الفصل الأول
(١) الحكومة نتيجة الاختلاف الدائم بين طبقات الشعب
وينضم إلى هؤلاء المتحكمين الغاشمين، فريقا الأعيان ومتحيني الفرص من طائفة العمل اللذيْنِ يتحدان في تهذيب المذهب الماركسي، فهما إما يتناسيان، أو يصقلان، أو يخرجان القسم الثوري من هذا المذهب عن طبيعته، بل يبعدان عن هذا المذهب روح الثورة بالمرة، فأول ما يبدآن بعرضه من مبادئ هذا المذهب، بل بالمغالاة في تفخيمه وإجلاله هو كل ما كان قابلًا للانطباق على مصالح جماعة الأعيان والوجهاء، وهنا ينقلب الاشتراكيون الوطنيون إلى ماركسيين «لا تضحكوا!» فالعلماء الوجهاء الذي كانوا يتاجرون بالأمس في ألمانيا بأنقاض المذهب الماركسي الذين يحاولون هدمه أصبحوا يتكلمون شيئًا فشيئًا في إمكان وجود مذهب ماركسي ذي صبغة وطنية ألمانية يكون المراد منه إعداد نقابات للعمال بطريقة منظمة باهرة للقيام بحرب فتح واستعمار.
فالحكومة إذن ليست إلا من عمل الهيئة الاجتماعية إلى حد ما من تشكلها، بل ليست الحكومة إلا طريقة من طرق الاعتراف بأن الهيئة الاجتماعية مرتبكة في اختلاف داخلي لا يمكن حله جعلها تنقسم على نفسها إلى فرق متعارضة غير قابلة للتصالح والاتفاق، فأصبحت عاجزة عن التخلص من وطأة انقسامها وتفرقها، وعلى هذا صار الشعور بأنه لا بد من وجود قوة ظاهرة للعيان تحول دون مصائب هذا الخطر الذي سببه اختلاف المصالح الاقتصادية المتصادمة، وتكون ذات نفوذ محسوس في الهيئة الاجتماعية، قوة لها خاصية تلطيف المصادمات المتواترة ووقفها عند حد «النظام»، وهذه القوة المستخلصة من المجتمع، ولكنها أسمى منه، والتي أخذت تبتعد عنها شيئًا فشيئًا هي «الحكومة».
فهذه هي الفكرة الأساسية من المذهب الماركسي المختصة بإيضاح تاريخ نشأة الحكومة، ومعنى وجودها قد بسطناها بمنتهى الوضاحة والبيان.
فما الحكومة إلا نتيجة التظاهر بمظهر التنازع والتخاصم واستعصاء طبقات المجتمع على التصالح والتوافق، فحيثما وجد هذا النزاع بين الطبقات، واستحكمت حلقاته إلى حد أن تصير المصالحة بينها مستحيلة تظهر الحكومة لأجل التوفيق ما بين هذه الطبقات، ويقابل ما تقدم: أن وجود الحكومة هو دليل على أن منازعات طبقات المجتمع غير قابلة للحسم والتوفيق.
عند هذه النقطة ذات الشأن الجوهري الأهم بالتدقيق يبتدئ تسويء وإفساد المذهب الماركسي بالذهاب في خطين أساسيين.
فمن جهة يعمد الفلاسفة الأعيان، وعلى الأخص الفئة الأكثر وجاهة منهم، وهم مضطرون بحكم الحوادث التاريخية القاهرة التي لا يمكن إنكارها إلى الاعتراف بأن الحكومة لا توجد إلا حيثما توجد المنازعات والاختلافات ما بين الطبقات الاجتماعية، ولا سيما حيثما يشتد الصراع ما بين هذه الطبقات، ولكنهم يعدلون مذهب ماركس بالتحايل على جعل ماركس يقول إن الحكومة هي العضو أو العامل الموفق ما بين الطبقات المتنازعة، ولكن ماركس لا يقول إلا أن الحكومة لا يمكن أن تعمل، ولا أن توجد إذا أصبح التوفيق ما بين الطبقات الاجتماعية ممكنًا، إلا أن جهابذة الأعيان ومؤلفيهم الذين لا يأبهون بضمائرهم أكثر من اهتمامهم بمصالحهم، يستخلصون على الدوام من أقوال ماركس نصوصًا يطبقونها على مبدئهم الذاهب إلى أن الحكومة هي أداة التصالح، وعامل التوفيق ما بين طبقات المجتمع، ومن رأي ماركس أن الحكومة هي عضو مهيمن على الطبقات، أو بالأوضح عضو استعباد طبقة لطبقة أخرى، فهي التي أوجدت «نظامًا» للأشياء وشرعته، وبموجبه أيَّدت وقوَّت هذا الاستعباد بإخمادها تصادم الطبقات، ومن رأي سياسي الفئة المتناهية في الوجاهة أن النظام هو بالتدقيق المصالحة بين الطبقات، وليس استعباد طبقة لطبقات أخرى، وما إخماد التصادم إلا عبارة عن إنجاد التصالح، وليس هو بمثابة انتزاع الوسائل والطرق التي تكافح بها الطبقات المضطهدة الطبقة المتحكمة فيها.
ومن هذا القبيل ما حدث من الاشتراكيين الثوريين وكل المنشفيين حينما عُرضت أمامهم في ثورة ١٩١٧ مسألة مدلول وظيفة الحكومة في أتم أوجه مباحثها؛ أي إنها عندما عُرضت فعليًّا متطلبة عملًا وقتيًّا نفصل فيه الجماهير أجمعوا كلهم بغير استثناء على نظرية فئة الوجهاء القائلة بأن الحكومة عامل الإصلاح والتوفيق ما بين الطبقات، وظهرت إذ ذاك حلول ومقالات لا تحصى بأقلام المحررين السياسيين المنتمين إلى هذين الحزبين، وكلها مستعارة من نظرية فئة الأعيان والوجهاء ومنتهزي الفرص، وهي «المصالحة»، وأما كون الحكومة هي العضو المتحكم من طبقة ذات جرأة ومجازفة لا يمكن أن تتصالح مع الطبقة المقابلة أي المضادة لها، فهذا ما لا تقوى على قوله فئة الأغنياء الوجهاء.
وإن معرفة الاشتراكيين الثوريين والمنشفيين بحقيقة كنه الحكومة، لمن أقوى الأدلة القاطعة على أنهم ليسوا اشتراكيين مثلنا، نحن البولشفيين الذين ظللنا دائمًا نقيم الأدلة على أنهم ليسوا سوى ديمقراطيين من فئة الوجهاء الذين يتقربون إلى الاشتراكيين من الوجهاء اللفظيين فقط.
على أن تشويه المذهب الماركسي جارٍ بطريقة أدق وأبرع، فهم من الوجهة النظرية لا ينكرون أن الحكومة هي عضو التحكم من إحدى الطبقات، ولا أن التنازع بين الطبقات لا يمكن استئصاله، ولكنهم يتجاهلون أو على الأقل يبرزون ما يأتون به في حلة مصقولة، وهو: إذا كانت الحكومة نتيجة عدم الاتفاق بين الطبقات المتناقضة، وإذا كانت قوة متفوقة على المجتمع آخذة في التباعد شيئًا فشيئًا عن المجتمع، فمن الجلي المؤكد إذن أن تحرير الطبقة المضطهدة من المستحيل إلا بواسطة الثورة الحادة فقط، بل بدون إبطال آلة الحكومة التي أوجدتها الطبقة المتماسكة التي يتجلى فيها هذا التباعد، وهذه النتيجة الواضحة نظريًّا من تلقاء نفسها استخلصها ماركس بتدقيق تام، كما سنرى ذلك فيما بعد، من التحليل التاريخي المحسوس لمسائل الثورة، وهذه النتيجة هي التي نسيها كاوتسكي، وأخرجها عن طورها الطبيعي، كما سنبين ذلك بالتفصيل في الإيضاح الذي سنسطره.
(٢) القوة المسلحة الممتازة والسجون … إلخ
ثم قال إنجيل: «واقتداء بالنظام القديم الذي كان متبعًا في الأسرات والقبائل، عمدت الحكومة أولًا إلى تقسيم رعاياها إلى مناطق منفصلة من البقاع.»
وهذا التقسيم يتراءى لنا كأنه «طبيعي»، غير أنه في الحقيقة قد استلزم صراعًا طويلًا ضد نظام العشائر والأسرات القديم.
«… وكان ثاني عمل مميز لها إيجاد سلطةٍ علنية لا تتفق مطلقًا اتفاقًا مباشرًا مع الشعب منظمة نفسها في شكل قوة مسلحة، وهذه السلطة العلنية الممتازة لا غنى عنها؛ لأن انتظام الشعب من تلقاء نفسه صار مستحيلًا منذ أن انقسمت الهيئة الاجتماعية إلى طبقات … وهذه السلطة العلنية توجد في كل بلد، فهي لا تشتمل على رجال مسلحين فقط، بل أيضًا على عناصر مادية كالسجون، وأماكن الاضطهاد من كل نوع، وهي أمور لم تكن معروفة في نظام العشائر.»
وقد توسع إنجيل في الكلام على هذه القوة التي تَسمَّت بالحكومة، وهي قوة صادرة من الأمة إلا أنها أسمى منها، وهي آخذة في الابتعاد عنها شيئًا فشيئًا، ومن أي شيء تتألف على الأخص هذه القوة، إنها تتألف من قوة مسلحة حاصلة على سجون، وعلى وسائل أخرى.
إننا محقون في التكلم عن قوة مسلحة ممتازة؛ لأن السلطة العامة الخاصة بكل بلد لا تتفق مباشرة مع الشعب المسلح، وبنظامها القائم بذاته.
ويبذل إنجيل مجهوده كسائر المفكرين الثوريين، في لفت العمال إلى أهم ما طرأ على مجموع الشعب، الذي لم يكن له من قبل شكل مخصوص، من التغير الذي استلزم إدخال أشكال جديدة عليه، فالجيش الدائم والشرطة هما أهم أشكال هذا التغير، وهما في الوقت نفسه العاملان الأساسيان اللذان تستتب بهما قوة الحكومة، وهل كان من المنتظر أن يحدث شيء خلاف هذا التطور؟
فمن جهة السواد الأعظم من الأوروبيين الموجودين في أواخر القرن التاسع عشر، الذي يوجه إنجيل الخطاب إليهم، والذين لم يروا ولم يلاحظوا عن قرب حدوث أية ثورة عظيمة لم يكن من المنتظر أن يحدث شيء خلاف ما تقدم الكلام عنه، وهم لا يعرفون شيئًا مطلقًا عما يختص ﺑ «النظام القائم بذاته في الشعب المسلح بمحض إرادته»، وتجيب المذاهب الأوروبية والروسية على السؤال الآتي وهو:
من أين جاءت الحاجة إلى الفيالق الخاصة المؤلفة من الأشخاص المسلحين — وهي البوليس والجيش الدائم — المنفصلين، والمميزين عن المجتمع، والناهضين في منزلة فوق منزلته»، بجملة أو جملتين من أقوال سبنسر أو ميخايلوفسكي، ومتخذين أدلتهم من الفرص التي تعرض اتفاقًا في الحياة الاشتراكية، ومن تنوع الوظائف، إلى غير ذلك … وهذه الشواهد تتراءى في صفة علمية، ولها مفعول عجيب في تخدير أعصاب الجمهور الساذج، بإبهام الأمر المهم الجوهري، وهو: تجزئة المجتمع إلى طبقات متعادية غير قابلة للتصالح، ولو كانت هذه التجزئة غير موجودة لامتاز النظام الذاتي للشعب المسلح من تلقاء نفسه بتعقده، وبوضعه الغني، إلى غير ذلك مما يستلزمه النظام الابتدائي لعصابة من القرود المسلحة بعصي، أو لعصابة من الرجال الناشئين على الفطرة، أو من الرجال الملتئم شملهم في شكل عشائر، ومع ذلك فهل كان من الممكن حدوث مثل هذا النظام؟
من المستحيل حدوثه، لأن المجتمع المتمدين منقسم إلى طبقات متعادية، وغير قابلة للتصالح، فالتسلح الاختياري يدعو إلى التقاتل فيما بينها بالسلاح، فما تكاد الحكومة تتكون حتى تصبح قوة ممتازة، وحتى تتواجد فيالق من الرجال المسلحين، وكلما أتلفت الثورة الجهاز الحكومي، فإنها ترينا إلى حد الوضوح التام كيف أن الطبقة المتملكة تعيد تنظيم فيالق مؤلفة من الرجال المسلحين ليستخدموا في المحافظة على تسلطها، وكيف تجتهد الطبقة المضطهدة في إيجاد نظام جديد من النوع نفسه لا لتقدمه لخدمة المستعلين بل لخدمة المستغلة مجهوداتهم.
ويعرض إنجيل في الجمل المسرودة بطريقة نظرية، نفس السؤال الذي تطرحه علينا كل ثورة عظيمة بطريقة عملية بوضوح تام وبتسلسل مستمر، وهو السؤال المختص بالصلات الموجودة بين الفيالق الممتازة المؤلفة من الرجال المسلحين، ونظام الشعب المسلح باختياره، وسنرى كيف أن هذا السؤال يوجد الجواب الشافي عنه في تجربة الثورات الأوروبية والروسية.
ولكن لنعد الآن إلى ما بدأ إنجيل ببسطه.
إن السلطة العامة تزداد نموًّا كلما اشتد الخُلف، وازداد التنازع ما بين الطبقات في داخليتها، وكلما صارت الحكومات المتجاورة أوفر قوة وأكثر نفرًا، فانظروا فقط إلى أوروبا الحاضرة التي أدى تنازع الطبقات فيها وتراميها في ميادين الفتوحات، إلى نمو السلطة العامة إلى درجة أصبحت تهدد بالتهام كل المجتمع بما فيه الحكومة نفسها.
إن هذه السطور قد خُطَّت حوالي عام ١٨٩٠، ويرجع تاريخ آخر مقدمة لكتاب إنجيل إلى ١٦ يونيه سنة ١٨٩١، إن التيار الاستعماري المتمثل في الملكية المطلقة المتمتع بها المحتكرون، وهي القوة العظمى للمصارف المالية الكبرى، وسياسة إدارة المستعمرات المتناهية في التسلط إلى ما يجري في هذا السبيل، لم تكن إذ ذاك إلا وشيكة الابتداء في فرنسا، وكانت إذ ذاك أشد ضعفًا في أمريكا وفي ألمانيا، ومن بعد هذا التاريخ خطا التوسع في الفتوحات خطوة هائلة كادت تجعل الكرة الأرضية بأسرها في سنة ١٩١٠ مقسمة تقسيمًا نهائيًّا ما بين هؤلاء الخصوم المتزاحمين، أي ما بين الدول الكبرى المنكبة بشراهة إلى غنائمها، ومنذ ذلك الحين أخذت التسليحات البرية والبحرية تعظم بدرجة لا يمكن تصورها حتى انتهت إلى الدرجة التي بلغتها عند نشوب حرب الجشع الاستعماري، التي استغرقت المدة المترامية ما بين عام ١٩١٤ و١٩١٧ لتنازع السيادة العامة على العالم بأسره ما بين إنجلترا وألمانيا، ولاقتسام الغنيمة المطروحة بينهما، هذه الحرب التي استغرقت كل قوى الهيئة الاجتماعية لسد مطامع السلطة الحكومية إلى الحد الذي بلغته هذه الكارثة الفادحة العامة.
ولقد عرف إنجيل كيف يسوئ ويفضح سباق الفتوحات باعتباره أحد الصفات الممتازة الأساسية المرتكزة عليها سياسة الدول العظمى الخارجية، في حين أن خبثاء الاشتراكية الوطنية الحربية لم يعملوا في المدة الكائنة، ما بين ١٩١٤ و١٩١٧ على أثر تفاقم المزاحمة بين تلك الدول، إلى أن صارت مائة مثل مما كانت عليه من قبل، وأدت إلى تلك الحرب الاستعمارية الشعواء، سوى أن يبرروا مجهودات وجهائهم ذوي المصالح الاستثمارية، بجمل فاتنة يضعونها للتغرير بالعقول البسيطة كالدفاع عن الوطن، وكالدفاع عن الجمهورية، وكالدفاع عن الثورة، إلى غير ذلك من جمل التغرير والتضليل.
(٣) الحكومة آلة استغلال الطبقة المستعبدة
لتوطيد دعائم السلطة العامة الممتازة المستخلصة من المجتمع والمتفوقة عليه ينبغي وضع ضرائب، والالتجاء إلى عقد قرض عام.
إن الموظفين الذين ليسوا سوى أعضاء من الهيئة الاجتماعية أصبحوا — بمقتضى سلطة التوظف التي خولتهم إياها السلطة العامة، وبحق جباية الضرائب — فوق مستوى هذه الهيئة الاجتماعية التي صاروا بهذه الطريقة منفصلين بالطبع عنها، والحرية الاختيارية في الاحترام المجموع للأعضاء العاملة من هيئة العشائر السالفة لم تعد كافية، ولا مرضية لهؤلاء الموظفين لو استطاعوا أن يحصلوا عليها، فكان هذا مدعاة لسن قوانين خاصة تقضي بتقديس وعدم خدش شرف الموظفين، فأصبح أحقر عامل من رجال البوليس له من النفوذ أكثر مما كان لممثلي العشيرة، بل من تلك العاطفة الإجلالية التي كان يتمتع بها زعيم العشيرة بمحض اختيار المجتمع من غير تهديد وسوق بالعصا، تلك العاطفة التي يتمنى الحصول عليها رئيس أي عسكرية لأي بلد متمدين في العالم بأسره.
وهنا يعرض السؤال الآتي المختص بالمركز الممتاز الذي يتمتع به الموظفون باعتبارهم أعضاء من السلطة العامة، والنقطة الجوهرية في هذا السؤال هي: من ذا الذي جعلهم فوق مستوى المجتمع؟
إننا سنرى كيف أمكن حل هذه المسألة النظرية بالطريقة العملية بواسطة مشاغبي باريس في سنة ١٨٧١، وكيف صار الخروج بها عن مجراها الطبيعي بمعرفة المغرر كاوتسكي في ١٩١٢.
قال إنجيل: «بما أن الحكومة وليدة الاحتياج إلى الخصومة الموجودة بين الطبقات، وبما أنها في الوقت نفسه قد تولدت من المصادمات التي حدثت بين هذه الطبقات، فهي بالطبع، وبحكم القاعدة العامة حكومة أقوى الطبقات، تلك الطبقة التي بمقتضى مركزها الاقتصادي تعتبر ذات السيادة والتملك، والتي بفضل قوة الحكومة ونفوذها صارت بالمثل الطبقة السائدة سياسيًّا، بهذه الطريقة تحصلت على وسائل جديدة لاستعباد الطبقة المحكومة المستعبدة، واستغلال مجهوداتها، وليست الحكومات العتيقة على عهد العصور المظلمة هي التي كانت أعضاء الاستغلال التي تسخر الأرقاء والأسرى، بل الحكومة الدستورية التمثيلية المعاصرة هي بالمثل آلة استغلال العمال لحساب رأس المال، ومع ذلك فقد وجدت مدد توازنت فيها قوى الطبقات المتصارعة بدرجة جعلت السلطة العامة إلى وقت ما في موقف مستقبل غير مغرض بين الكفتين المتراجحتين، وبهذه الطريقة أصبحت كحكم عادل بينهما.»
وهذه هي الحالة التي أنصفت بها الحكومة الملكية المطلقة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، والحكومة اليونانية في سلطتها الأولى، وفي سلطتها الثانية في فرنسا، وحكومة بسمارك في ألمانيا.
وهكذا كانت بالمثل حكومة كيرنسكي في الروسيا الجمهورية بسياستها الاضطهادية التي اتبعتها ضد طبقة العمال الثوريين في الوقت الذي كانت العناصر الديمقراطية تدير فيه شئون السوفيت بطريقتها المألوفة لدى فئة الأعيان الأنانيين، وكل هذه الحكومات أصبحت عاجزة، وصارت الفئة الوجهية فيها غير قادرة تمام القدرة على تثبيت سلطات العمال البلشفيين.
ثم قال إنجيل: «إن الثورة في الجمهورية الديمقراطية تستخدم نفوذها بطريقة غير مباشرة، ولكنها طريقة مؤكدة النجاح؛ أولًا: بفضل إفساد إخلاص وبساطة الموظفين «في أمريكا»، وثانيًا: بفضل الاتحاد ضد سياسة حكومة البورصة «في فرنسا وأمريكا».»
وقد توسع الحكم الاستعماري، وحكم المصارف المالية بطريقة بارعة الحيلة في تأييد وتثبيت قوة الثروة العظيمة في سائر الجمهوريات الديمقراطية، فمن قبيل ذلك ما كاد يحدث في أحضان الجمهورية الروسية الديمقراطية التي أريد التأليف في شهر عسلها، أي في أول عهدها ما بين الاشتراكيين الثوريين والمنشفيين وفئة الأعيان في الحكومة المؤتلفة لو لم يقف المسيو بالتشينسكي دون كل الوسائل الخاصة التي هي عرضة لتحقيق هذا الغرض، وبذلت لأجلها الوسائط العظيمة من قبل أرباب رءوس الأموال وأشياعهم المشتغلين بالتوريدات العسكرية، ذلك الوقوف الذي أدى إلى خروج بالتشينسكي من الوزارة، والاستعاضة عنه بالطبع بوزير آخر من قبيلة إغراء أرباب رءوس الأموال بجُعْل عظيم مقداره ١٢٠ ألف روبل سنويًّا، وعلى أي محمل يمكن حمل هذا العمل؟ أليس على محمل إفساد ذلك الموظف مباشرة، أو بطريقة غير مباشرة، وهل ذلك التأليف الذي يُراد إيجاده ما بين النقابات الصناعية هو تحالف أو مجرد رابطة اتصال وصداقة فقط؟ وما هي المهمة التي كانت ملقاة على عواتق تشيرنوف وتيسيريتللي وافكسنتييف وسكوبيليف؟ وهل هم الحلفاء المباشرون لذوي الملايين المختلسين أو غير المباشرين فقط؟
إن قوة الثروة العظيمة تظل في ثبة تامة وطمأنينة دائمة في ظل الجمهورية الديمقراطية التي لا تضيرها سياسة التوسع الرأسمالي السيئة، إن الجمهورية الديمقراطية هي خير غشاء سياسي لستر مقاصد الساسة الرأسمالية بقدر الإمكان، وهذا هو السبب في أن رأس المال بعد أن استولى بفضل باليتشينسكي وتشيرنوف وتيسيريتللي وشركائهم على هذا الغشاء المتين، مكن سلطته بطريقة فعالة مؤكدة التأثير لا يستطيع أي تغير في الأشخاص، وفي هيئات الحكم أو في الأحزاب الكائنة في أحضان الجمهورية الديمقراطية الوجيهة أن تزعزع نفوذها الراسخ وسلطانها المكين.
ومن الواجب أن يلاحظ في هذا المقام أن إنجيل يشرح بطريقة وافية حق التصويت العام؛ الذي هو آلة لسيادة الطبقة الوجيهة، إن التصويت العام كما يقول بحسب ما أدت إليه التجربة الطويلة في الاشتراكية الديمقراطية الألمانية هو «الدليل على رقي ونضوج مبادئ الطبقة العاملة، وهو لا يمكن أن يؤدي إلى مطمع فوقه، ولن يمكن أن يؤدي إلى شيء بعده مطلقًا في ظل الحكومة الحاضرة».
إن فئة الديمقراطيين الأعيان من نوع اشتراكيينا الثوريين والمنشفيين وإخوانهم وهم كل الاشتراكيين الوطنيين، ومنتهزي الفرص المبشرين في أوروبا الغربية، ينتظرون الوصول إلى شيء أعظم من حق التصويت العام، وهم يشتركون مع عامة الشعب، ويقنعونه بصواب هذه الفكرة العقيمة الذاهبة إلى أن التصويت العام في ظل الحكومة الحاضرة موصل إلى الإعراب الحقيقي عن رغبة السواد الأعظم من العمال، ومؤدٍ إلى تنفيذ هذه الرغبة.
ونحن لا يسعنا في هذا المقام إلا أن نورد الاعتقاد الفاسد، ومن الملاحظ أن تصريح إنجيل المتناهي في الوضاحة، والمحدد تحديدًا دقيقًا في هذا الصدد قد أبعد عن حقيقته وطبيعته بالخطوات والدعوات والمؤتمرات التي قامت بها الأحزاب الاشتراكية الرسمية، أي بواسطة منتهزي الفرص، وسنظهر هنا بطريقة واضحة جدًّا كل ما احتوته هذه الفكرة التي يأبى إنجيل قبولها من الخطأ والفساد، وعند توسعنا فيما يلي في بسط نظريات ماركس وإنجيل عن الحكومات الحاضرة.
وهكذا يثبت أن الحكومة لم تكن موجودة في كل زمان، فقد وُجدت مجتمعات مرت في أدوارها من غير حكومة، وبدون أن يكون لها أدنى علم بالحكومة وبالسلطة الحكومية، وعلى أثر ما حدث من التقدم في المسائل الاقتصادية التي دعت الضرورة إلى تعلقها بانقسام المجتمع إلى طبقات صارت الحكومة من جراء هذا الانقسام ضرورة لازمة للمجتمع. إننا نسير الآن بخطوات واسعة نحو ترقية المقصد المنشود، ومن قبيل ذلك، إن وجود هذه الطبقات لم تعد فقط ضرورة قهرية، بل لقد أصبحت عقبة كَأْدَاء أمام الحصول على النتيجة المنشودة، فالطبقات ستختفي بطريقة لا يمكن تجنبها كما حدث في أطوار تكونها، وفي الوقت الذي ستختفي فيه الطبقات تختفي فيه بالمثل الحكومة بطريقة لا يمكن اتقاؤها أيضًا، والهيئة الاجتماعية التي ستنظم من جديد طريقة الإنتاج على طريقة المشاركة الحرة العادلة بين المنتجين ستضع الآلة الحكومية في المكان اللائق بها؛ في متحف الآثار العتيقة بجانب البندقية ذات الفتيلة والفأس البرنزية.
وإنك لن تجد البتة في أدبيات الدعوة الاشتراكية الديمقراطية المعاصرة مثل هذا النسق المحكم، ولو فُرض ووجد شيء من هذا القبيل لحملوه على غير محمله الحقيقي، أو لاعتبروه من قبيل الاستدلال فقط على فساد مبدأ إنجيل، ولأهملوا كل ما في هذا التعبير من الصفاء، وصقل الجوهر، والتغلغل في الاشتراكية الثورية، ومن أين لهم أن يؤتوا بمثل هذا التشبيه البديع المحكم في قوله «إرسال الآلة الحكومية برمتها إلى متحف الآثار»، بل لقد خفي على أفكارهم في معظم الأوقات الماضية أو تجاهلوا ما أراد إنجيل بالآلة الحكومية.
(٤) تلاشي الحكومة والثورة العنيفة
إن كلمات إنجيل عن تلاشي الحكومة لها شهرة عظيمة؛ لأنها كثيرًا ما يُستشهد بها، إذ هي خير محلل للمذهب الماركسي في سائل مذهب انتهاز الفرصة الذي يجب الوقوف عنده للإفاضة في شرحه، وسنورد جميع الجملة الاستدلالية المجتزأة منها تلك الألفاظ.
إن طبقة العمال ستتولى السلطة العامة، وتبتدئ في الحث على التمسك بوسائل الإنتاج الذي يصبح ملكًا للحكومة، ولكنها بهذا العمل نفسه تقضي على نفسها بيدها باعتبارها طبقة، كما أنها بهذه الطريقة نفسها تستأصل شأفة كل مميزات الطبقات، والمناقضات الموجودة بينها كما تقضي بالعمل نفسه على الحكومة، إن المجتمع الذي ظل موجودًا حتى الآن، والذي لا يزال موجودًا بالفعل، والذي سيموت بين منازعات الطبقات، في حاجة إلى الحكومة، وإلى إيجاد نظام تقضي به الطبقة المستغلة لتثبت به دعائم الطرق المتبعة من قبل في سبيل الإنتاج؛ أي بمعنى أخص لتثبت القوة المتغلبة على الطبقة المستغلة جهودها في دائرة نوع محدد من الضغط المؤدي إلى الإنتاج بفروعه العديدة «وهذه الوسائل القهرية تشتمل على الاستعباد، والاستخدام، والاستئجار»، فالحكومة كانت الممثل الرسمي لكل الهيئة الاجتماعية التي تتمثل بواسطتها في حيز ظاهر، ولكنها كانت بهذه المثابة فقط باعتبارها حكومة إحدى الطبقات التي تمثل في عصرها بمفردها مجموع الهيئة الاجتماعية.
وفي الأعصر القديمة كانت الحكومة هي سيدة الأرقاء، وفي الأعصر الوسطى صارت حكومة الأشراف ذوي الإقطاعيات، وهي تمثل في عصرنا هذا زمرة الأعيان والأغنياء، وحينما تصير الحكومة الممثلة الحقيقية للهيئة الاجتماعية بأسرها، فإنها تصير حينئذ عديمة الجدوى أي لا عمل لها، ومن الآونة التي لا تصير فيها أية طبقة اجتماعية في حاجة إلى أن تظل تحت نير الضغط، ومن الوقت الذي يمكن فيه بواسطة اختفاء التحكم في الطبقات، والمنازعة لأجل الوجود الشخصي المنبعث عن الفوضى الحاضرة في طرق الإنتاج القضاء على المصادمات، وعلى سوء التصرف التي يحدثها ذلك النزاع الشخصي من تلك الآونة، ومن ذلك الوقت لا يكون هنالك ما يقتضي الإخماد، وحينئذ لا توجد حاجة لوجود القوة الخاصة المعدة للقمع والتسلط، وعلى ذلك لا يبقى لزوم لوجود الحكومة بالمرة، وأول عمل تصير به الحكومة ممثلة حقيقية لكل الهيئة الاجتماعية، هو الاستيلاء على سائر وسائل الإنتاج باسم الهيئة الاجتماعية، وهو في الوقت نفسه آخر عمل مستقل تقوم به بصفتها حكومة، وحينئذ يتلاشى من تلقاء نفسه تداخل السلطة الحكومية في العلائق الاجتماعية؛ إذ يصبح عملًا لا موجب له في سائر الفروع واحدًا بعد الآخر، وبدلًا من استيلاء الحكومة على إرادة الأشخاص يتحول عملها إلى إدارة الأشياء وإلى تدبير الإنتاج، ولا تكون الحكومة قد انمحت، بل تكون قد انطفأت جذوتها أو ماتت من تلقاء نفسها، وعلى نور هذه الأمور يجب البحث في قيمة الجملة المتضمنة «الحكومة العامة الحرة»، وهي الجملة التي يمكن أن يكون لها في هذه الآونة حق في التواجد كعنوان للدعوة، ولكنها في نهاية البحث تصبح علميًّا مستحيلة الوجود، وعلى هذا الضوء نفسه أيضًا يجب البحث في قيمة مطالب من يطلق عليهم اسم الفوضويين التي ترمي إلى وجوب محو الحكومة ما بين يوم والآخر.
ويمكن القول بدون تخوف من الانخداع أنه لن يبقى على ألسنة سائر الأحزاب الاشتراكية الموجودة اليوم من هذا التحليل المعقول المحكم الذي بسطه إنجيل، والحافل بالرأي الحازم المأثور سوى ما يعبر عنه ماركس بموت الحكومة، مخالفًا بذلك المذهب الفوضوي القائل بمحو الحكومة.
وإن الاجتراء بهذا التعبير من المذهب الماركسي هو بمثابة تحويله إلى مذهب ترقب الفرص؛ لأنه بعد مثل هذا التأويل لا يبقى عليه إلى تمام تحوله إلى نقيضه، سوى ظل حائر بسيط من التعديل الذي يحدث على مهل من طريق الرقي الفكري من غير وثوب ولا عاصفة ولا ثورة، فتلاشي الحكومة من تلقاء نفسها بحسب الاعتقاد الشائع أو المنتشر أو السائد على عقول العامة إذا أمكن القول بذلك، هو بلا شك إمحاء الثورة إن لم يكن الرد السلبي عليها.
- (١)
ففي نفس مفتتح تدليله قال إنجيل بأن طبقة العمال إذا استولت على السلطة «تعدم بهذه الواسطة الحكومة بصفتها حكومة»، وأما ما يراد بهذا القول، فليس من المعتاد الإطالة في شرحه، ومن الطبيعي إما أن يصير تجاهل هذا الموضوع بالمرة، وإما أن يصير اعتباره كضرب من ضروب الضعف الهيجلي الذي اقتبسه إنجيل، وفي الواقع إن هذه الكلمات تعبر باختصار عن الخبرة المستخلصة من إحدى كبريات الثورات التي قامت بها طبقات العمال، وهي التجربة المستخلصة من الحركة المشاعية التي جرت في باريس سنة ١٨٧١ التي سنتكلم عنها بتوسع كبير في مكانها.
وفي الواقع إن إنجيل تكلم عن إعدام الحكومة التي تمثل الأعيان بواسطة ثورة الطبقة العاملة، في حين أن كلمتي «موت الحكومة» إنما يراد بها البقايا المتخلفة من حكومة طبقة العمال التي تباشر الشئون عقب الثورة الاشتراكية، وأما حكومة الأعيان فبمقتضى رأي إنجيل لا تموت، بل تعدمها طبقة العمال في غضون الثورة، والتي تموت بعد هذه الثورة هي حكومة العمال أو شبه الحكومة.
- (٢)
أن الحكومة «قوة خاصة للاضطهاد»، وهذا التعبير الوجيه الدقيق الصادر من إنجيل على أتم ما يكون من الوضوح، ومنه يؤخذ أن هذه «القوة الخاصة بالاضطهاد» الواقع على طبقة العمال من طبقة الوجهاء؛ أي على ملايين العمال من فئة قليلة من الأغنياء، يجب أن تحل محلها «قوة خاصة بالاضطهاد» الواجب وقوعه على فئة الوجهاء من طبقة العمال بواسطة حكم العمال المطلق أو دكتاتورية العمال، وبهذه الطريقة يتم «استئصال الحكومة بصفتها حكومة»، وبهذه الواسطة يتيسر أمر الحصول على وسائل الإنتاج باسم الهيئة الاجتماعية، على أن أمر الاستعاضة عن قوة خاصة «وهي قوة الأعيان» بقوة خاصة أخرى «قوة العمال» فلا يمكن أن يعادل في حد نفسه إهلاك الحكومة.
- (٣)
وأما هذا التلاشي أو بطريقة أوضح وأبهر «هذه السكتة»، فإن إنجيل يتكلم عنها ببيان تام في العصر الذي يلي عصر استيلاء الحكومة على وسائل الإنتاج باسم الهيئة الاجتماعية، أي بعد حدوث الثورة الاشتراكية، ونحن نعلم كلنا أن الحكومة في هذا العهد ليست سوى هيئة ديمقراطية، ولكن لا يوجد فرد واحد من منتهزي الفرص يذهب إلى أن إنجيل يقول بخمد أنفاس الديمقراطية أو بموتها، وهذا الأمر يظهر لأول وهلة في منتهى الغرابة، ولكنه في الحقيقة غير معقول بالمرة إلا لدى أولئك الذين لا يفكرون في أن الديمقراطية هي نفس الحكومة، وأن لا بد من اختفاء الديمقراطية باختفاء الحكومة، ولا يوجد سوى الثورة ما يمكنه أن يقضي على الحكومة الغنية قضاء مبرمًا، فلا سبيل مطلقًا للراحة العامة إلا بموت الحكومة على العموم أي بمحو الفئة الديمقراطية.
- (٤)
أن إنجيل بتقريره مبدئه القائل بموت الحكومة، أسرع بإثبات أن هذا المبدأ موجه ضد منتهزي الفرص وضد الفوضويين، وقد جعل إنجيل نتائج مبدئه هذا موجهة قبل كل شيء ضد منتهزي الفرص.
ومن الممكن الرهان على أن ٩٩٩٠ نفسًا من عشرة آلاف شخص ممن يقرءون هذه السطور، أو ممن سمعوا الكلام عن قوله «موت الحكومة» يجهلون مطلقًا، أو يحاولون أن ينسوا أن إنجيل لم يوجه نتائج مبدئه ضد الفوضويين فقط، ولا يقل عدد الذين يجهلون ما هي الحكومة الحرة العامة عن تسعة من العشرة الباقية من العدد المقدر فيما تقدم، ولا ما إذا توجهت الحملة على هذه الحكومة من جانب إنجيل، فإنما تكون موجهة من قبله بالمثل على منتهزي الفرص، وعلى هذا النمط يدون التاريخ، وعلى هذا النمط أيضًا يحدث التلاعب والغش بغير وجدان في أعظم مبدأ ثوري إلى حد أن يجعل شيئًا مبتذلًا في أفواه العامة.
إن الحكم على الفوضويين قد تكرر أكثر من ألف مرة، ودوَّى في الآفاق، وثبتت كلماته في العقول حتى أصبح من الأوهام التي لا يمكن انتزاعها من العقائد، وأما الحكم على منتهزي الفرص، فقد تُرك في ظل الإهمال، وخيمت عليه عناكب النسيان!
إن الحكومة العامة الحرة، هي عمدة برنامج الاشتراكيين الديمقراطيين الألمانيين ورمزهم الشائع في عام ١٨٧٠، وهذا الرمز لا يوجد فيه أي معنى سياسي خارج عن دائرة ذلك الاصطلاح الفخم الرنان المحتوي على معاني الوجاهة والإثراء وهو الديمقراطية، وبالنظر لكون هذا الاصطلاح أو هذا الشكل يرمي إلى إيجاد جمهورية ديمقراطية، فإنجيل يقبل بصفة وقتية وجوده لأجل ترويج الدعوة الاشتراكية الصحيحة فقط، ولكن هذا الرمز أو الاصطلاح هو من المذهب الانتهازي؛ لأنه لا يتضمن فقط ديمقراطية غنية ذات صبغة سيئة، بل يتضمن أيضًا ما لا يمكن فهمه من الانتقاد الاشتراكي على كل حكومة بوجه عام، ونحن إنما نرى في الجمهورية الديمقراطية خير نوع من أنواع الحكومات لطبقة العمال، ما داموا تحت نفوذ رأس المال، ولكننا نخطئ إذا نسينا أنَّ الاستعباد المأجور هو تجزيء الشعب حتى في أعظم جمهوريات الأعيان ديمقراطية.
ولقد ذكرنا فيما تقدم أن كل حكومة هي «قوة خاصة للاضطهاد» الواقع على الطبقة المضطهدة، وإذن لا يمكن أن تكون أية حكومة حرة، ولا مقبولة من الشعب بأسره، وهذا هو الذي أوضحه ماركس وإنجيل مرارًا عديدة إلى زملائهما المنضمين إلى حزبهما في عام ١٨٧٠.
- (٥)
وفي كتاب إنجيل هذا الذي يتذكر كل الناس كلامه فيه عن مسألة تلاشي الحكومة، يوجد فيه شرح ضافٍ على معنى الثورة العنيفة، وفي هذا الشرح يوجد استدلال تاريخي ينقلب إلى ثناء على الثورة، وهذا يبين السبب في الجملة التي اختارتها الأحزاب السياسية المعاصرة، وهي «عدم تذكر ذلك الاستدلال»؛ لأنه قد تقرر هذه الأحزاب عدم الخوض في هذا الصدد مطلقًا، بل وعدم التفكير فيه بالمرة، ولهذا فإن هذه الفكرة لا تشغل مكانًا من أقوال الخطباء والكتاب الاشتراكيين اليومية التي ينشرونها على الجماهير في قالب الدعوة إلى المذهب الاشتراكي، ومع ذلك فإن فكرتي نشوب الثورة العنيفة، وتلاشي الحكومة مرتبط بعضهما ببعض ارتباطًا غير قابل للحل والتفكك، حتى إنهما يكادان يُعتبران فكرة واحدة، أو مبدأً واحدًا.
لتمثل الشدة دورًا آخر في التاريخ كذلك الدور السيئ الذي قامت به الثورة، ولتكن هذه الشدة نفسها حسب ما يرى ماركس مولدة الهيئة الاجتماعية العتيقة الفظة هيئة اجتماعية جديدة، ولتكن بالمثل هذه الشدة نفسها السلاح الذي تفتتح به الحركة الاشتراكية طريقًا لها، وتحطم التقاليد السياسية الممقوتة الميتة، فلتكن الشدة كما ذكر وأكثر من ذلك، ولكن المسيو دوهرنج لا ينطق بكلمة عنها، وهو لا يقبل الالتجاء إلى استعمال الشدة، واعتبارها ضرورة تقضي بها المصلحة العامة في سبيل قلب حكم المستثمرين إلا بين التنهد والارتجاف والتحسر؛ لأنه مع الأسف الشديد يرى أن استعمال الشدة مؤدٍّ حتمًا إلى الإضرار بالحالة الأدبية لدى أولئك الذين يلجئون إلى استعمالها، وعلى هذا النسق يتكلمون عن الشدة والعنف على الرغم من الحماسة الفكرية والأدبية التي تتولد من كل ثورة ظافرة.
ومثل هذا القول يقال في ألمانيا التي سيكون لصدمة العنف فيها، التي سيحمل الشعب غالبًا على الالتجاء إليها، ميزة القضاء على روح الاستعباد الذي أوجد العقيدة الوطنية على أثر حرب الثلاثين سنة المخجلة، وهل هذه الحالة العقلية الكهنوتية المضحكة الهزلية السخيفة هي التي يمكن التجرؤ على عرضها على أعظم حزب ثوري عرفه التاريخ حتى الآن؟
فكيف يمكن التوفيق في مذهب واحد ما بين هذا المبدأ الثوري العنيف الذي ظل إنجيل يردده على مسامع الاشتراكيين الديمقراطيين الألمانيين من ١٨٧٨ إلى ١٨٩٥ أي إلى وقت وفاته، وبين نظرية تلاشي الحكومة؟
وعادة يحدث التوفيق ما بين أحد الطرفين والطرف الآخر بواسطة مذهب الاجتزاء — أي اقتطاع جزء من فكرة أو مبدأ أو مذهب، والارتكاز عليه في ترويج مذهب مخصوص — بأخذ فكرة من هنا قائمة على التجربة، والتقاط مبدأ من هناك مرتكز على السفسطة لإرضاء زمرة الأقوياء في الساعة الحاضرة مع وضع كلمة التلاشي ٩٩ مرة من كل مائة مرة، بل وربما أكثر من ذلك في رأس الخطة الموضوعة من قبل، وأكثر الطرق اتباعًا إزاء المذهب الماركسي، وأعظمها انتشارًا في أدبيات الاشتراكية الديمقراطية الرسمية الحالية، إحلال القضايا المنطقية بجانب الاجتزاء؛ أي محاولة الإقناع بالوسائل المنطقية مع الاستدلال على ما يراد إثباته بألفاظ أو الجمل المجتزأة من مذهب ماركس.
ومن المؤكد أن هذه الطريقة ليست بدعة؛ لأن الإثبات بالاجتزاء حل محل الإثبات المنطقي في تاريخ الفلسفة اليونانية القديمة، فيمزج المذهب الماركسي بالسائل الانتهازي — انتهاز الفرص — وبتمويه الطريقة الاجتزائية بطلاء المنطق يمكن التوصل بلا عناء إلى تضليل الجماهير، ومن الميسور إرضاؤها، ونيل عطفها بالتظاهر بالإلمام بالمسألة المعروضة في مجال البحث، والحل من سائر الوجوه، وجميع أشكال تطورها، وكل عوامل التأثير المتناقضة فيها، غير أن هذا كله لا يوصل إلى حقيقة للفكرة الثورية التي يمكن استخلاصها من اطراد الرقي الاجتماعي.
لقد أسلفنا القول، وسنظهر بطريقة أوضح فيما سنورده من الشرح المسهب أن مذهب ماركس وإنجيل الداعي إلى الثورة العنيفة إنما يريد تحريكها على حكومة الأعيان؛ لأن هذه الحكومة لا تستطيع أن تتخلى عن مكانها لحكومة العمال — سلطة العمال المتحكمة — بواسطة التلاشي؛ إذ لا يتأتى هذا التطور بمقتضى القاعدة العامة إلا بالثورة العنيفة، وأن ثناء إنجيل على الثورة العنيفة لعلى اتفاق تام مع التصريحات الصادرة من ماركس — لنتذكر خاتمة «بؤس الفلسفة» والمنشور المشاعي اللذيْنِ يصرح فيهما ماركس بشمم وبتأكيد أن شبوب الثورة العنيفة لا يمكن اتقاؤه، ولنتذكر برنامج جوتا عام ١٨٧٥، ولقد ظل ثلاثين عامًا، وهو يجبه النزعة الانتهازية، وينحي عليها بلا تؤدة ولا إشفاق.
ومن المؤكد أن هذا الثناء لم يصدر عن اندفاع، أو غرور، أو حب في الجدل، بل خلاصة كل مذهب ماركس وإنجيل تنحصر في وجوب إعداد الجماهير بطريقة مرتبة للتشبع بعقيدة الثورة العنيفة، وأن في إهمال تلك الدعوة لأعظم خيانة واضحة موجهة ضد مذهب الميول الاشتراكية الوطنية والكاوتسكية.
إن الاستعاضة عن حكومة السراة والوجهاء بحكومة العمال لا تتم إلا بالثورة العنيفة، وانعدام حكومة العمال معناه انعدام كل حكومة لا يمكن زوالها إلا بطريقة التلاشي التدريجي، وقد توسع ماركس وإنجيل في إيضاح هذه النظرية بإسهاب وإحكام، دارِسَيْن حالة كل ثورة على حدة، ومحللين الدروس المستخلصة من تجربة كل ثورة بنوع خاص، فلنتخطَ ما نحن فيه إلى ذلك القسم من مذهبهما الذي هو بلا شك أهم أقسامه.