إيضاحات لازمة
الآن وقد انتهينا من ترجمة كتاب لينين كما خطه قلمه، نرى من الضروري أن نشفعه بعدة إيضاحات لا غنى للقارئ الشرقي عنها، ولا سيما إذا لم يكن له وقوف على تفاصيل الحركة الاشتراكية في العالم، وبالأخص الحركة المشاعية الأخيرة؛ أي التي حدثت سنة ١٨٧١ في باريس، وعليها محور الكلام في كتاب لينين هذا؛ لأنها على ما يلوح هي بنفسها البولشفية الروسية الحاضرة.
(١) المشاعية
اخترنا هذه اللفظة كتعريب لكلمة «كومين»، أو كما يكتبها بعض الكتاب عندنا «كومون» الفرنسوية، وتعبير عن معناها الحقيقي؛ لأن أصحاب المذهب المشاعي يذهبون إلى وجوب جعل الملكية لسائر الأشياء حقًّا عامًّا لجميع الناس؛ أي أنْ يكون كل ما في الوجود ملكًا مشاعًا للجميع.
والمشاعية ليست من مبتدعات هذا العصر، بل لها أصول قيمة في العهدين اليوناني والروماني، ولكنها أصول ابتدائية لا تتفق تمام الاتفاق مع تعاليمها الأخيرة، ولا سيما بعد أن صارت مذهبًا خاصًّا ذا مبادئ مقررة.
وإذا ضربنا صفحًا عن الأصول القديمة، وتقدمنا إلى العصور الوسطى، نجد في الديانة الإسلامية تعاليم تطابق مبادئ المشاعية في نقط مهمة كثيرة، غير أن هذه الديانة لها تعاليم أخرى تختلف اختلافًا عظيمًا عن المشاعية، وعلى كل حال فإن المشاعية لم تستمد أصولها من العهود اليونانية والرومانية والإسلامية، بل استمدتها من الطرق التي كانت متبعة في البلاد الجرمانية ثم الفرنسوية من القرن العاشر فصاعدًا، وقد انتشرت من القرن الثاني عشر بالأخص على أثر إغارة النورمانديين؛ إذ قام الأعيان بتنظيم طرق الدفاع عن المدن بواسطة الأهالي، ثم انقلب هذا الاشتراك في الدفاع ضد المغيرين إلى الاشتراك في مناهضة ملاك الإقطاعيات، وكانت المدن مدارة في هذا العهد بواسطة سكانها جميعًا وعلى رأسهم أعيانهم، فهذه هي الخطوة الأولى في طريق المشاعية، إلا أن الملوك الذي عضدوا الطريقة المشاعية في الأعصر الوسطى ليتخلصوا بواسطتها من الحكم الإقطاعي لم يلبثوا بعد القضاء على ذلك الحكم أن يرتدوا على المشاعية في دورها، ويضربوها ضربة ساحقة ليخلص لهم الحكم المطلق في الشعوب.
وهكذا لم يجئ عهد لويس الرابع عشر حتى كانت المشاعية قد أصبحت أثرًا بعد عين.
إلا أن المشاعية لم تلبث أن عادت إلى الظهور تارة أخرى على عهد لويس السادس عشر؛ إذ قلبت عرشه ومحت الملكية، وسادت في فرنسا من سنة ١٧٩٢ إلى سنة ١٧٩٩.
غير أن بونابرت ضربها ضربة قاضية وأقام على أنقاضها إمبراطوريته الضخمة.
وحاولت المشاعية بعد ذلك أن تعود إلى الظهور، ولكنها لم تفلح؛ لأن أصحاب رءوس الأموال كانوا يحاربون مبادئها حربًا شعواء، ويقيمون سدًّا منيعًا بينهم وبينها بتولية الملوك مرة بعد الأخرى.
وأخيرًا عادت المشاعية إلى الظهور في ١٨ مارس سنة ١٨٧١ على أثر رفع الألمانيين الحصار عن باريس.
وكان السبب في ظهورها هذه المرة محاولة الماليين إعادة الملكية؛ إذ شرعت الجمعية الوطنية في بورد تنزع سلاح الحرس، فامتنع الجنود عن تسليم أسلحتهم وبدأ التمرد.
هذا هو السبب الظاهري المباشر، أما السبب الأساسي فالدعوة المروجة التي نشرتها الاشتراكية الدولية في المؤتمر الذي عقدته عام ١٨٦٦ في مدينة لوزان، ثم يجيء بعدها سبب آخر قوي، وهو الآلام التي كابدها أهالي باريس أثناء مدة الحصار.
وعلى أثر انضمام الأهالي إلى الحرس الوطني، واشتراكهما في إضرام نيران الثورة المشاعية، انسحب تييرس رئيس السلطة التنفيذية مع الجيش النظامي إلى فرساي، واستولت الجمعية المركزية على السلطة.
واشتهر يوم ١٨ مارس بأنه فاتحة الحرب الأهلية التي لبثت ناشبة بين المشاعية وبين قوى الجمهورية حتى يوم ٢١ مايو، وكان الفضل الأكبر في انتصار الجمهورية المالية على المشاعية للجيش الألماني الذي ساعد جيش الجمهورية.
على أن النظام المشاعي وإن كان قد تخلى في باريس عن إدارة الشئون العامة، فإن الالتحام في الشوارع ظل أسبوعًا كاملًا ابتداء من ٢٢ مايو، وأخيرًا أحيل ١١٠٠٠ مشاعي إلى المحاكمة أمام المجلس العسكري، الذي قضى بالإعدام على عدد منهم، والآخرون أُرسلوا إلى خالدونيا الجديدة حيث عادوا منها بعفوي يناير سنة ١٨٧٩ ويوليه سنة ١٨٨٠.
ولا حاجة لنا الآن إلى تفصيل أعمال المشاعية في باريس، فإن ماركس وإنجيل قد تكلما عنها في الإيضاحات التي أوردها لينين نقلًا عن كتبهما.
وإنما نقول إنها ألقت كافة القيود الحكومية، وفرضت التجند على كل فرد من الأهالي من التاسعة عشرة إلى الأربعين من العمر.
(٢) إنجيل
وضعنا في أوائل هذا الكتاب نبذة صغيرة عن اسم آخر لإنجيل الذي يمكن النطق به إنجيلس، ولكن تلك النبذة ترجمت رجلًا آخر من مشاهير الألمانيين، أما إنجيلس هذا المقصود في هذا الكتاب فهو الصديق الحميم لماركس، وأكبر مؤيدي مذهبه المشاعي.
وقد ولد في بارمين ببروسيا سنة ١٨٢٠، ومات في لوندره سنة ١٨٩٥.
وكان أول ارتباطه بماركس سنة ١٨٤٤ حينما اشتغل بتحرير مجلة «التواريخ الفرنسوية الألمانية»، ثم تولى مهمة كاتب أسرار الجمعية المركزية للمشاعيين في بروكسل، التي تولدت منها الاشتراكية الدولية الأولى سنة ١٨٤٧.
وقد اشترك مع ماركس في تحرير المنشور المشاعي الذي صار تعميمه بين سائر عمال العالم، وصار لديهم بمنزلة إنجيل العمال.
واشترك في الهياج الذي حدث في جراند وقية باد، ثم فر إلى إنجلترا حيث ظل مشتغلًا بالدعوة الاشتراكية بعزيمة لا تفتر بالاشتراك مع ماركس.
وبعد أن مات ماركس تولى إنجيلس نشر آثار قلمه، وإعادة طبع ما نشر منها، وإليه يرجع الفضل في تهذيب وإتمام مذهب ماركس.
وقد ألف إنجيلس عدة كتب أهمها كتاب «الأسرة النفية» الذي كان لماركس ضلع في وضعه إذ اشتركا في كتابته معًا، وكذلك نشر إنجيلس رسائل لا تعد في الصحف اليومية في المجلات المتنوعة، واشتهر فيها جميعًا ببعد النظر ودقة البحث وقوة الاستدلال.
(٣) ملاحظات
قامت ضجة الصحف في مصر حينًا ما حول البولشفية، وتعرض لها بعض كبار المشايخ بعزوها إلى أصول لا تنتمي إليها بتاتًا، ولسنا في حاجة الآن إلى الخوض في تلك الأقوال؛ فإن قراء هذا الكتاب يفقهون من سطور لينين ما كان حقًّا من جلبات تلك الضجة، وما كان باطلًا منها.
غير أن الذي يهم الوقوف عليه، ويجب علينا أن نبينه إلى القراء، هو أن البولشفية ليست ديانة ولا عقيدة، وإنما هي مبادئ كمالية ترمي إلى تحسين حالة النوع الإنساني، فهي ليست سوى المشاعية نفسها متجددة في هيئات السوفيت؛ أي المجالس التمثيلية الروسية.
وباعتبار أن المشاعية أو البولشفية أُمنية كمالية، يمكننا أن نقول بأنها لا تفسد الأخلاق ولا تتعرض للأديان والعقائد، ما دامت متبعة عند أربابها خاصة؛ أي ما دام المسلم يصلي في مسجده، والمسيحي في كنيسته، والإسرائيلي في كنيسه.
وأما من جهة إمكان تحقيق هذه الأمنية الكمالية، وعدم تحقيقها فهذا موضوع آخر يجب أن نتعرض له لتجلو غامضه فنقول:
يظهر للقارئ من تفاصيل هذا الكتاب، ومن الإيضاح الذي اختتمناه به عن المشاعية ومجمل تاريخها أن المشاعية قد تَكرَّر ظهورها واختفاؤها في أشكال متعددة وفي عهود متفاوتة، وقد لبثت في بعض العصور عدة أجيال، وهي بالغة مبلغًا عظيمًا من السمو والانتشار، ثم لم تلبث أن دارت عليها دوائر الزمن فاختفت تحت لجج الجشع والأنانية والتحكم والجبروت، فإذا تبين ذلك وجب أن نتساءل: هل البولشفية أو روسيا السوفيتية هي شكل من تلك الأشكال التي لا تلبث أن تدخل في خبر كان إذا ما دب دبيب الطمع في نفس فرد من ذوي الأثرة، وأراد أن يختص نفسه بالسلطة المطلقة والسيادة على الشعوب الروسية؟ هذا ما ستنبئنا عنه حوادث الأيام.
على أننا إذا تركنا لمجرى الزمن الحكم في هذا الصدد، فإننا لا ينبغي لنا أن لا نبدي رأيًا ولو من قبيل الحدس والتخمين قياسًا على ما سبق من العبر التاريخية.
ففي عام ١٨٨٩ نهض الفرنساويون على لويس السادس عشر، وألزموه أن يخضع لإرادة الشعب، وبعد أن أجابهم إلى سؤالهم تيقنوا أنه لم يوافقهم إلا رياء؛ لأنه كان يعد عدته للإفلات من أيديهم قاصدًا الذهاب إلى النمسا ليحتمي بصهره ملك النمسا، وليقيم على فرنسا الثائرة، أو بالأحرى على فرنسا المشاعية سائر الدول الملكية المتحكمة في شعوبها، والتي ساءها ما أقدم عليه الشعب الفرنسوي مما يصح أن يكون نموذجًا لسائر الشعوب الأوروبية، ولما أحس الشعب بعزم ملكه على الغدر به عجل بالضربة الحاسمة، فأسقط رأسه على الثرى وتخلص من الملكية، وأراد أن يقيم الحكم المشاعي على أقوى الدعائم، غير أن الأنانية الإنسانية كانت متغلبة على الطباع، فأخذ كل ذي أثرة من زعماء الشعب يسقط رأس مناظره أو بأحرى مزاحمه في السلطة، حتى أصبحت الرءوس تتهاوى عن الأجساد تهاوي أوراق الأشجار في فصل الخريف.
وأخيرًا حسب الشعب أن قد طاحت الرءوس التي يختمر فيها حب العظمة الكاذبة وحب التحكم، فهدأ روعه نوعًا ما، وأخذ يلتفت إلى إصلاح شأنه، وإلى رفع المكائد والدسائس التي ينصب له شراكها أعداء الحرية والمساواة والإخاء العام.
غير أنه كان مخطئًا في حسبانه؛ لأن روح الطمع الإنساني لم يَزُل من نفس كل فرنساوي، فقد قام رجل من الطبقة المنحطة من الشعب، وهو بونابرت الذي لا يجري في عروقه دم الشرف والنبل، ولا يعتز إلى أية أرومة من أرومات المجد القديم، فصرع الشعب بإرادة الشعب نفسه، وخطا على كتفه الخطوة الأولى، ثم استقر بالخطوة الأخيرة فوق هامة الشعب.
لم تجئ سنة ١٧٩٩ حتى كان الشعب الفرنسوي يقبل بوضع نير الحكم المطلق على عاتقه، ثم لم يلبث أن وضع تاج الإمبراطورية على رأس بونابرت؛ أي إن هذا الشعب المسكين وضع الأغلال بيده في عنقه ورجليه.
هذه العظة الأولى من عظات التاريخ البالغة، والعظة الثانية أنه في عام ١٨٤٨ حسب الشعب الفرنسوي أنه قد تخلص من أسر العبودية وعاد إلى عهد المشاعية، ولكن بونابرت الصغير أي نابوليون الثالث كان يحلم بتجديد عهد نابليون الأول، وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد فعل هنا ما فعله ذاك وقضى على الجمهورية الثانية قضاء مبرمًا.
وهكذا أراد الشعب الفرنسوي للمرة الثالثة أن يتخلص من نير الاستعباد، فحاول في عام ١٨٧١ أن يعيد المشاعية سيرتها الأولى، فلم يلبث أكثر من ثلاثة أشهر ثم سقط جاثيًا على ركبته أمام حكامه يمد لهم عنقه ليحكموا فيها ما يشاءون.
فهذه ثلاث وقائع من حوادث التاريخ في أقل من قرن واحد، فما أكثر عبر التاريخ!
ليست الانقلابات مقصورة على الأنظمة المشاعية فقط، ولكنها سنة الدهر في كل دولة ونظام، فكما حدثت هذه التقلبات في الأنظمة المشاعية، فقد حدثت أمثالها في الحكومات الملكية والجمهورية على اختلاف أنواعها.
على أن المشاعية الروسية أو أنظمتها السوفيتية لم تلبث غير أربع سنين، وهذه المدة غير كافية بالمرة للحكم على استقرارها أو سقوطها، فقد تمضي عليها مدة أخرى أكبر من هذه تجعل الأذهان تنصرف عن الشك في بقائها، ثم لا تلبث أن تصاب بضربة ساحقة من يد أحد أنصارها.
ولكن ما لنا وللفرض والتخمين في حين أن الدروس المحسوسة ماثلة أمامنا، يمكننا أن نستخلص منها ما قد تتمخض به حوادث الأيام القليلة بطريقة منطقية أقرب إلى الصواب، إن لم تكن مطابقة للواقع.
لقد دلتنا التجارب على أن أناسًا كثيرين يتمسكون في مبدأ أمرهم بعقائد أو بآراء في منتهى الصواب، ثم لم يلبثوا أن يتحلوا عنها بحكم التطور الذي طرأ على أخلاقهم وأفكارهم، أو بحكم التيار الجارف الذي يجتاح المجموع، وقد شاهدنا من هذا القبيل أناسًا كثيرين كانوا من الغلاة في الاشتراكية، ثم صاروا خصومها الألدَّاء، وقد ذكر لينين من هذا القبيل تحول المسيو ميللران رئيس الجمهورية الفرنسوية الحالي وأحد رؤساء الوزارات السابقة، فقد كان اشتراكيًّا متطرفًا، ثم تحول عن مبدئه، ولا نريد الآن أن نعدد أسماء الذين حذوا حذوه في فرنسا وفي البلاد الأخرى؛ فإن هذا خارج عن دائرة بحثنا.
وإذا ما تغيرت المبادئ بحكم تغير الطباع تحولت بالطبع مشارب الجماهير، فلا يلبث مجموع الشعب أن يندفع في تيار جديد وهو غير شاعر بسرعة انحداره، وهذا ما نراه الآن في الأوساط البولشفية.
ظهر البولشفيون في مبدأ أمرهم بذلك المظهر الجليل الذي يدل على أنهم يعملون لأجل تحرير الطبقات المضطهدة، والشعوب الرازحة تحت نير الاستعمار المالي، وأخذوا يتفاهمون مع جيرانهم كالأتراك والفارسيين والبولونيين، كما أنهم سمحوا بتأليف جمهوريات صغيرة مستقلة في الأوكرين وفنلندة والقوقاز وسيبيريا، فاطمأنت النفوس، وحسب الشرقيون بنوع خاص أن الجبلة البشرية قد تغيرت لدى هؤلاء القوم، وأن ما كان حلمًا أصبح حقيقة محسوسة، بل لقد تمادى حسن الظن بهم إلى الاعتقاد بأنهم سينقذون العالم بأسره من كابوس الاستعمار الذي أرهق النفوس بضغطه الفظيع، وأخذ المشارقة في كل مكان يترقبون تدفق التيار البولشفي إلى بلادهم لينقذهم من وطأة ذلك الكابوس.
بينما الناس على حسن ظنهم بالبولشفية وفي أحلامهم اللذيذة من جهتها، وهم يسمعون عن لينين أنه وهو في بحران المرض أبى أن يتناول اللبن المخصص له، وقال: قدموه للأطفال الجياع؛ فإنهم أحوج إليه مني! إذا بصوت يتعالى من جانب السوفيت: أن الجمهوريات صغيرة ولا إرادة للشعوب في تصريف أمورها، وأن الحق لا يزال للقوة، وأن القوة لا تزال كامنة في حد الحسام!
نعم لقد فاجأنا نظام السوفيت في الأيام الأخيرة بإلغاء الجمهوريات القوقازية، واحتلال تلك البلاد بالجيوش البولشفية، ولبثنا ننتظر كلمة اعتراض أو احتجاج من جانب الأناضول على هذا العمل الذي يخالف المعاهدة المعقودة بين الوطنية الأناضولية والبولشفية، ولكن انتظارنا ذهب عبثًا.
إن البولشفيين يعلمون حق العلم أن شر ما يصيبهم من البلاء والخطر إنما يكون مصدره من جانب الأناضول، فرأوا أن يرضوا هيئته الوطنية بما يحملها على السكوت عن ذلك العمل المخالف للتعاليم الحرة التي ينشرها كبار الفلاسفة والمصلحين، والتي يريدون بها استئصال أسباب الشقاء والبأساء من العالم أجمع، فنجحوا، والتزم الأناضول جانب الصمت، وخطت البولشفية الخطوة الأولى في طريق الرجعية؛ أي في طريق الاستعمار.
ربما يزعم البولشفيون أنهم لم يخالفوا تعاليم المشاعية، وأن عملهم هذا لا يتعدى تقوية المركزية التي يذهب كل من ماركس وإنجيلس إلى لزومها حتى تزول سائر الميول والتقاليد القديمة، ولكن هذا الزعم إذا تبين أن تلك الجمهوريات الصغيرة كانت قائمة على الأساس المشاعي — أي مطابقة لنظام السوفيت، وقد صارت بالفعل هيئات منفصلة تمام الانفصال عن الروسيا الكبيرة، وهي عدا ذلك مؤلفة من شعوب تغاير الشعب الروسي تمام المغايرة في الدين والجنس واللغة — فلا معنى إذن لإخضاعها لسلطة السوفيت بالقوة سوى العودة إلى عهد الفتح والاستعمار.
ومن جهة أخرى نرى أن الأنظمة السوفيتية لم تصل إلى تلك الأمنية الكمالية وهي إزالة الفوارق الموجودة بين أفراد الشعب، والقضاء على كل سلطة حكومية في الروسيا، وإيجاد الصندوق العام الذي تصل إليه حاصلات الإنتاج وتصدر منه المطالب الاحتياجية، بل سمعنا أن لينين رأى بعد التدريب الدقيق أن يعدل في برنامج السوفيت.
وقد بلغ من إخفاق البولشفية في تنظيم العمل وتعميمه أن المجاعة ضربت أطنانها في البلاد الروسية بشكل فظيع جعل أكثر من عشرين مليونًا من النفوس يتضورون جوعًا، ويترقبون ساعات الموت إن لم يرحمهم الله، ويسعفهم إخوانهم المتمدينون من ذوي الشعور الإنساني في الأمم الراقية بما يسد رمقهم، وينقذهم من مخالب الحِمَام (الموت).
من كل ما بسطناه في هذا الإيضاح الوجيز يظهر أن البولشفية، أو بالأحرى المشاعية ليست سوى مبادئ وتعاليم ترمي إلى تلطيف ويلات العالم الإنساني بطرق لا تتفق مع الجبلة البشرية، وأنها من هذه الوجهة لا تعدو كونها فكرة خيالية، كسواها من الأفكار التي أراد أصحابها أن يبثوا السلام في العالم، وأن يزيلوا آلام الإنسانية، وأن يوفروا أسباب سعادة الناس، وأن يَقوهم من الأمراض، وأن يردوا إليهم شبابهم، وأن يطيلوا أعمارهم، وأخيرًا من قبيل ما قد حلم أو يحلم به بعض السابحين في لجج الأحلام من إزالة الموت بتاتًا! …
وسواء أنجح البولشفيون أو أخفقوا، وسواء واصلوا خطتهم الأولى أو تحولوا عنها، فهنالك أمر محقق لا جدال فيه، وهو أن الإنسانية بدأت تخطو خطوة واسعة بعد الحرب الكبرى في سبيل الحرية العامة، وقد شرعت الدول في مساعدة الإنسانية على تحرير أبنائها جميعًا من رِبْقة الذل والاستعباد، وفي مقدمتها إنجلترا التي أخذت تنتقل بسرعة مدهشة للغاية في درجات التوسع الديمقراطية حتى أصبح للعمال فيها شأن هام جدًّا، وحتى حصلت الشعوب التي تتألف منها هذه الإمبراطورية على أقساط عظيمة من حريتها واستقلالها، وقد ساعدت على ذلك التقاليد الحرة التي تتشبع بها نفوس الشعب الإنجليزي من قديم الزمن، والمجهودات العظيمة التي تقوم بها الشعوب المطالبة بالاستقلال.
ولنعد إلى ما كنا فيه من أمر هذا الكتاب، فنقول: إننا أردنا بتعريبه أن يعرف الناس من هو لينين، وما هي مبادئه في الوقت الذي تخوض الصحف في أمره بخصوص دعوة الدول له للحضور في مؤتمر جنوي.
وبمناسبة هذه الدعوة نرجع إلى ما يمكن حسبانه من انتقال البولشفية إلى الطريقة الاستعمارية، فنقول: إن الأنباء البرقية الواصلة إلينا إلى حين الانتهاء من كتابة هذه الإيضاحات لا تنبئ بقبول لينين نهائيًّا دعوة الدول الأوروبية، ولكنه إذا ما قبلها فكأنه اعترف بديون القيصرية القديمة، وعزم على أن يجعل لأصحاب رءوس الأموال سبيلًا للتداخل في الروسيا، واستثمار رءوس أموالهم في تلك البلاد الواسعة ذات المحصولات الجمة، التي لم يستطع البولشفيون أن يستغلوها بطريقة الإنتاج العام، وتعتبر هذه الحالة خطوة أخرى إلى الوراء، ودليلًا على إخفاق البولشفيين في تنفيذ المبادئ المشاعية التي يقولون إنهم يتمسكون بها.
والذي يهمنا نحن المصريين من محتويات هذا الكتاب هو الوقوف على مختلف الأفكار في العالم الراقي، حتى لا نبقى في مؤخرة الشعوب المستنيرة التي تطلب حقوقها بعقل وعلم، فإن أعظم خدمة يمكن تقديمها لأبناء الوطن العزيز هي تغذية عقولهم بالأفكار الحديثة، وتركهم يتخيرون الصالح لهم منها بدون إجبارهم على التشرب بفكرة مخصوصة، وقد دل شبابنا على أنهم ينشدون الحياة القومية، ولكنهم لا يدرون كيف يصلون إليها، فالآن نذكر لهم أن الاستنارة بأنوار العلوم، وفي مقدمتها علوم الاجتماع والتاريخ والطبيعة، هي أهم ما يوصلهم إلى تلك الغاية المنشودة.
ولقد بدأت النهضة الفكرية في الظهور في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، فيبرز العاملون حقيقة على إنهاض الوطن بالطرق المعقولة من مكانهم، ونشروا الكتب القيمة والآراء الصائبة، واشتغل الشباب بهذه الحركة المباركة آخذًا منها بنصيب وافر، غير أن الحوادث الأخيرة وفي مقدمتها الحرب الكبرى عطلت تلك النهضة ردحًا من الزمن، وقصف الموت أقلامًا كثيرة، فغاض معين العلوم والآداب، حتى إذا ما أراد الله لهذا الوطن المحبوب عودته إلى السير في طريق الحياة القوية، قيَّض له أقلامًا تخدمه بالحق وتنير له هذه الطريق.
وقد رأينا أن نكون من جملة العاملين لتحقيق هذه الأمانة، فأطلقنا ليَراعِنا العِنان ينقل من معلومات الأمم الحية وأفكارها وتواريخها وأعمالها ما فيه الفائدة لشبابنا ووطننا، أسوة بالعاملين في الأمم الأخرى، ووصلًا لمجهوداتنا الأولى التي حالت الحرب الكبرى دون مواصلتها.
فإذا ما رأى الشباب العاقل الحازم فائدةً في الكتب التي ننقلها لأجله وغذاء عقله بها، فإنه يعرف فيما بعد كيف يستعمل هذه الفائدة لأجل إنهاض الوطن، وإيصاله إلى الحياة الحرة القوية الأبدية.
ظهر ٢٤ يناير سنة ١٩٢٢