Wave Image
الفصل الأول

أمين الخولي يتبنى المناهج الجديدة

انطلقت محاولات إحياء وإصلاح وتجديد تستحق الدراسة في عالَم الإسلام من معاهد التعليم الديني والحواضر والحوزات المتخصصة في تدريس علوم الدين، واحتضنتْها وانخرطت في نقاشاتها ومعاركها. ففي مصر احتضن الأزهر الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، والشيخ محمد عبده، والشيخ مصطفى عبد الرازق، والشيخ علي عبد الرازق، والشيخ محمد عبد الله دراز، والشيخ أمين الخولي، والشيخ خالد محمد خالد، وغيرهم. وفي تونس احتضنت الزيتونة الشيخ عبد العزيز الثعالبي، والشيخ الطاهر الحداد، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وولدَه الشيخ محمد الفاضل بن عاشور، وغيرهم. وفي النجف احتضنت الحوزة السيد محسن الأمين، والسيد هبة الدين الشهرستاني، والشيخ محمد جواد البلاغي، والشيخ محمد رضا المظفر، والسيد محمد تقي الحكيم، والسيد محمد باقر الصدر، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، والسيد محمد حسين فضل الله، وغيرهم. وكان غيرُ واحدٍ من هؤلاء الأعلام عنوانًا للضجة في عصره، بعد طرحه لآراء وأسئلة غير مكررة، تتجاوز ما هو مألوف. كانوا يختلفون في كيفيةِ ونوع الأسئلة التي يطرحونها ومَدَياتِها وعمقها، وفي بيان آرائهم تبعًا للاختلاف في مواهبِهم وسياقات تكوينهم التراثي والحديث.

يتفق هؤلاء في خروجِهم على خطاب تبجيل وتمجيد كل شيء في التراث، وفي سعيهم لاستيعاب شيء من عناصره استيعابًا نقديًّا، والجرأة في نقد بعض المقولات والآراء في التراث، وعملهم على البحث عن آفاق لقراءة النص وتفسيرِه في سياق الواقع ومعطياتِه واستفهاماته، ومحاولتِهم الكشف عن شيء مما هو نسبي وتاريخي في ميراث المتكلمين والفقهاء.

غير أن معظم هذه المحاولات على الرغم من جرأتها وأهميتها، لم تغادر المناهج التقليدية الموروثة؛ إذ كان أصحابُها ينطلقون من مناهج ومفاهيم وأدوات التراث نفسه في فهمه ونقده، وقلما حاول بعضُهم توظيف مناهج ومفاهيم وأدوات جديدة من الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة في فهم الدين ونقد التراث. لذلك لم تتبصر هذه المحاولات الأنساق المضمرة في التراث، وما هو مستترٌ من نظم إنتاج المعنى الكامنة فيه، وكيف تسهم طبقاتُه التحتية في توليد المعنى وتكراره عبر العصور المختلفة، ولم تُنقب في البنية العميقة للتراث عن كل ما يعمل على إعادة إنتاج الآراء والمفاهيم والأسئلة ذاتها. لذلك لبثت هذه المحاولات في مدارات التطلعات والطموحات والأحلام، ولم تبتعد كثيرًا عن إثارة بعض التأويلات والتفسيرات والشروح الجزئية للنصوص، التي تسعى لاستخلاص آراء وفتاوى لوقائع جزئية تنفتح على ما يفرضه الواقع على المسلم.

ولد الشيخ أمين الخولي في ١ مايو ١٨٩٥م بمحافظة المنوفية بمصر، وتوفي في ٩ مارس ١٩٦٦م. حفظ القرآن وهو في العاشرة من عمره. وتخرج في مدرسة القضاء الشرعي. أصبح مدرسًا في مدرسة القضاء الشرعي في ١٠ مايو عام ١٩٢٠م. في ١٩٢٣م، عُين إمامًا للسفارة المصرية في روما، ثم نُقل إلى مفوضية مصر في برلين عام ١٩٢٦م. عاد عام ١٩٢٧م إلى وظيفته في القضاء الشرعي. انتقل إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب ١٩٢٨م. وأسس جماعة الأمناء عام ١٩٤٤م، ومجلة الأدب عام ١٩٥٦م. وأصبح عضوًا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام ١٩٦٦م. وكتب الخولي مقالات متنوعة في الصحف والمجلات، وألف مجموعةً من الكتب، من أهمها: «من هدي القرآن في أموالهم: مثالية لا مذهبية»، و«فن القول»، و«الجندية والسلم: واقع ومثال»، و«دراسات إسلامية»، و«مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب»، و«المجددون في الإسلام»، و«كتاب الخير: دراسة موسعة للفلسفة الأدبية مطبقة على الحياة الشرقية والتفكير الإسلامي».

ومع أن الشيخ أمين الخولي لم يدرس في الأزهر، بل تعلم في مدرسة القضاء الشرعي، لكنه درس في الأزهر. وكانت محاضراتُه أولَ ما يُدرس من الفلسفة رسميًّا في العهد الجديد للأزهر؛ فهو بعد عودته من ألمانيا عام ١٩٢٧م، انتُدب للتدريس في الأزهر، فألقى محاضراتٍ على طلاب كلية أصول الدين في التاريخ العام لفلسفة الأخلاق، أو كما أسماها هو «الفلسفة الأدبية».١ اهتم بتجديد البلاغة وأساليب البيان العربي، ودعا إلى تحريرها من حمولة الفلسفة والمنطق الصوري، واصطلح عليها «فن القول». كان هاجسُه ربط أساليب البيان والتعبير بالحياة، وتكريس الذوق الفني، والانفتاح على مكاسب العلوم والمعارف الحديثة، والكشف عن الأبعاد النفسية للبلاغة. ودشن أفقًا آخر في بيان أساليب تفسير النصوص، وما يشوبها من ملابسات الذات والزمان والمكان والبيئة.

كان الشيخ الخولي أول رجل دينٍ مسلم حاول العبور من المناهج والمفاهيم والأدوات التراثية في فهم الدين ونصوصه، إلى استعمال مناهج ومفاهيم وأدوات جديدة، وتوظيفها في بناء فهمٍ بديل ونقدِ الفهم القديم، وتميز بخبرة رصينة، وشجاعة كبيرة في توظيفها.

التكوين الديني للشيخ أمين الخولي تقليدي. المقررات التعليمية في مدرسة القضاء الشرعي يدرس التلميذ فيها معارف الدين: كالتوحيد، والفقه، والتفسير، والحديث، مضافًا إلى: الجبر، والهندسة، وعلم الهيئة، ومبادئ الفلك، والطبيعة، والكيمياء، التاريخ، والجغرافيا، وأصول القانون، وشرح لائحة المحاكم الشرعية، ونظام المرافعات.٢ ونظرًا لتفوق أمين الخولي تم تعيينه مدرسًا في مدرسة القضاء الشرعي سنة ١٩٢٠م.
وعندما «صدر المرسوم الملكي في ٧ نوفمبر ١٩٢٣م بتعيين أئمة للسفارات الأربع المصرية في: لندن، وباريس، وواشنطن، وروما، كانت الأخيرة مكان عمل أمين الخولي، فأبحر إليها من الإسكندرية، وبقي في إيطاليا عامَيْن، وأجاد الإيطالية، وشرع يتعرف على الحياة الدينية والثقافية وجهود المستشرقين في أوروبا، كما عمل في مفوضية مصر في برلين عام ١٩٢٦م، وتعلم اللغة الألمانية. لما ألغيت وظيفة الأئمة من السفارات والمفوضيات المصرية عام ١٩٢٧م عاد إلى مصر، واستأنف عمله في مدرسة القضاء الشرعي ثم في كلية الآداب بالجامعة المصرية مدرسًا، ثم أستاذًا مساعدًا، وأستاذًا لكرسي الأدب في عام ١٩٤٣م.»٣
اكتشف مدة إقامته في إيطاليا الأساليب الجديدة في التربية والتعليم في أوروبا، وتعرف عن قرب على نمط التعليم الديني في الفاتيكان، الذي جعله يدرك ضرورة إصلاح نظام التعليم الديني القديم في الأزهر. أشار هو إلى ذلك بقوله: «قصدت إلى دراسة الخطط والأساليب التي تُتبع في الدراسات اللاهوتية، كما نظرت فيما حولي من الدولة الدينية (الفاتيكان) القائمة في عاصمة الدولة المدنية (إيطاليا)، وخلال تتبع لهذه الدراسة اللاهوتية في أقطار أوروبا التي عشت فيها بعد ذلك، كألمانيا، أو أقطار زرتها مجرد زيارة، وعمدت بعد الدراسة والتفكير للكتابة عن قضية الأزهر وإصلاحه.»٤ كتب بيانَه لتحديث الأزهر، الموسوم ﺑ «رسالة الأزهر في القرن العشرين». ونشر الأزهر عام ١٩٣٦م هذه الرسالة، ثم تكررت طبعاتُها لاحقًا، بعد أن نفدت الطبعة الأولى سريعًا.٥ في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي عاد الخولي مرةً أخرى يدعو لإصلاح الأزهر وتحديث نظامه التعليمي، فنشر سلسلةَ مقالاتٍ في جريدة «المصري»، «وقد أفردت جريدة المصري حينذاك مساحةً لأمين الخولي على مدى ثلاثة أشهر، يشرح فيها رؤيتَه حول رسالة الأزهر الاجتماعية، ويبين العلاقة بين الدين والحياة، وإصلاح الدين نفسه بالحياة هو ما كان يتطلع إليه الخولي، الذي رأى أن يكون مادةً للتجديد الروحي والسمو الخلقي، ويكون أداة فعالة في الإصلاح الاجتماعي.»٦ غير أن الأزهر لم يصمت هذه المرة كما صمت في المرة الأولى، فأصدرت جبهة علماء الأزهر بيانًا ورد فيه: «اعتاد الأزهر الشريف أن يسمع من حين لآخر أفرادًا يحاولون أن ينالوا منه ومن رجاله، وكأنما خولت لهم أنفسهم أن تعلقهم بهذا الجبل الأشم يلقي في رُوع الناس أن لهم شأنًا، أو عندهم رأيًا، أو فيهم غيرة على حق، أو غضبًا للدين، أو حرصًا على صالح عام، ولكن هيهات، فهم كناطحٍ صخرةً يومًا ليُوهِنها.»٧ إلا أن الشيخ الخولي وجه لهم نقدًا صريحًا ذكر فيه: «إن قصدهم النفسي من هذا التوجيه ليس بارئًا، ولا خالصًا، من الغايات المدخولة؛ فسبيلهم إلى هذا التوجيه والبيان سبيل غير صادق، وتناولهم له غير مستقيم، كما أن سيادة روح التحكم في فضل الله ونعمه، والاستبداد بدين الله وهدايته واضح، فإذا أفتوا فقولهم هو رأي الإسلام، وإذا حكموا فحكمهم هو حكم الله، وإذا خالف عليهم إنسان فهو يحارب الله.»٨ لكن الأزهر لم يتوقف عن مساجلته، فردوا على نقده ببيان أيضًا، غير أنه لم يتراجع عن دعوته لإصلاح الأزهر.٩
تنبه الشيخ الخولي إلى ضرورة تبني نمط «تدين إنساني القلب، نبيل العاطفة، يؤدي إلى التعاون البشري، ولا يعوق الإخاء الإنساني. تدينٌ لا يعرف تلك السلطة الغاشمة التي ترهب العقل الطليق، وتفت في العزم الوثيق، وتفسد الذوق الرقيق، وتتحكم بجبروت لاهوتي في الحياة الدنيا، وتسد الطريق إلى الآخرة. تدينٌ لا يخلق تلك الطبقة التي تحتكر الدين، وتسد المسالك إلى الله، ولا يعترف بتلك الطبقة التي خلقتْها الظروف؛ لأنه لا رياسة في الإسلام، وكلهم قريب إلى الله سبحانه وتعالى.»١٠
لبث الشيخ الخولي كل حياته وفيًّا لتجديد الفكر الديني، الذي يعتقد أنه يقوم على تفاعل وتبادل الدين مع مختلف العلومِ والمعارف البشرية وتوظيفها في فهمه وتفسير نصوصه. يلخص لنا الخولي ذلك بقوله: «إن الدين في هذه الحياة لا مفر له من التفاعل والتبادل مع ما سواه من فهم وتنظيم لتلك الحياة، وأنه لن يُكتب لهذا الدين البقاء إلا على قدر ما فيه من قدرة على هذه المسايرة والمفاعلة والاستفادة، والانتفاع بما سواه من التفسيرات والتدبيرات الأخرى.»١١
١  الخولي، د. يمنى طريف، أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد، القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ٢٠١٢م، ص٢٨-٢٩.
٢  سعفان، كامل، أمين الخولي، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٨٣م، ص١٥.
٣  بدر، د. عزة، «أمين الخولي وتجديد الفكر الديني»، روز اليوسف، ٢٥ مايو ٢٠١٧م.
٤  سعفان، كامل، أمين الخولي، ص٦٥.
٥  طُبعت هذه الرسالة ثانيةً عام ١٩٦١م، ونشرتها دار الهنا في القاهرة.
٦  بدر، د. عزة، «أمين الخولي وتجديد الفكر الديني»، روز اليوسف، ٢٥ مايو ٢٠١٧م.
٧  سعفان، كامل، أمين الخولي، ص١٤٦.
٨  المرجع السابق، ص١٤٦-١٤٧.
٩  المرجع السابق، ص١٤٧.
١٠  بدر، د. عزة، «أمين الخولي وتجديد الفكر الديني»، روز اليوسف، ٢٥ مايو ٢٠١٧م.
١١  المرجع السابق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤