الفصل الرابع
إن ماركس حل من وجهة المبدأ مسألة معنى التجربة التي قامت بها المشاعية، فعاود إنجيل في عدة مرات طرق هذا الباب، والتعرض لهذه المسألة مكملًا التحليل والنتائج التي أتى بها ماركس، موضحًا في بعض الأحيان أوجهًا أخرى لهذه المسألة بقوة عظيمة وتدقيق بالغ يجعلانا نصمم على إيراد هذه الإيضاحات التكميلية المهمة.
(١) مسألة المساكن
إن إنجيل في رسالته التي وضعها سنة ١٨٧٢ في صدد مسألة المساكن جعل قاعدة بحثه الاختيار السابق في هذه المسألة على عهد المشاعية، معرجًا في عدة مواضع على مهمة الثورة إزاء الحكومة، ومن المفيد الإلمام بالطريقة المثلى التي أوضح بها إيضاحًا في غاية الجلاء من جهة أوجه التماثل ما بين الحكومة العاملية والحكومة الحالية، وهي الأوجه التي تسمح بالتكلم عن الحكومة في عدة نقط متفرقة، ومن جهة أخرى الأوجه التي تتعارض فيها كلتا الحكومتين مبينًا في هذا الإيضاح طريقة التخطي إلى تعطيل الحكومة.
كيف يمكن حل مسألة المساكن؟ إنها تُحل في المجتمع العام الحالي بنفس الطريقة التي تُحل بها أية مسألة اجتماعية أخرى كيفما كان شأنها؛ أي بطريقة التوازن الاقتصادي المتراجح بين كفتي العرض والطلب، وهو حل يعيدها إلى حالة الإشكال على التوالي مرة بعد الأخرى؛ أي إنه حل لا يؤدي إلى أية نتيجة حاسمة، أما التساؤل عن الطريقة التي ستتبعها الثورة في حل هذه المسألة، فلا تتوقف الإجابة عليه على مجرد الظروف الزمانية والمكانية، بل للإجابة صلات أخرى بمسائل تترامى إلى صوب بعيد جدًّا عن هذه الظروف، ومن كبريات هذه المسائل إبطال التنازع الشاجر ما بين المدينة والريف، وبما أننا لا نحاول أن نبتدع أساليب وهمية لتنظيم الهيئة الاجتماعية التي سيجيء بها المستقبل، فمن العبث والخفة التعريج على هذا الموضوع، ولكن يوجد شيء واحد لا يمكن إنكاره ولا المعارضة فيه، ذلك أنه يوجد في الوقت الحاضر مقدار كافٍ من العقارات الثابتة لسد مطالب السكنى الحقيقية برمتها على شرط استخدامها بطريقة الحكمة والصواب، وهذه الطريقة لا يتيسر تحقيقها إلا إذا انتزعت ملكية الأملاك الحالية، وصار إسكان العمال الذين لا مأوى لهم في هذه العقارات الثابتة بدلًا من مآويهم الحالية التي لا تصلح للسكنى، فعندما تستولي هيئة العمال على السلطة السياسية، فإن هذه الوسيلة تنفذ طبقًا للمصلحة العامة، ويكون تنفيذها أسهل بمناسبة اندماج هذه الأملاك في سلك العقارات الثابتة الواضعة الحكومة الحالية يدها عليها، والتي سترد إلى حوزة الجمهور في جملة الأملاك المنتزعة ملكيتها.
ولم يحدث في هذا الموضوع التصدي لتغيير شكل السلطة الحاكمة؛ لأن مثل الحل المتقدم يمكن إتمامه، وهذه الحكومة قائمة بتأدية أعمالها، فلقد أقدمت الحكومة الحاضرة على انتزاع ملكيات بعض المساكن، ووضع يدها على بعض الأماكن بمجرد أوامر أصدرتها، وقياسًا على هذه الخطة المألوفة رسميًّا يسوغ لحكومة العمال أن تقرر هي أيضًا وضع يدها على عقارات وانتزاع ملكيات، ولكن من الواضح أن الجهاز الإداري العتيق أي هيئة الموظفين التي لا سبيل إلى انفصالها من هيئة الأعيان وأرباب رءوس الأموال لا يمكن الاعتماد عليه في تنفيذ قرارات الهيئة العاملة.
يجب العلم بأن وضع يد الشعب العامل على كل أدوات العمل، وعلى كل الصناعة هو أمر يناقض تمام المناقضة ما يراه برودون من امتلاك هذه الأشياء بطريقة الابتياع، فعملًا برأي هذا الأخير يصبح كل عامل مالكًا لمسكن ولقطعة براح من الأرض وللأدوات اللازمة له، أما الأسلوب الآخر فيقضي بأن يكون مجموع الشعب العامل هو المالك للمساكن والمصانع وأدوات العمل، وحق التمتع بهذه البيوت والمعامل وسواها لا يمكن التخلي عنه، ولو على الأقل مدة زمن التطور إلى الأشخاص أو الشركات الخصوصية بدون دفع قيمة معينة، وكذلك إبطال الملكية العقارية لا يستدعي إبطال الدخل العقاري، بل يقتضي تسليمه إلى الهيئة الاجتماعية، ولو على الأقل في شكل معدل نوعًا، وامتلاك الشعب العامل بوجه قاطع كل أدوات العمل لا يمنع بأي حال من الأحوال بقاء الاستكراء والتأجير.
وسنبحث في الفصل الآتي في المسألة التي عرضت لنا الآن هنا، وهي مسألة المصادرة الاقتصادية المتخلفة عن الحكومة الهالكة، لقد التزم إنجيل الحذر والحكمة في إيضاحه إذ قال: إن طبقة العمال وهي متولية شئون الحكومة لا تستطيع بتاتًا أن توزع المساكن بغير أجور ولو على الأقل في المدة التي يحدث فيها التطور، وتأجير المساكن التي يمتلكها الشعب بأسره إلى أسرات مختلفان في مقابل أجور يصير تقاضيها يستدعي بالطبع تحصيل هذه الأمور، وهذا العمل يدعو إلى بعض المراقبة وإلى وضع أسعار للترميمات اللازمة للمساكن، وهذه الأمور تتطلب نوعًا من أشكال الحكومة، ولكنها لا تتطلب البتة جهازًا عسكريًّا ديوانيًّا خاصًّا بموظفيه ذوي الميزات والدرجات، وهكذا لا يتم الانتقال من هذه الحالة الاحتياطية إلى الحالة التي يصير توزيع المساكن فيها بلا مقابل إلا بامِّحاء آخر ظل للحكومة الضرورية المؤقتة.
إنها وليدة الضرورة التي أوجدها العمل السياسي والسلطة المطلقة التي لجأت إليها هيئة العمال بصفتها وسيلة الانتقال إلى إبطال الطبقات وإلى إبطال الحكومة في الوقت نفسه.
من الجائز أن بعض عشاق النقد الأوروبي وبعض السراة من «أكلة لحم المذهب الماركسي» يرون شبه تناقض بين هذا البيان المتضمن «إبطال الحكومة» وإنكار هذا الشكل من التعبير بالطريقة الفوضوية كما بسطنا ذلك أثناء الكلام على مناقضة آراء دوهرينج، فليس من المستغرب أن يعتبر الانتهازيون إنجيل في عداد الفوضويين! لقد أخذت العادة ترسخ في نفوس الاشتراكيين الوطنيين المتكاثرين في أيامنا هذه باعتبار الاشتراكيين الدوليين بمثابة فوضويين.
إن تعاليم ماركس تشير دائمًا إلى تطابق إبطال الحكومة بإبطال الطبقات الاجتماعية، وأما الاعتراض الشهير على دوهرينج يختص بتلاشي الحكومة، فهو لا يقتصر على اتهام الفوضويين بالرغبة في إبطال الحكومة فقط، بل في اعتقادهم بأن هذا الإبطال قابل للتحقق في كل ساعة.
وبعدما اتضح أن المذاهب الاشتراكية الديمقراطية تريد أن تكسو المذهب الماركسي حلة لا توافقه بإسنادها إليه زورًا وضلالًا أنه ذو صلات بالفوضوية في مسألة إبطال الحكومة، فمن المفيد الإلمام بالجدال الذي دار ما بين ماركس وإنجيل من جهة والفوضويين من جهة أخرى.
(٢) مجادلة الفوضويين
إن عهد هذه المجادلة يرجع إلى سنة ١٨٧٣؛ إذ نشر ماركس وإنجيل مقالات ضد البردونيين القائلين بالحرية الإدارية؛ أي أضداد السلطة النظامية، وكان نشر هذه المقالات في مجلة اشتراكية إيطالية، ولم يُتَح ترجمتها إلى اللغة الألمانية إلا في عام ١٩١٣ حينما أعادت نشرها جريدة «النيوزايت».
إذا كان الصراع السياسي الذي يجب أن تقوم به الطبقة العاملة يكتسي بحلل ثورية، وإذا كان العمال يحلون سلطتهم المطلقة محل سلطة الأعيان المطلقة، فإنهم يرتكبون جريمة هائلة بإخلالهم بمبادئهم؛ لأنهم لأجل قضاء مطلبهم الوقتي الحقير الوحشي، ولأجل كسر شوكة النفوذ المالي يعملون على إكساب الحكومة شكلًا ثوريًّا عرضيًّا بدلًا من إلقاء السلاح وإبطال الحكومة.
فهذا هو الموضع الذي يحتج فيه ماركس على إبطال الحكومة بشدة في مجادلته الفوضويين! فهو لم يعترض على اختفاء أو على إبطال الطبقات، ولكن على عدول العمال عن استعمال أسلحتهم في تنظيم القوة أي استخدام الحكومة في «كسر الفئة المالية».
وقد احتاط ماركس بذكائه وتجريبه المعهودين من إخراج مكافحته ضد المبادئ الفوضوية عن معناها الحقيقي بالتحديد الدقيق الذي أورده في أثناء كلامه مبينًا … الشكل الثوري العرضي، الذي تتشكل به الحكومة اللازمة في مبدأ الأمر للهيئة العاملة، فإن هيئة العمال لا حاجة لها إلى الحكومة إلا مدة وجيزة.
أما فيما يختص بمسألة إبطال الحكومة وكونها غرضًا أساسيًّا، فنحن على تمام الاتفاق مع الفوضويين، ونحن نؤكد أنه لأجل إدراك هذا الغرض لا بد من الالتجاء وقتيًّا واحتياطيًّا إلى استخدام آلات ووسائل وأساليب السلطة الحكومية ضد المستغلين، وكذلك لا بد من اللياذ وقتيًّا إلى السلطة العاملية المطلقة لإبطال طبقات الهيئة الاجتماعية.
وقد اختار ماركس أنجع الطرق وأوضحها في معارضة الاشتراكيين، بتحتيمه على العمال إلقاء السلاح على أثر نفضهم نير أرباب رءوس الأموال عن كواهلهم، أو أرادت في حالة عدم إلقائه ضد الماليين لكسر شوكتهم، أما إذا أرادت طبقة أن تشهر السلاح ضد طبقة أخرى فيما يمكن تأويله باعتبار هذه الطريقة شكل حكومة وقتية.
يتساءل كل اشتراكي ديمقراطي: هل عرضت حقيقة مسألة الحكومة في المناقشة التي دارت مع الفوضويين؟ وهل عرضتها حقيقة أغلبية الأحزاب الاشتراكية الرسمية الكبرى في مؤتمر الاشتراكية الدولية الثاني؟
إن إنجيل يتكفل بالإيضاح التام الذي يفهمه كل عامي يريد الوقوف على حقائق هذه الآراء، فأول ما بدأ به قلب ضلالة البرودونيين المعلنة تحت عنوان «أضداد السلطات»؛ أي أعداء كل سلطة وكل طاعة وكل حكومة.
قال إنجيل في هذا الصدد: خذ مثلًا لك مصنعًا أو سكة حديدية أو باخرة في اليم، ألا تجدوا من الواضح أنه لا يتيسر بغير الاعتماد على شيء من النفوذ أو من السلطة أو من الأشراف، إدارة أي عمل من هذه الأعمال الفنية المحضة القائمة على أدوات متراكبة متعددة تديرها أيدٍ عديدة، وتحتاج إلى تصرف مقرون بالحنكة والتدبير؟
لو أني عرضت هذه البراهين على أقوى خصوم الحكومات مراسًا لما استطاعوا أن يجيبوني بغير ما يأتي: أن ما ذكرت حق ولكنه لا يقتضي سلطة أو نفوذًا مما نُنحي عليه ونطرح نيره، بل مجرد تفويض معين لا يمكن تخطيه، وكأني بهؤلاء القوم يحسبوننا نستطيع أن نغير جوار الأمور بمجرد تغيير أسمائها.
لو أن القائلين بالإدارة الداخلية أرادوا الاقتصار على القول بأن نظام الهيئة الاجتماعية المستقبلة لا تقبل السلطة إلا إذا التزمت الحدود التي تعينها لها تعيينًا دقيقًا جدًّا مقتضيات الإنتاج، لجاز لنا أن نتفاهم معهم، إلا أنهم يأبون إلا أن يظلوا متعامين عن حقائق الأمور الواضحة من تلقاء نفسها، والتي لا مناص من الخضوع لها بحكم الضرورة القصوى، والمصلحة العامة، ويستمروا على المناظرة والمجادلة جاعلين همهم الأكبر مناقشته في اللفظ نفسه غير مبالين بمدلوله ولا بمقتضيات الأحوال.
ولست أدري لماذا لا يقتصر أضداد السلطات على الصياح في وجه السلطة السياسية، وفي وجه الحكومة؟ إن كل الاشتراكيين على تنوع نحلهم متفقون على وجوب اختفاء الحكومة، ومعها السلطة السياسية على أثر شبوب الثورة الاشتراكية الآتية، بمعنى أن الوظائف العامة تفقد صيغتها السياسية، وتنقلب إلى مجرد وظائف يريدون امِّحاء ظلال الحكومة السياسية فجأة قبل امحاء المقتضيات الاجتماعية التي استدعت تواجد هذا النوع من الحكومات، فهم يريدون أن يكون أول شرط من شروط اشتعال نيران الثورة الاشتراكية العامة محو كل أثر للسلطة.
فهل رأى هؤلاء السادة ثورة مشبوبًا ضرامها؟ إن الثورة بالتأكيد لا يمكن اشتعال لهيبها ووصولها إلى مقصودها إلا إذا كانت مرتكزة على أعظم ما يمكن تصوره من النفوذ والسلطة.
وما الثورة إلا عمل يُراد به أن ينفذ شطر من الأمة إرادته في شطر آخر منها مستعينًا بقوة البنادق والأسنة والمدافع؛ أي بأعظم الوسائل المعلومة حتى الآن تسلطًا وحكمًا، وعلى أثر تغلب الفريق الثائر على خصمه يرى نفسه مضطرًّا إلى اتخاذ أشد وسائل التسلط للمحافظة على حالة الانتصار التي تكلَّلت بها ثورته مخافة أن تعود الفئة الرجعية إلى الهياج في دور السكون والتطلع والاشرئباب إلى استعادة سلطانها الزائل.
وهل كانت مشاعية باريس تلبث أكثر من عشية وضحاها لو لم ترتكز على قوة الشعب المسلح الناهض لمساندتها قبالة السلطة المالية المتحكمة التي تقاومها؟ وألا يحق لنا أن نُنحي على المشاعية بأشد اللائمة لأنها لم تعرف كيف كان من المحتم عليها أن تتمتع بأعظم سلطة تستطيع إذ ذاك الحصول عليها لتستمر في عملها، وهي مؤيدة بنفوذها الواقر في نفوس الشعب، ولتكبح من جماح أشياع خصومها المنبثين بالطبع في كل مكان إلى أن تصرع رأس المالية تمامًا، ويستتب لها الأمر خير استتاب؟ ومن هذا البيان يُستنتج إما أن يكون أضداد السلطة لا يفقهون مغزى ما يقولون، وفي هذه الحالة لا يكون قولهم إلا مدعاة للقلق والشقاق في صفوف الهيئة العاملة، وإما أن يكونوا مدركين حقيقة ما يقولون ولا هَمَّ لهم إلا العناد، وفي هذه الحالة يخونون الغرض الجوهري الذي ترمي إلى إدراكه هيئة العمال، وفي كلتا الحالتين لا يعملون إذا أصروا على رأيهم إلا لخدمة مصلحة الفئة الرجعية.
إن المسائل التي صار الإلمام بها عرضًا في هذا البيان يجب التبسط في البحث فيها في الفصل الآتي عندما نتصدى للنظر في العلائق التي تربط السياسة بالعلم الاقتصادي حينما تشرف الحكومة على الزوال.
فهذه هي مسألة تحول الموظفين العموميين والموظفين السياسيين إلى مجرد موظفين إداريين، وكذلك مسألة تطور الحكومة السياسية، إلا أن هذا التعبير الأخير مدعاة لسوء التفاهم بما يوجده من الاعتقاد بطول المدة التي تتلاشى في أثنائها الحكومة؛ إذ قد تجيء آونة تتحول فيها الحكومة، وهي في دور تطورها من حكومة سياسية إلى حكومة غير سياسية.
وإن أهم ما يلاحظ في بيان إنجيل المعروض في هذا الفصل، هو الأسلوب الذي عارض به الفوضويين في المسألة المطروحة على بساط البحث، ولقد ساجل الاشتراكيون الديمقراطيون الذين يريدون الانتماء إلى آراء إنجيل الفوضويين البحث ملايين المرار منذ عام ١٨٧٣، ولكنهم إنما كانوا يساجلونهم بالتأكيد باعتبارهم ماركسيين، لا يستطيعون ولا ينبغي لهم أن يناقشوا.
إن فكرة إبطال الحكومة لدى الفوضويين مبهمة مضطربة وليست ثورية، وعلى أساس هذه الفكرة شرع إنجيل يقارعهم الحجة بالحجة للوصول إلى حل المسألة على وجه معقول.
إن الفوضويين يرفضون بالتأكيد أن ينظروا إلى الثورة في حالتي تولدها ونموها، ثم في حالة سيرها الخاص إزاء القوة والسلطة والنفوذ والحكومة.
فالاشتراكيون الديمقراطيون المعاصرون بمجادلتهم الفوضويين في وجود الحكومة والسلطة يقتصرون على هذا المعنى: «نحن من أشياع وجود الحكومة، أما الفوضويون فمن أضدادها!» وما هي إلا جملة لاكتها ألسنة رأس الماليين حتى أصبحت مبتذلة ثقيلة على الأسماع، فضلًا عن خلوها بالمرة من قوة الدحض والإقناع، ومما لا ريب فيه أن أي عامل ذي مسكة من التأمل والتفكير، لا يرى في مثل هذا القول التافه المبتذل ما يروي غليله ويزيل حيرته وينقذه من حجج الفوضويين، وهذا ما لاحظه إنجيل بالطبع، وما أراد أن يتقيه في مجادلته خصومه في الرأي، فسلك مسلكًا مغايرًا بالمرة لما اعتاد الاشتراكيون الديمقراطيون أن يسلكوه في مناظراتهم، فذهب إلى تقرير مبدأ لا يختلف فيه اشتراكيان، وهو وجوب اختفاء الحكومة باعتباره نتيجة للثورة الاشتراكية، ثم إنه تدرج من المبدأ المجمع عليه من كافة الأحزاب الاشتراكية على اختلاف نَزَعاتها إلى عرض مسألة الثورة بنفسها في مقام البحث والإيضاح، متصديًا لها بصراحة تامة، وهذه المسألة هي التي لا يريد الاشتراكيون الديمقراطيون الانتهازيون أن يخوضوا عبابها، تاركين البحث فيها برمتها للفوضويين، فأراد إنجيل بطرح هذه المسألة فوق بساط أن يقبض على الثور من روقيه إذ يقول: «أفلم يكن من الواجب على المشاعية أن تستفيد بقدر ما تستطيع من سطوة الثورة ونفوذها الحكومي؛ أي من صولة الهيئة العاملة المسلحة المنظمة في شكل طبقة حاكمة؟»
إن الاشتراكية الديمقراطية — وهي الأغلبية — ظلت دائمًا تعتزل الخوض في مسألة المهمة الجوهرية التي يجب أن تقوم بها هيئة العمال في الثورة، جانحة عند هذه النقطة إلى الاستخفاف المشوب بالرياء تارة، وإلى التغرير بهذه الجملة الحمقاء السفسطائية، وهي قولها: «وحينئذ يرون ما سيكون!»
وعلى هذا يرى الفوضويون أنفسهم محقين في اتهام الاشتراكيين الديمقراطيين، بإخلالهم بأهم واجب عليهم نحو العمال، وهو تشريبهم بالتعاليم الثورية، أما إنجيل فقد استفاد من تجربة العمال الأخيرة ما أتاح له أن يدرس درسًا عميقًا ما يجب على هيئة العمال إتيانه تجاه المصارف المالية وإزاء الحكومة، وكيف يتهيأ لها هذا العمل.
(٣) رسالة موجهة إلى بيبل
إن من أَهَمِّ، إن لم يكن بالفعل أهم، ما خطه قلما ماركس وإنجيل من الآيات البينات في كتبهما بشأن الحكومة الجملة التالية المقتطفة من رسالة حررها إنجيل، ووجه بها إلى بيبل ما بين ١٨ و٢٣ مارس سنة ١٨٧٥.
ونحن نبدي هنا ملاحظة خاصة لا ارتباط لها بالموضوع، وهي أن هذه الرسالة ظهرت في عالم المطبوعات لأول مرة إذا لم تخنا ذاكرتنا في المجلد الثاني من ذكريات بيبل «ذكريات حياتي» الذي تم طبعه وانتشاره في عام ١٩١١؛ أي بعد انقضاء ستة وثلاثين حولًا على عهد تدبيجها وإرسالها.
والباعث لإنجيل على كتابته هذه الرسالة هو الرغبة في نقد مشروع برنامج «جوتا» الذي انتقده كذلك ماركس في كتابه الشهير الذي بعث به إلى و. براك، وفي خلال هذا النقد عطف إنجيل بنوع خاص من قبيل الاستطراد إلى مسألة الحكومة.
إن حكومة العامة الحرة تحولت إلى حكومة حرة، وحسب المعنى الأجرومي المستخلص من هذه الكلمات يمكن التعبير عن الحكومة الحرة بأنها حكومة حرة إزاء كل مواطنيها؛ أي إنها حكومة ذات صبغة استبدادية، ومن الأوفق اطراح كل هذه الثرثرة الدائرة حول الحكومة، وعلى الخصوص منذ عهد المشاعية التي لم تكن إذ ذاك قد صارت حكومة حسب ما تضمنه المعنى الخاص بهذه الكلمة، لقد قذف الفوضويون في وجوهنا بهذا الإصلاح «حكومة العامة»، على الرغم من أن ماركس في كتابه الذي وضعه لمناقضة برودون، ثم في المنشور المشاعي، قال بوضوح تام: إن الحكومة تنحل وتختفي من تلقاء نفسها بوجود الأسلوب الاشتراكي، وبما أن الحكومة ليست سوى نظام انتقالي يجب استخدامه في الكفاح الثوري لسحق قوة خصوم الثورة، فالتكلم عن حكومة عامية حرة يُعتبر من قبيل الكلام الذي لا معنى له مطلقًا؛ إذ طالما هيئة العمال في حاجة إلى الحكومة، فهي تكون في حاجة إليها لا لفائدة الحرية بل لأجل سحق خصومها، وأما حينما يسمح الوقت بالتكلم في صدد الحرية، فهنالك تناكف الحكومة عن التواجد بصفتها المعهودة؛ ولذا فإننا نقترح محو لفظة الحكومة واستبدالها بكلمة جيماينفايزن الجليلة القديمة، وهي المشاعية.
ويجب أن نلفت الأفكار إلى أن هذه الرسالة التي بحثت في موضوع برنامج الحزب الذي صار انتقاده في رسالة حررها ماركس بعد بضعة أسابيع فقط من تحرير رسالة إنجيل — يرجع تاريخ رسالة ماركس إلى ٥ مايو سنة ١٨٧٥ — وإلى أن إنجيل كان ملازمًا لماركس إذ ذاك أثناء إقامته في لوندره، والخلاصة من هذه الملاحظة كلها أن إنجيل بقوله «إننا» في الجملة الأخيرة، إنما أراد بلا شك أن يعبر عن رأيه ورأي ماركس في الاقتراح المعروض على رئيس حزب العمال الألماني بقصد اطراح لفظة الحكومة من البرنامج والاستعاضة عنها بكلمة «المشاعية».
وما أعظم ما تعلو أصوات زعماء «الماركسية» الحديثة بالويل والثبور على الفوضوية إذا ما اقتُرح عليهم مثل هذا التعديل في برنامج الحزب، وذلك لأن مذهبهم المبتدع قد مُزج بعصير الانتهازية اللذيذ!
فليرفعوا عقائرهم كيفما شاءوا إزاء هذا الاقتراح، وليطمئنوا بما ستوليهم رأس المالية من ثنائها الجم وجزائها الجزيل.
وأما من جهتنا فإننا لن نأبه بصياحهم، بل سنستمر على طِلاب ضالتنا المنشودة، وكلما بصرنا ببرنامج حزبنا وجب علينا حتمًا أن نعود إلى تذكر نصيحة إنجيل وماركس لنعيد إلى ذاكرتنا الحقيقة الناصعة، ولنبعث من ضريحه المذهب الماركسي الحقيقي، ولنمحصه وننقيه من كل الشوائب التي ألمت به لنتمكن من توجيه الطبقة العاملة في صراعها لأجل تحررها إلى أوفق وجهة وأوضح سبيل.
وقلما يحتمل وجود خصوم لنصيحة إنجيل وماركس بين البولشفيين، وفي اعتقادنا أنه لا توجد سوى صعوبة واحدة، وهي عدم وجود معجم للألفاظ المصطلح عليها في الاشتراكية، ففي اللغة الألمانية توجد كلمتان تؤديان معنى «المشاعية»، وقد تخير إنجيل منهما اللفظ الذي لا يقتصر على المدلول الخاص وهو «العمومية»، بل يشتمل على أضفى المعاني؛ أي الذي يتناول المجموع ويتضمن أسلوب التعاليم المشاعية، أما اللسان الروسي فلا يشتمل على مثل هذه الكلمة بمدلولها الأعم؛ ولهذا فلربما قضت الضرورة بالالتجاء إلى استخدام الكلمة الفرنسوية وهي «الكومين» على الرغم من ابتعاد مدلولها الحقيقي في أغلب الأحيان عن مدارك العمال الذين لا يعرفون من الفرنسوية شيئًا.
«إن المشاعية لم تصر على الإطلاق حكومة بالمعنى الذي تشتمل عليه هذه الكلمة»، هذا تأكيد إنجيل الجوهري من الوجهة النظرية، فبعد الإيضاح الضافي الذي سبق بسطه فيما تقدم من قبل أصبح هذا التأكيد معقولًا بلا نزاع، فالمشاعية لم تعد حكومة من وقت أن استوجبت على نفسها الضغط، لا على أغلبية الأهالي بل على أقلية منهم «وهي فئة المستغلين»، لقد حطمت أداة الحكومة المالية، ولم يكن عملها هذا بقوة خاصة للضغط، بل الأهالي أنفسهم هم الذين شمروا عن سواعدهم وانبروا إلى خصومهم في الميدان، فكل هذا العمل لا ينطبق مطلقًا على مدلول الحكومة بمعنى لفظها المعروف، ولو تأيدت المشاعية في عملها واستتب أمرها لاختفت منها كل ظواهر الحكومة من تلقاء نفسها؛ لأنها لا تبقى لها حاجة بعد استتباب الأمر إلى إبطال أنظمتها؛ لأن هذه النظامات كانت تنكف عن العمل حينما لا تجد أمامها ما تعمله.
«غير أن الفوضويين دائبون على أن يقذفوا في أوجهنا بهذه الجملة: «الحكومة العامية».»
وإنما يريد إنجيل بهذا القول الأخير باكونين وحملاته على الاشتراكيين الديمقراطيين الألمانيين، على أن إنجيل يعترف بصواب هذه الحملات فيما يختص منها بالحكومة العامية التي لا معنى لها، والتي هي في معزل عن الاشتراكية وينبغي القضاء عليها بالإبطال كما ينبغي القضاء على «الحكومة العامية الحرة».
ويبذل إنجيل مجهوده في تحويل مجادلات الاشتراكيين الديمقراطيين الألمانيين مع الفوضويين في مجرى حسن، وفي جعل مقاومتهم منتظمة من جهة التمسك بالمبادئ، وفي إنقاذهم من أوهام الانتهازيين الفاسدة وآرائهم الضالة في الحكومة، غير أن كتاب إنجيل إلى بيبل ظل وا أسفاه ستًّا وثلاثين سنة مُلقًى في غيابة الصندوق! ومع ذلك فإننا سنرى فيما يلي أن كاوتسكي ظل ينشر في موضوع الحكومة نفس الآراء التي كانت الباعث الأهم لإنجيل على إرسال كتابه السالف ذكره إلى بيبل لتنقيح البرنامج الاشتراكي منها وإقصاء أفكار الاشتراكيين عنها.
وأجاب بيبل على كتاب إنجيل برسالة تاريخها ٢١ سبتمبر سنة ١٨٧٥ ذكر فيها أنه على اتفاق تام معه من جهة البرنامج، وأنه وجه لومه إلى لبيبكنخت على ميوله المتجهة إلى التراضي مع رأس الماليين، على أننا لو تناولنا كتاب بيبل الذي عنوانه: «مقاصدنا»، لوجدناه حافلًا بآراء عن الحكومة في منتهى الشطط والضلال إذ يقول: «إن الحكومة يجب أن تتحول من حكومة قائمة على حكم طبقة مخصوصة إلى حكومة عامية.»
وهذا هو ما نشر في الطبعة التاسعة من كتاب بيبيل المذكور سنة ١٨٨٦، فليس من المستغرب هذا إذا ما صمم الاشتراكيون الديمقراطيون الألمانيون على الارتكان على أقوال الانتهازيين وأدلتهم في هذا الصدد بشأن الحكومة، ولا سيما عندما يظل شراح أقوال إنجيل نائمين تحت ظلال الإهمال والتراخي، وعندما لا تسمح شئون الحياة العادية ومقتضياتها بتلقين الاشتراكيين الديمقراطيين مبادئ الثورة وتعاليمها العملية.
(٤) نقد مشروع برنامج إيرفورت
إن انتقاد مشروع برنامج إيرفورت الذي وجه به إنجيل إلى كاوتسكي في ٢٩ يونيه ١٨٩١ ونشر بعد عشر سنوات أي في عام ١٩٠١ في جريدة الينوزيت، لا يمكن أن يظل مهملًا في تحليل المذهب الماركسي من جهة ما يختص منه بالحكومة؛ لأن محوره يدور على انتقاد آراء الانتهازيين والاشتراكيين الديمقراطيين بخصوص مسألة تنظيم الحكومة.
لو أننا اتخذنا لنا شكل شركات مساهمة من أنواع شركات الاحتكار التي تشرف على فروع بأسرها من الصناعة وتحتكرها، فإننا نرى الإنتاج الخاص قد بطل، بل نرى قاعدة الإنتاج نفسها قد فقدت.
فنحن أمامنا الآن الوصف الجوهري لرأس المالية الحديثة من الوجهة النظرية، أي المبدأ الاستعماري الذي تتحول بموجبه رأس المالية إلى رأس مالية محتكرة، وهذه نقطة يجب الالتفات إليها للحذر من الوقع في الشطط الذي يجنح إليه الإصلاحيون الماليون بذهابهم إلى أن رأس المالية الاحتكارية الخاصة — أي الحكومة — ليست هي رأس المالية العادية، وقد استطاعت أن تتسمى «بالاشتراكية الحكومية»، ومن المؤكد أن المحتكرين لم ينتهجوا طريقة واحدة تسير على خط مستقيم، ولا يمكنهم أن ينتهجوها في المستقبل، ولو فُرض وتمكنوا من إيجاد قاعدة منظمة يتبعونها في الأشياء التي يحتكرونها، سواء أكانت هذه الأشياء المحتكرة وطنية أو دولية، فإنهم يكونون قد أوجدوا حقيقة مرحلة جديدة في الاحتكار رأس المالي، ولكننا على كل حال لا نكون قد خرجنا عن دائرة الرضوخ لحكم رأس المال.
على أن صلة النسبة أو القرابة أو الرابطة التي تربط ما بين رأس المالية والاشتراكية يجب أن تتراءى لممثلي هيئة العمال، كدليل مؤيد لقرب وسهولة واحتمال نشوب الثورة الاشتراكية، بل وضرورة نشوبها في الحال، وليست كدليل مناقض يدعو إلى التزام خطة الحيدة إزاء أولئك الذين يجحدون — مثل طلاب الإصلاح — وجوب نشوب الثورة، ويصورون رأس المالية في صورة جذابة آخذة بمجامع الألباب، ولكن لندع هذه المسألة الاقتصادية ولنعد إلى مسألة الحكومة، فإن إنجيل يبسط أمامنا ثلاثة بيانات في منتهى الأهمية، فأول هذه البيانات يختص بالجمهورية، وثانيها يتعلق بارتباط المسألة الوطنية بمسألة تنظيم الحكومة، والثالث مختص بالإدارة المحلية.
فأما ما يختص بالجمهورية فقد جعلها إنجيل النقطة المركزية من جهة الخُطورة في انتقاده على مشروع برنامج إيرفورت، وإذا ما تذكرنا أهمية برنامج إيرفورت لدى سائر الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الدولية، وما أحرزه من المكانة في المؤتمر الاشتراكي الدولي الثاني الذي جعله النموذج الأساسي له في أعماله وقراراته، فمن الممكن القول بغير مغالاة أن إنجيل ينتقد في هذا المقام انتهازيِّي الاشتراكية الدولية الثانية بأجمعهم.
إن المطالب السياسية التي ينشدها المشروع مصابة بنقص فادح، فهي لا تضمن بالتأكيد ما يجب أن يقال وأن يُطلب.
وسيظهر إنجيل فيما بعد أن الدستور الألماني عبارة عن نسخة من الدستور الرجعي القديم الذي صار وصفه في سنة ١٨٥٠، وأن الرايخستاخ ليس سوى «ورقة من كرمة الحكم المطلق»، كما عبر عنها بهذا النص ويلهيلم ليبكينخت، وأن الرغبة في تحقيق جعل ملكية كل أدوات العمل مشاعًا هي عمل لا معنى له ما دام قوامه ذلك الدستور الذي يتضمن وجود الحكومات الصغيرة واتحاد الحكومات الصغيرة الألمانية.
من الصعب أن نخوض في عُباب هذا الموضوع، إلا أنه على كل حال، وكيفما كان مبلغ الصعوبة أو الخطر لا بد من الفصل في الأمر بوجه قاطع، والهياج الذي يظهره الانتهازيون الآن على صفحات قسم عظيم من الصحافة الاشتراكية الديمقراطية، يظهر مقدار الضرورة التي يستدعيها الفصل في هذه المسألة، وقد أدى الخوف من تنفيذ القانون الموضوع ضد الاشتراكية والتأثر من بعض التصريحات التي حدثت تحت نفوذ ذلك القانون، ولم يَحِن وقت تنفيذ ما فيها إلى الرغبة في الوقت الحاضر في أن يكتفي الحزب بالنظام الشرعي المتبع الآن في ألمانيا باعتباره محققًا لجميع المطالب الاشتراكية بطريقة سلمية.
… أما في ألمانيا حيث الحكومة تكاد تكون في أوج عزتها وقوتها وحيث يتجرد الرايخستاج وسائر الأنظمة التمثيلية الأخرى من كل سلطة حقيقية، فإن الجهر بشيء من هذا القبيل وعلى الخصوص بغير حاجة ماسة إلى مثل هذه المجاهرة، فإن مثل هذا العمل يؤدي إلى انعطاف ورقة الكرم نحو أرومتها، وهي الحكم المطلق لتتخذ منه غطاء لها يحجبها في مستظلها عن أعين الشاخصين إليها.
وفي الواقع إن أغلبية الزعماء الرسميين للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني هي التي تجعل نفسها سترًا للحكم المطلق في ألمانيا بتركها تعاليم إنجيل راقدة في مختبأ الإهمال.
إن مثل هذه السياسة لا يمكن أن تقود الحزب في آخر الأمر إلا إلى التخبط في طريق الخطأ والضلال، فهو يقدر المسائل السياسية العامة ذات الصبغة الاضطهادية، فيعمل بهذه الطريقة على إخفاء المسائل الجوهرية المهمة التي تتطلب الفصل السريع، والتي لا بد لها من أن تعرض من تلقاء نفسها في ميدان الظهور عند أول حادث جسيم، أو عند أول أزمة سياسية، فما الذي ينجم عن كل ذلك إلا أن يصير الحزب في الفرصة السانحة والساعة الحاسمة عاجزًا، وليست له آراء صحيحة ومبادئ ثابتة ووحدة تربط ما بين مسائله المتعددة التي تقتضي الفصل فيها بحد قاطع، في حين أنه لا يمكن البت في هذه المسائل؛ لأنها غير معلومة لدى الجمهور الذي لا عهد له بالبحث فيها من قبل.
إن تناسي هذه الأمور الجوهرية لأجل مصالح عرضية، والاستمرار على متابعة النجاح المحرز في الوقت الحاضر، والذي يتوالى لأجله الجهاد بدون نظر إلى العواقب وتضحية الحركة المستقبلة لأجل شأن لا أهمية له صار الحصول عليه في هذا الوقت، كل هذا ناجم عن أسباب «شريفة»، وما هذا كله إلا مما يصح اعتباره من التصرفات الانتهازية، وما الانتهازية «الشريفة» إلا خطر يهدد الاشتراكية من أفظع الأخطار الجمة التي تهددها.
ومما لا ريب فيه أن حزبنا والطبقة العاملة، لا يتيسر لهما إدراك السلطة والحكم إلا إذا تشكلا بشكل سياسي كالجمهورية الديمقراطية مثلًا، بل هذه الجمهورية هي الشكل الخاص بالسلطة المطلقة التي تحصل عليها هيئة العمال كما أظهرت ذلك الثورة الفرنسوية الكبرى.
إن إنجيل لم يزد هنا على أن أبرز الفكرة الأساسية المنبثة في تفاريق كتب ماركس مجسمة في مكان واحد، وهي أن الجمهورية الديمقراطية هي المرحلة التي توصل هيئة العمال إلى الحكم المطلق.
وفي الحقيقة إن هذه الجمهورية لا يمكنها أن تنهي أَجَل سلطة رأس المال، ولا تزيل استعباد الجماهير، ولا تقضي على تصارع الطبقات، ولكنها تجعل هذه المصارعة ذات قوة وانتشار، وتمنحها عضدًا تستطيع بواسطته — إذا أزِفت الساعة الموافِقة لتحقيق المطالب الاشتراكية الصحيحة وحماية مصالح الجمهور — أن تقود الجماهير في ساحة الصراع الأخير لتخرج منه متوجة بإكليل الظفر، إلا أن كل هذه التعاليم الماركسية قد تناستها الأحزاب الاشتراكية في مؤتمرها الدولي الثاني ولم تُشِر إليها حتى ولو من طرف خفي، وكذلك فعل المنشفيون في غضون الأشهر الستة الأولى من الثورة الروسية التي شبت سنة ١٩١٧.
ما الذي سنستعيض به عن ألمانيا الحالية «بدستورها الملكي الرجعي، وتقسيمها الذي لا يعتبر أقل رجعية، تقسيمها إلى عدة حكومات صغيرة، ذلك التقسيم الذي يديم خواص البروسية بدلًا من إذابته في المجموع الألماني»؟
من رأيي أنه ليس لهيئة العمال من مجال للتخير؛ إذ ليس أمامها سوى شكل واحد ترتضي به، وهو الجمهورية الوحيدة التي لا تقبل التجزؤ، أما الجمهورية المتحدة التي تتطلع إليها البلاد الألمانية لتكون بها على نسق جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية، فإنها لا يمكن إلا أن تكون عقبة كَأْداء في الشرق.
إن مثل هذه الجمهورية قد تصير ناجحة ومفيدة في إنجلترا، حيث يقيم أربعة شعوب في جزيرتين، وحيث توجد أساليب تشريعية تعمل كلها في آنٍ واحد مع وجود البرلمان الاتحادي، وإذا ما انصرفنا عن فرض نجاح هذا الشكل الجمهوري في إنجلترا، فإننا نراه قد لبث مدة طويلة عقبة كَأْداء في سويسرا الصغيرة التي إذا وجدت حاجتها شديدة إلى الجمهورية المتحدة، فما ذلك إلا لأنها بحكم الضرورة قد اعتبرت عضوًا إيجابيًّا في النظام السياسي الأوروبي، أما بالنسبة لألمانيا فإن الطريقة الاتحادية التي على النمط السويسري لا يمكن إلا أن تكون رجوعًا عظيمًا إلى الخلف، وذلك لأن الحكومة الاتحادية لها أمران تمتاز بهما إذا كانت تامة الاتحاد؛ أحدهما: أن تكون كل حكومة تمثل جزءًا من الحكومة الاتحادية الكبرى يكون لها تشريع مدني وجنائي خاص، وطريقة سنها قوانين خاصة بها أيضًا، وفضلًا عن ذلك فإنه يوجد بجانب البرلمان الوطني مجلس ممثلين يلتئم فيه مندوبو الحكومات المتحدة، وهؤلاء المندوبون منتخبون من كل ناحية صغيرة كانت أو كبيرة؛ إذ لا بد أن يكون لها حق في التمثل في ذلك المجلس، وما الحكومة الاتحادية في ألمانيا إلا واسطة الانتقال إلى حكومة ممتزجة العناصر تمام الامتزاج، والثروة التي هبطت من أعلى في المدة الواقعة ما بين عامي ١٨٦٦ و١٨٧٠ لا ينبغي أن تُمحى بحركة تراجع إلى الخلف بل يجب إتمامها بحركة من الجانب السفلي.
إن إنجيل لم يقتصر على عدم الاهتمام بمسألة شكل الحكومة، بل لقد تجاوز هذه المسألة إلى الاجتهاد بدرجة فوق العادة في تحليل أشكال التطورات، ليصف وصفًا محكمًا بمقتضى الخواص التاريخية حالة كل مرحلة، بحسب ما تدل عليه كل طريقة من طرق هذه التطورات.
إن إنجيل وماركس يشتركان في الدفاع من وجهة نظر هيئة العمال، وثورة الهيئة العاملة عن المركزية الديمقراطية، وعن الجمهورية الوحيدة التي لا تقبل التجزؤ والاتحاد، والباعث لإنجيل على تمسكه بهذا المبدأ أنه يرى في الجمهورية الاتحادية أحد أمرين؛ إما أن تكون عامل شذوذ معرقل للتقدم والرقي، وإما أن تكون واسطة انتقال ما بين الملكية والجمهورية المركزية، وبهذه الطريقة تُعتبر عامل رقي نسبي إلى حد محدود بالنسبة لكل من العناصر المتألفة منها هذه الجمهورية.
ومع اشتداد كل من إنجيل وماركس في نقد فكرة الحكومات الصغيرة الرجعية بلا رحمة، ومع نهوضهما معًا في وجه الميول التي تحدد المسألة الوطنية والجنسية، التي طالما اتخذت وسيلة يرتكز عليها الحكم الرجعي، فإنهما لم يحاولا أن يجتنبا مسألة الوطنية العنصرية، وهي الهفوة التي طالما ارتكبها الماركسيون الهولنديون أو البولونيون على الرغم من أن نقطة ابتدائهم جميعًا في مكافحة الوطنية ذات النطاق الضيق والأنانية المالية في حكوماتهم الصغيرة واحدة في منتهى الوجاهة وذات صبغة شرعية لا غبار عليها.
بل في إنجلترا نفسها حيث تساعد مقتضيات الأحوال الجغرافية، وجامعة اللغة، ووحدة التاريخ المتسلسل الذي مضت عليه القرون العديدة كما يظهر على وجود العنصرية الوطنية في الولايات الإنجليزية، يرى إنجيل أيضًا أن مسألة العنصريات الوطنية لا يمكن تجاوزها، وأن إيجاد جمهورية اتحادية هنالك يُعتبر من وسائل الترقي في سبيل الامتزاج المشاعي التام فقط.
وإذا كان إنجيل قد توسع في شرح هذا المبدأ وتثبيته في الأذهان، فمما لا ريب فيه أنه كان بعيدًا بالمرة عن فكرة التخلي عن انتقاد عيوب الجمهورية الاتحادية، كما أنه بعيد عن نشر الدعوة والعمل بطريقة ناجحة لأجل ترويج فكرة الجمهورية الامتزاجية المركزية الديمقراطية.
وإنما لا يفهم إنجيل هذه المركزية الديمقراطية في دائرة المعنى الديواني المعتاد بما فيها من السخافات رأس المالية، والأوهام المضطربة التي تتشبع بها رءوس الطبقة الوسطى، أو الخيالات التي تحلق في مخيلات فوضويِّي هذه الطبقة.
إن المركزية التي يرمي بها إنجيل لا تمنع البتة من إيجاد حكم إداري محلي يسمح بإبطال النظام الديواني برمته، وكل أوامر تصدر من الأعلى على الطريقة العتيقة على شرط أن تكون القرى والنواحي راغبة رغبة صادقة شديدة في توحيد الحكومة.
وهذا يكون المطلوب إيجاد جمهورية فريدة، ولكن لا في دائرة المعنى المندمجة فيها الجمهورية الفرنسوية الحالية التي لا يمكن اعتبارها في جوهرها شيئًا آخر غير إمبراطورية سنة ١٧٩٩ بدون إمبراطور على رأسها، ففي المدة الواقعة ما بين عامي ١٧٩٢ و١٧٩٩ كانت كل مقاطعة فرنسوية، وكل ناحية هنالك تتمتع بحكمها الإداري التام على الطريقة الأمريكية، وهذا النظام هو الذي يجب أن يكون لدينا نحن الآخرين، أما كيف ينبغي ترتيب ذلك الحكم الإداري المحلي، وكيف يمكن تجاوز الطريقة الديوانية، فإن أمريكا ومن خلفها الجمهورية الفرنسوية الأولى، وتجيء بعدهما في الوقت الحاضر كندا وأستراليا وبعض المستعمرات الإنجليزية الأخرى، هي التي ستقفنا عليه، فهذا الحكم الإداري الذي تتمتع به المقاطعات والألايات كائنًا ما كان نوعه هو نظام أوسع حرية من أي نظام آخر، فمثلًا الاتحاد السويسري تتمتع فيه كل دائرة خاصة بإدارة ذات استقلال تام عن الحكومة الاتحادية الكبرى في مجموعها، ولكنها مستقلة أيضًا عما فوقها درجة وعما دونها درجة.
وبلغ من استقلال المقاطعات المتحدة من سويسرا أن حكوماتها المحلية هي التي تعين رؤساء البوليس في النواحي وموظفي الإدارة، وهذا ما لا يوجد له مثيل في البلاد الناطقة باللسان الإنجليزي، وإن هذا النموذج لهو الذي سيجعلنا في المستقبل نحو البروسيين، نتقي طريقة انتداب كل رجال البوليس ورؤسائهم وسائر الحكام، وبجملة واحدة جميع الموظفين بمعرفة المراجع العليا، وهي الطريقة العقيمة المتبعة في ألمانيا حتى الآن.
أتم حكم إداري في المقاطعة أو الولايات — سواء كانت ولاية أو أيالة — وفي المشيخة، بانتداب الموظفين بطريقة الانتخاب العام مع إبطال كل السلطات المحلية، وسلطات الولايات، والمقاطعات المقررة من قبل الحكومة العامة.
لقد سبق أن أظهرت في مقال نشرته جريدة البرافدا التي عطلتها حكومة كرينسكي والوزراء الآخرين الملقبين أنفسهم «اشتراكيين» في عددها رقم ٦٨ الصادر في مايو عام ١٩١٧ كيف أن أولئك الذين يزعمون أنهم ممثلونا الاشتراكيون، وأنهم ذوو صبغة ديمقراطية ذات نزعة ثورية يتفلتون بِضَعَة نفس من المبدأ الديمقراطي عندما تعرض لهم هذه المسألة وسواها من المسائل الأخرى الجوهرية، ومن الواضح أن هؤلاء الأشخاص الذين تجمعهم بطائفة الأعيان وأرباب رءوس الأموال رابطة المصلحة الشخصية يتعامون ويتصاممون عمدًا عن أمثال هذه الإيضاحات.
ومن الأمور الأساسية التي يجب التنبيه إليها أن إنجيل يكذِّب بالأدلة المحسوسة التي بين يديه وبالأمثلة الدقيقة المحكمة الوهم المتجاوز حد العقل المنتشر بنوع أخص ما بين ديمقراطيِّي الطبقة الوسطى، وهو أن الجمهورية الاتحادية أعظم حرية من الجمهورية المركزية، وأن هذا الخطأ محض وضلال مبين، فإن الشواهد التي أوردها إنجيل بخصوص الجمهورية المركزية الفرنسوية التي ظلت ناهضة من عام ١٧٩٢ إلى ١٧٩٩ والجمهورية الاتحادية السويسرية، لمن أقوى الأدلة المعتمد عليها في هذا الصدد، وفي الواقع إن الجمهورية الديمقراطية المركزية كانت أوسع حرية من الجمهورية الاتحادية، ويمكن القول بتعبير أوضح: أن أوسع حرية مُنحت للجهات المختلفة في أية جمهورية عرفها التاريخ حتى الآن هي الحرية التي عممتها الجمهورية المركزية لا الجمهورية الاتحادية، ولا يزال الاهتمام قليلًا في برنامج حزبنا بهذه المسألة، كما أنه قليل على وجه العموم بكل مسألة تختص بالجمهورية الاتحادية أو الجمهورية المركزية أو الحكم الإداري المحلي.
(٥) مقدمة ١٩١٨ لكتاب الحرب الأهلية
سرد إنجيل ملخصًا جذابًا للقلوب عما ألقته المشاعية بأعمالها من الدروس على الاشتراكيين المعاصرين في المقدمة التي وضعها للطبعة الثالثة من كتاب «الحرب الأهلية» الذي ألفه ماركس، وتاريخ هذه المقدمة ١٨ مارس ١٨٩١، وقد نشرت مجلة النيوزايت هذه المقدمة في حينها، وقد تخللتها استنتاجات هامة عن خطتنا تجاه الحكومة، وهذه الخلاصة الحافلة بالتجربة الكاملة التي حصل عليها إنجيل في نحو العشرين سنة التي توالت من قيام المشاعية إلى وقت تحريره هذه المقدمة، والتي إنما دبجها يراعه ضد ذلك الاعتقاد السائد على العقول بشأن الحكومة، وقد أصابت حظًّا كبيرًا من الانتشار في ألمانيا يمكن اعتبارها بحق آخر كلمة فاهت بها الماركسية في هذا الصدد.
لقد لاحظ إنجيل أن العمال كانوا مسلحين في آخر كل ثورة حدثت في فرنسا، «فكان أكبرهم للأعيان الذين يتولون أزمة الحكومة عقب كل ثورة أن يعمدوا إلى تجريد العمال من أسلحتهم قبل كل عمل آخر، وعلى هذا فقد صار من المعتاد أن تنتهي كل ثورة بنشوب معركة حادة تنتهي بهزيمة العمال وتجريدهم من السلاح».
وهذه الخلاصة القائمة على أساس التجربة محكمة بقدر ما هي موجزة، وموضوع المسألة — بين المواضيع الأخرى المشتملة عليها مسألة الحكومة «هل للطبقة المستعبدة أن تحمل السلاح؟» — قد صار استخلاصه بطريقة باهرة جدًّا، وهذه بالتأكيد هي النقطة التي يتجاوزها بمنتهى الصمت الجهابذة المتأثرون بالنفوذ المالي، والمتشبعة رءوسهم بسخافات فئة الأعيان وديمقراطيو الطبقة الوسطى.
وفي ثورة سنة ١٩١٧ تشرف المنشفي الروسي تسيريتيللي الماركسي المذبذب «على طريقة التشرف الكافنياكي» بأن خان هذا السر المختص بثورات الأعيان؛ إذ دفعه طيشه إلى أن يقول في خطبته التاريخية التي ألقاها في ٩ يونيه، أن فئة الأعيان صحت عزيمتها على تجريد العمال الموجودين في بنغراد من السلاح، وهي طريقة لم يحجم عن التصريح بأنه يحبذها لأنها ضرورة تقتضيها الحالة السياسية.
إن الخطبة التاريخية التي ألقاها تسيريتيللي في ٩ يونيه ستكون لكل مؤرخ يبحث في ثورة ١٩١٧ الروسية خير دليل على إجماع الاشتراكيين الثوريين والمنشفين تحت زعامة تسيريتيللي على قبول ذلك المبدأ المالي المناهض لطبقة العمال الثورية.
وقد أبدى إنجيل في خلال كلامه ملاحظة أخرى مرتبطة بالمثل بمسألة الحكومة ومختصة بالديانة.
من المعلوم أن الاشتراكية الديمقراطية الألمانية كلما كان يدخل عليها تفكك يراد به تحويلها شيئًا فشيئًا إلى الانتهازية كانت تسقط غالبًا على مهل في ذلك التعبير الضال السفسطائي الذي يتضمن الجملة الشهيرة القائلة: «إن الدين أمر خاص»، فهذه الجملة قد أولها الحزب الاشتراكي الثوري بأنها ترمي إلى أن المسألة الدينية هي أمر خاص، فلم يسع إنجيل إلا أن يقف إزاء هذه الخيانة التي ارتكبت ضد برنامج هيئة العمال الثوري، ولم يكن إنجيل إلى عام ١٨٩١ يستطيع أن يلاحظ من علائم تمشي الانتهازية في صلب حزبه سوى ظلال ضئيلة، وهذا السبب هو الذي جعله يلتزم خطة الحكمة في نهوضه ضد ذلك التأويل المختص بالدين.
بما أن الذين كانت تتألف منهم هيئة المشاعية الكبرى لم يكونوا إلا من العمال مباشرة أو ممثلين انتخبهم العمال بمحض إرادتهم، فإن قراراتها كانت تمتاز بأنها متشبعة تمامًا بروح الهيئة العاملة، وقد أصدرت أوامر بإصلاحات رفَض الجمهوريون الأعيان المصادقة عليها بمجرد احتقارهم الدنيء لصدور هذه الأوامر من الهيئة العاملة، مع أنها كانت تتألف منها القاعدة الضرورية لسائر الأعمال الحرة التي ينبغي أن تقوم بها الطبقة العاملة، ومن هذا القبيل مثلًا تنفيذ المبدأ القائل بأن الدين من جهة علاقته بالحكومة يعتبر مسألة خاصة، فقد رأت المشاعية حبًّا في مراعاة مصلحة العمال أن ترجئ كل مناقشة تختص بهذه المسألة، وأن ترجع فيها في ذلك الوقت إلى التسامح العظيم الذي كان متبعًا في هذا الصدد في النظام الاشتراكي القديم.
ولقد تعمد إنجيل ذكر ارتباط الدين بالحكومة مهاجمًا بهذه الطريقة وجهًا لوجه الانتهازية الألمانية التي كانت قد حرصت بأن الدين مسألة خاصة بالنسبة لارتباطه بالحزب، فأسقط بحملته هذه حزب الهيئة العاملة الثوري إلى مستوى أخس الفئات المالية، «وهي فئة العقيدة الحرة» المتهيئة لقبول حيدة الدين، والتي مع ذلك بتجريحها حملة الحزب على الآراء الدينية قد خدرت أعصاب الشعب.
إن الذي سيسطر في المستقبل تاريخ الاشتراكية الديمقراطية الألمانية ببحثه في أسباب إخفاقها المخجل في عام ١٩١٤ سيجد موادَّ مهمة عظيمة المقدار تختص بهذه المسألة منذ أن فتح بابها على مصراعيه — دكتور الحزب — كاوتسكي بتصريحاته المتلونة إلى أن وضعت خطة الحزب المختصة «بحركة انفصال الكنيسة» في سنة ١٩١٣.
ولنرَ الآن كيف يلخص إنجيل بعد عشرين عامًا من عهد المشاعية الدروس التي ألقتها المشاعية على هيئة العمال المقاومة.
وإليك هذه الدروس التي أحلها ماركس المحلة الأولى من العناية: «إن السلطة الضاغطة التي كانت تتقمص بها الحكومة المركزية الغابرة التي أوجدها نابليون منذ عام ١٧٩٩ المشتملة على الجيش والبوليس السياسي والهيئة الديوانية، والتي شرعت كل حكومة نهضت بعد ذلك العهد في الاحتفاظ بها باعتبارها الآلة المرغوب في بقائها باستخدامها ضد خصومها هي السلطة التي كان من الواجب إسقاطها في سائر أرجاء فرنسا كما تم إسقاطها في باريس.
ولقد كان من الواجب على المشاعية أن تعترف من أول الأمر بأن الطبقة العاملة باتصالها بالسلطة لا يمكنها مطلقًا أن تشترط في إدارة شئون البلاد مع أداة الحكومة القديمة، وأن الهيئة العاملة يجب عليها لأجل احتفاظها بسلطة الحكم التي توصل إليها حديثًا أن تعمل من جهة على استئصال شأفة هذه الآلة الضاغطة العتيقة التي ظلت إلى ذلك العهد مدارة ضدها خاصة، ومن جهة أخرى نعلن في الحال أن كافة نوابها وموظفيها بغير استثناء قابلون للعزل في كل وقت.»
إن إنجيل قد أبدى ملاحظته في هذا القول مرة أخرى بأن الحكومة تظل على جبلتها الأولى، لا في الملكية الحرة فقط بل في الجمهورية الديمقراطية أيضًا؛ أي إنها تلبث حافظة شكلها المعتاد الممتاز الجوهري، وهو الشكل الذي يحول مستخدميها وأعضاءها «خدام الهيئة الاجتماعية» إلى سادة الهيئة الاجتماعية.
لقد لجأت المشاعية إلى استعمال طريقتين ناجحتين لتلافي هذا التطور الذي لم يتيسر اجتنابه في كل الحكومات التي تتابعت إلى هذا اليوم، وهو التطور الذي تنقلب به الحكومة وأعضاؤها من حكومة خدام الهيئة الاجتماعية إلى حكومة سادة الهيئة الاجتماعية:
وأولى هاتين الطريقتين: أنها عينت في كل الوظائف الإدارية والقضائية ومعاهد التدريس أناسًا منتخبين بطريقة التصويت العام، وفضلًا عن ذلك أنها فوضت إلى الناجحين حق استدعاء منتخبيهم في كل وقت.
والطريقة الثانية: أنها كانت تدفع لسائر الموظفين من كبار إلى صغار نفس الأجر الذي يتقاضاه جميع العمال الآخرين، وكان أعظم أجر دفعته المشاعية ستة آلاف فرنك. (هنا ذكر لينين في حاشية الطبعة الروسية التي ظهرت سنة ١٩١٨؛ أي عندما أحدث الانقلاب الأخير وأصبح مشرفًا على الشئون الروسية، أن هذا المبلغ يعادل بالقيمة الاسمية نحو ٢٤٠٠ روبل أي ٦٠٠ روبل بسعر القطع الحاضر، وقد أخطأ بعض البولشفيين خطأ لا يغتفر باقتراحهم مثلًا في المجالس البلدية أن تكون قيمة المرتبات ٩٠٠٠ روبل، في حين أنه قد تقرر أن ٦٠٠٠ روبل مرتب كافٍ في عموم الروسيا.)
وبهذه الطريقة نهضت عقبة كَأْداء أمام التراكض إلى الوظائف والطمع في مستقبلها، حتى لو صار العدول عن اشتراط الحصول على أوامر التفويض التي تُعطى لنواب الأنظمة التمثيلية، وهو الشرط الذي أوجدته المشاعية زيادة في التأكد والوثوق.
وهنا يلم إنجيل بنقطة مهمة حيث تتحول الديمقراطية المرنة من جهة إلى اشتراكية، ومن وجهة أخرى تظل الديمقراطية مضادة للاشتراكية.
وفي الواقع أنه إذا أُريد إفناء الحكومة فمن الضروري تحويل وظائف الحكومة إلى عملَيْ مراقبة وكتابة يكونان من البساطة في الدرجة التي تجعل تأديتهما هينة على السواد الأعظم من الأهالي، ثم تجعلها بالتدريج سهلة على الجميع، على أنه إذا كان لا بد من استئصال مجال الرقي في الوظائف بتاتًا فمن الواجب منع الوظائف الفخرية التي يتخذها بعض الطامعين سُلَّمًا يتوصلون به إلى الأعمال الكبيرة في المصارف المالية أو في الشركات المساهمة، كما يحدث ذلك كثيرًا في البلاد المغمورة برأس المالية حتى في أوسعها حرية.
وقد احتاط إنجيل من السقوط في الخطأ الذي سقط فيه بعض الماركسيين من جهة حق الأمم في التعيين من تلقاء نفسها؛ إذ قالوا إن هذا الحق غير قابل للتنفيذ في عهد رأس المالية، وفي عهد الاشتراكية يصبح لغوًا، إن مثل هذا القول ربما كان قريبًا إلى التصور لحسن ترتيبه، إلا أنه محض وهم وشطط؛ إذ يمكن تطبيقه على أي نظام ديمقراطي كيفما كان نوعه حتى على طريقة مرتب الموظفين البسيط؛ لأن وجود ديمقراطية مرنة إلى النهاية مستحيل في عهد رأس المالية، وفي عهد الاشتراكية يختفي كل أثر للديمقراطية.
إن توسيع الديمقراطية إلى النهاية، والبحث في أشكال هذا التوسيع، وإبرازها إلى حيز العمل إلى غير ذلك، كل مجموع هذه الأعمال هو أحد المسائل الجوهرية الحادث لأجلها الصراع الاشتراكي الثوري.
لئن أريد الأخذ بطرف من الديمقراطية فإنها لن تؤدي إلى الاشتراكية، ولكنها في الحياة العملية ممتنعة التجزؤ، ولا يمكن إلا التمسك بها جمعاء، فتحدث حينئذ تأثيرها في الاقتصاد السياسي الذي تسرع بإحداث تغيير فيه مع تأثرها هي نفسها بالرقي الاقتصادي، هذه هي النظرية المنطقية التي تُستخلص من الحياة العملية.
إن انفجار هذه السلطة الحكومية العتيقة، وحلول حكومة جديدة ديمقراطية بحتة مكانها قد صار وصفه بطريقة مفصلة في الفصل الثالث من كتاب «الحرب الأهلية»، ومع ذلك فمن الواجب أن نتمهل هنا هنيهة لنلم ببعض خصائص هذه الاستعاضة؛ لأن الاعتقاد السائد في ألمانيا بخصوص الحكومة قد تخطى حد الفلسفة، وأصبح ممتزجًا بضمائر طبقة الأعيان الماليين، بل وكثيرين من العمال، وذلك لأن الفلاسفة يلقنون الناس أن الحكومة هي «تحقيق فكرة»، وهذا التعبير الفلسفي ترجمته أنها مملكة الله في الأرض، فالحكومة المجال الذي يتحقق فيه وجود الحقيقة والعدل الدائمَيْن، ومن هنا نشأ إجلال الحكومة بدرجة عظيمة، وإجلال كل ما يرتبط بالحكومة، وهو إجلال بلغ من تمكنه من النفوس الحد الذي جعل الناس يعتادون منذ نعومة أظفارهم على الاعتقاد بأن كل المسائل والمصالح العامة في سائر المجتمع الإنساني، لا يمكن تنفيذها وحمايتها إلا بواسطة الأساليب القديمة؛ أي بواسطة الحكومة وموظفيها وذوي المراتب المتفاوتة والمرتبات المختلفة، ويتصور الناس أنهم يرتكبون أمرًا إدًّا، وهم لأجل ذلك يرفضون التخلي عن الالتفاف حول الملكية الوراثية والانتصار للجمهورية الديمقراطية، أما حقيقة الأمر وهي أن الحكومة ليست إلا آلة تعمل لسحق طبقة أخرى سواء أكانت في الجمهورية الديمقراطية أو في الملكية، وأن الحكومة على أصلح ما تكون من أحوالها ليست سوى سوء تُصاب به هيئة العمل من قبيل الوراثة التي انتقلت إليها عدواها حينما أحرزت الانتصار في مكافحتها لأجل توليها بصفتها طبقة حاكمة، وستضطر هيئة العمال وهي منتصرة أن تقتفي آثار المشاعية، فتثير في الحال الجوانب المظلمة من هذا السوء إلى أن ينشأ نسل جديد في أحوال جديدة من الحرية الاجتماعية تمكنه من اطراح ذلك اللغو العتيق؛ أي الحكومة.
وقد احتاط إنجيل بتحذير الألمانيين من أن يتناسوا عند تحويل الملكية إلى جمهورية المبادئَ الاشتراكية المختصة بمسألة الحكومة على وجه عام؛ أي في سائر أشكالها، ويظهر اليوم أن تحذيراته هذه إنما كانت بمثابة درس يُلقى خاصة على تسيريتيللي وتشيرنوف اللذين أعربا بطريقتهما العملية التي ترمي إلى الوحدة العامة عن ميلهما واحترامهما العظيمين للحكومة!
وتوجد ملاحظتان أخريان؛ أولاهما: أن إنجيل بقوله إن الحكومة سواء أكانت على عهد الملكية أو على عهد الجمهورية لم تعد كونها أداة ضغط طبقة على طبقة أخرى، لم يعنِ أن شكل الضغط يتغير في وقوعه على الطبقة العاملة، كما يقول بذلك بعض الفوضويين، فالطريقة الوحيدة والمثلى إذن لإبطال طبقات الهيئة الاجتماعية على العموم، وإيجاد طبقة واحدة متساوية في سائر الحقوق هي استمرار هيئة العمال على مقاومة الضغط، وصراع الطبقات في أوسع ما يكون وبحرية كاملة وصراحة تامة.
والملاحظة الثانية: هي معرفة السبب في أن الجيل الجديد الذي سيصبح وحده في حالة تمكنه من التخلص من كل هذه الحكومة الكهلة مرتبطًا بلوغه هذه الغاية بتخطي الديمقراطية التي قد توصلنا إليها.
(٦) رأي إنجيل في تخطي الديمقراطية
لقد اضطر إنجيل إلى إبداء رأيه عن هذه النقطة أثناء تعرضه لمسألة تخطئة الاسم المطلقة على الاشتراكية الديمقراطية من الوجهة العلمية.
إن إنجيل قد أوضح في مقدمة مجموعة مقالاته، ورسائله التي كتبها منذ عام ١٨٧٠ والتي ألمَّ فيها بكل مبحث من المباحث الاجتماعية عامة والاشتراكية الدولية خاصة، وقد نُشرت هذه المقدمة في ٣ يناير سنة ١٨٩٤؛ أي قبل موته بعام ونصف عام، أنه استعمل لفظ مشاعي بدلًا من اشتراكي ديمقراطي في سائر مقالاته؛ لأن اسم الاشتراكية الديمقراطية كان يطلق إذ ذاك على البرودونيين في فرنسا واللاساليين في ألمانيا.
لقد كان لدينا — ماركس وأنا — مسيغ قوي يسمح لنا بأن نستعمل في سبيل التعبير عن نقطة نظرنا الخاص اصطلاحًا في منتهى الدقة والمطابقة، أما الآن فقد تحول الحال وأصبح ذلك الاصطلاح وهو لفظ الاشتراكية الديمقراطية الذي لا يزال مستعملًا إلى هذه الساعة يحمل — على الرغم من عدم مطابقته لحقيقة المقصود منه — على الإشارة إلى حزب برنامجه الاقتصادي ليس اشتراكيًّا فقط، بل مشاعيًّا؛ أي على حزب مقصده السياسي النهائي إبطال كل نوع من أنواع الحكومات، وبالجملة إلى إبطال كل ديمقراطية بالمثل.
إن أسماء الأحزاب السياسية القابلة دائمًا للتغير لا يمكن أن تنطبق عليهم في كل وقت تمام الانطباق، وذلك لأن كل حزب يتسع نطاقه وتتنوع أوجه أعماله، وأما الاسم فيبقى على حالة واحدة.
إن الاختصاصي في نحت الألفاظ وفي تطبيق الجمل على معانيها ومدلولاتها، إنجيل ظل حتى آخر أيام حياته أمينًا على ما تخصص فيه، فهو يقول: لقد كان لنا — ماركس وأنا — اسم بديع محكم من الوجهة العلمية تمام الإحكام، وعلى تمام الانطباق على حزبنا، لكن لم يكن لنا حزب في الحقيقة يمكننا أن نطبق عليه هذا الاسم؛ أي لم يكن ثَمة حزب يجمع طبقات العمال، أما الآن وقد أشرف القرن التاسع عشر على نهايته فقد أصبح لنا حزب حقيقي، ولكنه من الوجهة العلمية لا ينطبق على الاسم المطلق عليه تمام الانطباق، ومع ذلك فهذا شيء لا يهم؛ إذ من الممكن أن يتسمى بهذا الاسم على شرط أن يستمر في رقيه وتوسعه، وعلى شرط أن لا تخفى عليه معرفة عدم انطباق هذا الاسم عليه من الوجهة العلمية، وأن معرفته بهذا الأمر لا تمنعه من الاستمرار على التقدم في أقوم طريق.
ولقد نتسلى نحن البلشفيين أيضًا من قبيل التفكهة باتباع طريقة إنجيل؛ فإن لدينا حزبًا حقيقيًّا، وهو يتقدم وتتسع دائرته على أحسن ما يكون في هذا العالم، وسنمر بالاسم المستحيل الهمجي، وهو لفظ «البلشفيك» الذي لا يدل على أي معنى يُستفاد منه من جهة خطة الحزب ومبادئه، اللهم إلا ما كان من أمر انقسامه في مؤتمر بروكسل ولندره الذي انعقد في عام ١٩٠٣، فقد انشطر الحزب إذ ذاك إلى قسمين، وكانت لنا نحن الغالبية «بولشينستفو».
أما الآن وقد جعل الاضطهاد الحادث من قبل الجمهوريين والديمقراطيين الماليين المتسمين بثوريين على حزبنا في يوليه وأغسطس ١٩١٧ اسم البلشفيات شهيرًا جدًّا وذا شرف عظيم يوافق التقدم الكبير التاريخي الذي قام به حزبنا في نموه الحقيقي، فربما أجرؤ أنا نفسي على أن أقترح كما حدث ذلك في أبريل تغيير اسم حزبنا، وربما اقترحت على الزملاء فكرة الاتفاق على تسميته بالحزب المشاعي مع البقاء على لفظة «البلشفيك» مرادفًا له …
غير أن مسألة اسم الحزب ليست على شيء من الأهمية مطلقًا، ولا يمكن أن تُقارن بمسألة علائق العمال الثورية بالحكومة.
وبمناسبة إيراد ذكر الحكومة هنا ينبغي العودة إلى ذكر الخطأ الذي تصدى إنجيل للتحذير منه فيما تقدم، والذي ألمعنا إليه نحن من قبل، وهو عدم تناسي أن إبطال الحكومة هو إبطال الديمقراطية، وأن فناء الحكومة هو كذلك فناء الديمقراطية.
إن هذا الإيضاح يظهر لأول نظرة كأمر غريب لا يمكن فهمه، بل ربما يتخوف بعضهم تمنيًا أن يسود حكم اشتراكي لا يُراعى فيه مبدأ انصياع الأقلية للأكثرية، وهو على ما يقولون المبدأ الجوهري للديمقراطية.
ولكني أقول: كلا، إن الديمقراطية لا تتفق مع انصياع الأقلية للأكثرية، إن الديمقراطية هي شكل حكومي يرمي إلى إخضاع الأكثرية إلى الأقلية؛ أي إنها نظام العنف المرتب المدرب لإخضاع طبقة إلى طبقة أخرى من قبل حزب الأهالي ضد حزب آخر.
إننا نقترح أن يكون الغرض النهائي هو إبطال الحكومة؛ أي إبطال كل عنف منظم مرتب يرمي إلى كل اضطهاد يصيب الناس بوجه عام.
ونحن لا نتمنى مطلقًا أن يسود حكم اشتراكي لا يرمي إلى مراعاة مبدأ خضوع الأقلية للأكثرية، ولكننا بتمسكنا بالمبدأ الاشتراكي إنما نتمسك به لاعتقادنا بأنه سيتطور إلى الشكل المشاعي، وأنه لن تبقى حاجة بعد ذلك إلى الالتجاء إلى وسيلة الشدة والعنف التي يُعامل بها الناس حتى الآن، ولا إلى إخضاع إنسان إلى آخر أو حزب من الأهالي إلى حزب ثانٍ، وأن الرجال سيعتادون بالفعل على سائر مقتضيات الحياة الاشتراكية العملية بلا ضغط ولا ترؤُّس ولا إخضاع.
وإنما أراد إنجيل هذه الحياة التي لا تزال في عالم الرجاء والتصور حينما تكلم عن الجيل الجديد قائلًا إنه سيشب في أحوال جديدة من الحرية الاجتماعية، وسيصبح في حالة تمكنه من أن يطرح بتاتًا كل تلك الحكومة العتيقة، وكل شكل حكومي بما في ذلك الجمهورية الديمقراطية.
ولكي يمكن إنارة هذه النقطة، وعرضها على الإبصار والأفكار في حالة من الجلاء تجعلها مفهومة لدى كل إنسان ينبغي لنا أن نحلل مسألة الموارد الاقتصادية المتخلفة عن الحكومة الهالكة.