أثناء الصراع على السلطة علنًا بين القيادة السياسية والإخوان المسلمين في ١٩٥٤م. فقد اتهمتهم القيادة السياسية بأنهم يرفعون شعارات دينية جوفاء فارغة من أي مضمون اجتماعي أو سياسي. أما الثورة فإنها هي التي تعطي هذه الشعارات الدينية مضامينها الاجتماعية. فإذا كان الإخوان المسلمون يعتبرون القرآن دستورهم فإن الثورة هي التي حققت بنود هذا الدستور بخلعها الملك، وجلاء قوات الاحتلال البريطانية، والقضاء على الفساد والظلم الاجتماعي.٩ والحقيقة أن الخلاف بين القيادة السياسية والإخوان المسلمين لم يكن على موضوع إعادة توزيع الدخل القومي والعدالة الاجتماعية، فكلا الفريقين يناديان بذلك في برامجهما المعلنة، ولكن الخلاف كان مجرد صراع على السلطة.١٠

(ب) الاشتراكية الديمقراطية التعاونية (١٩٥٧–١٩٦٠م)

بعد تأميم قناة السويس في يوليو ١٩٥٦م، وبعد تمصير الشركات الأجنبية شعرت القيادة السياسية بحاجتها إلى عقيدة تلائم تكوين «المؤسسة الاقتصادية» فبدأت صياغة «الاشتراكية الديمقراطية التعاونية». والارتباط بين المفاهيم الثلاثة التي تكوِّن هذه العقيدة الجديدة ارتباط ضروري. فبدون الاشتراكية أي تحرير الفرد من الاستغلال لن تكون هناك ديمقراطية. وبدون الديمقراطية أي اشتراك الفرد في توجيه شئون الحياة العامة لن تكون هناك اشتراكية. ويعني التعاون الاستقرار السياسي القائم على العدالة الاجتماعية، والتكافل والحب. وقد تم تعريف الاشتراكية بأنها الكفاية وزيادة الإنتاج عن طريق سيطرة الدولة على الملكية الخاصة والعامة. وقد ظهر مفهوم التعاون في مصطلحات القيادة السياسية منذ ١٩٥٣م. وكان يدل على معنى أخلاقي عام، التعاون بين الأغنياء والفقراء، والتعاون بين كل المواطنين لإنقاذ البلاد … إلخ. كما ظهر على نحو ملموس في الزراعة والصناعة والتجارة والتعليم والخدمات في صورة جمعيات تعاونية. فإذا كانت الاشتراكية هي الجانب الاقتصادي في هذه العقيدة وكان التعاون هو جانبها الاجتماعي فإن الديمقراطية تكون هي جانبها السياسي، فالملكية التعاونية هي الطريق إلى الديمقراطية. ولما سادت هذه العقيدة أثناء الوحدة مع سوريا في الجمهورية العربية المتحدة، وعندما بلغت القومية العربية الذروة أصبحت أيضًا الطريق إلى الوحدة العربية. فقد شعرت القيادة السياسية في ١٩٥٩م بضرورة صياغة أيديولوجية مماثلة لأيديولوجية حزب البعث، وقادرة على تحقيق أهداف القومية العربية: معاداة الاستعمار والصهيونية والاستغلال.١١
هل كانت هناك عناصر دينية في هذه العقيدة الجديدة؟ أكدت القيادة السياسية باستمرار على أن العقيدة الجديدة تطور طبيعي للتجربة المصرية، كما تعكس قوانينها حركة المجتمع المصري. فالقيادة السياسية لا تضع نفسها في إطار النظريات لتبحث عن حياتها بل تضع نفسها في حياتها لتبحث عن النظريات. ومع ذلك فقد ظهر الإسلام في هذه الفترة أثناء صراع القيادة السياسية المستمر منذ ١٩٥٤م مع الإخوان المسلمين وأثناء الصراع الجديد ضد قاسم في العراق في ١٩٥٩م. فالإسلام هو التعاون على فعل الخير والنهي عن الشر على عكس الإخوان المسلمين الذين كانوا يمنعون الخير ويتعاونون على فعل الشر. وعندما كتب ناصر في سجل الزوار في اتحاد النقابات كلمة لتشجيع التعاون مستشهدًا بالآية القرآنية: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ كان يقصد الإخوان المسلمين. علاوة على ذلك أخذت القيادة السياسية القرآن كنموذج للتطبيق التدريجي للعقائد المنبثقة من حياة الشعوب. فالاشتراكية الديمقراطية التعاونية ليست كتابًا يمكن تطبيقه، بل مجرد مرحلة في نظام نتيجة للتجارب المشتركة والعمل في المجتمع، ملائمة لتطوره طبقًا لمبدأ المحاولة والخطأ. لا يوجد كتاب يسمى «الاشتراكية الديمقراطية التعاونية»، ولا يوجد إنسان في التاريخ قادر على تأليف مثل هذا الكتاب في أربع وعشرين ساعة. وقد أعطى الله المثل على ذلك. لقد كان باستطاعة الله إنزال القرآن في ليلة واحدة ولكنه استغرق ثلاثة وعشرين عامًا ليعطينا نموذجًا تجريبيًّا نتبعه.١٢ كما لجأت القيادة السياسية إلى الإسلام في صراعها مع قاسم في العراق في ١٩٥٩م.١٣ فعندما بدت الماركسية كخطر قادم من العراق إبان حكم قاسم اتهمته القيادة السياسية في مصر بأنه ملحد شيوعي.١٤
وظهر الإسلام في ذلك الوقت على أنه دين معادٍ للماركسية.١٥

(ﺟ) الاشتراكية العربية (١٩٦١–١٩٧٠م)

الاشتراكية العربية هي الأيديولوجية التي ورثت الاشتراكية الديمقراطية التعاونية. وقد أتت متأخرة في الظهور؛ لأن القيادة السياسية كانت مشغولة في ١٩٥٤-١٩٥٥م بتحقيق جلاء القوات البريطانية. وبعد الاعتداء الثلاثي في ١٩٥٦م كانت «الاشتراكية الديمقراطية التعاونية» خطوة على طريق الاشتراكية. وقد ظهرت «الاشتراكية العربية» أخيرًا بعد صدور قرارات يوليو الاشتراكية في ١٩٦١م وصدور «الميثاق الوطني» في ١٩٦٢م. وقد اعتبرت القيادة السياسية قوانين يوليو الاشتراكية في ١٩٦١م بمثابة تأميم قناة السويس في يوليو ١٩٥٦م، الأولى ضد الرجعية والثانية ضد الاستعمار. والحقيقة أنه بعد الانفصال السوري أرادت القيادة السياسية في مصر أن تقوي من قبضتها في الداخل خشية أن تتحرك القوى الرجعية كما تحركت من قبل في سوريا، فأعلنت الاشتراكية كأيديولوجية للبلاد. وقد تمت صياغتها في «الميثاق الوطني» الذي تم الاتفاق عليه في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي عقد بعد أشهر قليلة من الانفصال كبداية لإقامة نظام لقوى الشعب العامل المستفيدة الوحيدة من الاشتراكية.١٦

والاشتراكية قيمة روحية، ولها عند القيادة السياسية معنًى أخلاقي، وضع حدٍّ لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان. وأحيانًا تبدو وكأنها مفهوم سلبي مثل مفهوم العدالة الاجتماعية أي نهاية حكم الأقلية المستغلة لثروات البلاد والمتمثلة في الإقطاع والرأسمالية والاحتكار. وأحيانًا أخرى تبدو وكأنها مفهوم إيجابي أي اشتراك كل المواطنين في الثروة القومية أو الكفاية والعدل أو تكوين مجتمع الرفاهية. كما تعني القيادة السياسية بها التحول الاشتراكي أكثر مما تعني الاشتراكية، وتطلق على التجربة «مرحلة التحول الاشتراكي». وقد ارتبطت الاشتراكية أخيرًا بمفهوم الوحدة كي تصبح الشعار الجديد للقومية العربية.

وقد تم تطبيق الاشتراكية بعدة إجراءات مثل التأميم، سيطرة الشعب على وسائل الإنتاج، تحديد الحد الأعلى للملكية الزراعية بمائة فدان للعائلة الواحدة، اشتراك العمال والموظفين في مجالس الإدارة، الضرائب التصاعدية التي تصل إلى حد ٩٠٪ من الدخل الفردي. ويتم الإشراف على تطبيق هذه الإجراءات والسهر على تنفيذها بعدة طرق منها «الاتحاد الاشتراكي العربي»، مجلس الشعب بنصف أعضائه من العمال والفلاحين، التشريعات الاشتراكية في قوانين الدولة والنص عليها في الدستور، واجب القوات المسلحة لحماية التجربة الاشتراكية.١٧

والاشتراكية العربية على هذا النحو علمانية خالصة. وقد لجأت القيادة السياسية مرة واحدة إلى العامل الديني، الإيمان بالله كأحد خصائص الاشتراكية العربية التي تميزها عن الماركسية اللينينية. وبالرغم من اللجوء إلى هذه التفرقة كإجراء دفاعي ضد اتهام الاشتراكية العربية بأنها ماركسية. ظهر العامل الديني كعامل رئيسي عندما أصبحت القيادة السياسية موضوعًا لهجوم الدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية أثناء حكم الملك فيصل واليمن أثناء حكم الإمام يحيى. وقد ظهرت كل الأفكار عن العدالة الاجتماعية والاشتراكية في الإسلام في هذا الإطار من الدفاع عن الذات لنفي تهمة وليس لتأسيس الاشتراكية على نحو وضعي.

وقد بدأ استخدام القيادة السياسية للإسلام للدفاع عن الاشتراكية ضد هجوم السعودية في ١٩٦١م وبلغت الذروة في ١٩٦٢-١٩٦٣م. وقد بدأت هجومها ضد الرجعية العربية بعد استخدام هذه الإسلام في هجومها ضد الاشتراكية العربية. فأرادت نزع السلاح من خصومها بل وأمضى سلاح، وهو سلاح الدين.١٨
وقد استعملت القيادة السياسية جدلًا مزدوجًا: إيجابيًّا لإثبات أن الإسلام دين اشتراكي وسلبيًّا لنفي صفة الرجعية عن الإسلام. ويمكن تلخيص هذه الحجج على النحو الآتي:
  • (١)
    الإسلام دين اشتراكي. وقد كون الإسلام في العصر الوسيط أول تجربة اشتراكية في العالم. وكان النبي محمد على رأس أول دولة اشتراكية. وكان أول من أعطى الحجج لسياسات التأميم في الحديث المشهور «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار».١٩ كما أعطى الرسول أكمل نموذج للسلوك الاشتراكي. عاش فقيرًا ومات فقيرًا.٢٠ وبعد موت الرسول استمرت الدولة الإسلامية الاشتراكية في عهد أبي بكر وعمر. فقد أمم عمر أرض القطاع في العراق ووزعها على الفلاحين المعدمين.٢١ قدمت القيادة السياسية هذه الصورة المثالية للمجتمع الإسلامي كنموذج للمجتمع الشيوعي الأول كما فعل ماركس وأنجلز نفس الشيء في وصفهما للمسيحية البدائية.
  • (٢)
    الإسلام دين المساواة والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص. فالإسلام دين اشتراكي والدين والاشتراكية يعنيان المساواة بين البشر، ورفع مستوى المعيشة، وتذويب الفوارق بين الطبقات. وقد جعل الدين تكافؤ الفرص أساس الثواب والعقاب. يبدأ كل إنسان حياته بأعماله وليس بوراثة الطبقة.٢٢ كما لا يسمح الإسلام بوجود مجتمع به أغنياء وفقراء. قبل الثورة كان هناك ٥٪ من السكان يحصلون على ٥٠٪ من الدخل القومي. وقد قامت الثورة لوضع حد لهذا التوزيع اللامتساوي للدخل وللقضاء على الطبقات الرأسمالية والإقطاعية. والثورة بهذا تطبق الإسلام لأنها لم تسمح للأغنياء باستغلال الفقراء. وقد استعملت القيادة السياسية باستمرار هذا الشعار «الإسلام شريعة العدل، وشريعة العدل شريعة الله» للتوحيد بصراحة ووضوح بين الإسلام والعدالة. جوهر الإسلام هو العدل. وجوهر الشريعة أيضًا هو العدل. فالعدل إذن أمر إلهي، وكل إجراء لتحقيق العدالة الاجتماعية يكون بمثابة شريعة إلهية.٢٣
  • (٣)
    العدالة الاجتماعية علاقة طبيعية وإلهية بين الأغنياء والفقراء.٢٤ من يملكون عليهم إعطاء من لا يملكون. وقد دعت كل الأديان، وليس الإسلام وحده، إلى العدالة الاجتماعية. وأقرت كلها، وليس الإسلام وحده، مبدأ الزكاة أي مشاركة الإنسان غيره في أمواله، بل حارب أبو بكر مانعي الزكاة. الزكاة حق الإسلام تهدف إلى إقامة عدالة اجتماعية. ويمكن استعمال العنف ضد الممتنعين عن الزكاة. وهي لا تزيد على ربع العشر من المال الذي يحول عليه الحول دون استخدام. لا وجود للفقراء أو للمعدمين في المجتمع الإسلامي نظرًا لوجود التكافل الاجتماعي. مقومات العدالة الاجتماعية إذن في الإسلام. ولما كانت العدالة الاجتماعية تعني الكفاية فإن الكفاية في الإسلام لا تشير فقط إلى الأسس المادية بل أيضًا الروحية والدينية والأخلاقية.٢٥ فالاشتراكية في الإسلام أقرب ما تكون إلى التصور الأخلاقي منها إلى المذهب الاقتصادي. هي جزء من تاريخ الشعب وتراثه الروحي.
  • (٤)
    تقوم الأخلاق السامية على تقديس العمل مثل الأخلاق الاشتراكية.٢٦ لذلك حرم الإسلام الربا؛ لأنه ضد مبدأ العمل كمصدر وحيد للدخل. فالمال لا يولد المال من تلقاء ذاته دون توسط العمل أي الجهد والعرق والإنتاج. وقد تبنت الثورة نفس الأخلاق عندما ألغت الربا في السلف الزراعية، وأعطت سلفًا أخرى للفلاحين بدون ربا.٢٧
  • (٥)
    وتبريرًا للتحول الاشتراكي استعملت القيادة السياسية بعض الملاحظات الأولى عن التدرج في الشريعة الإسلامية. وأشهر مثل على ذلك هو التدرج في تحريم الخمر. فقد بين القرآن أولًا أن إثمها أكبر من نفعها. ثم حرمها بعد ذلك أثناء الصلاة فقط حتى لا يقف الإنسان أمام ربه مخمورًا. وبعد ذلك حرمها مطلقًا في صيغة النهي. أعطى القرآن إذن نموذجًا للثورة التدريجية وبالتالي التطبيق التدريجي للاشتراكية.٢٨
  • (٦)
    والإسلام ضد الرجعية. ومع ذلك استغلت الرجعية العربية الدين لخداع الشعب. وكان الهدف الرئيسي من ذلك هو إبقاء الشعب على جهله ليسهل استغلال ثرواته. لقد فسرت الرجعية العربية الإسلام تفسيرًا خاطئًا وهي على علم بذلك من أجل استغلال ثروات الشعوب. وأرادت تغطية هذا الاستغلال تحت ستار الدين. كدَّست الأموال من دماء الشعوب، ولم ينتج هذا التكديس من العمل، القيمة الإسلامية، بل من الاستغلال الذي يحرمه الإسلام. وباسم الدفاع عن الدين كانت تدافع عن مصالحها الخاصة. وفي الإسلام ثروات المسلمين للمسلمين وليست للملوك.٢٩
  • (٧)
    هاجمت القيادة السياسية بعض القيم الدينية السلبية مثل الصبر. لقد دعت الرجعية العربية الفقراء إلى الصبر، والصبر في حقيقة الأمر ليس قيمة إسلامية إذا كان يعني الخضوع والاستسلام وقبول الاستغلال.٣٠ كما رفضت اعتبار المساواة الاجتماعية إلحادًا لأن الإيمان بالله يتطلب الإيمان بالمساواة بين البشر أمام إله واحد. إن اللامساواة الاجتماعية هو الإلحاد؛ لأنها تنفي المساواة بين البشر.٣١ كما دافعت القيادة السياسية عن نفسها ضد اتهامها بأنها استبدلت بالإسلام الاشتراكية وأنها جعلت نفسها نبيًّا لدين جديد.٣٢
  • (٨)

    أرادت الرجعية العربية ترك حل مشكلة العدالة الاجتماعية إلى الآخرة بمعونة الله ومشيئته وليس في الدنيا عن طريق الاشتراكية.

والحقيقة أنه لا يمكن ترك العدالة الاجتماعية لمشيئة الله.٣٣ كما رفضت القيادة السياسية «اشتراكية الإحسان» التي تدافع عنها الرجعية العربية. فالإحسان لا يكفي لإقامة عدالة اجتماعية.٣٤
لم تستعمل القيادة السياسية النصوص الدينية لتدعيم هذه الحجج بل لجأت إلى البداهة العقلية والحسية وإلى حس الجماهير. فاستطاعت أن تكسب المعركة بسهولة ويسر ضد الرجعية العربية. وكانت حججها تقوم على المضمون وليس على الشكل، وكان تفسيرها للإسلام، بالرغم من ظهوره من خلال الجدل مع الخصوم، تفسيرًا واقعيًّا وليس تفسيرًا صوريًّا.٣٥

(٢) الإسلام واللامساواة الاجتماعية، استخدام الإسلام في السبعينيات (١٩٧٠–١٩٧٧م)

كانت هزيمة يونيو ١٩٦٧م من الناحية العملية نهاية التجربة الاشتراكية في الستينيات. فقد بدأ التراجع عن الخط الاشتراكي بعد ذلك. كانت خطب القيادة السياسية في السنوات الثلاث الأخيرة قصيرة وفارغة من أي قرارات جديدة أو أي تحولات اشتراكية جديدة (باستثناء قانون الإصلاح الزراعي الثالث، وإلغاء بعض البدلات والمميزات لكبار الموظفين وضباط الجيش من أجل تصفية الطبقة الجديدة كما وضح في بيان ٣٠ مارس). وبالرغم من عزم القيادة السياسية على مراجعة «الميثاق الوطني» في ١٩٧٠م لاتخاذ إجراءات اشتراكية جذرية فيما يتعلق بقوانين الإصلاح الزراعي وتأميم تجارة الجملة وقطاع المقاولات، بل وتكوين تنظيم طليعي يكون عصب الاتحاد الاشتراكي العربي للدفاع عن مصالح الجماهير، في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة تغيرت القيادة السياسية بموت ناصر. ولم تحاول القيادة السياسية الجديدة تنفيذ هاتين الرغبتين. بل إنها على العكس من ذلك بدأت بالتراجع عن اشتراكية الستينيات متهمة أنصارها بتفسير «الميثاق الوطني» تفسيرًا ماركسيًّا. فألغت الاتحاد الاشتراكي العربي، وحلت التنظيم الطليعي باعتباره أحد مراكز القوى.

وظهرت مفاهيم وأيديولوجيات جديدة تكشف عن ذاتها تدريجيًّا وعلى مراحل. أولًا، التراجع عن اشتراكية الستينيات من ١٩٧١–١٩٧٣م بالرغم من استعمال مفاهيمها وألفاظها بعد تفريغها من مضامينها الفعلية. وقد حدث هذا التراجع على المستويين الاقتصادي والسياسي. ثانيًا: بداية سياسة الانفتاح الاقتصادي بعد ١٩٧٣م، أي بعد حرب أكتوبر مباشرة، وإصدار قانون الاستثمار الأجنبي، ثالثًا: الإعلان عن الاشتراكية الديمقراطية في ١٩٧٥م كأيديولوجية جديدة للدولة وكطريق للسلام بين مصر وإسرائيل من خلال الاشتراكية الدولية.٣٦

(أ) التراجع عن اشتراكية الستينيات (١٩٧١–١٩٧٣م)

كان هدف هذه المرحلة الأولى إلغاء الماضي وإسدال الستار عليه. فقد بدأت الثورة بلسان القيادة السياسية الجديدة، تكتب تاريخها وكأنها شارفت على النهاية. كما بدأت شعارات الثورة الأولى في الظهور مثل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. كما عادت عقيدة «الاشتراكية الديمقراطية التعاونية» إلى الظهور. بل إن مبادئ الثورة الستة قد عادت إلى الحياة من جديد، كما عادت إلى الأذهان تواريخ الثورة الحاسمة مثل ١٩٥٢م، ١٩٥٦م، ١٩٥٨م، ١٩٦١م، ١٩٦٧م وكأن الثورة بدأت تكتب تاريخها وهي على مشارف النهاية. واعتبرت القيادة السياسية الجديدة «الميثاق الوطني» ميثاقًا ماركسيًّا كما اعتبرت أن الهدف من بيان ٣٠ مارس كان امتصاص غضب الشعب بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧م. ووصفت الوثيقتين بأنهما مجرد وثيقتين تاريخيتين من الماضي، كتابات أوحتها الظروف، وليس لها صفة الاستمرار أو الدوام.٣٧
وقد بدأ التراجع السياسي بحل التنظيم الطليعي باعتباره تنظيمًا ماركسيًّا سريًّا مارس أبشع أنواع التعذيب والاضطهاد ضد أفراد الشعب. كما تم استبعاد أنصار القيادة السياسية السابقة من الاتحاد الاشتراكي العربي ومن أجهزة الإعلام ومن الجيش باعتبارهم مراكز قوى. وتم تشكيل منابر ثلاثة داخل الاتحاد الاشتراكي من أجل ممارسة الديمقراطية، حجر العثرة في النظام السابق، وضد احتكار حرية الرأي. فإذا كان المبدأ السادس للثورة، إقامة حياة ديمقراطية سليمة قد تعطل في الستينيات نظرًا لمعارك النضال المتواصلة التي خاضتها الثورة وانشغالها بالبناء الداخلي فإنه يعود الآن بفضل القيادة السياسية الجديدة على أسس ثلاثة: الوحدة الوطنية، والسلام الاجتماعي، وحتمية الحل الاشتراكي. كان الهدف من المبدأين الأولين استقرار المجتمع وإلغاء للفروق بين الطبقات. وكان الثالث مجرد أثر باقٍ من آثار الستينيات على مستوى الألفاظ والشعارات. وقد رفعت شعارات جديدة تهدف أيضًا إلى استقرار المجتمع والدفاع عن الوضع القائم مثل «تقنين الثورة»، «الشرعية الدستورية» في مقابل «الشرعية الثورية»، «سيادة القانون»، «دولة المؤسسات» … إلخ. كما تم إلغاء تصنيف النظم العربية بين نظم تقدمية ونظم رجعية، وسمي «الاتحاد الاشتراكي العربي» الاتحاد الاشتراكي فقط.٣٨
وقد بدأ التراجع الاقتصادي عن الستينيات بإطلاق يد القطاع الخاص على حساب القطاع العام، وبالرغبة في تفتيت القطاع العام بدعوى خسائر الشركات، وبوضع حد لتدخل الدولة كشريك في الشركات الأجنبية والتنازل عن دورها في المشاركة في رأس المال الوطني والأجنبي، وبإنهاء التخطيط، وبتخفيض الدعم، وبرفع الحماية عن الصناعة الوطنية، وفتح الباب على مصراعيه للاستيراد … إلخ. وتحولت الاشتراكية إلى مجرد رؤية أخلاقية غامضة، ولم تعد نظامًا اقتصاديًّا. وقد تم تطبيق تكافؤ الفرص في الخدمات الاجتماعية وحدها مثل التعليم وليس في توزيع الدخل القومي. لم تعد العدالة ذات مضمون اجتماعي بل أصبحت لفظًا عامًّا مرتبطًا بالسلام والحرية في العلاقات الدولية. وأصبح التعريف المشهور للاشتراكية في الستينيات على أنها كفاية وعدل أقرب إلى الكفاية منها إلى العدل، وتحولت الثورة الاشتراكية إلى مجرد ثورة إدارية لم تتم.٣٩

(ب) سياسة الانفتاح (١٩٧٣م)

تمت صياغة هذا اللفظ الجديد «الانفتاح» لوصف النظام الجديد بعد التراجع عن اشتراكية الستينيات التي كانت تقوم على سياسة الانغلاق.٤٠ والانفتاح لدى القيادة السياسية الجديدة ضرورة عملية أكثر منه مفهومًا نظريًّا، يتحول فيها حرمان الشعب في الستينيات وسياسة الانغلاق إلى إشباع في النظام الجديد في السبعينيات. وتحتوي هذه السياسة الجديدة على عنصرين: عنصر عام وهو التكنولوجيا الغربية التي يجب استيرادها وتعلمها، وعنصر خاص وهي المواد المحلية والثروات الطبيعية التي يجب استغلالها بمساعدة رأس المال الغربي. فالغرب عامل حقيقي لتقدم العالم، وصورته في ذهن القيادة السياسية الجديدة صورة الإلكترونيات أي الصناعات الدقيقة الممثلة في «الترانزستور»!
وقد تم تطبيق سياسة الانفتاح في كل القطاعات: الاقتصاد الحر في الزراعة والصناعة والتجارة والسياحة والبنوك والتنقيب عن البترول. كما تم إنشاء مناطق ومدن حرة لهذا الغرض. وهذا يسمح، طبقًا للقيادة السياسية الجديدة، بإطلاق طاقات الشعب الخلاقة ضد البيروقراطية والروتين. وبالتالي تصبح مصر سوق النقد الدولية. ولذلك كان لا بد من توفير الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد.٤١
وبعد ثلاث سنوات فقدت القيادة السياسية ذاتها سياسة الانفتاح. فقد حدث إثراء سريع نتيجة للدخول الطفيلية لقلة من الناس. كما زادت الأسعار بسبب سيولة المال في أيدي الطبقات المتوسطة فخلقت عدم توازن بين زيادة الأسعار وزيادة الدخول بالنسبة للطبقات الدنيا. بل إن التفرقة التي تمت فيما بعد بين الانفتاح الاستهلاكي والانفتاح الإنتاجي لم تمنع من ظهور آثار الانفتاح على الطبقات الفقيرة. أصبحت المنتجات الوطنية بلا حماية مثل صناعة الأدوية، وصناعة الكاوتشوك، وصناعة النسيج. وهدد التضخم الاستقرار الاجتماعي. كما اتسعت الهوة بين الطبقات، وعم الفساد، ووصل إلى الوزراء ونواب الوزراء ورؤساء الوزارات. وقد صاحب السياسة الجديدة إعجاب بأسلوب الحياة وبالثقافة الغربية، رؤية فردية للعالم تقوم على المنافسة والربح مع نسق تقليدي للقيم لتقوية الترابط الاجتماعي.٤٢

(ﺟ) الاشتراكية الديمقراطية (١٩٧٥م)

إذا كانت سياسة الانفتاح هي البديل عن التراجع عن اشتراكية الستينيات فإن الاشتراكية الديمقراطية هي البديل عن سياسة الستينيات. لقد شعر النظام الجديد بحاجته إلى صياغة أيديولوجيته الخاصة لأسباب ثلاثة: الأول، معارضة نظام الستينيات الذي تصفه القيادة السياسية الجديدة على أنه يمثل اشتراكية القهر أو اشتراكية السجون والتعذيب والمعتقلات. وبالتالي فلن يخطئ الشعب في الاختيار بين النظامين. والثاني، الإعلان عن الأيديولوجية رسميًّا في يوليو ١٩٧٧م. وكانت المبادرة في نوفمبر من نفس العام، كوسيلة للتقارب مع إسرائيل من خلال الاشتراكية الدولية. والثالث كانت الأيديولوجية تعبيرًا عن الطبقة المتوسطة المكونة من التجار ورجال الأعمال والوسطاء والمقاولين وتجار الجملة وكل «الأغنياء الجدد». وكان الكل في حاجة إلى أيديولوجية لا تقل روعة وعظمة عن اشتراكية الستينيات وحتى لا يعملوا في فراغ نظري ودون أي ستار عقائدي.٤٣
ولقد فسرت القيادة السياسية الجديدة الطابع التجريبي البرجماتي لاشتراكية الستينيات لصالحها الخاص من أجل التحول كلية عن الاشتراكية. وقد حدث هذا التحول بناءً على ذرائع ثلاث: الأولى، إمكانية تغيير الاشتراكية طبقًا للظروف القومية والدولية المتغيرة. والثانية، حق كل فئة اجتماعية في التعبير عن ذاتها دون سيادة فئة اجتماعية على أخرى. والثالثة، توجه كل الجهود نحو الإنتاج وليس التوزيع لأن ما يهم في الأيديولوجية الجديدة هو التعمير وليس التوزيع. وقد بقي عدد كبير من الإجراءات الاشتراكية الصورية بلا تنفيذ.٤٤ ولم تكن هناك أيديولوجية متسقة ومتكاملة في ذلك الوقت بل كانت وما زالت في حيز التكوين. وكان الهدف من ورقة أكتوبر ١٩٧٤م تصفية اشتراكية الستينيات. وكان الهدف من ورقة التطوير من نفس العام تصفية التنظيم السياسي في الستينيات. كانت مهمة القيادة السياسية الجديدة الصراع مع اليسار والذي تتهمه بالإلحاد والعمالة للاتحاد السوفيتي.٤٥
وقد استخدمت القيادة السياسية الجديدة الدين كما استخدمته القيادة السياسية السابقة ولكن لتحقيق هدف مغاير وكعامل مساعد للتراجع عن الاشتراكية، وكأحد مبررات اللامساواة الاجتماعية. فإذا كانت القيادة السياسية السابقة قد لجأت إلى الدين لصد الهجمات الموجهة إليها من الخارج من الرجعية العربية فإن القيادة السياسية الجديدة قد لجأت إليه ضد المعارضة السياسية الموجهة إليها من الداخل، من الناصريين والماركسيين والاشتراكيين والديمقراطيين والوحدويين والثوار المسلمين وكل القوى التقدمية التي تود استمرار خط الستينيات دون الارتداد عنه.٤٦ وإذا كانت الرجعية العربية هي التي بدأت بالهجوم على القيادة السياسية السابقة متخذة الدين كسلاح سياسي فإن القيادة السياسية الجديدة هي التي بادرت بالهجوم على المعارضة السياسية مستعملة أيضًا الدين كسلاح سياسي بالرغم من عدم لجوء المعارضة لهذا السلاح على الإطلاق ضد القيادة السياسية الجديدة.٤٧
وبناءً على تحليل الخطب السياسية تستخدم القيادة السياسية الدين بطريقتين: الأولى، نشر القيم الدينية التقليدية مثل الإيمان والصبر والحب والإخاء … إلخ والتي ليس لها علاقة مباشرة بتوزيع الدخل مثل المساواة والعدالة الاجتماعية، بل علاقة غير مباشرة كموجهات وبواعث لقبول الوضع القائم الذي يقوم على اللامساواة والظلم الاجتماعي. والثانية، الهجوم على الإلحاد من أجل تشويه صورة المعارضة السياسية أمام أعين الشعب وزعزعة ثقته به. ويمكن بيان كيفية استخدام القيادة السياسية الجديدة للدين بالنقاط الأساسية الآتية:
  • (١)
    أخذ الموضوع المشهور في الستينيات «الإسلام والاشتراكية» منحى جديدًا. فاشتراكية الستينيات تتعارض تعارضًا جذريًّا مع الاشتراكية «الحقيقية». إذ يمكن ضمان حقوق الفقراء من الأغنياء دون حقد أو دون استعمال العنف عن طريق المحبة والإخاء! ولقد أعطت الشريعة الإسلامية رئيس الدولة الحق في أخذ فضول أموال الأغنياء دون حقد أو حسد كما كان الحال في اشتراكية الستينيات.٤٨ كان هدف القيادة السياسية الجديدة هو انتزاع دافع الصراع الاجتماعي من الدين واستعماله من أجل الترابط الاجتماعي دفاعًا عن الوضع القائم.
  • (٢)
    حاولت القيادة السياسية الجديدة أحيانًا أن تجد أسسًا دينية للقرارات الاقتصادية فطالبت مثلًا بإعادة النظر في قانون الضرائب من أجل تحقيق قدر أكبر من العدالة الاجتماعية بناءً على نظرية الاستخلاف! والحقيقة أنه لا توجد أية صلة بين موضوع إعادة النظر في قانون الضرائب وبين هذه النظرية المذكورة التي أصبحت غطاءً يستعمله من يشاء لإضفاء الشرعية على مشروعه الاقتصادي الاشتراكي أو الرأسمالي. بل إن السياسة الجديدة التي لا تشعر بأي حرج في أن يكسب الإنسان ما يشاء بشرط أن يدفع الضرائب على ما يكسب (أو أن يتهرب منها) لا ترتبط في كثير أو في قليل، من قريب أو من بعيد، بالاشتراكية أو بالإسلام، بل تعبر عن توجه رأسمالي خالص واقتصاد حر تم الإعلان عنه في سياسة الانفتاح تحت شعار ديني من أجل أن يزداد الاقتناع بها على نحو عقائدي.٤٩
  • (٣)
    معظم القيم التي روجتها القيادة السياسية الجديدة مثل الإيمان والصبر والقضاء والقدر والتوكل والعون الإلهي والحب ذو طابع سلبي. القصد منها إعداد الجماهير للتسليم بأي قرار سياسي يأتي من أعلى. كما تكشف هذه القيم علاقة فردية خالصة بين الإنسان والله، وليس منها ما يعبر عن علاقة اجتماعية بين الإنسان والإنسان. فهي أقرب إلى العبادات منها إلى المعاملات. وهذا هو الطابع العام الغالب على كل الأيديولوجيات المحافظة ذات الطابع الصوفي الأخلاقي الباطني الفردي. الهدف منها القضاء على الجوانب الاجتماعية في الدين والإبقاء على الجوانب الفردية. وبالتالي تتم التضحية بالعالم الخارجي (المجتمع) في سبيل العالم الداخلي (الفرد) وكأن الأخلاق الفردية هو الحل للمآسي الاجتماعية.٥٠
  • (٤)
    بالمقارنة باشتراكية الستينيات التي كان شعارها «شريعة العدل شريعة الله» لم تذكر القيادة السياسية الجديدة «شريعة العدل» كما أصبحت «شريعة الله» صورية خالصة.٥١ فإذا أشارت مثلًا إلى الزكاة كإجراء اجتماعي في الإسلام وكفرض لتحقيق التكافل الاجتماعي ولتنمية الريف فإنها تعني الفرض الديني أكثر من الإجراء الاجتماعي، ومن ثم حدث هذا الفصل بين الدين والقضية الاجتماعية، وأصبح كل منهما ميدانًا قائمًا بذاته لا رابط بينهما إلا الإحسان والصدقة وفعل الخير للناس.٥٢
  • (٥)
    وقفت القيادة السياسية ضد أي محاولة لاستعمال الدين لصالح قضية العدالة الاجتماعية كما يفعل الثوار المسلمون أو لأجل المعارضة السياسية كما يفعل الإخوان المسلمون. وتصورت الدين على أنه شعائر خالصة لا شأن لها بالسياسة. كما بقيت معظم الأفكار الاشتراكية على مستوى الألفاظ. فما أسهل المزايدة على شعارات الستينيات. فللفقراء حق في أموال الأغنياء طالما أن هذا الحق لا يتجاوز مستوى الكلمات. أما الواقع فإنه يتخذ مسارًا مخالفًا في سياسة الانفتاح والاقتصاد الحر. والحقيقة أن العدالة الاجتماعية في الإسلام ليست فقط إيراد سلسلة من الحجج النصية عليها بل ما يحدث في الواقع بالفعل تطبيقًا لتوجيهات هذه النصوص.٥٣
  • (٦)
    أصبح التمييز بين الاشتراكية (التي لم تعد توصف بأنها عربية أو علمية كما كان الحال في الستينيات بل إنها ديمقراطية) والماركسية أحد مرتكزات النظام السياسي الجديد. فالماركسية كما تراها القيادة السياسية الجديدة تنكر الدين بالرغم من الادعاء بأن هذا الموقف الماركسي الأول قد تغير فيما بعد. ولكن لم يصدر حتى الآن أي قرار رسمي في هذا الموضوع لتأكيد هذا التبدل في الموقف!٥٤

    وما أكثر الدراسات عن الماركسية والدين وكيف أن الدين يستخدم أحيانًا «أفيونًا للشعب» كما أنه يكون أحيانًا «صرخة المضطهدين» طبقًا للأوضاع الاجتماعية واستخدامات السلطتين الدينية والسياسية له لصالح الأقلية ضد الأغلبية أم لصالح الأغلبية ضد الأقلية.

  • (٧)
    ظهرت الأخلاقيات «الأبوية» لتكشف عن الطابع الأوتوقراطي للنظام مثل احترام رب الأسرة، وكبير العائلة، ورئيس الدولة، وأستاذ الجامعة، وإمام المسجد، والوزير المسئول، وخفير القرية، وشرطي الطريق … إلخ. وكلهم يمثلون الصورة الأبوية التي على كل إنسان احترامها وطاعتها.٥٥ والخروج عليهم خروج على التقاليد، ونقدهم نيل من المؤسسات التي يمثلونها. ولذلك كانت «أخلاق القرية» أفضل من أخلاق المدينة، وأخلاق الفلاح أقوم من أخلاق العامل، والمطيع للسلطة أكثر صلاحية من المعارض لها.
  • (٨)
    أصبح العلم والإيمان شعارًا للدولة الحديثة. والحقيقة أن العلم مفهوم غربي في أذهان الناس، ويفسح المجال للتكنولوجيا الغربية. واستيراد التكنولوجيا يشابه استيراد البضائع الكمالية واستيراد أنماط الاستهلاك الغربي كما بدت في سياسة الانفتاح. والإيمان قيمة تقليدية تقبلها الجماهير على الإطلاق وتجعلها مطيعة طيعة، مستعد لقبول ما تعطيه لها أية سلطة خارجية، الغرب أو السلطة السياسية أو الإرادة الإلهية. ويستعمل الإيمان هنا كباب خلفي يدخل منه التغريب (وما يتعلق به من رأسمالية واستعمار) والتسلط. والحقيقة أن الإيمان بهذا المفهوم التقليدي لا يساعد الشعب على النضال من أجل التغيير الاجتماعي أو على الإبداع من أجل خلق علومه الخاصة المرتبطة بقضاياه الوطنية.٥٦
وبينما استعملت القيادة السياسية في الستينيات حججًا عقلية تعتمد على سلطة العقل وحده استعملت القيادة السياسية في السبعينيات حججًا نصية تعتمد على سلطة الكتاب. كذلك ظهرت النصوص الدينية في خطب القيادة السياسية الجديدة أكثر من ظهورها في خطب القيادة السياسية السابقة. وكانت هذه النصوص تقوم بوظيفة التحليل الاجتماعي والاقتصادي في الخطابة السياسية، وقد تم استبعاد الإحصائيات حتى لا تعكس الصورة الفعلية لسوء توزيع الثروة. وبينما تتجه النصوص الدينية عادة نحو المشاعر الدينية تزييفًا للوعي فإن التحليل الاجتماعي السياسي القائم على المادة الإحصائية غالبًا ما يتجه إلى العقل توعية للجماهير.٥٧

وعلى هذا فإن استخدام القيادة السياسية للدين كإجراء دفاعي سواء للدفاع عن المساواة الاجتماعية ضد الرجعية العربية في الستينيات أو للدفاع عن اللامساواة الاجتماعية ضد المعارضة السياسية في السبعينيات كان في حقيقة الأمر دعاية سياسية في أجهزة الإعلام لإقناع الجماهير بمشروعية قرارات السلطة السياسية أو بمشروعية وجودها ذاته وليس كعامل مؤثر تأثيرًا مباشرًا في توزيع الدخل القومي.

ثالثًا: المؤسسة الدينية واستخدام الدين لتبرير قرارات القيادة السياسية

المؤسسات الدينية والعلمانية في العالم العربي والإسلامي باستثناء إيران والدولة الشيعية، جزء من الدولة. فالعلماء والكتاب والأساتذة والصحفيون والفنانون … إلخ موظفون في الدولة. لم تكن المؤسسات مستقلة بل كانت تتبع السلطة السياسية وتبرر قراراتها الاجتماعية والسياسية.٥٨ وهذا إقرار بواقع تاريخي سياسي اجتماعي وليس حكمًا على أصل الشرع الذي أعطى الاستقلال الكامل للسلطة القضائية وعدم جواز عزل قاضي القضاة بعد تعيينه.
وقد نفت القيادة السياسية في الستينيات والسبعينيات على حد سواء علنًا تدخلها في شئون رجال الدين. ومع ذلك لم يكن الأمر كذلك بالفعل. ففي الستينيات أصدر الأزهر فتوى ضد قاسم في العراق متهمًا إياه بالإلحاد. كما أصدر فقهاء العراق فتوى مضادة ضد فقهاء مصر! وسواء أصدر رجال الدين هنا أو هناك هذه الفتوى بناءً على طلب السلطة السياسية أو بمباردتهم الخاصة فالنتيجة واحدة، وهي أنهم يسيرون في ركاب السلطة السياسية ويعملون على تبرير قراراتها.٥٩
وقد استخدمت المؤسسات الدينية في الستينيات الدين من أجل الدفاع عن الاشتراكية.٦٠ كما أدخلت المؤسسات العلمانية مثل الجامعات والمؤسسات السياسية والجمعيات العلمية ومراكز الأبحاث … إلخ الدين في برامجها التعليمية ونشاطاتها الثقافية لإثبات الطابع التقدمي للإسلام وبيان الجوانب الاجتماعية فيه.
فقد آثر مجمع البحوث الإسلامية وضع حد أقصى للملكية في الإسلام. وأعطى رئيس الدولة الحق في التأميم عندما تصبح الملكية الفردية ضد المصالح العامة بناءً على عدة مبررات، منها: تحريم الإسلام الملكية المطلقة، ومصادرته لأموال المعتوه والأبله ولكل من يسيء استعمال الثروة، وتحريم الإسلام ملكية الأرض دون استغلالها، وتحريمه تجميع الملكيات الكبيرة في أيدي القلة من الملاك وترك الأغلبية من الفلاحين المعدمين بلا أرض كأُجراء زراعيين. وتحريم الإسلام تكديس الأموال في أيدي القلة تفاديًا لمخاطر الاحتكار والاستغلال، وضرورة رد الأموال المغتصبة لأصحابها الحقيقيين وإلا تجب على الدولة مصادرتها، وحق السلطة السياسية في فرض ضرائب على الأغنياء للصالح العام.٦١
ونشر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية مؤلفات كثيرة للدفاع عن اشتراكية الستينيات على أسس إسلامية. كما نشر «الميثاق الوطني» في أحد أعداد سلسلة «دراسات وبحوث إسلامية» وكأنه وثيقة إسلامية أصيلة. كما نشرت عدة كتيبات تأخذ شعارات اشتراكية الستينيات عناوين لها مثل «نداء الميثاق الوطني نداء الإسلام»، «شريعة العدل شريعة الله». كما صدرت دراسات أخرى تعرض الأفكار الإسلامية حول المساواة ووسائل محاربة الجوع.٦٢ كما نشر المجلس كتبًا إسلامية عن القومية العربية التي يظهر فيها الإسلام كدعامتها الأساسية.٦٣

ووزعت وزارة الأوقاف على كل خطباء المساجد خطب الجمعة وموضوعها الاشتراكية في الإسلام، ومفاهيم العدالة الاجتماعية والمساواة. ونشرت سلسلتان «مكتبة الإمام»، «زاد الخطيب» لإعطاء نماذج موحدة لخطب الجمعة حول الموضوعات الاجتماعية في الإسلام مثل العدالة الاجتماعية والمساواة في الإسلام، وتقديس العمل في الإسلام، وحقوق العمال في الإسلام، والقيم الاجتماعية في الإسلام، وتحذير الإسلام من زيادة الاستهلاك.

وأنشأ الاتحاد الاشتراكي العربي مكتبًا خاصًّا للشئون الدينية للقيام بحملة دعائية حول موضوع الإسلام والاشتراكية وللهجوم على الرجعية العربية وكشف استخدامها للدين لاستغلال الجماهير العربية. وعقد المكتب اجتماعات دورية مع العلماء وأئمة المساجد ومفتشيها لإعطائهم توجيهات أيديولوجية لتبليغها إلى المصلين. كما نظم المكتب عدة محاضرات وندوات حول الإسلام والاشتراكية. ونشرت المجلة الأسبوعية «الاشتراكي» التي كانت تصدر في ذلك الوقت عدة مقالات عن الدين والاشتراكية والرد على التفسير الرجعي للإسلام. كما تضمنت الكتيبات التي يصدرها الاتحاد العربي الاشتراكي لتثقيف أعضاء منظمة الشباب في دوراتهم التدريبية عدة فقرات حول الطابع التقدمي للإسلام مماثلة للفقرات التي وردت في «الميثاق الوطني» حول الدين والتقدم بوجه عام.

وقد انضمت المؤسسات العلمانية إلى الحركة بل ونافست المؤسسات الدينية ذاتها. فقد أدخلت الجامعات مادة «الاشتراكية العربية» ضمن مقرراتها بعناوين مختلفة مثل «ثورة ٢٣ يوليو»، «القومية العربية»، «الاشتراكية العربية»، «المقرر القومي». وأصبحت وسيلة لتأليف كتب جامعية توزع بالآلاف ويكسب من ورائها الأساتذة آلافًا أخرى. كما نافس أساتذة الجامعات رجال الدين، وألفوا في موضوع «الإسلام والماركسية».٦٤ عمل الأساتذة والعلماء معًا لخدمة السلطة السياسية، وتناسوا خلافاتهم القديمة حول التحديث والعلمانية. وقد نشرت معظم المجلات الشهرية التي تصدرها وزارة الثقافة ووزارة الأوقاف مقالات عدة في أعداد خاصة عن «الإسلام والاشتراكية».٦٥ وقد تابع كل الكتاب القيادة السياسية في الدفاع عن الاشتراكية والهجوم على خصومها. وصدرت عدة كتب دعائية بعد ١٩٦٢م عن «الإسلام والاشتراكية» يكرر كل منها الآخر وتنفيذًا لسياسة الدولة.٦٦ ولا يكاد يخلو كتاب واحد عن الاشتراكية إلا وفيه فصل عن الاشتراكية الإسلامية أو عن الأسس الاشتراكية في التراث الروحي الإسلامي.٦٧ وقد كان الهدف من كل هذه الكتابات إضفاء الشرعية على عمليات التغير الاجتماعي.٦٨
وقد شاركت أجهزة الإعلام في هذه الحملة. فقد أذيعت عدة برامج في الإذاعة والتليفزيون عن موضوع «الإسلام والاشتراكية»، وخصصت الصحف اليومية في صحفاتها الدينية يوم الجمعة عدة مقالات عن العدالة الاجتماعية والمساواة في الإسلام. وكانت المناسبات الدينية مثل العيدين ورأس السنة الهجرية وموالد آل البيت والأولياء مناسبات رائعة لمدح السلوك الاشتراكي الذي ضربه الأولياء! كما ألف الأدباء عدة مسرحيات وقصص وروايات وقصائد حول الصراع بين الأغنياء والفقراء. كما شدا معظم الفنانين والفنانات بأغانٍ وطنية واجتماعية حول الاشتراكية وإنجازاتها وحقوق العمال والفلاحين.٦٩
وقد لعبت المؤسسات الدينية والعلمانية في السبعينيات نفس الدور، ولكن بصورة أقل مما لعبته في الستينيات لعدة أسباب.٧٠ الأول أن القيادة السياسية في السبعينيات لم تكن في حاجة إلى أي تبرير ديني لهذا التراجع التدريجي عن اشتراكية الستينيات نظرًا لأن الطبقة الحاكمة كانت تجد في مصالحها الاقتصادية والسياسية التي تدعمها الولايات المتحدة الأمريكية والشركات المتعددة الجنسيات أفضل دعامة لها. والدعامة المادية في النهاية أرسخ بكثير وأقوى من الحملات الدعائية المنظمة التي لم تستطع بالرغم من شدتها وعلو صوتها وملء ملايين من الصفحات ترويجًا لها حماية اشتراكية الستينيات بعد التراجع التدريجي عنها بفعل تغير القيادة السياسية. والثاني، أن النظام السياسي في السبعينيات لم يكن له نفس القدر من التنظير الأيديولوجي الذي كان للاشتراكية في الستينيات.٧١ وبالتالي كان من الصعب على المؤسسات الدينية والعلمانية في السبعينيات الدفاع عن نظام سياسي لا يقوم أساسًا على دعائم أيديولوجية بل على مصالح الطبقات الاجتماعية الحاكمة. إذ يحتاج الدفاع النظري إلى نسق من الأفكار والعقائد يمكن فهمها وإيجاد منطقها ومبرراتها حتى يمكن الدفاع عنها، وبها قدر كافٍ من الصدق الفكري والتعبير عن مصالح الأمة. والثالث، لم يجد النظام السياسي في السبعينيات العدد الكافي من التابعين السياسيين له كما كان الحال في الستينيات بل وجد مهنيين وموظفين ورجال أعمال وأصحاب مصالح فعلية ومستفيدين من النظام القائم. لم يجد العدد الكافي من المنظرين السياسيين بعد أن ابتعدت معظم التيارات السياسية الأساسية وانزوت عن المشاركة في تدعيم النظام القائم سواء من الناصريين أو الماركسيين أو الليبراليين أو الإسلاميين.
ولذلك طلب من أساتذة الجامعات رسميًّا المساهمة في وضع عقيدة اشتراكية جديدة فأصدروا وثيقتين.٧٢ الأولى، أصبح الدين فيها الدعامة الأساسية للأيديولوجية الجديدة في مقابل أيديولوجية الستينيات التي عبر عنها «الميثاق الوطني». كما أصبح على الأقل على مستوى الألفاظ المصدر الرئيسي في التشريع في النظام الاجتماعي. وقد حاولت الوثيقتان صياغة نظرية التوازن باعتبارها العنصر الرئيسي في أيدلويوجية الحزب الحاكم، أولًا حزب الوسط أو حزب مصر، وأخيرًا الحزب الوطني الديمقراطي. ويقع هذا التوازن بين الفرد والمجتمع، بين القيم المادية والقيم الروحية، بين الدنيا والآخرة، وأخيرًا بين العلم والإيمان. والإيمان في النهاية هو القادر على حفظ هذا التوازن في شتى مظاهره.٧٣

والحقيقة أن مفهوم التوازن مناقض تمامًا لمفاهيم التحول الاشتراكي والصراع الطبقي. يحدث التوازن بين جانبين عندما يكون لهما نفس الثقل، وهو ما لا يحدث إلا في المجتمعات الطوباوية. إنما الهدف من أيديولوجية التوازن هو الحفاظ على الوضع القائم الذي يقوم على عدم التوازن بين مصالح الطبقات باسم الدين. وبالرغم من استعمال عشرات من النصوص الدينية لتأييد مفاهيم التوازن والوسط والتوسط والاعتدال إلا أنها تستعمل كلها كستار ديني على سوء توزيع الدخل القومي والثروة الوطنية. وكل محاولة لتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية فإنها توصف بأنها مناهضة للدين.

وفي الوثيقة الثانية «الاشتراكية الديمقراطية» يظهر نفس التصور القانوني للدين. إذ يسمح بوضع قيود على الملكية تضعها الدولة من أجل الصالح العام. فقد اتفق جمهور الفقهاء على نظرية «الاستخلاف» التي تعني بمصطلحات العصر أن الملكية وظيفة اجتماعية. الله يملك كل شيء والإنسان مستخلف فيه. للإنسان حق الاستعمال والتصرف والاستثمار ولكن ليس له حق سوء التصرف والاستغلال أو الاحتكار. يقوم النظام الإسلامي على التكافل، ويعطي الضمان الاجتماعي لكل مؤمن. وللفقراء حق في أموال الأغنياء.٧٤ وقد يذكر لمثل هذه الأيديولوجية بعض المحاسن على مستوى الفقه النظري ولكن المشكلة هي في تعارضها مع السياسات المنفذة بالفعل مثل الاقتصاد الحر وسياسة الانفتاح. وبالتالي ظل الدفاع الديني عن التكامل الاجتماعي لفظيًّا دون أي أثر على عملية إصدار القرار. وكانت وظيفته مجرد إعطاء الستار الديني لسياسات اجتماعية مضادة.٧٥
وقد ظهرت معتقدات الطبقة العليا في كلتا الوثيقتين. فمثلًا تحولت أخلاقيات العمل في الستينيات إلى أخلاقيات الطبقة المترفة في السبعينيات. فبالرغم من أن العمل حق مقدس فإنه لم يعتبر المصدر الوحيد للدخل. إذ يمكن الحصول على الثروة من العمل ولكن العمل ليس هو المصدر الوحيد للثروة. فالإنسان ليس في حاجة لأن يعمل ليعيش. وكأن النظرية هنا تفسح المجال للرشاوى والعمولات والمضاربات وجميع أنواع المفاسد والكسب غير المشروع كمصادر شرعية للدخل. كما تسمح بتكوين رأس المال الطفيلي في الطبقات العليا والمتوسطة.٧٦
ولم تدافع المؤسسات الدينية والعلمانية عن سياسة الانفتاح في السبعينيات لعدة أسباب. الأول، أنه لم يكن من السهل التغاضي عن الجانب الاجتماعي في الإسلام وليِّ الحقائق والنصوص الدامغة على اشتراكية الإسلام. والثاني، أنه لم تكن هناك هجمات من الخارج ضد القيادة السياسية الجديدة تستخدم الدين ضد سياسات الاقتصاد الحر، وبالتالي لم تنشأ الحاجة إلى الرأي المضاد واستخدام نفس السلاح كما كان الأمر في الستينيات.٧٧ والثالث، أن سياسة الانفتاح كانت تجد من يدافع عنها داخل البناء الاجتماعي ذاته وفي التركيب الطبقي للمجتمع دون ما حاجة إلى سلاح نظري عقائدي والتمويه على الناس بالدعاية والإعلان والدخول في معارك عقائدية لا يأتي منها كسب، والوقت هو المال.٧٨
ومع ذلك، قامت أجهزة الإعلان بشن حملة دعائية تعد الشعب بالرخاء في ١٩٨٠م، في ١٩٨٢م، ثم في ١٩٨٥م، وبإنهاء الأزمة الاقتصادية كلية عام ٢٠٠٠م، وبدأ الحديث عن مصر عام ٢٠٠٠م. حينئذٍ تصبح مصر قطعة من الولايات المتحدة الأمريكية، بعد الثورة الخضراء، ومشروعات الأمن الغذائي، وتعمير الصحاري، واستصلاح الأراضي، وإنشاء المدن الجديدة، وتعمير السواحل شرقًا وشمالًا، ورسم خريطة جديدة لمصر! كل ذلك أشبه بخطط سحرية تحقق هذه الوعود. هذا الخلاص الاقتصادي في المستقبل يعتمد على الخلاص الديني، الأمل في المستقبل في حياة وفي عالم أفضل.٧٩ وقد لاقت زيارة نيكسون إلى مصر في ١٩٧٤م، ومبادرة السلام في ١٩٧٧م، حماسًا شديدًا كمؤشرين للخلاص القريب بالوفرة والرخاء. ثم استيقظ الشعب من أحلامه وواجه أزمته الاقتصادية وثار على غلاء الأسعار كما صدرت في يناير ١٩٧٧م.
كما أصدرت بعض المؤسسات السياسية بعض التشريعات تعتمد في الظاهر على الدين كعامل اجتماعي مسكِّن مثل قانون العقوبات، ولم يكن الهدف منه الدفاع عن الدين بقدر إيقاف عمليات التغير الاجتماعي.٨٠ وقامت اللجان في مجلس الشعب لتقنين الشريعة الإسلامية ابتداءً من تحريم الخمر على المصريين وحدهم دون السياح الأجانب بمن فيهم الإخوة العرب وفي شهر رمضان وحده دون باقي شهور السنة! وحد الزاني، وحد القاذف، وحد قاطع الطريق، وحد الردة، وحد تارك الصلاة والصيام. كلها حدود رادعة القصد من سنها حصار طاقات الشعب ومنعه من الحركة خشية أن تتحول طاقاته لصالح القضية الاجتماعية.

رابعًا: ثقافة الجماهير كاستمرار تاريخي متشابه للمساواة واللامساواة

بالرغم من وجود اختلاف كبير واضح بين القيادة الثورية في الستينيات والقيادة التقليدية في السبعينيات، فإن هذا الفرق يبدو أكثر ظهورًا على مستوى المؤسسات الدينية.

وبالرغم من أنها في كلتا الحالتين أدت نفس الوظيفة وهو الدفاع عن القرارات السياسية إلا أن الاختلاف بينها كان في درجة الالتزام والحماس والاقتناع (بدرجة أقل في السبعينيات عنها في الستينيات). أما على مستوى ثقافة الجماهير فلم يحدث إلا تغيير طفيف. فقد ظلت ثقافة الجماهير كما كانت عليه منذ ألف عام استمرارًا تاريخيًّا تقليديًّا لم يتغير. وقد تم استخدامه أيضًا من القيادتين السياسيتين في الستينيات والسبعينيات على حد سواء لتجنيد الجماهير تأييدًا للسياسات المتبعة في كلا العهدين.

وقد كان اللجوء إلى ثقافة الجماهير نتيجة طبيعية لنوعية المجتمعات التقليدية. فالدين فيها تراث شعبي له فاعليته، يسهل استخدامه لغرس عقائد جديدة في الجماهير. وهو في البلاد النامية يلعب نفس الدور الذي تلعبه الأيديولوجيات السياسية في البلاد المتقدمة. ثقافة الجماهير هي القنوات الطبيعية الموصلة بين القيادة والجماهير فيما وراء الأحزاب السياسية والمؤسسات الدستورية. ومن هنا أتت أهمية الخطابة السياسية في التأثير على الجماهير وتغيير مسارها من اتجاه إلى اتجاه مضاد في يوم وليلة.

ولم تلجأ القيادة السياسية في الستينيات إلى استخدام ثقافة الجماهير كما فعلت القيادة السياسية الجديدة في السبعينيات لعدة أسباب أهمها:
  • (١)

    كان للقيادة السياسية في الستينيات طابع الزعامة «الكاريسمية» للتعبير عن آمال الجماهير ولتلبية احتياجاتها، وكانت على اتصال مباشر بالجماهير تعبر عن مصالحها وتدافع عن كيانها. ولكن القيادة السياسية في السبعينيات لم يكن لها نفس طابع الزعامة «الكاريسمية» حتى بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣م. وبالتالي كانت في حاجة إلى إقناع الجماهير بقيادتها بعد استبعاد أنصار القيادة السياسية السابقة في مايو ١٩٧١م. كانت في حاجة إلى إضفاء الشرعية عليها فاتجهت نحو ثقافة الجماهير تجد فيها مطلبها. ولما كان الدين يمثل تيارًا أساسيًّا في ثقافة الجماهير فإن اللجوء إليه كان أسرع وسيلة للإيحاء والإقناع.

  • (٢)
    لم تكن القيادة السياسية في الستينيات في حاجة إلى تقوية نظامها دفاعًا عن ذاتها وهجومًا على المعارضة السياسية باستعمال ثقافة الجماهير. كانت قوتها نابعة من شخصيتها التاريخية ومن قيادتها للعمل الوطني منذ ١٩٥٢م، ومن زعامتها الثورية ومن جماهيرها العربية ومن تأييدها الشعبي.٨١ وعلى العكس من ذلك لم تكن القيادة السياسية في السبعينيات بنفس الدرجة من القوة. فقد أتت بعد انقلاب صامت في السلطة في مايو ١٩٧١م بعد أن كانت معظم أجهزة الدولة في أيدي الناصريين: الجيش، والبوليس، والمخابرات العامة، والاتحاد الاشتراكي العربي، والتنظيم الطليعي، وأجهزة الإعلام وبالتالي لم يعد أمامها إلا استعمال ثقافة الجماهير للحصول على التأييد الشعبي لها.
  • (٣)

    كانت الأهداف القومية للقيادة السياسية في الستينيات، الحرية والاشتراكية والوحدة، معبرة عن آمال الجماهير دون أدنى حاجة إلى إقناع الناس بها. كانت الجماهير شغوفة بالحرية والعدالة الاجتماعية. ولكن القيادة السياسية في السبعينيات لم تضع لنفسها نفس الأهداف القومية، ومن ثَم كان عليها أن تجتذب الجماهير بشيء آخر. فلجأت إلى الديمقراطية حجر العثرة في النظام السابق. وحققت بعض التقدم أولًا بالإفراج عن المسجونين السياسيين وعدم الأخذ بالشبهات، ولكنها كانت ديمقراطية صورية أو ديمقراطية «ذات أنياب» وأصبح لها في النهاية نفس الطابع التسلطي الذي كان للقيادة السياسية السابقة مع اختلاف الأسلوب والمنهج إما بالاعتماد على أجهزة القمع أو بالاعتماد على القوانين والاستفتاءات الشعبية. وبعد أن حدث التراجع التدريجي عن الاشتراكية والتخطيط إلى سياسة الانفتاح واقتصاد السوق الحر احتاجت هذه التحولات إلى مبررات لإقناع الجماهير لحشد تأييدها أو على الأقل قبولها لها. ومن ثم كان اللجوء إلى ثقافة الجماهير أمرًا لا بد منه.

  • (٤)

    كان نضال القيادة السياسية في الستينيات من أجل الاشتراكية يتم خارج مصر ضد الرجعية العربية الممثلة في الملوك والأمراء. ولم تكن بحاجة إلى التوجه إلى الشعب المصري في الداخل الذي كان يوافق على النظام الاشتراكي ويؤيده. وعلى العكس من ذلك كانت معركة القيادة السياسية في السبعينيات إقناع الشعب المصري بشرعية قيادة وبسياساتها الجديدة الداخلية والخارجية. ولما كانت الجماهير أمية سياسيًّا لجأت القيادة السياسية الجديدة إلى أنساق القيم التقليدية كقنوات تعبر من خلالها عن مشروعاتها السياسية.

  • (٥)

    كان من السهل على القيادة السياسية في الستينيات التعبير عن أفكارها السياسية للجماهير. فقد كان من السهل فهمها وقبولها. وعلى العكس من ذلك فقد كانت القيادة السياسية الجديدة في السبعينيات في حاجة إلى جهد كبير لإقناع الشعب بالتحول عن اشتراكية الستينيات، وبداية سياسة الانفتاح، وحصار المعارضة وعزلها عن الشعب، ومنع ظهور قيادات سياسية شعبية تلقائية تواصل سياسة الستينيات.

وهذا لا يعني أن القيادة السياسية في الستينيات لم تلجأ إلى ثقافة الجماهير على الإطلاق. فالحقيقة أنها منذ هزيمة يونيو ١٩٦٧م لجأت إلى ثلاثة مفاهيم رئيسية مستمدة من ثقافة الجماهير وهي: الدين، والإيمان، والقضاء والقدر. فقد أرادت أن تجعل الشعب يمتص بسهولة الهزيمة المروعة التي لحقت به وأن تبعث فيه الثقة بنصر قريب وسريع. كانت تبحث عن تأييد داخلي معنوي ضد العدو الخارجي، إسرائيل، ولم تستعمل هذه المقولات الدينية لمعالجة المشاكل الداخلية مثل توزيع الدخل. ولا يرجع السبب في لجوء القيادة السياسية في الستينيات إلى الدين الشعبي بسبب تربيتها الدينية بل كضرورة سياسية ملحة للتغلب على الهزيمة. وكانت معظم إشاراتها إلى الدين الشعبي قصيرة ومكررة وباهتة دون أي مبرر عقلي أو وضوح نظري.

وأول مفهوم استعملته القيادة السياسية في الستينيات كان مفهوم الدين.٨٢ فالشعب المصري كما تراه القيادة السياسية، شعب متدين بل وأكثر شعوب الأرض تدينًا. فقد استطاع الدين تحقيق وحدة الشعب المصري، وكان الشعب مسلمين ومسيحيين فخورًا بهذا التدين وبهذه الوحدة. وكانت القيادة السياسية باستمرار تشارك الجماهير في التدين. وقد نجحت الثورة المصرية بسبب هذا العنصر المشترك بين القيادة والجماهير. كما استطاعت الثورة هزيمة أعدائها وحل المشاكل الرئيسية بسبب الدين. وهنا تضع القيادة السياسية يدها على نبض الجماهير. أصبح الدين هو قارب النجاة الذي ينقذ الشعب ويوصله إلى شاطئ النجاة ويعطيه النصر. فالدين هو أحد الطرق التي تقود حياة الإنسان وتهديه إلى الصراط المستقيم لأنه يعطيه القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ. لم يعتمد هذا التصور الصوفي الأخلاقي على الأقل لأن العقل لا يستطيع بمفرده أن يصل إلى هذه المعايير.٨٣
والمفهوم الثاني هو الإيمان. صحيح أن «الميثاق الوطني» ذكر خمس ضمانات للعمل الثوري: إرادة التغيير، الطليعة الثورية، الوعي العميق، الفكر المتفتح ثم الإيمان الذي لا يتزعزع بالله وبالرسالات السماوية التي استقرت بعد هزيمة ١٩٦٧م. الإيمان أقوى عاطفة في الإنسان، يمكن للإنسان أن يضحي بنفسه من أجله. يستشهد الإنسان في سبيل إيمانه وفي سبيل مثله الأعلى الذي وهبه الله إياه وفي سبيل الوطن وفي سبيل الأمة. لقد لجأت القيادة السياسية إلى الإيمان من أجل إعادة التعبئة المعنوية إلى القوات بعد هزيمة ١٩٦٧م. فالإيمان طريق النصر. والحقيقة أن الإيمان بالله في ذلك الوقت كان يعني الإيمان بالبلاد. فكان له مدلول وطني.٨٤
والمفهوم الثالث هو القضاء والقدر. فقد وقعت هزيمة ١٩٦٧م قضاء وقدرًا. وإجابة على سؤال كيف استطاعت القيادة السياسية تحويل الهزيمة إلى نصر كان الرد أن ذلك قد حدث بفضل الإيمان بالقضاء والقدر. فقد توالت الهزائم على كل الدول وليس على مصر فقط. الهزيمة امتحان من الله. ولكن الإيمان بالقضاء والقدر يتطلب العمل والجهد والصبر. وقد تضمن بيان ٣٠ مارس ١٩٦٨م الذي يقوم على النقد الذاتي هذه الرؤية القدرية، فإرادة الله فوق كل إرادة. حاولت القيادة السياسية أن تستعيد ثقة الشعب بها من خلال هذه القدرية كعقيدة شعبية بالرغم من معرفتها بالأسباب المادية والموضوعية للهزيمة مثل نقص الاستعداد الحربي، والقرارات السياسية المتسرعة … إلخ. ومع ذلك فقد استطاعت القيادة السياسية بناء الجيش وإعادة النظر في الاختيارات السياسية. لجأت إلى القضاء والقدر كوسيلة سهلة وسريعة لاسترداد الثقة المفقودة بها. لم تستعمل هذه العقيدة لأية أغراض اجتماعية لإيقاف عملية التحول الاجتماعي أو للتراجع عن بعض القرارات السياسية الخاصة بالعدالة الاجتماعية.٨٥

كانت السنوات الثلاث الأخيرة (١٩٦٧–١٩٧٠م) عندما لجأت القيادة السياسية إلى الدين كتيار أساسي في ثقافة الجماهير نموذجًا للقيادة السياسية الجديدة في السبعينيات في لجوئها المستمر إلى مقولات الدين في ثقافة الجماهير. فقد استعملت نفس المقولات الدينية وزادت عليها غيرها. ولم يكن السبب في ذلك هو الحصول على تأييد روحي ومعنوي ضد العدو الخارجي، بل تدعيم السلطة الجديدة بالرغم من الاستفتاءات الشعبية الجديدة التي أعطتها أكثر من ٩٩٫٩٪ من التأييد الشعبي لكل قرار أو قانون. كما استعملتها أيضًا للطعن في ذمة المعارضة السياسية والنيل من شرفها والتشكيك في مقاصدها، وإثارة الشبهات حول ولائها لنزع الثقة منها وهي تحاول الدفاع عن الخط الاشتراكي الذي مثلته القيادة السياسية في الستينيات.

فالدين في رأي القيادة السياسية الجديدة مجرد شعائر، ولا يتطلب أي شيء إلا إقامة الشعائر والفرائض. وقد استُخدم هذا الإسلام الشعائري أيضًا في المملكة العربية السعودية لنفس الأسباب ولتأدية نفس الغرض لإبعاد انتباه الشعب عن الأسس الاجتماعية في الإسلام. لذلك أبدت المملكة العربية السعودية اهتمامًا بالغًا بهذا التفسير للإسلام في السبعينيات. كما سلمت مصر بتفسير المملكة العربية السعودية للإسلام واستبعدت تفسير القيادة السياسية في الستينيات الذي ما زال يمثل خطرًا عليها.٨٦
وعندما بدأ الإسلام الشعائري نشطًا على أيدي الجماعات الإسلامية ظلت القيادة السياسية الجديدة تصور الإسلام على أنه فلسفة نظرية خالصة لا شأن له بالعمل والممارسة. فالإسلام تأمل ونظر لا صلة له مطلقًا بالعمل والنشاط الفعلي. كان الهدف من ذلك هو تفريغ الدين من مضمونه العملي ومن حيويته وفاعليته حتى لا تستعمله الجماعات الإسلامية في العمل السياسي. الإسلام كلي أكثر تقدير في ذهن القيادة السياسية، أمر شخصي لا صلة له بالحياة الاجتماعية، الدين موضوع خاص وليس موضوعًا عامًّا، يتناول علاقة الفرد بالله وليس علاقة الفرد بالمجتمع. وبالتالي لا يمكن لأحد أن يستخدم الدين لأسباب سياسية أو اجتماعية. وقد أعلنت القيادة السياسية مرارًا أن الدين والسياسة موضوعان متمايزان لا شأن لأحدهما بالآخر. فلا دين في السياسة ولا سياسة في الدين. يمارس الدين في أماكن العبادة وتمارس السياسة داخل المؤسسات السياسية. وعلى هذا النحو تنتزع القيادة السياسية من أيدي خصومها السياسيين سلاح الدين حتى لا يمكن استخدامه للمطالبة بالعدالة الاجتماعية أو بالحياة الديمقراطية. فالقيادة السياسية تستعمل الدين ضد خصومها السياسيين، وتحرم استعمالهم له ضدها، فتبيح لنفسها ما تحرمه على غيرها. وبالرغم من أن القيادة السياسية في الستينيات قد عابت على رجال الدين إلقاء مواعظهم داخل المساجد دون الخروج إلى الأسواق والقرى والمدن فعلى العكس من ذلك آثرت القيادة السياسية في السبعينيات أن يقتصر دور الدين على الحياة الروحية والأخلاقية دون الخروج إلى العالم الخارجي الاجتماعي. وما أسهل أن يجد هذا الدور الجديد قبولًا في الدين الشعبي.٨٧
وقد أعطت القيادة السياسية في السبعينيات أهمية قصوى لمفهوم الإيمان أكثر مما أعطته القيادة السياسية في الستينيات، وهو مفهوم مقبول على نطاق واسع في الدين الشعبي. وكان الهدف من اللجوء إلى هذا المفهوم تحقيق أمرين: الأول تحسين صورة القيادة السياسية الجديدة في أعين الجماهير المؤمنة. فالإيمان عنصر مشترك بين القيادة والجماهير. والثاني إخضاع إرادة الجماهير إذ إن الإيمان قبول واستسلام دون تفكير ومعارضة، ويجعل الشعب أكثر طاعة وقيادة واستسلامًا. وتصف القيادة السياسية الإيمان على أنه جوهر التاريخ، وأن تقدم الشعوب أو تأخرها مرهون بدرجة إيمانها. الإيمان قوة، قوة الاعتقاد، وليس قوة مادية أو اجتماعية.٨٨
وقد ارتبط الإيمان بالأصالة والصلابة. وتعني الأصالة رفض كل الأفكار المستوردة وفي مقدمتها الماركسية والعودة إلى التراث الذاتي. فإذا كان الإيمان اتجاهًا نحو الله فإن الأصالة عودة إلى التراث الروحي. تعني الأصالة إذن «العودة إلى المنبع» والتأكيد على الهوية الحضارية من أجل رفض كل الحركات الاجتماعية التي تقوم باسم الغرب أو الشرق.٨٩ وتعني الصلابة مقاومة كل حركات التغير الاجتماعي التي تهدد النظام القائم. فالبناء الاجتماعي الحالي يجب أن يبقى راسخًا ضد كل الأيديولوجيات الانقلابية التي تهدد الوضع القائم. كما تعني الصلابة في الحق ضد الباطل الدفاع عن الثبات الاجتماعي وهو الحق ضد الحراك الاجتماعي وهو الباطل.
والقضاء والقدر نتيجة طبيعية للإيمان أي قبول كل ما يحدث دون سؤال أو اعتراض، فإذا كانت القيادة السياسية في الستينيات قد استعملت هذه العقيدة للحصول على نصر نفسي سريع بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧م، فإن القيادة السياسية في السبعينيات قد استعملت نفس العقيدة للوقوف ضد أي محاولة لإحداث أي تغير في النظام السياسي أو الاجتماعي.٩٠ بل إن نهاية القيادة السياسية كان مقدرًا من قبل! وكان موت الزعيم الخالد قضاءً مقدرًا! ونظامه زائل فانٍ! وبالتالي فإن الاشتراكية أيضًا زائلة! وإن مظاهر البؤس والشقاء والمآسي والمصائب كلها ضرورية لأنها قدر محتوم لا مفر منه! المصائب امتحان من الله واختبار لعبيده، خير من الله وليست شرًّا، ترجع إلى إرادة الله وليس إلى النظم السياسية والاجتماعية أو قرارات القيادة السياسية. الهزيمة والنصر، الفقر والغنى كل ذلك من الله.٩١ وعلى ذلك أصبح الظلم الاجتماعي الذي نشأ عن سوء توزيع الثروة والذي يمكن تغييره بإعادة توزيع الدخل، أصبح وضعًا حتميًّا لا يمكن تغييره بقرارات إنسانية حتى ولو تبدلت نظم الحكم أو القيادات السياسية.
والصبر في ذهن القيادة السياسية الجديدة هو الطريق لإحداث أي تغيير اجتماعي! فهو وحده قادر على تغيير الشر كقضاء إلهي إلى الخير كقضاء إلهي، واستبدال قضاء بقضاء. وهو أحد مظاهر الإيمان. وهو القادر على تغيير الهزيمة إلى نصر، والفقر إلى غنًى. وهو يقتضي الصمت والسكون أي غياب أي معارضة صوتية أو حرية مدنية علنية. الصبر على هذا النحو قيمة سلبية تتطلب من الشعب الرضوخ والاستسلام. فالدين هنا يتم استخدامه كعامل مسكن لتخدير الجماهير.٩٢

وقد اعتمدت القيادة السياسية الجديدة على صفات الطيبة والوداعة والمسالمة في الشعب لدعوته إلى التمسك بالحب والإخاء والتسامح بدلًا من الحقد والعنف كوسيلة للقضاء على التناقضات الاجتماعية في المجتمع المصري. فالمطلوب في نهاية الأمر هو الإبقاء على هذه التناقضات كما هي دون أي تغيير والتعايش معها باسم الحب والإخاء والتسامح.

كما تبنت القيادة السياسية الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية التي تعني في ذهن الجماهير قانون العقوبات. وقد كان الهدف من هذه الدعوة تحقيق أغراض ثلاثة: الأول التأكيد على الطابع الديني للسلطة السياسية مما يسمح بمزيد من طاعة الجماهير لها. والثاني إعطاء النظام السياسي الذي يقوم على «القانون والنظام» ستارًا دينيًّا يخفي تحته الوظيفة الاجتماعية والسياسية التي يقوم بها وهو الإبقاء على الوضع القائم بما فيه من تناقضات اجتماعية. والثالث إخفاء هذه التناقضات الاجتماعية والصراع الطبقي تحت غطاء الشريعة الإسلامية التي تقوم على احترام الملكية الخاصة، ولا تمنع من ممارسة النشاط الاقتصادي الحر. هذه الدعوة إلى نسق القيم يقوم على القهر تخفي في الحقيقة رغبة قوية من السلطة السياسية للسيطرة على كل شيء. والحقيقة أن الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية مجرد دعوى نظرية تكشف عن قدر كبير من النفاق وعدم الجدية والمزايدة على الإيمان. بالإضافة إلى أنها تستخدم كمفتاح سحري قادر على حل جميع المشاكل الاجتماعية.

وقد أخذ البعد الرأسي للدين (علاقة الإنسان بالله) مكان البعد الأفقي له (علاقة الإنسان بالإنسان). فالعمل لا يتم أمام الإنسان لخدمة المجتمع بل أمام الله طاعة له. ولا يقوم الحساب في هذه الدنيا أمام السلطات الاجتماعية والسياسية بل في الآخرة أمام الله. وضمير الإنسان هو الذي يوجه سلوكه وليست مصالح الشعب وحاجات الأمة. هذا التصور للدين جعله مجرد إلهام من الله للقيادة السياسية وطاعة مطلقة من الشعب لها. كل شيء يحدث للشعب يأتي من الله، ثروته وخبزه اليومي وموارده الطبيعية كلها هبات من الله. النظم السياسية إذن ليست مسئولة عن الفقر أو سوء توزيع الثروة. ولا يمكن عمل شيء ضد إرادة الله، ولا يمكن إعطاء شيء منعه الله أو منع شيء أعطاه الله. وكل ما يستطيع الشعب عمله هو الصلاة، ودعاء الله، وانتظار الجود والكرم! والقرارات السياسية الصحيحة تأتي من الله وليست من هيئة المستشارين أو المؤسسات السياسية. فالله وحده هو مصدر التوفيق والهداية. وعندما تعمل القيادة السياسية بتوفيق من الله وتصدر قراراتها السياسية بعون منه تستحيل المعارضة السياسية التي تعتمد على كسب الإنسان الذي قد يخطئ ويصيب، وكثيرًا ما يخطئ، وقلما يصيب!

لذلك كان التوكل على الله فضيلة. والتوكل في ذهن القيادة السياسية إحدى الفضائل الكبرى. وكثيرًا ما تبدأ الخطب السياسية أو تنتهي بآيات قرآنية تدعو إلى التوكل وطلب الهداية والمغفرة.٩٣ كل شيء يتحقق في هذا العالم لأجل الله، العلم والمعرفة والعمل كل ذلك يذهب إليه. الله هو الكمال والقدسية، بيده كل شيء وهو على كل شيء قدير.٩٤ وعلى هذا النحو يتم تصور الله على نموذج الحاكم المتسلط حتى يتم تصور الحاكم المتسلط في ذهن الشعب على أنه إله.

لم تستعمل القيادة السياسية هذه القيم التقليدية من الدين الشعبي من أجل إضفاء الشرعية على سلطتها ومن أجل خضوع الشعب لها فحسب، بل إنها استعملتها أيضًا ضد المعارضة السياسية متهمة كل نسق آخر للقيم ديني أو علماني بالإلحاد. وبالرغم من أن الدستور (مادة ٥٤) تنص على الحرية الدينية كما نص «الميثاق الوطني» من قبل «على أن حرية الاعتقاد شرط لقيام ثقافة وطنية حرة خالية من أي تعصب ديني» صدر قانون الردة واستُعمل كسلاح سياسي ضد الخصوم السياسيين. وتردد استعمال هذا القانون وتطبيقه بالفعل بعد الانتفاضة الشعبية في يناير ١٩٧٧م. والملحدون في الدين الشعبي لا تجوز مخالطتهم سياسيًّا أو اجتماعيًّا. ويجب على جماعة المؤمنين لفظهم خارج المجتمع، وبالتالي يمكن عزل المعارضة السياسية من قاعدتها الشعبية. والموت في النهاية عاقبة المرتدين والملحدين.

وترى القيادة السياسية أن من لا إيمان له لا أمان له، وبالتالي فلا مكان للخصوم السياسيين في المناصب العليا أو في مؤسسات الدولة. وطبقًا لشعار «لا مكان لملحد في أجهزة الإعلام أو في مواقع التأثير على الرأي العام» فإنه يستحيل على الخصوم السياسيين وفي مقدمتهم الاشتراكيون، ناصريين أو ماركسيين أو مسلمين ثوريين، إحداث أي أثر فيما يتعلق بقضايا المساواة والعدالة الاجتماعية. فكل الشرور والآثام والاضطرابات والفتن إنما تأتي من التيار الملحد! وبالرغم من انتشار التيار الديني المحافظ كنتيجة طبيعية في هذا الجو العام من الحماس والحمية الدينية إلا أن القيادة السياسية تعتبره رد فعل طبيعيًّا على التيار الملحد وسيطرته في الستينيات على أجهزة الإعلام. اليسار والملحد واليمين الديني متشابهان، كلاهما رد فعل على الآخر، وكلاهما يستغل العنف لفرض سيطرته على الشعب.٩٥ وتظل القيادة السياسية أقرب إلى ركوب موجة اليمين الديني لأنه يخدم أهدافها الاجتماعية والسياسية ويعينها على تصفية اليسار الملحد في الجامعات.
وبينما كانت القيادة السياسية في الستينيات تعتبر القيم المادية والقيم الروحية متكاملين، وأن التعارض بينهما إنما يخدم أغراض أحد الفريقين ضد الآخر، خاصة وأن القرآن وحد بينهما، كما أن كل الثورات التقدمية حاولت التوفيق بين القيم الروحية للشعب وسيطرته النابعة من الدين والقادرة على هداية الإنسان وإعطائه مصدرًا لا ينضب للطاقة والنشاط – بالرغم من هذا كله – كان هدف القيادة السياسية في السبعينيات إظهار التناقض بين القيم المادية والقيم الروحية للنيل من اليسار الملحد والطعن فيه، وذلك بالهجوم على القيم المادية التي يتبناها اليسار الملحد وكما تبدو في الماركسية.٩٦ ومما يعطي الفرصة للقيادة السياسية بأن تقدم نفسها للشعب على أنها الحامية لتراث الأمة وقيمها الروحية، وفي نفس الوقت تستعملها من أجل المحافظة على الوضع القائم وإعاقة أي عمليات للتغير الاجتماعي.

لم تظهر الطائفية في الستينيات. فقد عمل المسلمون والأقباط معًا، وناضلوا معًا ضد الصليبيين. الوحدة الوطنية والهدف القومي قادران على امتصاص أي مظاهر للطائفية واستبعاد مخاطرها. وقد لجأت القيادة السياسية في ذلك الوقت إلى الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط في ١٩٥٨م أثناء تكوين الجمهورية العربية المتحدة طبقًا لنموذج الوحدة السابق أثناء الحروب الصليبية بين المسلمين والمسيحيين في الشرق. وقد حدث العكس في السبعينيات؛ إذ لم يمنع الحماس الديني من وقوع صدامات خطيرة بين المسلمين والأقباط. وكان ذلك فرصة للقيادة السياسية لإصدار قوانين استثنائية لحماية الوحدة الوطنية ولتقوية النظام خشية أن يتحول الصراع الطائفي إلى صراع اجتماعي. والحقيقة أن تاريخ مصر يشهد بوجود وحدة وطنية عضوية بين المسلمين والأقباط كما ظهر ذلك في ثورة ١٩١٩م، وفي مرحلة البناء الاشتراكي لمصر في ١٩٦١–١٩٦٤م، وأثناء حرب أكتوبر ١٩٧٣م. فلا تظهر الطائفية إلا في لحظات ضعف الدولة وعندما يغيب المشروع القومي الموحد لكل الطوائف والمجند لكل الطاقات والقوى؛ إذ إنها تسمح للدولة باتخاذ إجراءات استثنائية للدفاع عن الوضع القائم باسم المحافظة على الوحدة الوطنية. كما تنشأ الطائفية في نهاية الأمر، وجميع مظاهر التعصب الأخرى مثل التعصب الكروي للأندية الرياضية، من غياب الأحزاب السياسية وحرية التعبير للقوى الوطنية التي يمكنها تحويل الولاء الديني إلى ولاء وطني.

وقد كثرت الرؤى الدينية، وظهور القديسين والأولياء والأنبياء مثل عذراء الزيتون في الستينيات بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧م، وعبور الملائكة قناة السويس مع المصريين لمحاربة الإسرائيليين أثناء حرب أكتوبر ١٩٧٣م. وكان الهدف من التركيز على هذه الظواهر، بافتعالها أولًا ثم نشرها على نطاق واسع في أجهزة الإعلام، إبعاد أنظار الشعب عن الأوضاع السياسية والاجتماعية وإغراقه في انفعالات الصوفية ورؤى القديسين. وإن إعطاء الأولوية المطلقة في الحياة الوطنية للدين لهو أحد مظاهر الأزمة الاجتماعية والسياسية.٩٧
ولم تستعمل القيادة السياسية في السبعينيات الاشتباه القائم في التراث الديني حول موضوع المساواة والعدالة الاجتماعية وتفسير الإسلام لصالح الاقتصاد الحر وسياسة الانفتاح. ويرجع السبب في ذلك إلى أن التفسير الآخر للإسلام أي الإسلام الاشتراكي حاضر للغاية وما زال حيًّا في قلوب الناس على الأقل كألفاظ وشعارات وأماني وأحلام. آثرت القيادة السياسية استعمال القيم الدينية التقليدية التي يمكن للجماهير قبولها وتأييدها. والحقيقة أن القضاء والقدر والصبر قيم شائعة في الأمثال العامية تدعو الناس إلى قبول مصائرهم، وتسلب عنهم زمام المبادرة، وتجعل حظ الإنسان في الحياة مقدرًا من قبل، ثابتًا لا يمكن تغييره.٩٨ والصبر أيضًا جزء من ثقافة الجماهير كما تكشف عنه الأمثال.٩٩ إذ لا يمكن عمل شيء إلا الانتظار. وبالتالي لا يمكن تغيير الوضع الراهن لتوزيع الدخل. ففي هذه الدنيا لا يوجد إلا المجتمع الطبقي، ولا توجد المساواة إلا في الموت.١٠٠ وقد كان هذا الجانب في ثقافة الجماهير هو السبب في جعل موضوع التغير الاجتماعي نحو مزيد من المساواة والعدالة الاجتماعية صعبًا للغاية وكأن الفوارق بين الطبقات مغروزة في وعي الجماهير.
ومع ذلك توحي بعض الأمثال العامية الأخرى بإمكانية الثورة والتغير الاجتماعي، مما يجعل إعادة توزيع الدخل بحيث يحقق قدرًا أكبر من المساواة أمرًا ممكنًا؛ إذ تنقد بعض الأمثال العامية الإسلام الشعائري والقيم السلبية والنفاق الديني. بل إن البعض منها يدعو إلى العنف الثوري. فالله لم يحدد شيئًا سلفًا، وبالتالي يمكن إعادة توزيع الثروة. ترفض بعض الأمثال العامية إذن عقيدة القضاء والقدر وتدعو إلى الأخذ بالعلل المادية المباشرة.١٠١ كما ترفض النفاق الديني في الحياة اليومية. فالإسلام الشعائري لا يمكنه تغيير السلوك الفعلي للإنسان، ولا يتضمن بالضرورة أية أمانة في العلاقات الاجتماعية. والحياة المادية أهم بكثير من الشعائر، ولها الأولوية المطلقة على الحياة الروحية. إن محاربة الجوع، وليست إقامة الشعائر، هو الإسلام الحق. وشيء فعلي يتحقق في هذا العالم أفضل بكثير من شيء موعود به في العالم الآخر. الإسلام كدين ليس أفيونًا للشعب.١٠٢
لم تتناول القيادة السياسية أو المؤسسات الدينية هذا الجانب في ثقافة الجماهير الذي يدعو إلى التغيير الاجتماعي والثورة مما يؤكد مرة أخرى أن العامل الفعلي في توزيع الدخل لم يكن العامل الديني؛ إذ كان يمكن لهذه الأمثال العامية التي تدعو إلى التغير الاجتماعي تحريك الجماهير لو أرادت القيادة السياسية تحقيق العدالة الاجتماعية. ولكن القيادة السياسية أهملت هذه الطاقة الكامنة في ثقافة الجماهير، والقيادة السياسية في السبعينيات أسقطتها من حسابها كلية حتى غاصت في أعماق وعي سياسي مزيف للجماهير بفعل الدين.١٠٣

خامسًا: خاتمة

ينتهي هذا التحليل على مستويات ثلاثة لأثر العامل الديني على توزيع الدخل القومي في مصر إلى النتائج العامة الآتية:
  • (١)

    لم يكن الهدف من استخدام القيادة السياسية في الستينيات للإسلام للدفاع عن الاشتراكية واستخدامه في السبعينيات للتراجع عنها هو سد الفراغ النظري الذي شعرت به الثورة. فقد اعترفت الثورة المصرية بالفعل بغياب نظرية مسبقة، وكانت تفخر بطابعها البرجماتي وتجربتها القائمة على المحاولة والخطأ. كان غياب النظرية اتهامًا من اليسار المصري وليس من الرجعية العربية التي كانت تظن على العكس من ذلك أن الاشتراكية العربية نظرية واحدة مصاغة سلفًا أو ماركسية مقنعة.

  • (٢)
    كانت اشتراكية الستينيات في كل مراحلها علمانية خالصة. وكانت الثورة المصرية منذ البداية ثورة علمانية تحمل أفكارًا علمانية ثورية كما ظهرت في المبادئ الستة. ومع ذلك فإن الإسلام عامل ضمني مكون لروح الشعب، وعقيدة فعالة تتضمن أفكار العدالة الاجتماعية كما ظهرت لدى الإخوان المسلمين أحد الروافد الأساسية في تكوين الضباط الأحرار.١٠٤ وبالرغم من أن هذه المبادئ الستة لم تشر إلى الإسلام كلفظ، إلا أنها ذات مضمون إسلامي. فالإسلام دين علماني من الأساس، دين بلا سلطة كهنوتية. ومفاهيم المساواة والعدالة الاجتماعية ليست فقط إسلامية من حيث المعاني، بل أيضًا إسلامية من حيث الألفاظ. فالعادل اسم من الأسماء الإلهية يشير إلى قانون الاستحقاق وأخلاق العمل. وكل ما قيل في أدبيات «الإسلام والاشتراكية» أو حتى في «الاشتراكية الديمقراطية» فيما يتعلق بنظرية الاستخلاف صحيح بصرف النظر عن النغمة الدعائية الدفاعية لهذه الأدبيات المهنية التي أصدرتها الدولة.
  • (٣)
    لجأت القيادة السياسية في الستينيات إلى الإسلام كإجراء دفاعي ضد النظم الرجعية العربية التي كانت قد لجأت إلى الإسلام من قبل الهجوم على الاشتراكية التي كانت تمثل في ذلك الوقت تهديدًا فعليًّا لهذه النظم. أرادت القيادة السياسية انتزاع أقوى سلاح من أيدي النظم المنافسة، وهو سلاح الدين، وكان الإسلام جزءًا من لعبة أكبر، وهو صراع القوى بين النظم السياسية المتعارضة. كما لجأت القيادة السياسية في السبعينيات إلى الإسلام لإضفاء الشرعية على السلطة السياسية ضد المعارضة اليسارية وكعامل استقرار وترابط اجتماعي ضد محاولات التغير الاجتماعي.١٠٥
  • (٤)
    لم يكن لاستعمال الإسلام في كلتا الحالتين أي أثر يذكر على توزيع الدخل القومي في مصر. فقد كان الاختيار الاجتماعي للمساواة في الستينيات أو اللامساواة في السبعينيات يرجع أساسًا إلى نوعية القيادة السياسية. وبنهاية القيادة الثورية وبداية قيادة تقليدية جديدة تحول النظام السياسي كله كما تغير الاختيار الاجتماعي. فنوعية القيادة السياسية وليس العامل الديني هي التي حددت سياسات توزيع الدخل القومي في مصر.١٠٦
  • (٥)

    كان لكل نظام سياسي تفسيره للإسلام. وكان الخلاف بين التفسيرات المختلفة، الإسلام والاشتراكية في مقابل الإسلام والرأسمالية، هو في حقيقة الأمر صراع بين مختلف النظم السياسية والقوى الاجتماعية التي يمثلها كل نظام، الاشتراكي التقدمي في الستينيات والرأسمالي المحافظ في السبعينيات. ولم يكن الدين إلا وسيلة لتدعيم كل نظام. وكان العامل الحقيقي الحاسم في توزيع الدخل هي السياسات الفعلية المنبثقة عن اختيار القيادة السياسية وكيفية تنفيذها في البناء الاجتماعي والسياسي. وأن الحسم بين هذه النظم لا يرجع إلى صدق تفسيراتها للإسلام أو كذبه، أي منها الصحيح وأيها الخاطئ. فهذا النموذج المطلق للإسلام لا وجود له بالفعل طالما أن الدين قائم على المجتمع ومغروز فيه. بل يرجع إلى انتصار أحد النظامين في صراعه مع النظام الآخر. فمعارك التفسير هي في حقيقة الأمر معارك النظم السياسية ومعارك القوى الاجتماعية التي يتمثل كل منها أحد التفسيرات في مواجهة التفسير الآخر.

  • (٦)

    كانت المؤسسات الدينية والعلمانية مؤسسات تابعة للدولة، استخدمت الدين لجعل قرارات السلطة السياسية أكثر قبولًا لدى شعور الجماهير ودون أن تكون عاملًا مباشرًا في توزيع الدخل القومي. وقد استطاع النظامان السياسيان في مصر في الستينيات والسبعينيات بنفس القدرة استخدام هذه المؤسسات لتحقيق أغراضهما. ففي الستينيات كان الإسلام اشتراكيًّا، وكانت الاشتراكية إسلامية. وفي السبعينيات كانت اشتراكية الستينيات ماركسية وكانت الماركسية مناهضة للإسلام. وقد أصدرت نفس المؤسسات الدينية وربما نفس الأشخاص فتاوى متعارضة في كثير من الموضوعات الاجتماعية والسياسية تبعًا لاختلاف النظم السياسية. وكانت النصوص الدينية والشواهد التاريخية من الإسلام جاهزة في كلتا الحالتين رهن إشارة السلطات السياسية.

  • (٧)
    كانت هناك أزمة ثقة بين هذه المؤسسات الدينية والجماهير. فقد عرفت الجماهير من خلال تجاربها المباشرة أن رجال الدين وكذلك كل القيادات والرؤساء موظفون في الدولة.١٠٧ ففقدت الثقة في مؤسسات الدولة وأجهزتها بالرغم مما يبدو على الجماهير من طاعة لها.١٠٨ وينتمي رجال الدين المؤثرون إلى الطبقة المتوسطة وبالتالي فإنهم مثل غيرهم من أفراد الطبقة كانوا يعملون لصالح السلطة السياسية. وفسروا الإسلام كما أرادته القيادة السياسية طاعة للسلطة سواء كانت تقدمية أو محافظة، اشتراكية أو رأسمالية، ثورية أو تقليدية. وروجوا للإسلام الشعائري بالرغم من الكم الهائل من أدبيات المهنة حول «الإسلام والاشتراكية»! واحتكرت السلطة الدينية حق التفسير كما احتكرت السلطة السياسية حق اتخاذ القرار السياسي. وكان رجال الدين سواء في قمة المؤسسات الدينية أو في القاعدة عند أئمة المساجد وخطبائها موظفين في الدواوين منفذين لأوامر الحكومة. يخشى الرؤساء أن يفقدوا وظائفهم ومرتباتهم وسلطاتهم، ويخاف الأئمة من الطرد والنفي والاضطهاد. وأن أزمة الثقة بين الجماهير والسلطتين الدينية والسياسية أزمة واحدة ناتجة عن تزييف كل من السلطتين للوعي الاجتماعي.١٠٩
  • (٨)
    لم تستخدم ثقافة الجماهير في الستينيات كقوة محركة تدفع الشعب نحو الثورة والتغير الاجتماعي. وبدلًا من استخدام ثقافة الجماهير بحثت القيادة السياسية عن أفكار علمانية لم تلمس شغاف قلوب الجماهير ولم تتحد بأرواحها. طرقت آذان الجماهير ولكنها لم تؤثر فيها ولم تكن الجماهير مستعدة للموت في سبيلها. فسرعان ما انتهت هذه الأفكار بنهاية القيادة السياسية بالموت قضاءً وقدرًا! لا تساعد العلمانية إذن على تطوير المجتمعات التقليدية لأنها لا تأخذ في الاعتبار ثقافة الجماهير الذاتية. وثقافة الجماهير في البلاد النامية مثل مصر هو البديل الوحيد للأيديولوجية السياسية. فهي أصيلة ومبدعة وفعالة، لا تحتاج القيادة السياسية إلى أي جهد لإقناع الجماهير بها أو لتكوين حزب للدعوة لها أو لتشكيل قيادات لحشد الجماهير من خلالها، فالدين، والأئمة، والمساجد، وجماهير المؤمنين كلهم يشكلون عصب الحياة السياسية الجديدة. ويكون السؤال: كيف يمكن استعمال هذه الثقافة كوعاء للأهداف القومية؟ لقد أهملت الثورة المصرية كلية إعادة بناء ثقافة الجماهير فلم تجد بعد اختفاء القيادة الثورية ثقافة أو جماهير تدافع عنها.١١٠
  • (٩)
    ثقافة الجماهير في مصر، مثل أي ثقافة أخرى، متشابهة. فهي تدعو إلى المساواة والعدالة الاجتماعية وفي نفس الوقت تدعو إلى اللامساواة والتفاوت الطبقي.١١١ فبينما لم تلجأ القيادة السياسية في الستينيات إلى الجانب الأول لتطوير الجماهير ودفعها نحو مزيد من العدالة الاجتماعية والمساواة لجأت القيادة السياسية في السبعينيات إلى الجانب الثاني الذي يدعو إلى التسليم والقضاء والقدر والتواكل واللامساواة لتدعيم النظام السياسي وتثبيت الوضع القائم وللإبقاء على الثبات الاجتماعي. والحقيقة أنه بإمكان أي نظام سياسي محافظ يقوم على التفاوت الطبقي استخدام هذا الجانب السلبي في ثقافة الجماهير لتثبيت دعائمه ولإطالة مدته.
  • (١٠)

    تفشل كل القرارات السياسية المتعلقة بالمساواة والعدالة الاجتماعية والتي تهدف إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من المساواة في توزيع الدخل القومي طالما استعصت ثقافة الجماهير على أي نسق فعال للقيم يدفع الجماهير نحو التغير الاجتماعي. وقد تبقى أي ثورة شعبية مثل انتفاضة يناير ١٩٧٧م لفترة قصيرة؛ لأن مطالب الجماهير في المساواة والعدالة الاجتماعية لم ترتبط بثقافتها في مصدريها الأساسيين: الديني في الكتب المقدسة، والدنيوي في الأمثال العامية.

إن مأساة التجربة المصرية كانت في وجود قيادة سياسية ثورية أولًا ثم تقليدية ثانيًا. وغياب المؤسسات الدينية والعلمانية المستقلة، وعدم بناء ثقافة الجماهير كأيديولوجية سياسية.

١  كُتب هذا البحث مرات عدة باللغة الإنجليزية سنة ١٩٧٩م، في إطار عمل مشترك لمشروع «توزيع الدخل القومي في مصر». وبعد صياغات عديدة له لتخفيف الحدة بناءً على طلب أعضاء الفريق المصري كتبت هذه الصياغة العربية بعد أن حُذفت من الطبعة الإنجليزية. وينشر النص الإنجليزي الآن في Islam, Religion, Ideology and development (تحت الطبع) الأنجلو المصرية، ١٩٨٩م.
٢  Anouar Abdel Malek: Idéologie et Renaissance Nationale, Egypte Modern, Anthropos, Paris, 1969.
٣  M. Kerr: Islamic Reform, the political and legal theories of Mohammed Abduh and Rashid Rida, University of California Press, Los Angeles, 1966.
٤  اعتمدنا على مجموعة الخطب الكاملة للرئيسين عبد الناصر والسادات التي نشرتها مصلحة الاستعلامات في مصر. خمسة أجزاء لعبد الناصر ١٩٥٢–١٩٦٦م، وجزءان آخران نشرهما الأهرام ويشار إليهما كالجزأين السادس والسابع، ويسبق كل منهما حرف ن (ن١، ن٢، ن٣ … إلخ) وخمسة أجزاء أخرى للسادات ١٩٧١–١٩٧٥م، ويسبق كل منها حرف س (س١، س٢، س٣ … إلخ) بالإضافة إلى خطب متفرقة أخرى من ١٩٧٦–١٩٧٨م.
٥  طبقًا للأنماط المثالية عند ماكس فيبر يمثل ناصر زعيمًا «كاريسميًّا» والسادات زعيمًا «تقليديًّا» وتنطبق الدورة الثلاثين من الزعامة الكاريسمية إلى الزعامة العقلية القانونية إلى الزعامة التقليدية على تطور القيادة السياسية من الستينيات إلى السبعينيات. فعندما تتحول «الكاريسميا» إلى روتين وبيروقراطية تظهر الزعامة العقلية القانونية وتؤهل المجتمع إلى قيادته التقليدية.
R. H. Dekmejian, Marx, Weber and the Egyptian Revolution, in Arab Society in Transition: A Reader, ed., Saad Eddin Ibrahim; Nicholas S. Hapkins, pp. 436–76, Cairo, The American University in Cairo Press, 1979.
٦  يلاحظ D. E. Smith أن نزعة الإسلام إلى المساواة لم يكن لها أثر كبير على الادعاءات الخاصة بالمشاركة السياسية، وأن أسلوب ناصر السياسي أقرب إلى السلفية الإسلامية.
D. E. Smith: Religion and Political Development, p. 270, Little Brown and Company, Boston, 1970.
٧  ن٢، ص٦٨، ص٧٢، ص٨١–٩٠، ص٩٣، ص١٤٥، ص٢٢٦، ص٢٣١، ص٢٨٤، ص٣٠٣، ص٣١٠، ص٣١٦، ص٣١٨، ص٣٥٥-٣٥٦، ص٤٥٧، ص٤٨٦، ص٤٩٦، ص٦٧٨، ص٧٠٧، ص٧٥١-٧٥٢.
٨  ن١، ص٢، ص٥، ص١١، ص٣٣، ص٢٩، ص٤٥، ص٤٨، ص٥٣، ص٧٥، ص٩٨، ص١٠١، ص١٦٣، ص٢٣٨، ص٢٨٠، ص٢٩٨، ص٣١٥–٣٣١، ص٣٥٤، ص٣٦٦، ص٤٤٦، ص٤٥١، ص٥٢٢، ص٦٩٣.
٩  ن١، ص٢٢٩، وفي نفس الوقت كتب ناصر مقدمة لأحد الكتب عن الاشتراكية مشيرًا إلى الإسلام كأحد منابع الاشتراكية.
١٠  دعا الإخوان المسلمون قبل الثورة وبعدها إلى العدالة الاجتماعية. مصطفى السباعي: اشتراكية الإسلام، الطبعة الثانية ١٩٦١م (الطبعة الأولى ١٩٥٩م)، سيد قطب: العدالة الاجتماعية في الإسلام، الطبعة الثانية، دار مصر، القاهرة، الطبعة الأولى، ١٩٥١م.
١١  يقول ناصر «الديمقراطية معنى وشعار، والاشتراكية حقيقة وأمل، والتعاون واقع وهدف»، ن٤، ص٢٠٢-٢٠٣، وأيضًا ن١، ص١٢١، ص١٥٦، ص٢١١، ص٢٥٣، ص٢٨٩، ص٣٠٠، ص٥٠٣-٥٠٤، ص٦٨١، ص٦٨٤، ص٧٥١، ص٧٥٦-٧٥٧، ن٧، ص٨٦-٨٧، ص٤٠٢، ص٢١٩–٢٢٢، ص٢٥٩، ص٢٩٩-٣٠٠، ص٣٠٦-٣٠٧، ص٣١٣– ٣١٦، ص٣٢٥-٣٢٦، ص٣٣٣، ص٣٤٥-٣٤٦، ص٤١٢، ص٤١٤–٤١٧، ص٤٢٩، ص٤٥٨-٤٥٩، ص٥١٤، ص٥١٩، ص٥٣٦، ص٥٤٤-٥٤٥، ص٥٦٠-٥٦١، ص٦٢٠–٦٢١، ص٦٢٤-٦٢٥، ص٦٤١، ص٦٤٦، ص٦٥٥، ص٦٦٩، ص٦٧٥–٦٧٩، ص٦٨٠، ص٧١٠-٧١١، ن٨، ص٤٤، ص٥٦، ص٦٤-٦٥، ص٩٦، ص١٤٩، ص١٨٢-١٨٣، ص٢٠٥، ص٢١٣، ص٢١٥، ص٢١٩–٢٢٢، ص٢٢٨–٢٢٩ ص٣٤٩، ص٣٥٤، ص٤٨٥–٤٨٩، ص٤٦٤، ص٣٤٩، ص٣٥٤، ص٤٨٥–٤٨٩، ص٤٦٤، ن٤ ص٢٥٢-٢٥٣، ص٥١٤–٥١٧، ص٥٤٢، ن٥، ص٦٧، ص٦٩، ص٣١١، ص٣٥٧.
١٢  ن١، ص١٢٧، ن٧، ص٦٣٠–٦٣٨، ص٦٧٣.
١٣  قبل ذلك بثلاث سنوات في ١٩٥٦م سأل مراسل جريدة «التمبو» ناصر عما إذا كان هناك تشابه في المبادئ بين الدين الإسلامي الذي تقوم سياسات البلاد العربية عليه وبين الماركسيين، وعما إذا كان نقد الدين هو السبب في ابتعاد العرب عن الماركسية. فأجاب بأن الإسلام هو دين غالبية العرب، وضع المبادئ العامة للتعاون الإنساني، وبالتالي فلم تكن هناك حاجة لمبادئ جديدة شيوعية أو أخرى. هذه الإشارة إلى الإسلام كان سببها سؤال خارجي. فقد خشيت القوى الكبرى في ذلك الوقت من انحياز مصر إلى الشرق، فأرادت بعض التأكيدات على أن النضال ضد الاستعمار وأن تأميم قناة السويس أي النضال من أجل الاستقلال السياسي والاقتصادي لا يؤدي إلى الانحياز إلى المعسكر الاشتراكي ضد الغرب. فبعد انتصار مصر على الاعتداء الثلاثي في ١٩٥٦م، وبعد أن أصبحت نموذجًا للعالم الثالث في النضال من أجل الاستقلال ثارت شبهات في ذهن العرب حول ناصر تقوم على الخلط بين الاستقلال الوطني والشيوعية. ن١، ص٦٣٦.
١٤  ستستعمل القيادة السياسية في السبعينيات هذه العناصر بعد ذلك ضد الناصريين والاشتراكيين وكل القوى التقدمية في مصر بعد انتفاضة يناير ١٩٧٧م، انظر القسم الثاني من البحث.
١٥  وبعد ذلك بثلاث سنوات وفي خضم المعركة ضد الرجعية العربية دفاعًا عن تهمة الشيوعية ميز ناصر بشكل واضح بين الاشتراكية العربية والماركسية اللينينية. تمتاز الاشتراكية العربية بعدة صفات خاصة من بينها الإيمان بالله على عكس الماركسية اللينينية. الأولى تعترف بالدين بينما تنكره الثانية. وبعد ذلك ستستخدم القيادة السياسية في السبعينيات نفس التفرقة للطعن في خصومها السياسيين. انظر المؤتمر العربي للقوى الشعبية لشرح الميثاق، ن٥، ص٨٢، ص١٦٦.
١٦  ن٢، ص٥٦٤-٥٦٥، ن٢، ص١٠٩، ص١٤٩، ص٢٩٥، ص٣٩٩.
١٧  حاول ناصر بعد ذلك في مارس ١٩٦٧م إعطاء خطوط عامة لإجراءات الاشتراكية، مثل عمل يؤدي إلى الخدمات الاجتماعية، منزل لكل أسرة، زيادة الإنتاج، الثورة الإدارية، الثواب والعقاب لرؤساء مجالس الإدارة طبقًا لمكاسبهم وخسائرهم، الارتباط بين المرتب والعمل، احترام المال العام، الدقة والانضباط في العمل داخل الوحدات الإنتاجية، وظيفة التنظيم السياسي في الإشراف والمراجعة، التوحيد بين الفكر والعمل في المجتمع الاشتراكي. ويبدو أن هذه الإجراءات كانت موجهة ضد «الطبقة الجديدة» التي بدأت في الظهور خلال التجربة الاشتراكية والتي أصبحت بعد ثلاثة أشهر مسئولة عن هزيمة يونيو ١٩٦٧م. ن٢، ص٥٦٤-٥٦٥، ص٦٠٦، ن٣، ص٥٢، ص٦١، ص٥٤٤–٥٤٨، ص٥٦٤–٥٦٧، ص٥٨٤، ص٦٠٤، ص٦١٠-٦١١، ص٦١٧، ن٤، ص٣٠٨، ص٣٦٢، ن٥، ص١٠–١٤، ص٣٣، ص٤١–٤٧، ص٦٢–٦٥، ص٧٤–٨١، ص٨٥–٩٧، ص١٠٨–١١٠، ص١١٧، ص١٢١، ص١٤٩، ص١٦٦، ص٢٠٧، ص٢١٣، ص٢١٥، ص٢٢١، ص٢٤٢– ٢٤٧، ص٢٦٩-٢٧٠، ص٢٧٧، ص٢٨١، ص٢٩٥، ص٣١١–٣٢٢، ص٣٢٩، ص٣٣٩، ص٣٤٦، ص٣٧٣، ص٣٩٩، ص٤٣٠-٤٣١، ص٤٤٤–٤٤٧، ص٤٥٣-٤٥٤، ص٤٨٥، ص٥١٥–٥١٧، ص٥٤٢-٥٤٣، ص٥٨٤، ص٥٩٦، ن٨، ص١٨٥، ص٤٣٨.
١٨  الحقيقة أن الأنظمة العربية الرجعية في المملكة العربية السعودية وفي اليمن بدأت بهجومها ضد ناصر بعد انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة في سبتمبر ١٩٦١م. فقد ظنت أن ذلك أفضل وقت للتخلص من ناصر ولتصفية تجربته الاشتراكية بعد إضعافه وطعنه في الظهر.
١٩  ويضاف «الملح» في حديث آخر. وقد كانت هذه المقومات الثلاث في ذلك الوقت المصادر الرئيسية للثروة، والتي تطابق اليوم الزراعة والصناعة والتعدين … إلخ. ن٥، ص٥٧١، ص٤١٤.
٢٠  لم يمتلك الرسول شيئًا. بل إنه توفي مدينًا ليهودي. شارك الآخرين في قوته اليومي، وأخذ حقوق الفقراء من الأغنياء. وقد وصفه الشاعر أحمد شوقي بحق في قوله «والاشتراكيون أنت إمامهم …».
٢١  ن٢، ص٦٢١-٦٢٢، ص٤٦١، ص٦٠٧، ن٥، ص٤١٤، ص٤٩٤، ص٥٣٣، ص٥٦٣.
٢٢  يرى Tawney أن الدعامتين الرئيسيتين للامساواة هما الثروة الموروثة والمدارس العامة.
Tawney: Equality, Unwin Books, London, 1971.
٢٣  ن٣، ص٦٥٧-٦٥٨، ن٥، ص١٠٩، ص١٦٧، ص٢٠٦، ص٢١٧، ص٢٧١، ص٣١٢، ص٣٣٥-٣٣٦، ص٤٩٤.
٢٤  وقد لاحظ D. F. Smith هذه الصلة بين التنزيه والعدالة الاجتماعية بقوله: «إن العدالة الاجتماعية منوطة بالله المنزه القادر»، المصدر السابق، ص٢٢. وفي موضوع الزكاة والربا انظر ص٢٢٧.
٢٥  ن٣، ص٤٦١-٤٦٢، ن٥، ص٩٢، ص١٦٦، ص٣١٢، ص٣٥٦.
٢٦  وقد رفضت القيادة السياسية بعد ذلك في السبعينيات هذه الأخلاق في «الاشتراكية الديمقراطية».
٢٧  ن٥، ص٢٦٧، ص٤١٤، انظر بحث د. أحمد حسن: سياسات الحكومة في السُّلف الزراعية.
٢٨  ن٢، ص٣٦.
٢٩  ن٤، ص٣٣١، ن٥، ص٤١٩، ص٤٩٤.
٣٠  اعتبرت القيادة السياسية بعد ذلك في السبعينيات الصبر كإحدى الفضائل الإسلامية الكبرى واستخدمته كأحد العوامل المسكنة للجماهير.
٣١  ن٥، ص٦٦، ص٥٤، ص٥٤٤.
٣٢  وصف ناصر نفسه بأنه مجرد زعيم يكشف عن الأعمال الدينية الكاذبة لأمير المؤمنين الملك فيصل.
٣٣  ويستمر ناصر: هل يجب على المسلمين إلغاء وزارة العدل وترك القوي يسود الضعيف؟ ولماذا توعد الجنة للفقراء في الآخرة وليس في هذه الدنيا؟ يجب على الأغنياء أن يحصلوا على نصيبهم في الجنة وأن يتركوا ثروتهم في الدنيا للفقراء. ويلاحظ فيبر شيئًا مشابهًا وهو أن الطبقات التجارية الغنية لا تؤمن بالجنة كعوض في الآخرة كما تؤمن بها الطبقات الدنيا الفقيرة.
O’Dea: The Sociology of Religion, p. 58, Prentice-Hall, New Jersey, 1966.
٣٤  ويستمر ناصر: المال مال الله أي مال الشعب. وللشعب الحق في استرداد ثروته من البنوك السويسرية المودعة في حسابات سرية، واستثمارها داخل البلاد وليس خارجها.
٣٥  ن١، ص٦٢١، ن٥، ص٢٧، ص٢٧١، ن٣، ص٦٥٢، ص٣١٢، ص٣١٨، ص٣٣١.
٣٦  لمزيد من التفصيلات عن الإطار السياسي انظر بحث د. علي الدين هلال، وأيضًا بحث د. فؤاد عجمي (في إطار هذا البحث المشترك).
The Political Economy of Income Distribution in Egypt, edited by Gouda Abdel-Khalek and Robert Tignor, Holmes & Meier Publishers Inc., New York, London, 1982.
٣٧  س١، ص١١، ص٢٤، ص٣٢٥–٣٢٧، ص٣٥٨، ص٣٨٧، ص٤٠٢، ص٤٦٤، ص٤٧٢–٤٧٦، ص٤٩١، ص٥٠٦، س٢، ص٢٢٢، ص٢٧٤–٢٨٦، ص٥، ص١٤٨-١٤٩، ص٦٠٩-٦١٠، ص٨١٤، ص٦٤٠.
٣٨  وقد تم تقنين هذا الاتجاه بعد ذلك في كتيب صغير بعنوان «الاشتراكية الديمقراطية» في الصفحات القليلة عن الوحدة العربية وأكده «احتجاب» مصر بعد مبادرة السلام واتفاقات كامب ديفيد ومعاهدة الصلح مع إسرائيل، س١، ص٢٧٤، ص٣٣٠–٣٣٤، ص٣٤١، ص٣٥١–٣٥٣، ص٢٦٦-٢٦٧، ص٣٨٥، ص٣٩٧، ص٤٥٤-٤٥٥، ص٥٠٦، ص٥٣٠، س٢، ص٨١، ص١١١، ص٣٢٥–٣٢٧، ص٣، ص٩١.
٣٩  س١، ص٥٨، ص٣٥٨، ص٥١٨-٥١٩، س٥١٩، س٢، ص٢٦، ص٤٤، ص٦٣، ص١١٢، ص١٨٣، ص٢٨٧، ص٢٩٨، س٣، ص٣١٨.
٤٠  استعملت القيادة السياسية لأول مرة «الانفتاح» في مايو ١٩٧٣م ردًّا على سؤال صحفي يوغوسلافي عما إذا كان الرئيس يمينًا أم يسارًا، ضرب الرئيس المثل بسياسة تيتو الاقتصادية بعد معركته مع ستالين. وبعد ذلك بسنتين ضرب المثل بروسيا واستيرادها للتكنولوجيا الغربية. س٢، ص٣، س٤، ص١٦٨، س٥، ص١٩–٣٠، ص٢٣٧.
٤١  س٢، ص١٨٤-١٨٥، س٣، ص٣٢١، س٥، ص١٢٦، ص٢٣٧، خطاب في اللجنة المركزية مارس ١٩٧٦م، خطاب إلى الأمة فبراير ١٩٧٧م يوليو ١٩٧٧م.
٤٢  س١، ص٥٤٨، ص٥٧٧-٥٧٨، س٥، ص٨٢–٩٠، ص١٢٦، ص١٧١–١٧٣، ص١٩٠، ص١٩٢–٢٩٤، ص٦٩٣، خطاب في المؤتمر الوطني للاتحاد الاشتراكي العربي ١١/ ٧/ ١٩٧١م، ص٢٦–٢٨.
٤٣  س٥، ص٨١–٩٠، ص٦٥١–٦٥٣.
٤٤  وذلك مثل تطبيق قانون الكسب غير المشروع، التقصي عن الدخول الفردية لموظفي الدولة، تحديد الأسعار للمواد الرئيسية … إلخ.
٤٥  س١، ص١٣٧، ص٧١٦، س١، ص١٠٢، س٣، ص٢٢٢، س٣، ص٦١٤، ص٥، ص٧٨، ص٨٢–٨٨، ص١١٧-١١٨، ص١٢٦، ص٢٤١، ص٢٤٨، ص٢٩٧، ص٦٥٤، خطاب في المؤتمر الوطني للاتحاد الاشتراكي العربي ٢٢/ ٧/ ١٩٧١م، ص١١٧–١١٩، خطاب في مجلس الشعب ١٣/ ١٠/ ١٩٧٥م، ص١٣-١٤، خطاب في اللجنة المركزية ٢٠/ ١١/ ١٩٧٥م، ص٢–٨، ص٣٦-٣٧، خطاب في مجلس الشعب ١٤/ ٨/ ١٩٧٦م، ص٢٥، خطاب في الذكرى السابعة لعبد الناصر ٢٨/ ٩/ ١٩٧٧م، ص٩.
٤٦  وقد اتحد الجميع في «التجمع الوطني التقدمي الوحدوي».
٤٧  حدث الهجوم والهجوم المضاد خاصة بعد انتفاضة يناير ١٩٧٧م وتحديهم للنظام.
٤٨  خطاب إلى المواطنين في الإسماعيلية، مسجد الشفاء مارس ١٩٧٦م، ص١٨.
٤٩  أعطى Hudson أهمية خاصة على تصور كالفن للعلاقة بين الإنسان والله، والإنسان كخليفة، والله كمالك.
R. Robertson: The Sociological Interpretation of Religion, p. 174 Schocken, New York 1972.
٥٠  إذا كانت دعوى فيبر في «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» صحيحة تكون الأخلاق التي دعت لها القيادة السياسية في السبعينيات مشابهة للأخلاق عند كالفن: فالفداء، والاختيار، والزهد، والتقوى قيم متشابهة في كلتا الحالتين «ويبدو أن التقوى الخالصة مرتبطة بروح الرأسمالية وبنظرة إنسانية عندما تجابه مشاكل العالم الاجتماعي».
Glenski: The Religious Factor, p. 329, Doubleday, New York, 1971, R. H. Tawney: Religion and the Rise of Capitalism, Puritanism and Society, pp. 165–75. N. A. L. New York, 1954; N. I. Kitch: Capitalism and Reformation, pp. 151–62, Barnes & Noble, New York, 1967; N. Weber: L’ethique Protstante et l’esprit du Capitalism, Plm, Paris, 1964.
د. حسن حنفي: الدين والرأسمالية. قضايا معاصرة، ج٢ في فكرنا المعاصر، ص٢٧٣–٢٩٤، دار الفكر العربي، القاهرة ١٩٧٧م.
٥١  صحيح أن هذا التفسير الباطني للدين بدأ في الستينيات بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧م ولكن على نحو مؤقت كما يحدث في كل حضارة في وقت الهزيمة، داخليًّا أو خارجيًّا كالتصوف في الإسلام «والمشيانية» في اليهودية.
٥٢  س٥، ص٨٢-٨٣.
٥٣  الدين لدور العبادة والسياسة للمؤسسات السياسية. والدين أيضًا كما تراه القيادة السياسية في السبعينيات ميدانه الفلسفة والتأمل وليس الممارسة السياسية والاجتماعية. أرادت القيادة السياسية تفريغ الدين من فاعليته ونشاطه لقطع الطريق على المعارضة السياسية يمينًا ويسارًا. ولذلك اعتبرت الخميني عدوها الأول.
٥٤  ترى القيادة السياسية في السبعينيات أن المعارضة السياسية واقعة تحت تأثير الماركسية الملحدة. وقد رفض الشعب مثل هذه الأفكار السيئة الملحدة؛ لأنه شعب مؤمن. خطاب إلى الأمة ٢٣/ ٢/ ١٩٧٧م، ص١٠، خطاب في مجلس الشعب ٩/ ١١/ ١٩٧٧م، ص١٥، خطاب في الاتحاد الاشتراكي العربي مارس ١٩٧٦م، ص٧٩، خطاب في مجلس الشعب ٤/ ٣/ ١٩٧٦م، ص٤٤.
٥٥  ترى القيادة السياسية في السبعينيات أن أفضل الأفلام فيلم «وبالوالدين إحسانًا» حيث يعود فيه الابن تائبًا إلى الوالدين طالبًا العفو والمغفرة لعصيانه. وأسوأ فيلم أو جريدة أو حزب سياسي أو طلبة أو عمال أو نقابة صحفيين أو نقابة محامين … إلخ هو الذي يقوم بعملية النقد الاجتماعي. كل ثورة ضد السلطة عيب. وعلى كل صحفي ونائب وطالب وكاتب وسياسي … إلخ أن يتبع القيم التقليدية مثل احترام السلطة وطاعتها وإلا خضع سلوكه لقانون العيب. وطلبت القيادة السياسية من مجلس الشعب إصدار «قانون العيب» وتكوين لجنة برلمانية للقيم لفرض سلوك النواب الذين ينتقدون أو يعارضون، وكأن أخلاق الشعب هي أخلاق القبول وليست أخلاق الرفض.
٥٦  لذلك سهل اتهام أي معارضة سياسية بنقص الإيمان وبالإلحاد وبالعمالة للاتحاد السوفيتي. والإيمان هو قبول الإرادة الإلهية أي استحالة المعارضة. والحقيقة أن تصور القيادة السياسية في الستينيات لإرادة التغيير قد يكون المضمون الحقيقي للإيمان بلا نفاق.
٥٧  اعتادت الخطب السياسية في السبعينيات أن تنتهي بآيات قرآنية تفيد معاني التواضع واحتمال الخطأ، وتسأل الله العون والهداية وتدرك معنى زوال الحياء وفناء الدنيا … إلخ تملقًا للجماهير وطلبًا لثقتها. والحقيقة أن مظاهر وألفاظ التواضع هذه إنما تكشف عن رغبات دقيقة للسيطرة وإحساس بالعظمة والغرور.
٥٨  «إن اتجاه الأسرة الحاكمة أو الحاكم الفردي سواء كان سنيًّا أو خارجيًّا كان دائمًا وفي كل مكان عاملًا محددًا للعلاقة بين الدين والدولة في الإسلام».
J. Wach: Sociology of Religion, p. 306, University of Chicago Press, Chicago, 1967.
«في العالم الإسلامي يأتي تهديد الأوضاع المستقلة للدين من الحكومة» «وتسود الحكومة الآن … هذه المؤسسة …
Smith: op. cit., p. 204.
الدينية (الأزهر). فهو في الحقيقة آلة طيعة في يد الحكومة وعاجز عن أن يقوم بأي فعل مستقل كجماعة ضاغطة لها مصالحها الخاصة».
Smith: op. cit., pp. 129-30.
٥٩  وزير الأوقاف، شيخ الأزهر، رئيس مجمع البحوث الإسلامية، السكرتير العام للمؤتمر الإسلامي، أئمة المساجد، وزير الإعلام، رئيس هيئة الإذاعة والتليفزيون، رؤساء تحرير الصحف والصحفيون، رؤساء الجامعات ورئيس الحزب الحاكم، كل هؤلاء موظفون في الدولة.
٦٠  «وقد شعر مشايخ جامعة الأزهر من حديثه بأن عليهم الإسراع بإصدار فتاوى لبيان الشرعية الإسلامية لبعض سياسات ناصر الثورية».
D. E. Smith, op. cit., p. 43.
«وقد كانت هذه فتوى محمود شلتوت «الاشتراكية والإسلام» فقد ربط الأزهر نفسه دائمًا بسياسات الحكومة القائمة. فالاشتراكية الإسلامية متطابقة مع الشريعة الإسلامية».
K. H. Karpat: Political and Social Thought in the Contemporary Middle East, pp. 128–32, Praegar, New York, 1968.
٦١  الأهرام ١٠/ ٣/ ١٩٦٤م، ٦/ ٤/ ١٩٦٤م.
٦٢  وهناك بعض المؤلفات الأخرى مثل: دراسات في الإسلام. الإسلام والنظم الاقتصادية، الاشتراكية في الإسلام والاشتراكية في الغرب، الربا بين الاقتصاد والدين، مجتمعنا الجديد والشريعة الإسلامية، الفرد في المجتمع الإنساني، حدود الملكية الخاصة في الإسلام، الإسلام والتحرر من الجوع، المناهج الإسلامية في الاقتصاد والتوفير.
٦٣  بعض هذه المؤلفات مثل القومية العربية في الإطار الإسلامي والواقع العربي، التكافل والتضامن الاجتماعي في الإسلام، فلسفة الحرية في الإسلام، أثر الشريعة الإسلامية في الوحدة العربية، الحرية عند العرب، العمل في «الميثاق»، الإسلام نظام إنساني.
٦٤  محمد عرفة (عضو هيئة كبار العلماء) الإسلام أو الشيوعية؟
٦٥  فؤاد زكريا: الاشتراكية والقيم الروحية، الفكر المعاصر، أكتوبر ١٩٦٩م. أحمد عباس صالح: اليمين واليسار في الإسلام، الكاتب. فوزي منصور: التفسير الإسلامي للإسلام، لا طبقات اجتماعية في الإسلام، الطليعة، محمد أحمد خلف الله: الديمقراطية في الشريعة الإسلامية، الطليعة. المدني: الاشتراكية الإسلامية، مجلة الأزهر، نوفمبر ١٩٦١م. الشرباصي: النظام الضريبي في الإسلام، مجلة الأزهر، العدد ١٢/ ١٩٦٢م، العدد ١/ ١٩٦٣م، الإسلام دين المساواة، لواء الإسلام، ١١/ ١٩٦٢م. الرافعي الاشتراكية الإسلامية، نور الإسلام ١٢/ ١٩٦٢م، ٩١/ ١٩٦٣م، المصري: الاقتصاد الإسلامي، منبر الإسلام ١٢/ ١٩٦٣م، الطنطاوي: الاشتراكية في الإسلام منبر الإسلام ١٢/ ١٩٦٢م، البهي الخولي: الإسلام والتضامن الاجتماعي ٦/ ١٩٦٢م، كمال أبو المجد: المعنى الإنساني في الإسلام، منبر الإسلام ٦/ ١٩٦٢م غالب: الإسلام ومبادئ التنظيم الاجتماعي، ١٢/ ١٩٦٢م، الجندي: العلاقة بين العمل والإيمان في الإسلام، منبر الإسلام ٢/ ١٩٧٤م.
٦٦  الدوري: المنهج الاشتراكي في دعوة الإسلام، ١٩٦٣م. أحمد فراج: الإسلام دين الاشتراكية ١٩٦١م، عبد المجيد سعيد: الإسلام والمصادر العقلية للاشتراكية العربية، ١٩٦٢م، عبد الرحمن الشرقاوي: المبادئ الاشتراكية في الإسلام، الهمشري: مع الدين من أجل الاشتراكية، ١٩٦٩م.
٦٧  نوال السعداوي: الاشتراكية العربية والثورة الاشتراكية، الاشتراكية الإسلامية، ص٢١–٣٩. يحيى هويدي: الفلسفة في الميثاق، ص١١٩–١٣٠، عبد الرحمن نصير: العدالة الاجتماعية والدين والأخلاق، ص١٢–١٥.
٦٨  «كان الدافع على كثير من هذه الكتابات حول «الإسلام والاشتراكية» اعتبارات دفاعية، والرغبة في إقناع القارئ بأن كل الأفكار النافعة الحديثة موجودة سلفًا في القرآن. كانت معظم هذه الدراسات إذن سطحية من الناحية النظرية، تميل إلى إضفاء الشرعية على التقليد وليس على التغيير مثل القول بأن نبي الإسلام كان أكبر اشتراكي عرفه العالم. لم يطلق على أتباعه لفظ التلاميذ أو التابعين بل الأصحاب أي الرفاق».
D. E. Smith: op. cit., p. 277 cited in W. C. Smith: Modern Islam in India; Social Analysis, p. 105.
٦٩  كتب بعض مشاهير الكتاب المسرحيين مثل نعمات عاشور «الناس اللي فوق»، «الناس اللي تحت». وكتب يوسف إدريس «الفرافير»، ونجيب محفوظ «اللص والكلاب»، «السمان والخريف». وقد عُرف عبد الحليم حافظ بأغانيه عن الاشتراكية بأنه «مغني الثورة» كما صور بعض الشعراء مظاهر الفقر في مصر مثل صلاح عبد الصبور «الناس في بلادي»، عبد المعطي حجازي «مدينة بلا قلب».
٧٠  ساهم عديد من هؤلاء الكتاب في عملية التراجع عن الخط الاشتراكي في الستينيات إلى السبعينيات ودافعوا عن النظام السياسي الجديد بعد أن كانوا من أعمدة النظام السياسي السابق. وموظفو الدولة على استعداد دائم لتبرير قراراتها لأسباب تتعلق بلقمة العيش.
٧١  مثل الاشتراكية العربية، عدم الانحياز، القضاء على الاستعمار، مناهضة الصهيونية … إلخ.
٧٢  «الاشتراكية الديمقراطية»، المجلس الأعلى للجامعات (الكتاب الأخضر) يوليو ١٩٧٧م، اشتراكيتنا الديمقراطية وأيديولوجية ثورة ١٥ مايو (الكتاب الأبيض) يوليو ١٩٧٨م.
٧٣  اشتراكيتا الديمقراطية، مطابع جامعة القاهرة، ص١–٧.
٧٤  الاشتراكية الديمقراطية، ص٤٣-٤٤، القاهرة ١٩٧٨م.
٧٥  مثلًا: أولوية القطاع العام، إلغاء الدعم عن المواد الغذائية، حرية التصدير والاستيراد، رفع الحراسات عن ملاك الأراضي السابقين، وإعادة البورصة وسوق الأوراق المالية … إلخ.
٧٦  الاشتراكية الديمقراطية، ص٧٧، اشتراكيتنا الديمقراطية، ص٢٨، وأثناء انتفاضة يناير ١٩٧٧م التي وصفتها القيادة السياسية بأنها انتفاضة «حرامية» وليس انتفاضة شعبية، وفي ليالي منع التجول الثلاث، ألقى وزير الأوقاف الشيخ محمد متولي الشعراوي في الراديو والتليفزيون خطبة ذات دلالة كبيرة، وهو شخصية تليفزيونية رئيسية، متوشحًا بالبياض، وبلحية طويلة، وبحركات مسرحية، مبررًا رفع الأسعار الذي كان السبب المباشر لانتفاضة الشعب. فالطبيب يصف الدواء للمريض، وكذلك الحكومة ترفع الأسعار للشعب وكلاهما يبغي الشفاء. كما أذاع التليفزيون في أول ليلة لمنع التجول مسرحية «مدرسة المشاغبين» واصفًا الطلبة بالحمق والغباء الذين يثورون على أساتذتهم.
٧٧  لم تستعمل الدول العربية المحافظة الدين ضد القيادة السياسية في السبعينيات كما فعلت في الستينيات؛ لأنها كانت تقوم على نظام الاقتصاد الحر. كما أن البلاد العربية التقدمية لم تستعمل الدين بعد ارتداد القيادة السياسية في السبعينيات؛ لأنها كانت نظمًا علمانية.
٧٨  اليسار الديني في مصر حتى الآن غير مرئي، وله دور صغير جدًّا داخل أحزاب المعارضة وإمكانياته للحركة ضئيلة للغاية.
٧٩  وهذا معروف في علم الاجتماع الديني باسم «دين مركب البضاعة»، انظر د. حسن حنفي. الحوار الديني والثورة، ص٣٢٥–٢٣٠، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة ١٩٧٧ (بالإنجليزية).
٨٠  كان تطبيق الشريعة الإسلامية في ١٩٧٦م أحد التوجيهات الرئيسية لكل المؤسسات للعمل على تنفيذه. وقد ناقش مجلس الأمة القانون الجنائي في الإسلام وفي مقدمته قطع يد السارق، وتحريم الخمر. كما وافق مجلس الدولة في ٦/ ٨/ ١٩٧٧م على قانون الردة وعقوبة المخالف فيه إما الإعدام أو عشر سنوات من السجن في حالة الردة المتكررة بعد التوبة.
٨١  كما ظهر في أضعف لحظاته مثلًا في ٩، ١٠ يونيو ١٩٦٧م.
٨٢  وقد كان ذلك أيضًا رد فعل ضد النظام البعثي في سوريا الذي وصف النظام المصري في الستينيات بأنه نظام ملحد!
٨٣  ن٤، ص٤١٣–٤١٥، ن٥، ص١٦٣، ن٦، ص٣٤٨، ص٣٥٥–٣٨١، ص٤٥٠، ن٧، ص٧٠-٧١، ص١٢٧، «الميثاق الوطني»، ص١٠، ص١٣٤. وقد استعملت القيادة السياسية في السبعينيات هذا المفهوم بكثرة لتقوية تصورها الشعائري للدين لتفريغه من مضمونه الاجتماعي.
٨٤  أصبح الإيمان بعد ذلك في السبعينيات فارغًا صوريًّا.
٨٥  ن٦، ص٢٧، ن٧، ص٣٣٧، بيان ٣٠ مارس ١٩٦٨م، ص٣١.
٨٦  ومظاهر ذلك في: كثرة بناء المساجد، النداء على الصلاة خمس مرات يوميًّا في أجهزة الإعلام، وضع الحجاب، إطالة اللحى، الاحتفالات بالصيام والحج … إلخ. وتظهر القيادة السياسية في السبعينيات في أجهزة الإعلام على أنها قوية الإيمان ممارسة للشعائر، تصلي في مساجد القرى المتواضعة، متوشحة بالجلباب الأبيض، متكئة على عصا الأبوة، المسبحة باليد، وعلامة الصلاة على الجبين، والأعين مغلقة، والشفاه تتمتم، وتأخذ لقب «الرئيس المؤمن» وتصر على وضع «محمد» قبل «أنور السادات». وكثيرًا ما يتحول هذا الإسلام الشعائري عند بعض كبار الموظفين إلى نفاق ديني. وتوضع «بسم الله الرحمن الرحيم» على رأس الخطابات الرسمية، كما يوضع التاريخ الهجري في المطبوعات الرسمية وفي مقدمتها خطب القيادة السياسية. كما تم تجهيز أماكن للصلاة في كل الأبنية الرسمية، وتحديد أيام الأعياد مع توقيت المملكة العربية السعودية، مهبط الوحي ومركز الإسلام! وأضيفت بعض البرامج والصفحات الدينية في أجهزة الإعلام بجوار أخبار النجوم. وطُبعت ملايين النسج من القرآن الكريم لتبادلها كهدايا توضع على المكاتب والعربات والموائد وإعطائها كجوائز وتظل مغلقة في قطيفتها الحمراء المذهَّبة ولا تفتح مطلقًا وتتحول إلى وثن جديد. وتضم القيادة السياسية في السبعينيات بعض المسلمين المتعصبين المؤمنين بالأرواح وتحضيرها والرؤى والأحلام والاتصال بأرواح الموتى في إدارة شئون البلاد، س١، ص٢٤٩–٢٥٥، ص٥٥٢–٥٥٧، س٤، ص٥٨٠-٥٨١.
٨٧  حوار الرئيس مع الطلبة في أسيوط، يناير ١٩٧٧م.
٨٨  س٢، ص١٩٨، ص٣٥١.
٨٩  س١، ص١٢٣–١٣٤، ص١٥٧–٢٥٩، س٤، ص١٧٤-١٧٥، س٥، ص١٩، ورقة أكتوبر ٥٩، وهذا يؤكد رأي دوركهايم من أن وظيفة الدين الاجتماعية في المحافظة وتدعيم الوضع القائم في المجتمع، وتقوية أواصر الترابط الاجتماعي.
Betty R. Schaff: The Sociological Study of Religion, p. 78, Harper & Row, New York, 1970.
٩٠  س١، ص٢٥٧–٢٥٩، س٢، ص٣٧٢.
٩١  تستشهد القيادة السياسية في السبعينيات بعدد من الآيات القرآنية التي تشير إلى القضاء والقدر مثل وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ (٢: ٦١)، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا (٣: ١٤٥)، قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا (٩: ٥١)، قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣: ٢٦)، س١، ص٢٩٦، ص٢٤٩-٢٥٠، ص٣٠٣، ص٣٢٤، س٢، ص١٧٣–١٧٦، ص٣٢٣، س٣، ص١٩٦، س٥، ص١٨، ص٧٥، ص١٤٨.
٩٢  س١، ص٣٣٥، س٢، ص١٧٣–١٧٦، س٥، ص٢٧، ص١٢٣–١٢٧، خطاب إلى أبطال الجيش الثالث ٣/ ١٩٧٦م، ص١٣، ورقة أكتوبر، ص٥، حديث مع الصحيفة الكويتية السياسية ٨/ ٩/ ١٩٧٥م، وتستشهد القيادة السياسية في هذا الموضوع بعدة آيات قرآنية مثل: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٤١: ٣٥).
٩٣  س١، ص٢٣، ص١٧٣، ص٢٣٥، ص٢٠٩، ص٤٦٠، ص٤٨١، س٢، ص١٩٠، ص٢٤١، ص٢٦١، ص٣٢٨، ص٣٨٦، ص٤٠١، ص٥٣٢، س٤، ص١٩٦، ص٣١٥.
٩٤  وقد استشهدت القيادة السياسية في السبعينيات ببعض الآيات القرآنية مثل: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦٧: ١)، رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٦٠: ٤)، رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (١٨: ١٠)، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى (٨: ١٧)، مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ (٣: ١٢٦). ولقد طرد الشيخ عاشور من مجلس الشعب لأنه أراد تطبيق آيات القرآن حول المشيئة الإلهية على الله وحده وليس على القيادة السياسية مثل: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ كما أراد وزير الأوقاف الشيخ متولي شعراوي.
٩٥  الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة ٢٥/ ٣/ ١٩٦٤م، ص١٤، «الميثاق الوطني» ص٨٨، ن٤، ص٧٢-٧٣، ن٦، ص٥٨٢، س٥، ص٣٥٥، خطاب إلى مجلس الشعب ٩/ ١١/ ١٩٧٧م، ص١٥، خطاب إلى الاتحاد الاشتراكي العربي ٣/ ١٩٧٦م، ص٧٩، حديث إلى مجلة «السياسة الكويتية» ٨/ ٩/ ١٩٧٥م، ص٣٠، خطاب إلى مجلس الشعب ٤/ ٣/ ١٩٧٦م، ص٤٤.
٩٦  ن٤، ص٤٣، ن٦، ص٨٨، ص٣٥١، ص٣٧٨، ص٥١٣، بيان ٣٠ مارس ١٩٦٨م، ص٥٠، س٢، ص٤١١-٤١٢، س٥، ص٢٤٣، ص٤١١-٤١٢.
٩٧  س١، ص٣٩٤، س٢، ص٣٩٣، ص٤٠١-٤٠٢، ص٤١١-٤١٢، ص٤١٨-٤١٩، س٣، ص١٧–٢٣، س٤، ص١٦٩، ص٥٨٥-٥٨٦، ص٧٠٤-٧٠٥، س٥، ص١٣٣-١٣٤، ص٢١٩-٢٢٠، ص٣٤٣، حديث مع جريدة الأنوار اللبنانية ٢٢/ ٦/ ١٩٧٥م، خطاب إلى مجلس الشعب ١٤/ ٣/ ١٩٧٦م، ص٥٣، خطاب إلى المواطنين في الإسماعيلية في مسجد الشفاء في ٣/ ١٩٧٦م، خطاب في عيد العمال ١/ ٥/ ١٩٧٦م، ص٣٠، حديث مع رجال الدين ٨/ ٢/ ١٩٧٧م، خطاب في الذكرى السابعة لوفاة الرئيس جمال عبد الناصر ٢٨/ ٩/ ١٩٧٧م.
٩٨  مثلًا «اللي مكتوب على الجبين لازم تشوفه العين»، «المكتوب ممنوش مهروب»، «قيراط بخت ولا فدان شطارة»، «ابن آدم في التفكير والرب في التدبير»، «من حبه ربه واختاره جب له رزقه على باب داره»، «يا هارب من قَضَايا، ما لك رب سوايا»، «المتعوس متعوس ولو علقوا على بابه فانوس»، «المغلوب مغلوب وفي الآخرة يضرب طوب»، «تجري جري الوحوش وغير رزقك ما تحوش»، «لا يغني حذر من قدر»، «بختك يا بو بخيت»، «تبقى في إيدك وتقسم لغيرك»، «ارميه في السطوح وإن كان لك فيه قسمة ما يروح».
٩٩  مثلًا «الصبر خير»، «كل شيء دواه الصبر لكن قلة الصبر ما لهاش دوا»، «من صبر نال ومن لح مالوش»، «ما دوا الصبر إلا القبر»، «طول البال تبلغ الآمال»، «طولة البال ما تخسرشي»، «طول البال تهد الجبال»، «المعيشة تحب طولة البال».
١٠٠  مثلًا «الفقر حشمة، والعز بهدلة»، «القناعة مال وبضاعة»، «المفلس في أمان الله»، «من طلب الزيادة وقع في النقصان»، «المركب اللي تودي أحسن من اللي تجيب»، «ربنا ما سوانا إلا بالموت»، «ربك رب العطا يدي البرد على قد الغطا»، «الناس مقامات»، «من عرف مقامه ارتاح».
١٠١  مثلًا «سلاح الضعيف الشكية»، «يا غراب هات بلحة قال دا قسمة، قال قسمتي بين ايديك»، «يفتح العين للدبان ويقول دا قضا الرحمن». «الشبعان هو الذي يذكر الله».
١٠٢  مثلًا «ضلالي وعامل إمام، والله حرام»، «يفتي على الإبرة ويبلع المدرة»، «الوش وش حاجج والطبع ما يتغيرش»، «زي القطط يسبح ويسرق»، «هات عِمتك وخدها يوم القيامة»، «اللي عايزه البيت يحرم على الجامع»، «كل لقمة في بطن جائع خير من بناية جامع». انظر أيضًا: د. حسن حنفي: التفكير الديني وازدواجية الشخصية في قضايا معاصرة، ج١، في فكرنا المعاصر ص١١–١٢٧، دار الفكر العربي، القاهرة ١٩٧٦م.
١٠٣  بعد إجراء مقابلات عديدة مع أناس عاديين محللًا «تجارب الشارع» وبعد استبعاد المستوى السطحي للشعور الوطني المزيف يظهر موضوع المساواة والعدالة الاجتماعية بوضوح كمطلب اجتماعي ووطني. فالتأميم شرعي، والفقير له حق في أموال الغني، والمال مال الله في خدمة الأمة كلها، والإسلام ليس شعائر أو عقائد أو نفاقًا، ويظهر الدين أساسًا كدعوة للمساواة والعدالة الاجتماعية.
١٠٤  كان ستة أعضاء بين الاثني عشر عضوًا في مجلس قيادة الثورة من الإخوان المسلمين أو المتعاطفين معهم ذوي الاتجاه الإسلامي.
١٠٥  «ويبدو أن الاشتراكية الإسلامية أكثر من مجرد شعار ظهر من خلال إسلام سياسي ضعيف يبحث عن شرعية للاشتراكية».
D. E. Smith: op. cit., p. 271.
١٠٦  يمكن القول بالاعتماد على تمييز Lenski أن الإسلام كان مجرد عامل ارتباط في توزيع الدخل وليس عاملًا مسببًا.
Lenski: op. cit., pp. 300–21.
١٠٧  «يحظى العلماء باحترام لعلمهم وتقواهم ولكن دون تبجيل».
D. E. Smith: op. cit., p. 23.
١٠٨  دمرت الجماهير في انتفاضة يناير ١٩٧٧م بعض مراكز البوليس، ودور الصحف ومراكز حزب الحكومة، والنوادي الليلية وفتحت بعض الجمعيات التعاونية ووزعت الطعام على الفقراء والجياع. تعطلت مؤسسات الدولة لمدة يومين وكانت البلاد تحت سيطرة الجماهير في الشوارع.
١٠٩  يمكن للبعض إثبات أن الإخوان المسلمين والمعارضة اليسارية هما المجموعتان الرئيسيتان اللتان تحظيان بثقة الجماهير.
١١٠  وهنا تبدو أهمية كاميلوتوريز والرهبان الثوار في أمريكا اللاتينية وإعلان الثورة كأمر مسيحي. كما تبدو أهمية اليسار الديني في الكنيسة الغربية للمساهمة في الحركات الاجتماعية في المجتمعات الرأسمالية. وفي أمريكا أصبح للاهوت الثورة الأولوية المطلقة على لاهوت الذات والصفات التقليدي، وأصبحت التعاليم الاجتماعية للمسيحية مذهبًا عقائديًّا جديدًا. فالكاثوليكية الرومانية في أمريكا اللاتينية، والبروتستانتية أثناء حروب الفلاحين بقيادة توماس مونز في ألمانيا في القرن السادس عشر، والمسيحية البدائية كما وصفها إنجلز وكاوتسكي، والبوذية في فيتنام أثناء حرب الاستقلال، والكنفوشيوسية في الصين في بداية الثورة الصينية وبعد الثورة الثقافية، ودين «مركب البضاعة» والديانات البدائية في أفريقيا، الأمة السوداء في أمريكا، والإسلام في الجزائر أثناء حرب الاستقلال، والمهدية في السودان، والسنوسية في ليبيا، وأخيرًا الثورة الإسلامية في إيران باسم الإسلام والثورة، كل هذه مجرد نماذج لبدايات ثورات جديدة في العالم باسم الدين. انظر د. حسن حنفي، كاميلوتوريز، القديس الثائر في «قضايا معاصرة»، ج١، في فكرنا المعاصر، ص٣١١–٣٢٧، دار الفكر العربي، القاهرة ١٩٧٦م.
١١١  يمكن إيضاح الاشتباه في التراث الديني من خلال الظروف الفعلية للشعب، وبالتالي تكون الأولوية للآيات القرآنية الخاصة بحق الفقراء في أموال الأغنياء، والملكية العامة، والمساواة والعدالة الاجتماعية والتضامن الاجتماعي. ويمكن استخدام الأمثال العامية التي تعبر عن نفس هذه الأفكار لتفسير هذه الآيات القرآنية وتكون هذه العناصر أيديولوجية سياسية وطنية يمكنها احتواء العلمانية التقدمية (نمط الستينيات) والمحافظة الدينية (نمط السبعينيات). وقد تكون هذه هي مهمة اليسار الإسلامي. انظر مجلة «اليسار الإسلامي»، القاهرة، ١٩٨١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥