٢
كان للحافلة حصانان يجرانها، يتصاعد من جانبَيهما البخار من أثر الرحلة التي قطعاها؛ وأضاء مصباحاها الضخمان جدران الزقاق خلال الضباب، فحوَّل خيوط العنكبوت والطحالب العفنة إلى أنسجة عجيبة وكأنها تنتمي إلى عالم سحري. كان السائق يلتحف عباءة. وكان يواجه الجدار الذي يسد الزقاق؛ كيف تمكَّن السائق من قيادة العربة إلى داخل الزقاق بحرص شديد وهدوء تام؟ ظل ذلك واحدًا من الألغاز العديدة التي لم يتبيَّنها الصبي البتة. كما لم يستطع البتة أن يتخيَّل كيف سيقودها خروجًا منه.
ارتجف صوت الصبي عبر الهواء البني العطن وهو يقول: «من فضلك، هل هذه هي العربة؟»
قال السائق دون أن يلتفت: «أجل، إنها العربة.» سادت لحظة صمت. مرَّ الشرطي من أمام مدخل الزقاق وهو يسعل. اختبأ الصبي في الظلام؛ لأنه لم يرغب في أن يُكشَف أمره. كان متيقنًا من أن ذلك الرجل قرصان، لا يمكن أن يكون إلا كذلك؛ إذ لا يمكن لأيِّ شخص آخر أن يسافر إلى هذه الأماكن الغريبة وفي مثل هذه الأوقات الغريبة.
سأل الصبي وهو يُحاول أن يبدوَ رابط الجأش: «متى ستتحرَّك تقريبًا؟»
«عند شروق الشمس.»
«ما المسافة التي ستقطعها؟»
«الطريق بأكمله.»
«وهل يمكنني الحصول على تذكرة عودة أعود بها إلى هنا؟»
«أجل.»
قال الصبي: «أظن أنني سآتي معك.» لم يُجِب السائق. لا بد أن الشمس أشرقت؛ لأنه حرَّر مكابح العربة كي ينطلق. وما إن قفز الصبي داخل العربة حتى انطلقت على الفور.
كيف؟ هل استدارت العربة؟ لم تكن هناك مساحة كافية. هل تحرَّكت إلى الأمام؟ كان الجدار يسد طريقها. ومع ذلك كانت تتحرك بسرعة فائقة عبر الضباب الذي تحوَّل من اللون البني إلى الأصفر. أثقلت الصبيَّ فكرةُ الاستمتاع بسرير دافئ ووجبة إفطار ساخنة وجعلته يشعر بالوهن. تمنى لو لم يأتِ. لم يكن والداه ليوافقا على ذهابه. كان سيعود إليهما لو لم يجعل الطقس هذا مستحيلًا. شعر بعُزلة مُروِّعة؛ فقد كان الراكبَ الوحيد. وكانت العربة، على الرغم من تصميمها الجيد، باردةً وعطنة نوعًا ما. لفَّ معطفه حوله، وبينما كان يفعل ذلك، تحسَّس جيبه مصادفة. كان فارغًا. لقد نسي محفظته.
صاح الصبي قائلًا: «توقف! توقف!» ولأنه مهذب، ألقى نظرةً سريعة على لوحة التنبيهات المطلية لكي ينادي السائق باسمه. «سيد براون! توقف، توقف أرجوك!»
لم يتوقَّف السيد براون، لكنه فتح نافذةً صغيرة ونظر إلى الصبي. فوجئ الصبي بملامح وجهه؛ إذ بدا لطيفًا ومتواضعًا للغاية.
«سيد براون، لقد نسيت محفظتي. ليس معي بنس واحد. لا أستطيع دفع ثمن التذكرة. هل تقبل أن تأخذ ساعتي من فضلك؟ أنا في ورطة كبيرة حقًّا.»
قال السائق: «لا يمكن شراء تذاكر هذا الخط، سواء كانت تذكرة ذهاب فقط أم تذكرة ذهاب وعودة، بأي عملة أرضية عادية. وآلاتُ قياس الزمن حتى لو بلغت من الدقة حدَّ قياسِ زمنِ يقظةِ الإمبراطور شارلمان، أو زمن نوم لورا مُلهِمة بترارك، لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تتحوَّل إلى حلوى الجنة التي تسحر سيريبروس، كلبَ الحراسة السماوي الرقيق الأليف!» ثم ناول الصبي التذكرة اللازمة، وبينما كان الصبي يشكره، تابع السائق قائلًا: «أعلم جيدًا أن الألقاب الشرفية من بواعث الزهو والخيلاء. لكن لا حرج في استخدامها على سبيل الدعابة، كما أنها مفيدة نوعًا ما في عالم مليء بالأسماء المتشابهة؛ إذ تساعد على تمييز هذا الرجل من ذاك. لذا، تذكَّرني باسم السير توماس براون.»
«أنت «سير»؟ أوه، أنا آسف لم أكن أعرف!» لقد سمع الصبي عن هؤلاء السائقين النبلاء. «إنه لطف منك أن تعطيني التذكرة مجانًا. ولكن إذا واصلت فِعل ذلك فكيف ستحقِّق أي ربح من العربة؟»
قال: «إنها لا تُحقِّق ربحًا. ليس ذلك هو الغرض منها. هناك العديد من العيوب في حافلتي؛ فهي مصنوعة صناعةً شديدة الدقة والتعقيد من أنواع مختلفة من الأخشاب الغريبة، ووسائد مقاعدها تُدغدغ الرغبة في المعرفة بدلًا من أن تبعث على الراحة، ولا تتغذَّى خيولي على معارف الحاضر اليانعة، إنما على المعارف القديمة التي جفَّت منابعها. ولكن تحقيق الربح! هذا عيب لم يكن فيها قطُّ.»
قال الصبي بيأس: «أعتذر مرةً أخرى.» بدا السير توماس حزينًا؛ إذ خشي أن يكون قد أحزن الصبي، ولو للحظة. دعا الصبي ليأتي ويجلس بجانبه على الصندوق، وواصلا الرحلة معًا عبر الضباب، الذي بدأ يتغيَّر لونه من الأصفر إلى الأبيض. لم تكن هناك منازل على جانبَي الطريق، لا بد إذن أن هذه المنطقة إما «بيوتني هيث» وإما «ويمبلدون كومون».
«هل كنت سائقًا دائمًا؟»
«لقد كنت طبيبًا في السابق.»
«لماذا تركت الطب؟ ألم تكن ماهرًا؟»
«لم أحقِّق نجاحًا كبيرًا وأنا معالج للأجساد، والكثير من مرضاي ماتوا قبلي. ولكن وأنا معالج للروح، قد نجحت بما يفوق ما كنت أطمح إليه وما أستحقُّه. وعلى الرغم من أن علاجاتي ليست أفضل أو أنجع من تلك التي يُعِدها الآخرون، فإن الكئوس المُغْوِية التي كنت أقدِّم علاجاتي تلك فيها هي التي تُغرِي الأرواح المضطربة في كثير من الأحيان لتشرب منها وتهنأ.»
تمتم الصبي قائلًا: «الأرواح المضطربة؟ عندما تغرب الشمس خلف الأشجار فيسري في كل أوصالك فجأةً شعور غريب، فهل هذا من أعراض اضطراب الروح؟»
«هل اختبرتَه؟»
«أجل.»
وبعد صمت قصير، أخبر الصبيَّ شيئًا يسيرًا عن وجهتهما. لكنهما لم يتحدثا كثيرًا؛ لأن الصبي، عندما يُحب شخصًا ما، كان يصمت في حضرته أكثر ممَّا يتكلم، واكتشف أن السير توماس براون مثله، وكذلك العديد من الآخرين الذين سيتعرَّف إليهم. لكنه أخبره عن الشاب شيلي، الذي أصبح شخصًا مشهورًا للغاية، ويمتلك حافلته الخاصة، وعن بعض السائقين الآخرين الذين يعملون في خدمة الشركة. في غضون ذلك، أصبح الضوء أقوى، على الرغم من أن الضباب لم ينقشع. صار أقربَ إلى الشبورة منه إلى الضباب، وفي بعض الأحيان كان يمر أمامهم بسرعة، كما لو كان جزءًا من سحابة. لقد كانوا يرتفعون أيضًا ارتفاعًا مُحيِّرًا للغاية؛ لأكثر من ساعتَين ظلَّت الخيول تشد الطوق، حتى لو كانوا يصعدون تل ريتشموند، كان ينبغي أن يكونوا قد وصلوا إلى قمته منذ مدة طويلة. ربما كان جبل إبسوم، أو حتى تلال نورث داونز؛ ومع ذلك، بدا الهواء أقوى من الهواء الذي يهب في كلتا المنطقتين. أما اسم وجهتهما، فلم يذكر عنه السير توماس براون شيئًا.
ثم دوَّى صوت تحطُّم، بووم!
قال الصبي: «إنه الرعد، يا إلهي! وهو ليس ببعيدٍ أيضًا. استمِع إلى صدى صوته! إنه أشبه بصوت جبال تتحطَّم.»
خطرت له أفكار غير واضحة بشأن أبيه وأمه. رآهما جالسَين يأكلان النقانق ويُنصتان إلى العاصفة. رأى مكانه الفارغ. ثم سيعقب ذلك تساؤلات، ومخاوف، ونظريات، ونِكات، ومواساة. كانا يتوقَّعان عودته على الغداء. لم يكن سيعود لتناول الغداء، ولا لاحتساء الشاي، ولكنه كان سيعود لتناول العشاء؛ ومن ثَم لن يغيب عن المدرسة إلا يومًا واحدًا. لو كانت محفظته معه لاشترى لهما الهدايا، ولكنه لم يكن ليعرف أي نوع من الهدايا يشتريه لهما.
تكرَّر صوت التحطم، بووم!
تزامن دوي الرعد مع البرق. واهتزَّت السحابة كما لو كانت حية، ومرَّت سريعًا من جانبهما شرائط مُمزَّقة من الضباب. سأل السير توماس براون الصبي: «هل أنت خائف؟»
«وهل ثمة ما يدعو إلى الخوف؟ ألا يزال أمامنا مسافة طويلة؟»
توقَّفت خيول العربة في اللحظة التي انفجرت فيها كرة من النار مُحدِثةً ضجيجًا رنانًا حادًّا يصمُّ الآذان، مثل ضجيج فرن الحِدادة.و تمزَّقت السحابة كلها.
«اسمع أيها السير توماس براون! كلا، أعني انظر، ستتضح الرؤية أخيرًا. لا، أعني أنصت، هذا يبدو مثل قوس قزح!»
خَفَت هزيم الرعد حتى أصبح دَويًّا خافتًا، علا عليه همهمة انتشرت خِلسةً وبانتظام، في منحنًى ظل يتسع دون أن يتغيَّر شكله. وفي منحنيات واسعة امتدَّ قوس قزح من تحت أقدام الخيل إلى الضباب المتلاشي.
«ما أجملَه! ما أجمل ألوانَه! أين سينتهي؟ إنه يُشبه قوس قزح الذي يمكنك المشي عليه. كما في الأحلام.»
امتدَّت الألوان وعلا الصوت. امتدَّ قوس قزح في منحنًى ضخم فصار كالجسر. اندفعت من أسفله بعض السُّحب، واخترق هو بعضها الآخر، وظلَّ يمتد ويتقدَّم إلى الأمام قاهِرًا الظلام، حتى لامس شيئًا يبدو أصلب من أن يكون سحابة.
وقف الصبي وصاح قائلًا: «ما هذا الذي هناك؟ علامَ توقَّف طرَفه الآخر؟»
في ضوء شمس الصباح، برزت قِمة جُرف شاهقةٌ من خلف قوس القزح. أم تُراها قلعة؟ تحركت الخيول. ووطئت قوس القزح.
صرخ الصبي قائلًا: «أوه، انظر! أوه، أنصِت! أتلك كهوف … أم إنها بوابات؟ أوه، انظر بين تلك الأجراف وتلك الحواف. أرى أُناسًا! أرى أشجارًا!»
همس السير توماس براون: «انظر إلى الأسفل أيضًا. لا تُغفِل نهر أشيرون المقدس.»
نظر الصبي إلى الأسفل متجاوزًا ألسنة قوس قزح التي لامست عجلات حافلتهم. كما اتضح الوادي أيضًا، كان يتدفَّق فيه نهر سرمدي. اخترق شعاعُ ضوء واحد السحبَ وأضاء بركةً خضراء، وعندما مروا بها رأى ثلاث حوريات يرتفعْنَ إلى سطح البركة وهن يغنين، ويلعبْنَ بشيء يلمع كالخاتم.
نادى الصبي: «أنتن يا من أسفل بالماء …»
أجابت الفتيات: «أنت يا من فوق الجسر …» انطلقَ صوت موسيقى مفاجئ. «أنت يا من فوق الجسر، حظًّا سعيدًا لك. الحقيقة في الأعماق، والحقيقة بالأعلى.»
«أنتن يا من أسفل بالماء، ماذا تفعلْنَ؟»
أجاب السير توماس براون: «يلهون بما يملكْنَه من ذهب»؛ ووصلت العربة.