ثالثًا: الوجود

(١) الوجود أول وصف للذات

الوجود هو أول وصف للذات. يظهر أوَّلًا متداخلًا مع دليل الحدوث، إذ إن غاية الدليل هو إثبات واجب الوجود. وقد لا تدخل صفة الوجود أو واجب الوجود ضمن أوصاف الذات، بل تكون ختامًا لدليل الحدوث.١ وفي كلتا الحالتين يكون الانتقال من دليل الحدوث إلى الوجود انتقالًا طبيعيًّا باستثناء الاعتراض المشهور وهو كيفية الانتقال من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان، ومن دليل إثبات الوجود إلى إثبات الوجود بالفعل. في هذه الحالة لا يظهر الوجود كوصف مستقل، ويُكتفى بأن الحوادث لا بد لها من محدث وأن صانع الحوادث أحدثها من لا شيء. ويتداخل الوجود مع أبطال الدور والتسلسل كأول بحث في ذات «الله».٢ لذلك تُسَمَّى صفة الوجود أحيانًا واجب الوجود كما هو الحال في العقائد المتأخرة إلا في بعض الحركات الإصلاحية الحديثة حين يُكتفى بإثبات واجب الوجود.٣ وتتداخل صفة واجب الوجود وأحيانًا بكليهما.٤ وفي العقائد المتأخرة يدخل الوجود ضمن دليلي الحدوث والإمكان معًا مع أنه قد لا تكون هناك حاجة إلى إثبات وصف الوجود بعد إثبات الأدلة على وجود الصانع.٥ ينبثق وصف الوجود إذن من الطبيعة. والحقيقة أنه لا يوجد مبحث مستقل للطبيعة. فالطبيعيات تظهر في دليل الحدوث القائم على إثبات الأعراض وحدوثها، والتفرقة بين الجوهر والعرض، وإثبات موجود قديم لا أول له. فالطبيعة هو إثبات أول صفة للذات وهو الوجود.٦
ولا يظهر الوجود كأول وصف للذات إلا بعد اكتمال بناء علم أصول الدِّين. ففي البداية يكرر وصف الوجود والمخالفة للحوادث لسائر الموجودات، وكأنه شرح وتعبير أكثر منه عدًّا لصفة.٧ وفي المؤلفات المتقدمة يظهر دليل الحدوث على أنه أول موضوعات التوحيد دون ذكر وصف الوجود.٨ ثم يذكر وصف الوجود على أنه أول وصف للمحدث قبل القِدَم والواحد والأحد والباقي.٩ ويظهر على أنه أول وصف في إقرار التوحيد قبل الواحد وليس كمثله شيء.١٠ وقد يظهر الوجود على أنه أول وصف للذات في قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، فالأحد إشارة إلى الوجود.١١ وفي المقدمات والتسبيحات والتحميدات يظهر واجب الوجود على أنه أول تعبير إنشائي.١٢ ويظهر الوجود كأول وصف للذات، وذلك في دلائل إثبات كونه واجب الوجود وإثبات كونه موجودًا.١٣ فالوجود هو وحده الصفة التي تدخل تحت الذات، وباقي الأوصاف والصفات تدخل تحت الصفات. وقد يضم الوجود الصفتين التاليتين مثل القِدَم والبقاء وكأنهما نتيجتان طبيعيتان للوجود، فالوجود هو البقاء الذي سبق المكونات ويبقى بعد جميع الفانيات، والتوحيد هو الإقرار بأنه ثابت الوجود. وموجود تعني أنه باقٍ أي دوام الوجود.١٤ وإلى وقت متأخر يتداخل وصف الوجود مع باقي الأوصاف والصفات ولا يكون بالضرورة أول أوصاف الذات. فأحيانًا تظهر النفس بعد القِدَم والوجود والوحدانية والشيئية على أنها مرادفة للذات والوجود ورفضها من حيث هي جسم مركب قابل للعرض.١٥ كما تثبت صفة الوجود في باب الصفات بعد أن تثبت المخالفة للحوادث والقيام بالنفس والوحدانية في باب التوحيد، وتستعمل الصفات كدليل لإثبات الوجود.١٦ ثم يرتبط موضوع الوجود منذ القرن السادس بالماهية بعد توغل علوم الحكمة في علم التوحيد، فيبدو الوجود متصلًا بالماهية كثامن وآخر وصف بعد نفي الجسمية والجوهر والمكان والاتحاد والمكان والحلول والقيام بالحوادث واللذة والألم، ونفي مشاركة الذات لغيرها.١٧ فالوجود متصل بنفي المشاركة. وتُنفى الماهية خوفًا من المجانسة بعد إثبات الوحدانية والقِدَم وظهور الصفات السبع ونفي العرض والجسم والجوهر والصور والحد والعد والتبعيض والتجزيء والتركيب والتناهي.١٨ وتبدو التنزيهات في أول بحث في نفي أن حقيقته تماثل غيره ونفي الاشتراك في الذات أو في الوجود.١٩ وقد يذكر الوجود بعد القِدَم على أنه يجوز وصف الذات به، ويكون الوجود حالة من حالات القِدَم ومتضمنًا فيه.٢٠ وقد يُذكر الوجود كثالث صفة بعد القِدَم والبقاء مرة ضد الباطنية وقولهم لا موجود ولا معدوم ومرة ضد الحكماء في التوحيد بين الوجود والماهية.٢١ فإذا كان الوجود قد دخل في البداية في أدلة إثبات الصانع خاصة دليل الحدوث فإنه في العقائد المتأخرة وبعد استقرار البناء النظري للعلم يظهر كأول وصف فيما يجب «لله» من عشرين صفة، ستًّا للذات، وسبعًا للمعاني، وسبعًا معنوية، ثم يظهر عكس الصفة وهو العدم في العشرين صفة التالية فيما يستحيل على «الله». ثم بعد ذلك في النهاية يظهر في تفسير معنى «لا إله إلا الله» على أنه المستغني عن كل ما سواه كأول وصف يدل على الاستغناء.٢٢ وقد يذكر الوجود كواجب الوجود في أول وصف فيما يجب «لله» يتلوه صفات المعاني السبع، ويذكر في أول إحصاء لأوصاف الذات في عشرة على أنه أول صفة. وحتى عندما تأتي الذات بعد الصفات يظهر الوجود كأول صفة.٢٣ وقد يذكر الوجود في أول موضوع للتوحيد دون فصل بين ذات وصفات، بل كحامل لنفي التشبيه والحيز والجهة.٢٤
ويحاول القدماء إيجاد أدلة لإثبات الوجود، فقد يثبت الوجود بدليل عن طريق القسمة بعد التسليم بأصل الوجود من دليل الحدوث. فكل موجود إمَّا متحيز أو غير متحيز. وإن كل متحيز إن لم يكن فيه ائتلاف فهو جوهر فرد، وإن كان فيه فهو جسم، وغير المتحيز إمَّا يستدعي جسمًا يقوم به وهي الأعراض أو لا يستدعي وهو «الله»!٢٥ وهو دليل يقوم على افتراض سابق وهو أن الوجود قد يكون غير متحيز وهو المطلوب إثباته. كما أن إثبات وجود غير متحيز لا يعني بالضرورة إثبات «الله»، بل يعني إثبات هذا الوجود غير المتحيز أي الوجود من حيث هو وجود دون تشخيص له في ذات. والقسمة ليست دليلًا ولا برهانًا بل مجرد تصنيف طبقًا للأعلى والأدنى وهي التصور الديني للعلاقة بين المستويات. كما أنه لا ينزه «الله». وهل مكانة «الله» مساوية بالأجسام ما دام كلاهما جوهرًا؟ ولا يمكن أن يكون الدليل على الوجود العلم والقدرة، فالعلم والقدرة مظهران للوجود تاليان عليه وليسا مقدمتين له: الوجود لا يستنبط من العلم والقدرة، بل العلم والقدرة يستنبطان من الوجود. إلا إذا كان المقصود أن وجودًا بلا علم ولا قدرة ليس وجودًا، وفي هذه الحالة يكون الوجود هو وجود العلم والقدرة. وقد يشجع ذلك الناس على العلم والقدرة دون الجهل والعجز، إذ إن الوجود الجاهل العاجز ليس وجودًا.٢٦ ويمكن التوسع في الصفات وضم الحياة والإرادة، ولكن ذلك يتطلب دليلًا أنطولوجيًّا يسمح بالانتقال من العلم والقدرة والحياة والإرادة إلى الوجود الفعلي دون أن يكون ذلك متعلقًا بالإنسان وتشخيصًا منه وقياسًا للغائب على الشاهد، وبالتالي إثبات وجود الإنسان دون غيره. وهو أقرب إلى التمرينات العقلية التي يعيش فيها العقل على نفسه بعد أن يختفي موضوعه ويتبخر. وهناك بعض الأدلة الخطابية الأخرى القائمة على سؤال: هل هناك بناء من غير بان؟ وإذا كان الرد بالإيجاب عن طريق التوليد والكمون والظهور أمكن الإجابة بالنفي وبالتالي لا يثبت أي وجود صانع مغاير للشيء.٢٧

(٢) ماهية الوجود

هل الوجود وصف للذات أم أنه معنى تؤدي إليه أحكام العقل؟ هل هو وصف للذات أم صفة لها؟ قد يدخل الوجود في مبحث الذات ليس كصفة بل كذات.٢٨ للوجود ماهيتان: الأولى أنها نفس الذات وليست صفة خارجة عنها، وليست بمثابة التحيز للجوهر لأن التحيز صفة زائدة على الجوهر. وعلى هذا النحو يكون واجبًا لذاته ممتنعًا عدمه بالنظر إلى ذاته.٢٩ لذلك يظهر الوجود على أنه من الصفات النفسية بل أولها.٣٠ الوجود هو القائم بالنفس أو لا يكون. فإن لم يكن قائمًا بماهيته فنفس الوجود جوهر قائم. الوجود عين الوجود، وبالتالي يكون وجود الله عين ذاته غير زائد عليه كما أن وجود الحادث عين ذاته. فالوجود ليس صفة لأنه عين الذات والصفة غير الذات. الوجود عين الذات وبالتالي تكون موجودة في الخارج دون ما حاجة إلى إثبات وبالتالي تنتفي الحاجة إلى أي دليل أنطولوجي.٣١ وعيوب هذا التصور أن «الله» فيه كائن ثابت مشخص وليس حياة أو تجربة أو حركة.٣٢ والوجود بهذا المعنى المجرد وصفًا أو صفةً، ماهية أو وجودًا عامًّا ليس الوجود كتجربة حقة بلحم وعظم ودم، بنفس وحرارة وحياة. وإن إثبات الذات أو النفس دون نفي الضد يدل على أن الإثبات هو الأساس وأن النفي مجرد تمرين عقلي زيادةً في التنزيه، في حين أن النفي هو الأساس، نفي مظاهر النقص حتى تثبت صفات الكمال.٣٣
والثانية أنها ما يستحيل عليها العدم، إذ لا يحد الوجود إلا بالإشارة إلى المعدوم. والمعدوم ليس هو المنتفي؛ لأن المنتفي ما ليس بكائن ولا ثابت في حين أن المعدوم وجد مرة ثم عدم، أي أن العدم في أصله كان وجودًا وليس نفيًا أو انتفاءً.٣٤ فالأولى أن يكون المعدوم هو المعلوم الذي ليس بموجود أي افتراض الوجود وإحالة العدم، ومِنْ ثَمَّ يبرز الفِرَق بين مستوى المعرفة ومستوى الوجود، فلا يمكن أن يكون العدم موجودًا (أنطولوجيًّا). وسواء كان العدم وجودًا منفيًّا أم وجودًا معدومًا، فإن ما يجب له الوجود يستحيل عليه العدم، والنفي والإثبات يتمان لا في زمان.٣٥ الوجود إذن وصف سلبي أي أنه ما لا يجوز عليه العدم.٣٦ صانع العالم موجود؛ لأنه لو لم يكن موجودًا لكان معدومًا، والمعدوم نفي محض لا يصلح للإلهية دون أن تكون هناك واسطة بين الموجود والمعدوم.٣٧ ويقوم هذا التصور على إثبات الدعوى بإبطال نقيضها. وهو نقص في منطق الاستدلال، إذ إن الدليل هو المثبت. كما أنه يعتبر العدم نفيًا محضًا دون واسطة حال، مما يسبب في النفس الغثيان، وفي الوجود العدمية. وإذا كان الوجود والعدم ضدان وكان البارئ موجودًا، فإنه يصبح من جنس الموجودات. وما كان من جنس الموجودات يمتنع أن يكون من جنس المعدومات. ولو كان موجودًا لكان له من جنس الموجودات ند، ومن المعدومات التي ليست من جنسه ضد. والباري منزه عن الند والضد. ونفس الدليل إذا كان معدومًا وبالتالي يثبت أن الباري لا موجودًا ولا معدومًا. فإن قيل: إن العدم نفي محض، ويمتنع أن يكون ضد الشيء، كان الرد بأن عدم الاشتراك في الاسم نظرًا لا ينفي وقوعه عملًا.٣٨

(٣) معنى الوجود

تتراوح معاني الوجود عند القدماء بين الصورية والمادية والنفسية، أي بين أن يكون الوجود معنى وأن يكون شيئًا وأن يكون حالًا:
  • (أ)
    فقد يكون الوجود بمعنى معلوم، وأن الباري لم يزل واجدًا للأشياء بمعنى لم يزل عالمًا بها، وأن المعلومات لم تزل موجودات بمعنى لم تزل معلومات، ومِنْ ثَمَّ كان الدليل على الوجود هو العلم.٣٩ الله موجود لمعنى به، وأن ذلك المعنى لا موجود ولا معدوم.٤٠ واتفق باقي أئمة الأشاعرة على أنه من الصفات، والعلم به علم بالذات.٤١ الوجود هنا أقرب إلى الحكم العقلي الأوَّل في أحكام العقل الثلاثة.
  • (ب)
    والمعنى الثاني للوجود هو المعنى المادي الذي يتراوح بين الجسم والشيء. فالوجود جسم لأن الوجود شيء.٤٢ فبهذا المعنى لا يكون الباري كائنًا مخالفًا لسائر الحقائق، فوجوده مثلها.٤٣ وهنا يضطرب التنزيه ويهتز التصور فيصبح الباري لم يزل ثابت العين بذاته حماية له من الجسمية والشيئية.٤٤ أو أن يكون شيئًا مخالفًا لسائر الموجودات لما كان الشيء هو أنه محدود ووجوده مساوٍ لسائر الموجودات.
    ولكن هل البارئ شيء؟ إذا كان البارئ شيئًا فإن الشيئية تكون أحد أوصاف الذات، سواء ذاتًا لنفسه أو شيئًا لا كالأشياء. قد يظهر الشيء بعد القِدَم والوجود والوحدانية على أنه اسم أكثر منه وصفًا أو صفةً. وقد يظهر الشيء بعد إثبات الوجود كثالث صفة بعد القِدَم والبقاء.٤٥ والعجيب أن يثبت الأشاعرة والمسلمون كلهم، وأكثر أهل الصلاة أن «الله» شيء سواء كان شيئًا بمعنى جسم أو شيئًا لا كالأشياء. ولما كان لا يوجد شيء إلا بمعنى جسم يكون موقف المجسمة أقرب إلى الاتساق مع النفس والمنطق وأقرب إلى الصراحة. أمَّا إثبات شيء لا كالأشياء فهو مجرد تحصيل حاصل، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، إقدام وإحجام، شجاعة ثم خوف، إثبات ونفي، تشبيه وتنزيه، وجود وعدم، يلغي كل طرف الطرف الآخر. فليس هناك إنسان لا كالإنسان، وليس هناك ماء لا كالماء، وليس هناك هواء لا كالهواء أو أرض ليست كالأرض أو سماء لست كالسماء. فالعبارة تعبر عن موقف الشعور وحيرته وتردده بين نزوعين، الشاهد والغائب، الحس والعقل، الطبيعة وما بعد الطبيعة. حتى ولو لم يكن النزاع في اللفظ بل في المعنى، اتفاق اللفظ والاختلاف في المعنى، فإن ذلك لا يمنع حين الاستعمال من الوقوع في جدل اللفظ والمعنى واستعمال اللفظ بالمعنى الشائع للشيء وهو الجسم الحسي المرئي نظرًا لقوة المعنى العرفي وانتشاره فوق المعنى الاصطلاحي.٤٦ وإذا كان المقصود أن شيئًا تعني موجودًا، وكان الاشتراك يقع في لفظ وجوده، فالأولى أن يقع الاشتراك في لفظ شيء. وإن خطورة الحجة النقلية والاعتماد عليها حتى على الرغم من دقة التفسير وإحكام التأويل لن تمنع من العارض العقلي الذي ينفي كون «الله» شيئًا.٤٧ قد يكون «الله» شيئًا بالمعنى الأنطولوجي للكلمة، أي الوجود القائم وليس بالجسم، وبمعنى الماهية المجردة،٤٨ ولكنه مزلق خطر خارج عن نطاق علم أصول الدِّين الغارق في التشخيص الإنساني والواقع في «الأنثروبولوجيا»، يصعب عليه الخروج منها إلى «الأنطولوجيا». لذلك توقف البعض. فلا يقولون إن الله شيء أو إنه ليس شيئًا وهو أقرب إلى التنزيه الوجداني وعدم الدخول في المزالق التصورية.٤٩ فابتعادًا عن التجسيم واقترابًا من التنزيه يصبح «الله» ليس شيئًا وليس لا شيئًا. وبالرغم من أن أمثال هذه العبارات تحصيل حاصل، إلا أنها تحوم إقدامًا نحو التشبيه ثم إحجامًا عنه اقترابًا من التنزيه، وكأن الذهن البشري إذا ما أراد الحرص على التنزيه فليس أمامه إلا طريق النفي، وطريق النفي وحده. ولكن نظرًا لمخاطر الصورية والفراغ في التنزيه، فإن التجسيم يعود ليفرض نفسه على التصور بالجسمية والشيئية، ويظل الشعور متوترًا حائرًا بين الصوري والمادي، بين المثال والواقع، بين الحس والعقل دونما استقرار. لقد كانت الحجة في إثبات الباري شيئًا هو الخوف من التعطيل، ولكن ألا يوقع ذلك الخوف في التشبيه؟ ولماذا يكون الخوف من التعطيل مقدَّمًا على الخوف من التشبيه؟٥٠ وكما يقل التجسيم وينتقل من البدن المعين إلى الجسم، فإنه يقل أيضًا درجة، وينتقل ارتفاعًا من الجسم إلى الشيء، فالشيء مقولة تحتوي على عمومية أكثر من الجسم، كما أن الجسم مقولة تحتوي على عمومية أكثر من البدن. فإذا كان كل جسم شيئًا، فليس كل شيء جسمًا. كما أن كل بدن جسم وليس كل جسم بدنًا بالضرورة. ثم يخف التجسيم درجة ويصبح «الله» أيضًا شيئًا، ولكنه شيء لا كالأشياء، ولا يشابه الأشياء. فهو ليس شيئًا وهو ليس لا شيئًا، بين التشبيه والتنزيه، تشبيه لأنه شيء، وتنزيه لأنه لا كالأشياء. وهو مثل القول بأنه جسم لا كالأجسام. وصفة بالشيء لا تعني شيئًا لا كالأشياء بصرف النظر عن كون العبارة من حيث بناء اللغة تحصيل حاصل.
    وقد أفاض القدماء في الحديث عن الشيء وتفصيل معانيه المختلفة لدرجة الخروج من علم أصول الدِّين إلى علوم الحكمة الخالصة. فالشيء هو الجسم، أي أنه تحديد العام بالخاص، ورجوع إلى درجة أقوى من التجسيم في حين أن كل جسم شيء وليس كل شيء جسمًا.٥١ والشيء هو الموجود، فلا شيء إلا موجود، وهو تحديد للخاص، وهو الشيء في هذه الحالة، بالموجود وهو العام. وإن شئنا تحديد العام بالعام لأن الشيء عام والموجود عام، ولكنها عمومية خاصة، فكل شيء موجود في حين أن كل موجود ليس شيئًا.٥٢ والشيء هو المثبت، وهو تحديد للخاص، وهو الشيء، بالعام وهو المثبت، فالمثبت أعم بالنسبة للموجود، كما أن الموجود عامة بالنسبة إلى الشيء، والشيء عام بالنسبة إلى الجسم، والجسم عام بالنسبة إلى البدن. فإذا كان كل شيء موجود مثبتًا، فإن كل مثبت ليس بالضرورة شيئًا موجودًا. يمكن أن يكون الشيء مثبتًا قبل وجوده؛ لأن الشيء هو فعل الكون، أي مجرد الإثبات أو القرار. الصورة في ذهن الرسام شيء قبل أن يرسم اللوحة بالفعل. يمكن أن يُقال إذن إن الشيء هو الممكن قبل أن يصير واقعًا.٥٣ هذه المعاني الثلاثة السابقة تتداخل فيما بينها من حيث العموم والخصوص. ولكن هناك معاني أخرى خارج هذا النطاق، نطاق الكليات الخمس والتحديد المنطقي بالنسبة للعام والخاص، وأقرب إلى تحديد الشيء بالنسبة إلى الآخر وعلى نفس المستوى أفقيًّا وليس رأسيًّا كما هو الحال في الكليات الخمس. حينئذٍ يكون الشيء هو القديم، وهو تحديد للشيء من حيث الزمان، وأنه لا أول له. وهنا يقبل التجسيم درجات عدة، ويشارك في الصفة الثانية وهي القِدَم.٥٤ فالباري لم يزل قبل الأشياء وليس قبل الأشياء حتى لا يكون ظرفًا. والشيء هو الغير. فلا شيء إلا غير، ولا غير إلا شيء. وهذا التحديد للشيء بالنسبة إلى الآخر واعتبار الشيء هو المتفرد أو الفريد، وهي صفة أخرى للذات الذي يتحدد كل شيء بالنسبة إليها والذي يتغاير هو بالنسبة إلى كل شيء.٥٥ لا يُقال أول الأشياء أو إن الأشياء بعده، ولا يُقال إن الله فرد. والشيء هو المعلوم، والمعلوم هو ما أمكن ذكره والإخبار عنه. وهنا يتم تحديد الشيء بالنسبة إلى المعرفة الإنسانية كما تعرف الذات وتكشف هي عن نفسها في الذهن الإنساني. ولا يُقال لم يزل الباري ولا يزال دون أن يضاف عالم حتى يكون هناك خبر.٥٦
    ولكن ماذا يعني أن الباري شيء في هذه الحالة إذا كان الشيء يعني الجسم أو الموجود أو المثبت أو القديم أو الغير أو المعلوم؟ يبدو أن الثلاثي الأوَّل أكثر تجريدًا من الثاني، وهو الذي استهوى القدماء لتطبيقه على «الله». يعني أن الباري جسم ويكون الباري هنا جسمًا متعينًا. وقد يعني أن الباري موجودًا إمَّا بمعنى أنه جسم وهو إلحاق الوجود بأحد معاني الشيء، وهو أن الشيء جسم ويكون الموجود هنا هو الموجود الحسي المتعين،٥٧ وإمَّا بمعنى أنه الشيء وهو استبدال موضوع بمحمول، فكما أن الشيء هو الموجود يكون الموجود هو الشيء،٥٨ إمَّا بمعنى أن الموجود هو المحدود المتعين، أي أنه هو المتعين المتحدد، وهي صفة أعم من الشيء تدل على التعين وإن لم يكن محسوسًا.٥٩ وقد يعني أن الباري مثبت، وقد يكون الثبات بالعين أو بغير العين، والإثبات أحد معاني الشيء، فإثبات الشيء يحدث قبل وجوده.
    ومع ذلك فقد أحدث تصور الباري شيئًا رد فعل عند دعاة التنزيه المعتزلة والجهمية. ﻓ «الله» عند المعتزلة ليس شيئًا وليس لا شيئًا، وهو غير الأشياء على عدة معانٍ، منها: أنه غير الأشياء بنفسه وليس لغيرية حتى لا يحدث التباين والتعدد والشرك،٦٠ أو أنه غير الأشياء لنفسه والأشياء غيره لأنفسها حتى يتم التمايز بين «الله» والأشياء،٦١ أو أنه غير الأشياء لغيرية لا لنفسه، فالغيرية صفة للباري لا هي الباري ولا هي غيره، والجواهر متغايرة بغيرية يجوز ارتفاعها فلا تتغير، والأعراض لا تتغاير، وذلك حتى يحدث التمايز بين الله والأشياء بغيرية واضحة، واحدة مضروبة في اثنين، مرة من الله ومرة من الأشياء،٦٢ أو أن الباري غير الأشياء أي أنه ليس هو كالأشياء وهذا أقرب إلى التنزيه، هو غير الأشياء بنفسه؛ لأنه القبل وليس قبل الأشياء.٦٣ ويُئوِّل المعتزلة الألفاظ التي توحي بالجسمية. فجنب «الله» هو أمره، والصمد هو المقصود إليه في الحوائج.٦٤ وقد اقترب بعض فقهاء أهل السنة من تنزيه المعتزلة في اعتبارهم «الله» ليس كمثله شيء.٦٥ بل وعند أصحاب الحديث أن الباري ليس بجسم ولا يشبه الأشياء.٦٦ بل إن بعض الرافضة وهم الذين عُرف عنهم التجسيم والتشبيه قد وصلوا إلى أعلى مراتب التنزيه بتصورهم أن «الله» ليس بجسم ولا بصورة ولا يشبه الأشياء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس، وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج.٦٧ وتجنُّبًا لكل ذلك آثر البعض إمعانًا في التنزيه جعل الوجود من أسماء «الله»، أي مجرد لفظ لا معنى ولا شيئًا.٦٨ حتى الباطنية المعروفة بالتشبيه والتجسيم بل والحلول أنكرت أن يُقال إن الله موجود أو لا موجود، أو أن الباري ليس بمعدوم إمعانًا في التنزيه. والدليل على ذلك أن الباري لو كان موجودًا لكان مساويًا لسائر الموجودات في الوجود. أمَّا أن يكون مخالفًا من وجه دون وجه، فإن خالفها من وجه لزم وقوع التركيب، وكل مركب ممكن الوجود وليس واجب الوجود. إن لم يكن مخالفًا لزم أن يكون مساويًا في الماهية، والمتساويات في الماهية حكمها حكم واحد. فكما أن الموجودات ليست واجبة فكذلك الباري. وإذا ثبت فساد القسمين ثبت أنه ليس بموجود. ونفس الدليل يثبت أنه ليس معدومًا، فثبت أنه لا موجود ولا معدوم. ولا رد على ذلك إلا باعتبار الوجود عين حقيقته، وأن الاشتراك في اللفظ ليس اشتراكًا في المُسَمَّى البديهي.٦٩ ولكن يرجع الفضل في النهاية إلى جهم وبعض الزيدية في نفي أن يُسَمَّى «الله» شيئًا أو أن يطلق عليه لفظ شيء؛ لأن الشيء هو المخلوق الذي له مثل.٧٠ وبالتالي يكون جهم هو المدافع عن التنزيه في حين وقع الأشاعرة في التشبيه، بل وفي التجسيم بإثباتهم الشيئية «لله» بصرف النظر عن معانيها. وقد كانت كل العبارات المستعملة لإثبات التنزيه عبارات نافية؛ إذ إن النفي أكبر وسيلة للتعبير عن التنزيه. ومِنْ ثَمَّ يمكن القول بأن «الله» ليس شيئًا، ليس له طول ولا عرض ولا عمق، ليس له مقياس يُقاس به، ليس له مادة أو موضوع في العالم الخارجي. بل إن اسم الفعل «الألوهية» لا يشخص ولا يعرف كمًّا، فعل من أفعال الشعور الخالص، وموضوع من موضوعات الذهن. ويخف التجسيم على الإطلاق ويقترب نهائيًّا من التنزيه عندما يصبح الله ليس شيئًا، وينتقل الشعور من الرغبة في الإطباق على الشيء والتشبث به إلى الاستنكاف من الشيء والبعد عنه إحساسًا منه بالطهارة. وتبدأ الثنائية الفلسفية بين المادة والصورة، المحدث والقديم، الكثير والواحد، المتحرك والثابت، وهي الثنائية المتعارضة التي تعطي الطرف الأوَّل كل ما تسلبه من الطرف الثاني. فإذا كان الشيء مادة ﻓ «الله» ليس مادة، وإذا كان الشيء مرئيًّا ﻓ «الله» ليس بمرئي، وإذا كان الشيء محدودًا متعيِّنًا جسمًا، فهي كلها مظاهر نقص، «الله» خالٍ منها.
  • (جـ)
    والحقيقة أن الوجود تجربة وجودية. وهو ما عناه القدماء باسم الحال الواجبة للذات التي لا تعلل بعلة. والحال لا يرتقي إلى درجة الوجود حتى يشاهد ولا ينحط إلى درجة العدم حتى يعدم. الوجود حال بين الموجود والمعدوم. والحال صفة نفسية لا تعقل الذات بدونها. وعلى هذا النحو تكون ذات «الله» غير وجوده كما أن ذوات الحوادث غير وجودها.٧١ وميزة هذا التصور هو اكتشاف الصيرورة من الوجود إلى العدم ومن العدم إلى الوجود من خلال الحال. فالحال وجود، والوجود حال، وهو تغير وحركة وإمكانية وتحقق، أي أنه تجربة وجود أو إيجاد. وهو خارج التعليل الخارجي فالحال من الذات، من الداخل، صفة نفسية. ولما كان وجود «الله» غير ذاته، فإن وصف «الله» بأنه موجود يكشف عن إسقاط الإنسان صفة وجوده على غيره على عكس الحكماء الذي جعلوا وجوده عين ذاته وعلى خلاف الأشاعرة الذين جعلوا الصفة زائدة على الذات.٧٢ الوجود إذن هو المشاهد لا الثبات أو المختص بصفة. الوجود هو الوجود الإنساني الحسي الملموس، هي الواقعة الإنسانية. وهو تجربة بديهية يشعر بها كل إنسان من نفسه، ولكن تختلف درجة الوعي بها. هناك وجود دون وعي وهناك وعي بالوجود.٧٣ وقد اعترف بعض علماء الأصول بأن الوجود من حيث هو وجود مفهوم واحد في كل الموجودات، لا فرق فيه بين واجب وممكن، قديم وحديث. والدليل على ذلك أن نقيض العدم شيء واحد هو الوجود، فلولا أن الوجود مفهوم واحد لما كان العدم مفهومًا واحدًا. وإذا أمكن تقسيم الوجود إلى واجب ممكن، فلو لم يكن المفهوم مشتركًا لما أمكن التقسيم. وحقيقة الوجود في جميع الموجودات شيء واحد لا اختلاف فيها بالتعيين. ولما كانت حقيقة الباري مخالفة لسائر الحقائق، ثبت أن حقيقته ليست وجوده.٧٤ أمَّا الوجود فهو الوجود المتعين الإنساني التجريبي المعروف، أي تجربة الوجود، ولا ينطبق منها شيء على «الله». الوجود إذن شعور إنساني بديهي، أخص ما يميز الإنسان. ولكن في اللحظة التي يقل فيها وعي الإنسان بوجوده ويغترب في العالم فإنه يشخص وجوده في وجود آخر متجاوزًا به عن وجوده المأساوي في وجود آخر أرحب عن طريق الخيال، تعويضًا عن وجوده الهش المتأزم، وجلبًا للطمأنينة والسلام حتى يعيش في وفاق مع نفسه وفي وئام مع العالم من خلال الوعي الزائف. فلا غرابة إذن أن نصارع من أجل الوجود، من أجل الاستقلال الوطني، وتحرير الأرض، والتنمية من أجل الاستقلال الاقتصادي، والحرية من أجل الاستقلال في الرأي والمؤسسات الديمقراطية. ولا غرابة أن تكبو محاولاتنا، فيُقضى على الاستقلال الوطني وننحو نحو التبعية، ويُحتَل مزيد من الأرض، ويتحول الاقتصاد الوطني إلى انفتاح اقتصادي تابع، وتُسن القوانين المقيدة للحريات، وتصبح المؤسسات لا وجود لها ولا استقلال، تابعة للحكام، مهمتها الموافقة والتأييد. فإذا كان الوجود الإنساني هو هذه الإمكانية للإيجاد، فإن وجود المبادئ والقيم وجود ممكن أيضًا يتحقق بالفعل من خلال النشاط فيصبح موجودًا بالفعل. ويتحول واجب الوجود من مجرد أمر اعتباري في «ميتافيزيقا الوجود» إلى وجود إنساني اجتماعي وتاريخي طالما وُجد الإنسان، فالحق قائم، وطالما وُجدت الجماعة، فالقيم قائمة، وطالما وُجد فعل الجماعة، فالتاريخ قائم. وإنها لمهمة الإنسان ومسئوليته إن شاء أن يسترد وجوده بعد أن أعاره لغيره في لحظة ضعف وهوان. وهذا ما يتفق مع أصل الوحي، فلفظ «الوجود» لم يرد فيه إلا في صيغة فعلية يشير إلى عملية «الإيجاد» وعلاقات الوجود الإنساني بالأشياء وبالطبيعة وبالأفراد والمجتمعات وبالتاريخ مركِّزًا على البعد الشعوري في الوجود الحامل للمعاني والمحقق للأفعال. الأشياء للاستعمال، والطبيعة للتسخير من خلال السيطرة على قوانينها الثابتة، والأفراد والأقوام والمجتمعات ميدان للصراع، والتراث للتجديد وليس للتقليد، والشعور محقق للأفعال، وحامل للمعاني، وباقٍ بالإرادة، ومستقل بالوعي، كل ذلك هو الإيجاد كفعل وليس الوجود كجوهر. ولم يصف «الله» نفسه في كلامه بأنه موجود كما فعل المتكلمون.٧٥
١  الاقتصاد، ص١٥–٢١؛ بحر الكلام، ص١٧؛ المحصل، ص١٠٨-١٠٩؛ غاية المرام، ص٢٣٩؛ أصول الدِّين، ص٦٨–٨٩؛ النظامية، ص١٦-١٧؛ شرح الأصول الخمسة، ص١٧٥–١٨١؛ المحيط، ص١٣٩–١٤٥؛ الحصون، ص١٠-١١؛ كفاية العوام، ص٢٦–٣٢.
٢  الدواني، ص٢٢٧–٢٤٦.
٣  العقيدة التوحيدية، ص٢-٣؛ طوالع الأنوار، ص١٥٥؛ المواقف، ص٢٦٦–٢٦٩؛ رسالة التوحيد، ص٣٠؛ المسائل، ص٢٣٠.
٤  طوالع الأنوار، ص١٥١-١٥٢.
٥  المواقف، ص٢٦٩.
٦  الاقتصاد، ص١٥.
٧  الإنصاف، ص٢٧.
٨  اللمع، ص١٧–١٩؛ المسائل، ص٣٤١-٣٤٢.
٩  الإنصاف، ص١٨.
١٠  الإنصاف، ص٢٣.
١١  بحر الكلام، ص٧.
١٢  أساس التقديس، ص٢.
١٣  المحصل، ص١٠٦–١١١.
١٤  الإنصاف، ص١٨، ص٢٣، ص٣٧-٣٨.
١٥  بحر الكلام، ص١٨-١٩.
١٦  الشامل، ص٦٠٩–٦١٧.
١٧  معالم أصول الدِّين، ص٣٦–٣٨؛ المحصل، ص١١٠-١١١.
١٨  النسفية، ص٦٣.
١٩  طوالع الأنوار، ص١٥٦.
٢٠  بحر الكلام، ص١٧؛ العضدية، ج١، ص٢٢٧.
٢١  المسائل، ص٣٤٥–٣٤٩.
٢٢  السنوسية، ص٢–٦؛ كفاية العوام، ص٢٦–٣٢؛ العقيدة التوحيدية، ص٧؛ الباجوري، ص٣. وأيضًا باقي كتب العقائد المتأخرة مثل الجوهرة، الخريدة، جامع زبد العقائد، وسيلة العبيد، الحصون، التحقيق التام، القطر.
٢٣  النظامية، ص٢٦؛ الإرشاد، ص٣٠-٣١؛ الاقتصاد، ص١٥–٢٠؛ معالم أصول الدِّين، ص٢١–٢٩.
٢٤  أساس التقديس، ص٤.
٢٥  الاقتصاد، ص١٥.
٢٦  شرح الأصول الخمسة، ص١٧٧–٢٧٩. وهذا هو دليل القاضي (الشامل، ص٦١١–٦١٧).
٢٧  شرح الأصول الخمسة، ص١٧٩-١٨٠؛ الشامل، ص٦١٥–٦١٧.
٢٨  أجمع العلماء على أنه موجود لذاته خلافًا لسليمان بن جرير الذي قال إنه موجود لمعنى يقوم به (أصول الدِّين، ص٨٨).
٢٩  الإرشاد، ص٣٠-٣١؛ العضدية، ج١، ص٢٢٧.
٣٠  الإرشاد، ص٣٠-٣١؛ السنوسية، ص٣-٤.
٣١  هذا هو موقف الأشعري، كفاية العوام، ص٢٦–٣٢. لما كان الوجود ليس صفة فتكون الصفات اثنتي عشرة صفة، خمسًا للذات، وسبعًا للصفات. (كفاية العوام، ص٦١). وعند ابن سينا أيضًا وجود الله عين حقيقته.
٣٢  عند أبي عبد الله البصري والبغداديين أنه الكائن الثابت. وذكر قاضي القضاة في حد الموجود أنه المختص بصفة تظهر عندها الصفات والأحكام.
٣٣  كفاية العوام، ص٥٩.
٣٤  عند أبي عبد الله البصري المعدوم هو المنتفي الذي ليس كائن ولا ثابت.
٣٥  الحصون، ص١٠-١١.
٣٦  التمهيد، ص٤٩.
٣٧  المحصل، ص١٦٩.
٣٨  المسائل، ص٣٤٥–٣٤٧.
٣٩  هذا هو قول الجبائي، مقالات، ج٢، ص١٨٢.
٤٠  هذا هو قول سليمان بن جرير الزيدي (أصول الدِّين، ص١٢٣).
٤١  الإرشاد، ص٣٠-٣١.
٤٢  هذا هو موقف هشام بن الحكم (مقالات، ج٢، ص١٨٢).
٤٣  هذا هو موقف عباد (مقالات، ج٢، ص١٨٢).
٤٤  المسائل، ص٣٤٧-٣٤٨.
٤٥  أصول الدِّين، ص٨٨؛ بحر الكلام، ص١٨؛ المسائل، ص٣٤٨-٣٤٩؛ مقالات، ج١، ص٢٣٨؛ ج٢، ص١٨٠.
٤٦  يرى الباقلاني أن الله شيء لا جسم، لأن الشيء لا يبين الجسم (التمهيد، ص١٤٨–١٥٢).
٤٧  يعتمد الأشاعرة على بعض الآيات القرآنية، مثل: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ اعتمادًا على أن الأصل في الكلام دخول المستثنى تحت المستثنى منه، وتكون العلاقة علاقة عام بخاص. وقد دفع ذلك الباقلاني إلى اعتبار التسمية شرعية (التمهيد، ص١٤٨–١٥٢؛ بحر الكلام، ص١٨). والحقيقة أن لفظ «شيء» أهم من هذا بكثير، فقد ذُكِر في القرآن ٢٨٣ مرة، منها ٢٠٢ في حالة الرفع والجر ومخصوصة لله، ومنها ٧٧ مرة في حالة النصب مخصوصة للإنسان، ومنها ٤ مرات في حالة الإضافة «أشياءهم» خاصة بالمجتمع. وأهم معاني اللفظ في استعمالاته لله هي أن الله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم. وتأتي معاني مشابهة مثل رقيب وشهيد ومحيط وحفيظ وحسيب ووكيل ومريد ومقيت، بيده ملكوت كل شيء، خلق كل شيء، رب كل شيء، آتى كل شيء، قدر كل شيء. فالاستعمالات تشير أساسًا إلى العلم والقدرة ثم إلى باقي الصفات. وثلاثة أرباع الاستعمالات (حوالي ١٤٢ مرة) تشير إلى الله وصفاته، والربع الأخير إلى أفعاله، خاصةً إنزال الوحي والرزق والضرر والنفع وباقي أفعال الإنسان. أمَّا لفظ «شيئًا» في حالة النصب، فإنه يشير إلى الشيء في علاقته بالإنسان من حيث إنه يقول ويعلم، ويحب ويكره، ويخفي ويبدي، ويضر وينفع، ويأخذ وينقص، ويشاء ويسلب، ويأتي ويجيء، ويسأل ويدعو، ويظلم ويبخس. ولكن أكثر الاستعمالات شيوعًا في أن الشيء لا يغني عن شيء آخر، وفي الضرر والنفع، والظلم والبخس أي في سلوك الإنسان. أمَّا الاستعمال الثالث في صيغة «أشياءهم» فإنها تشير إلى العلاقات الاجتماعية: وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ.
٤٨  وهي المعاني المعروفة من الكلمات الألمانية: Sein, Wesen, Grund.
٤٩  مقالات، ج١، ص١٣٧-١٣٨. يتفق بعض جمهور الزيدية مع الأشاعرة في أن الباري شيء.
٥٠  بحر الكلام، ص١٨.
٥١  هذا هو رأي فريق من المشبهة (مقالات، ج١، ص١٨٠-١٨١).
٥٢  هذا هو رأي فريق آخر من المشبهة (مقالات، ج١، ص١٨٠-١٨١).
٥٣  هذا هو رأي الخياط (مقالات، ج١، ص١٨٠-١٨١).
٥٤  هذا هو رأي الصالحي (مقالات، ج١، ص١٨٠-١٨١).
٥٥  هذا هو رأي عباد بن سليمان (مقالات، ج١، ص١٨٠-١٨١).
٥٦  هذا هو رأي الجبائي (مقالات، ج١، ص١٨٠-١٨١، ص١٨٧).
٥٧  هذا هو رأي هشام بن الحكم (مقالات، ج٢، ص١٨٧).
٥٨  هذا هو رأي فريق من المشبهة (مقالات، ج٢، ص١٨٧). وكذلك رأي أكثر أهل الصلاة (مقالات، ج٢، ص٢٠٨).
٥٩  هذا هو رأي فريق ثالث من المشبهة (مقالات، ج٢، ص١٨٧).
٦٠  هذا هو قول عباد (مقالات، ج١، ص٢٣٨-٢٣٩؛ مقالات، ج١، ص٢٤٩).
٦١  هذا هو قول الجبائي (مقالات، ج١، ص٢٣٨-٢٣٩).
٦٢  هذا هو قول الحلقاني (مقالات، ج١، ص٢٣٨-٢٣٩).
٦٣  مقالات، ج١، ص٢٣٨-٢٣٩.
٦٤  مقالات، ج١، ص٢٦٦. وعند هشام المعتزلي الله ليس شيئًا ولكنه منشئ الأشياء (التنبيه والرد، ص٤١).
٦٥  الفقه الأكبر، ص١٨٥؛ الانتصار، ص٥؛ الإنصاف، ص١٨، ص٢٣. الله ليس له طول ولا عرض ولا عمق (مقالات، ج١، ص٢١٦، ص٢٣٨؛ ج٢، ص٢٣٨).
٦٦  مقالات، ج١، ص١٠٥.
٦٧  عند ابن كلاب أن الله شيء لا بمعنى كان شيئًا (مقالات، ج١، ص٢٣٠؛ مقالات، ج١، ص٢٣٨؛ مقالات، ج٢، ص١٨٠).
٦٨  هذا هو موقف عباد (مقالات، ج٢، ص١٨٣).
٦٩  الدواني، ص٢٤٦–٢٧٧.
٧٠  عند الجهمية الله لا شيئًا، ما من شيء، لا في شيء، لا يقع عليه صفة شيء، ولا معرفة شيء، ولا توهم شيء. لا يُعرَف الله إلا بالتخمين، ومِنْ ثَمَّ فيُسَمَّى الألوهية، ولا يوصف بصفة يقع عليه الألوهية، ولم يُطلَق على الله اسم الموجود أو الشيء (التنبيه والرد، ص٩٦-٩٧؛ اعتقادات، ص٦٨).
٧١  هذا هو موقف الأشاعرة غير الإمام الأشعري (كفاية العوام، ص٢٦–٣٢)؛ انظر أيضًا الفصل الرابع: نظرية الوجود، الحال.
٧٢  انظر الفصل السادس: الوعي المتعين أو الصفات.
٧٣  وهو معنى البيت المشهور:
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء
٧٤  المسائل، ص٣٤٨.
٧٥  ذُكر لفظ وُجد ومشتقاته الفعلية في القرآن ١٠٥ مرة، كلها أفعال باستثناء مرة واحدة اسمًا، وليس فيها ما يدل على وصف الله بالوجود. والأفعال في كل الأزمنة، المضارع والماضي والمستقبل، وفي كل الأشخاص، ومتصلة بضمائر الملكية فردًا وجمعًا، وكلها تدل على أن الذي يجد هو الإنسان، وأن اللفظ صفة فعل للإنسان وليس وصف وجود لله. فيجد الإنسان الرزق والمتاع والبضاعة والماء، كما يجد الركوب والراحلة والأشياء. وقد لا يجد مما يدل على أن الإيجاد عملية ممكنة وأن الوجود هو مشروع إيجاد. وقد يجد الإنسان مظاهر الطبيعة كالشمس والسماء والريح والأرض والشهاب، ولكن أهم ما فيها هي قوانينها وسنتها المطردة الثابتة وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا (٣٥: ٤٣)، وهو الاستعمال الأكثر شيوعًا في نطاق الطبيعة. ولكن يستعمل اللفظ أيضًا في العلاقات الاجتماعية عندما يجد الإنسان رجلًا أو امرأة أو رجلين أو امرأتين أو قومًا. وتُحدد العلاقات الاجتماعية بالصراع، فهناك أشد الناس عداوة، وأقرب الناس مودة، وهناك دعوة للقتال ودعوة إلى بيت المسلمين. ويستعمل اللفظ كذلك للإنسان كشعور فردي يجد أفعاله وما يتفق وجهده وعزيمته والذي يتحدد بالغلظة أو اللين وحتى نكاحه، ويظهر فيها البعد الشعوري دالًّا على أن الوجود هو تجربة وجود، مثل: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٤: ٦٥)، وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا (٥٩: ٩)، أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ (٦٥: ٦)، وهي المرة الوحيدة التي استُعمل فيها اللفظ اسمًا «وجدكم» وليس «وجدًا» كما يقول الصوفية، بل واسم مضاف إلى ضمير ملكية جمع مما يوحي باتجاه الشعور نحو الجماعة. ويُستعمل اللفظ أيضًا لرفض التقليد وتبعية التراث القديم، وهو أكثر الاستعمالات شيوعًا (حوالي ٩ مرات)، مثل: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٤٣: ٢٣). وقد يجد الإنسان معاني وليس فقط أشياء، يجد وعدًا ووحيًا كما يجد «الله» مرتين: لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (٤: ٦٤)، يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا (٤: ١١٠). بل إن استعمال الأشياء استعمال شعوري مثل: أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (٢٠: ١٠)، أو إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ (١٢: ٩٤)، مثل «خريف الغضب». وكما يجد الشعور استقلاله وسنده وسبيله ووكيله ونصيره ومرشده وملجأه في بنيته واستقلاله وتحقيق ذاته من خلال إطلاق المعنى وشموله وجهد الإنسان وعمله ودخوله في ميادين الصراع الاجتماعي طبق حركة التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤