الفصل الثاني

فكرة التطور تستبد بالخولي

يميز الشيخ أمين الخولي بوضوح بين التجديد في مفهوم القدماء ومفهومه المختلف للتجديد؛ فالتجديد في مفهومهم هو ضرب من الإحياء لما كان مندرِسًا، والتذكر والاستئناف لما كان منسيًّا، بينما التجديد في مفهومه هو ضرب من التطور، وليس إحياءً لما هو مندرس، أو تذكرًا لما كان منسيًّا، أو استئنافًا للقديم وإحضاره كما هو. يرسم الخولي رؤيته هذه بقوله: «ومن وصف القدماء لعمل المجدد حينًا أنه إحياء ما اندرس، ومعنى هذا أن شيئًا من المعالم الدينية الاعتقادية أو العبادية، فرضًا أو سُنة، قد أُهمل ونُسي على مر الزمن، فيعمل المجدد على إعادة العناية به، والتزامه بالصورة القديمة الأولى التي كان عليها. وهذا الفهم المتبادر القريب من جملة كلامهم لا ينتهي إلى شيء من معنى التطور، الذي هو تغير الحياة أثناء سَيرها إلى مستقبلها، فإذا ما كان المجدد مُطورًا للحياة فمعنى ذلك أنه يُقدر تغيرَها في سَيرها إلى غدها، ويعمل على جعل الدين مُسايرًا لها في هذا السير، موائمًا لحاجتها فيه؛ فالتجديد الذي هو تطور ليس إعادة قديم كان، وإنما هو اهتداء إلى جديد، بعد أن لم يكن عن طريق الاجتهاد.»١ وبذلك تجاوز الشيخ أمين الخولي وجهة الإحياء والإصلاح التي بدأت مع الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي في القرن التاسع عشر، وتواصلت فيما بعد مع جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، ومن تلاهما؛ ممن تمحورت جهودُهم حول الدعوة لإحياء ماضي الأمة واستئناف أمجادِها، بالاعتماد على الأصول والمبادئ الموروثة في فهم الدين وتفسير نصوصه. استطاع الشيخ أمين الخولي أن يشتق نهْجًا يتلمس في ضوئه دربًا مغايرًا لما عرفناه من أصولٍ ومبادئ موروثةٍ في فهم الدين وتفسير نصوصه.
ظل الخولي مسكونًا بفكرة التطور، واستبدت به هذه الفكرة إلى الحد الذي استند فيه إليها بوصفها مرجعيةً لإعادة بناء المعارف الدينية، وآداب وعلوم اللغةِ العربية، فمع الخولي، وللمرة الأولى، يتصدع جدارُ الدرس اللغوي والبلاغي التقليدي، كما تنفتح الفلسفةُ الأخلاقية في التعليم الأزهري على أفقٍ جديد. لم يتردد الشيخ الخولي في الدفاع عن نظرية التطور الداروِنية في الأحياء، وأصر على منحها مشروعيةً، في ضوء ما يحاكيها ويقاربها من إشاراتٍ في «رسائل إخوان الصفا»،٢ وآثار ابن مسكويه، وابن سينا، وابن الطفيل، ممن ألمحوا أو صرحوا بتصنيف الموجودات في سُلمٍ تراتُبي، يحتل فيه الإنسان الذروة في تكامُله، فيما يليه الحيوانُ؛ فالنبات، إلى أدنى مرتبة وهو الجماد. شغف الخولي بالتجديد إلى الحد الذي كان برأيِه هو الثورة الكبرى في كل قرن؛ إذ يقول: «إن ذلك التجديد على رأس القرون هو ذلك العمل الثوري الكبير الذي تحتاجه الأُمة، كأنما هو ثورةٌ اجتماعية دورية.»٣
توسع الخولي في تطبيق فكرة التطور على علم الكلام والفقه واللغة، بل تعميمها لتشمل أبعاد الوجود البشري المعنوية والفكرية والاجتماعية والأخلاقية كافة. وأصر على أن التطور هو الناموس الشامل في الخَلق والحياة، وليس ناموسًا خاصًّا بعلم الأحياء فقط. يكتب الخولي: «صار كل باحث يتصدى لدرس شيء من ذلك إنما يتقدم إليه مسلمًا بعمل ناموس النشوء فيه، فيما مضى وفيما هو آتٍ، ولم يعد الباحثون يقبلون القول بظهور كائنٍ كامل الوجود دفعةً واحدةً، فكرةً كان أو لغةً أو فنًّا أو حضارة … إن ظهور الفكرة الجيدة يشبه في تطور الحي ظهور صفات جديدة في نوع من الأحياء تخالِف الصفَات القديمة، وقوة يقين أصحاب الفكرة الجديدة بصحتها وصلاحيتها تقابل درجة قوة الصفات الجديدة في الحي على البقاء. وإن صلاح البيئة الاجتماعية لحياة الفكرة الجديدة ومعاكستها لحياة الفكرة القديمة، تقابل حال البيئة الطبيعية بالنسبة لصفات الكائن الحي الجديدة. وإن قوة اقتناع أصحابِ الفكرة الجديدة بها، وترسيخهم لها، في أذهان الناس، تشبه قوة الحي على إفناء منافسه وإبادتِه. واقتناع الناس رويدًا بالفكرة الجديدة وانسلاخهم من الفكرة القديمة يشبه موت الأفراد الضعاف في التناحُر المادي. وإن تأصل الفكرة وثباتها في نفوس مقتنعيها يشبه تأصل صفات الحي الجديدة في نسله ورسوخها.»٤
تبدو حالة التفهم لقيمة معطيات العلوم والمعارف الحديثة واضحةً في توكؤ الخولي على نظرية التطور الدارونية، والاستناد إليها بوصفها مرجعيةً شاملة في تسويغ ضرورة تطوير اللغة وآدابها، وتجديد معارف وعلوم الدين. وهي سمة طبعت تفكيرَ بعض رجال الدين والمثقفين في ذلك العصر، ممن تعرفوا على العلوم الحديثة، واكتشفوا التقدم الغربي، واستند غير واحد منهم إلى نظرية التطور لتسويغ تجديد الفكر الديني. كما تمادى بعضُهم وأسرف في توظيف فرضيات ونظريات وقوانين العلم الجديدة في تفسير القرآن، مشددًا على التوأمة بين العلم والقرآن الكريم، إلى الحد الذي أضحى معه النص القرآني بمثابة كتاب لا مضمون له، ولا يكتسب مضمونَه إلا بإسقاط معطيات العلم الحديث ونظرياته واكتشافاته.٥
يتسع قانون التطور في منظار الخولي ليشمَل اللغة أيضًا، مثلما يشمل الظواهر الأخرى في الاجتماع البشري كافة. فهو يرفض المواقف اللاعقلانية في التعاطي مع العربية، بوصفها استثناءً بين لغات العالم؛ لذلك لم يقبل ما يقال عن: «فضل العربية … وكمال العربية … وانتهاء العربية إلى ما لا شيء بعده.»٦ شدد الخولي على أن العربية ليست استثناءً من اللغات البشرية، كل لغةٍ كائنٌ اجتماعي حي، يحيا ويتطور تبعًا لسُنن الحياة وتطورها، وأن اللغة بطبيعتِها أكثرُ حيويةً ومرونةً وإمكانات تجديدٍ من سواها؛ ففيها على الدوام كلماتٌ تموت وتندثر، وأخرى تتوالد، وتنحت، لتثري معجمَها، وتعزز رصيدَها التداولي. وذلك ما يوضحه الخولي بقوله: «فاللغة من أشد المظاهر الحيوية لينًا، وأقلها تصلبًا وتحجرًا، وأطوعها للتطور، وقدماؤنا يدركون هذا واضحًا، حين يتحدثون عن تهذيب اللغة وعواملِه، وحين يقررون أن الاستعمال يُحيي ويُميت، ويُقبح ويُحسن، وحين يصفون تداخُل اللغات، وما إلى ذلك من دلائل الشعور بتأثر اللغة بالحياة تأثرًا قويًّا.»٧

في لفتةٍ بالغة الدلالة تحدث الخولي عن مأزق الفصحى، والازدواج اللغوي بين الفصحى والعامية، وكيف أننا نتحدث بلغةٍ غير تلك التي نفكر ونكتب ونقرأ بها، فسعى للكشف عن الجذور التاريخية لذلك، وكيف أن المنهج الذي اعتمده المعجميون الأوائل في جمع اللغة تبنى لغة البدو في الصحراء العربية خاصة؛ إذ استبعدوا كل كلمة تدل على ما هو شائعٌ في المدينة والحواضر المعروفة؛ لذلك اغتنت العربية بكلمات البادية، وما يدل على الظواهر الطبيعية والحيوانات والنباتات والعادات والتقاليد والأدوات والأشياء والصور والحاجات السائدة في نمط الاجتماع القبلي، في حين افتقرت إلى ما هو معروفٌ ومتداوَل في المدن. وكأنه هنا يلمح الى أن العربية ما زالت مرآةً لحياة البداوة، وأنها مشبعةٌ بنمط ثقافتها، فرؤيتُها للعالم ضيقة الأفق، وإيقاعُ التحول والتغيير فيها بطيء، خلافًا للغة المدينة التي تغتني بالكثير من الألفاظ الدالة على ما يسود حياة الحواضر المدينية من أشياء وأفكار. من هنا ضاقت عربية القبائل البدوية في العصر العباسي عن استيعاب ما ساد الاجتماع الإسلامي من أشياء وأفكار لم تعرفها البادية من قبل، فعوضت ذلك بالاستيراد من غيرها، واشتقاق وتوليد ألفاظ جديدة.

التطور سُنةٌ شَامِلةٌ عند الخولي

لا يتردد الشيخ أمين الخولي في القول بأن «تطور العقائد ممكن، وهو اليوم واجب لحاجة الحياة إليه، وحاجة الدين إلى تقريره، حماية للتدين، وإثباتًا لصلاحيته للبقاء، واستطاعة مواءمة الحياة، مواءمة لا يتنافر فيها الإيمان مع نظر ولا عمل.»٨ في السياق نفسه يدعو الخولي إلى رؤية جديدة في التعاطي مع الغيبيات، والتحرر من نسبة كل شيء إليها، والاستغراق في تفاصيل عوالمها؛ لأن تكوين الأجيال الجديدة لا يهضم عقله العلمي هذا اللون من الكلام.
في موقف يخرج فيه على المشهور يشير الخولي إلى أن القصص تتحدث لغة التمْثيل وليس لغة التاريخ؛ إذ يكتب: «ما ينبغي أن تظل تلك الصور الساذجة من الحديث عن غيبيات لم يأمر الدين بشيء من التفصيل لها، وإطالة الحديث عنها، ولا أن نستمع إلى صنوفٍ من القصص الذي هو تمثيل لمعانٍ، وتقريب لحقائق لا تاريخًا ولا تسجيلًا؛ لأن ما فيه من الحديث المفصل يصدم حس هذه الأجيال، ويناوِئ تكوينَها العقلي بعلميتِه، وتكوينها الفني بدقتِه، كأن تقول لهم إن التصوير حرام، وإن أشد الناس عقابًا يوم القيامة المصورون، في حين تحتاج أنت إلى الاستفادة من التصوير ومجالاته الفنية في الإيضاح الديني اعتقاديًّا وعمليًّا، وهذا مثل قريب لوجوب تطور العقائد في عرضها في جوهرها وصميمها.»٩

يشدد الخولي على رفض أية قراءة لا تاريخية للتراث، وينظر إلى التراث بوصفه محكومًا بعوامل وظروف خاصة مولدة له، تتناسب مع ضرورات ومشروطيات زمانية مكانية تفرضها كل حقبة تاريخية، وعلى هذا فهو يتغير ويتطور مستجيبًا لما تمليه عليه تلك المشروطيات والضروراتُ.

ويحيل الخولي الخلاف بين المتكلمين، وتغير الأقوال وتنوعَها في مسائل: «الذات والصفات، والكلام الإلهي، والقضاء والقدر، والجبر والاختيار … وغير ذلك»، إلى التغير في البيئات والزمان والمكان، والتغير هو التطور، تبعًا لمفهومه.١٠ يرى أمين الخولي أن «ناموس التدرج والترقي في الكائنات جميعًا، المادي منها والمعنوي على السواء، مهمٌّ لدراسة التاريخ، فدارسُ التاريخ يطبق هذا الناموس على جميع صور الحياة الإنسانية، ومظاهرها، وأعمال الأفراد، والأمم جميعًا، وتغيرات حياتها السياسية والاقتصادية والعلمية والفنية، بل الاعتقادية يطرد جريانُها على هذا النظَام … ولا محل لإنكار أن مظاهر الحياة الإنسانية المختلفة تخضع لهذا الناموس التدريجي دائمًا: فتبدأ من أصل بسيط ساذج، لا يزال يتغير ويتدرج، وينافس في سبيل الظفر بالحياة، فيبقى منه الصالح لها، ويبيد غير الصالح، ثم يرتقي هذا الصالح، ويكتمل شيئًا فشيئًا حتى يعود مركبًا، بل معقد التركيب، بعد ما كان بسيطًا ساذجًا يسير الشأن.»١١ وهو بذلك يتخطى الدعوة لفتح باب الاجتهاد في الفقه، ويصر على ضرورة شمول الاجتهاد لكل علوم ومعارف الدين. ويشدد على أن «تطور العقائد واجبٌ» وأن ناموس التدرج والترقي يطرد جريانُه في الأمور الاعتقادية، يؤشر بوضوح إلى أنه قد تجاوز ما كان عليه سلَفه وأقرانُه من دُعاة الإصلاح في الأزهر.
أمين الخولي يبني رؤيته على أساس شمول قانون التطور لكل شيء في الحياة، ويتسع هذا القانون ليستوعب الأديانَ والعقائد، وكيفية تأثير البيئة المادية والمعنوية للإنسان في المعتقدات؛ ففي «الإسلام يبدو جليًّا الأخذُ التدريجي للناس في الاعتقاد … ومرور هذه العقيدة في أدوار انتقالية مترتب بعضها على بعض، تنتهي بها العقيدة إلى تركيبٍ بعد بساطة، وتعقد بعد سهولةٍ، بفعل تدرج الحياة، وانتقالها من البداوة المحصنة مثلًا إلى الحضارة، فالدراسة والتعلم؛ فالبحث والتعمق. ولعل أصدق مظهر لذلك ما سنراه في نشأة المذاهب الإسلامية الاعتقادية، وظهور المقالات الدينية، من تأثر ذلك تأثرًا جليًّا بانتقال الحياة الإسلامية في مدارج الحضارة، واتصال المُسلمين بتفكير الأمم الأخرى وبحثها، مما يتضح به فرق بين عقيدة السلف القصيرة الجلية المسلمة، وعقيدة الخلف المؤَولة المتعمقة.»١٢

ودعوتُه هذه من الدعوات المبكرة في دنيا الإسلام لبناءِ «عِلْم كلام جديد»، على وفق التسمية المتداوَلة اليوم؛ ذلك أن عِلْم الكلام الجديد ما هو إلا ضربٌ من الاجتهاد في تفسير وتسويغ الاعتقاد، طبقًا لما يتطلبه كل عصر، بنحو تتسع فيه وظيفة علم الكلام لتتجاوز حماية إيمان الناس، إلى صيانته من التوحش والتشدد والتحجر.

كأن الشيخ الخولي هنا يستعير مفهوم «التاريخية» من الفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة، ليطبقه على مجالاتِ التراث المتنوعة. إذ يحيل مفهوم «التاريخية» إلى أن أفكار كل بيئة تشبهها؛ ففي البيئة الخصبة عقليًّا تزدهر الأفكار العميقة الغنية المركبة، وفي البيئة الفقيرة عقليًّا تتفشى الأفكار المبسطة الفقيرة الهشة. تظل الأفكار على الدوام متماثلةً مع بيئتها، معاصرةً لها، ومشتقةً منها. في ضوء هذا الفهم لا يمكن امتداد الأفكار خارج سياقاتها الزمانية والمكانية الخاصة، وتأبيدُها للعصور كافة، على اختلاف أنماط الحياة، وتغير الزمان والمكان والبيئة.

وهو في كل ذلك يصر على ضرورة دراسة التراث والتبصر بمسالكه المتنوعة، بل يعتقد أن «أول التجديد قتلُ القديم فهمًا».١٣ وكأنه يلمح بعبارته إلى أولئك المراهقين ممن لا يكفون عن التبسيط، فيلبثون عند السطح في فهمهم للتراث، ولا يدركون مدياتِه المتشعبة، ولا يرون شِرَاكَه المتشابكة، فيظنون أن التجديد يتحقق فور نسيان القديم وتجاهله، بلا دراسةٍ ودرايةٍ بمجالاته ومشاغله ومقولاته. مثلما يشير إلى أولئك الذين يعكفون على حراسة التراث وتقديسِه، فينبه إلى أنه ما لم تتحول وظيفتُنا حيال التراث، من حارسٍ للتراث إلى دارس، فلا يمكننا الخروج من أنفاق الماضي، وأن نكون معاصرين لزماننا.
لعل اختيار الخولي لكلمة «قتل» تشي بأننا واقعون في شراك القديم شئنا أم أبَينا، وتلك الشراك لا تفتأ تتراكم باستمرار، فتحيطنا من كل جانب، ولا سبيل للإفلات منها من دون أن تتم غربلتُها. معنى القتل هنا ليس التدمير والإبادة، إنما هو اكتشاف العناصر الميتة في التراث، كي نتغلب على تسميمِها حياتَنا، وننجو من فتْكها بنا. القتل هنا كنايةٌ عن الوعي الدقيق بمدارات القديم، واستكشاف خرائطه، وتغلغُلِ أسئلتِه ومفاهيمه في عصرنا، وتعطيل عناصرِه المحنطة لحركتنا، وشلها لقدرتنا على النهوض وإدارة الحاضر واستبصار المستقبل. بوضوح لا لبس فيه، يفصح الخولي في موضع آخر عن مفهومه للتجديد، وأنه ليس بمعنى اجتثاث واستئصال القديم بأسره؛ إذ يفسره على أنه: «اهتداء إلى جديد كان بعد أن لم يكن، سواء أكان الاهتداء إلى هذا الجديد بطريق الأخذ من قديم كان موجودًا، أم بطريق الاجتهاد في استخراج هذا الجديد بعد أن لم يكن.»١٤ إنه لا يدعو إلى إهدار القديم والتفريط فيه، بل يريد:
  • أَولًا: تحيين ما هو قديم ببعث روح جديدةٍ فيه، بعد أن تحجر مما تراكم عليه من الماضي، وغرقه في سوء الفهم والأسئلة المبسطة والأحكام السابقة.
  • ثانيًا: الاجتهاد؛ بمعنى ابتكار وإبداع «الجديد بعد أن لم يكن». وهذا ما يمتاز به هو عن جماعةٍ من المصلحين في عصره، ممن ذهبوا إلى أن كل جديد إنما هو استئنافٌ وإعادةُ إحياءٍ للقديم، بخلع غطاءٍ جديد على مضمونٍ قديم، وتقديم القديم بأوعيةٍ جديدة، بوصف التراث مستودعا يستوعب كل ما ننشده في كل زمانٍ ومكان، على وفق ما شاع وذاع من قول: «ما ترك الأول للآخر شيئًا.»
  • ثالثًا: استيعاب وشمول التطور بوصفه «سنة شاملة في: الأصول والعقائد والعبادات والمعاملات». وهي دعوةٌ تتخطى أيضًا ما يدعو إليه الكثيرُ من الإصلاحيين، ليس فقط لأنها تستوعب العقائد بموازاة الفقه، بل لأنها لا تتوقف عند المعاملات خاصة في الفقه، التي شاع القول بأنها «إمضائية»،١٥ وإنما تشمل كذلك العبادات. وهو قول ربما ينفرد به الشيخ الخولي؛ ذلك أن المعروف أن أحكام العبادات توقيفية، لا تتغير أو تتبدل أو تتطور. لكن مع ذلك دعا الخولي إلى إعادة النظر في المؤلفات الفقهية والكلامية، وضرورة الإصغاء إلى صوت الواقع المتغير، والتحدث إليه باللغة التي يفهمها؛ لأن الواقع في تحولٍ متواصلٍ، والبشر تستجد في حياتهم أمورٌ لا تعرفها مدونة الفقه، وذلك ما أشار إليه بقوله: «إن الناس تحدث لهم باختلاف الزمان أمور ووقائع لم يرد لها ذكر في كتب الفقه القديمة، فهل نُوقف سَير العالم لأجل كتبهم؟ إن هذا لا يُستطاع، إنه جمود وموات يجعل العوام ينصرفون عن دينهم الذي لا يجاري وقائع حياتهم.»١٦ في نقاشه مع شيخ الأزهر١٧ رفض الشيخ الخولي انحصارَ التطور ببعض أحكام العبادات، فذهب إلى أن «التغير والتطور سنة شاملةٌ في الأصول: العقائد والعبادات والمعاملات، وفي هاتين الأخيرتين شريعة الإسلام هي انتخاب ما نراه أيسر عملًا وأصلح للبقاء.»١٨
لذلك نراه لا يتردد في الدعوة إلى تطوير أحكام العبادات بما يتناغم مع متغيرات الواقع، فيثير مسائلَ تتصل بتيسير أداء الصلاة عبر الإفادة من الوسائل الحديثة، إذ يقول: «وماذا يكون الرأي في حكم الاقتداء بالأجهزة المتطورة التي تُذاع بها الصلوات الجامعة من جمعة وعيد، وفيها واسطة حاضرة مشهودة كالتليفزيون، يرى فيه المُصلي من حال الإمام وحركاته ويسمع من صوته، ووعظه ما لا يستطيع أن يراه إلا بكل صعوبة في مسجد حيه الصغير أو الكبير المزدحم.»١٩ وأحكام المعاملات عند الشيخ الخولي تدور مدارَ المصلحة؛ ذلك أن: «الأمر في المعاملات على كل حال ليس إلا أمر مصلحة واقعة حيث وُجدت فثم حكم الله كما يقولون بصريح اللفظ، وتطور عرض العقائد والعبادات والمعاملات يهدف إلى ألا يبدو الجو الديني في صور منعزلةٍ عن الحياة.»٢٠

وعلى الرغم من أن الخولي لم يشرح لنا بالشكل الكافي مبررات موقفه، والمنهج الذي تبتني عليه دعوتُه هذه، وربما لم يسعفْه العمر لبيان تطبيقاتها في مختلف أبواب العبادات، لكن تظل الدعوة لتطور العبادات غريبةً على تفكير المصلحين وقتئذٍ. ولا أظنه يعني أكثر من فتاوى تيسير وتسهيل أداء الفرائض العبادية، وتوسيع مفهوم «نفي العسر والحرج» واللجوء لمصاديق «العناوين الثانوية»، ليستوعب حالاتٍ ومواقف لم تكن تُصنف من مصاديق العسر والحرج أو العناوين الثانوية لدى الفقهاء قبل ذلك.

يعرف الخبير بأصول الفقه وقواعد الاستنباط أن مثل هذه الدعوات تظل أقرب للشعارات العامة، ما لم تتوغل في البنية التحتية العميقة للاستنباط الفقهي، وتعيد بناء ما ترتكز عليه، من أصولٍ للفقه وقواعد لاستنباط الأحكام الفقهية، بنحوٍ يسمح ببناء أصولٍ وقواعد جديدةٍ تمنح المستنبِط إمكانيةَ إنتاج فتاوى بديلة تواكب إيقاع حياة المسلم المتغيرة بتغير الزمان والمكان.

١  الخولي، أمين، المجددون في الإسلام، ص٤٥.
٢  وردت في الرسالة الثامنة من الجسمانيات الطبيعية في رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء إشارات لنظرية التطور. بيروت، دار صادر، ١٩٥٧م، ج٢، ص١٧٨ وما بعدها.
٣  الخولي، أمين، المجددون في الإسلام، ص١٧.
٤  الخولي، أمين، كتاب الخير، ص٥٧، ٦٦.
٥  أسرف في تطبيق هذا المنهج الشيخ طنطاوي جوهري (١٨٧٠–١٩٤٠م) في تفسيره: الجواهر في تفسير القرآن الكريم، كما تحدثنا عن ذلك في الفصل الرابع من كتابنا هذا.
٦  الخولي، د. يمنى طريف، أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد، ص٤٢، عن: د. حامد شعبان، أمين الخولي والبحث اللغوي، ص١٦.
٧  الخولي، أمين، مناهج تجديد، ص١٧.
٨  الخولي، أمين، المجددون في الإسلام، ص٥٢.
٩  المرجع السابق، ص٦٣-٦٤.
١٠  المرجع السابق، ص٥٤-٥٥.
١١  الخولي، أمين، تاريخ المِلل والنحَل، دراسة وتقديم: د. أحمد محمد سالم، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، ٢٠٠٥م، ج١، ص٤٨؛ ما خلا دراسة وتقديم د. أحمد محمد سالم، فهذه الطبعة مصورة على طبعة كلية أصول الدين في الجامعة الأزهرية، ١٩٣٥م.
١٢  المرجع السابق، ص٤٩.
١٣  الخولي، أمين، تعقيب على مقالة «التفسير» في: دائرة المعارف الإسلامية، ص٢٣٣٦.
١٤  الخولي، أمين، المجددون في الإسلام، ص٣٢–٣٣.
١٥  الأحكام الإمضائية: ما أسسها العقلاء وأمضاها الشارعُ؛ أي إن المُعاملات تشريعاتٌ كانت متعارفةً لتنظيم المجتمع العربي في الجزيرة عصر البعثة، فأمضاها الإسلام وأقرها، مع حذف وتهذيب وإعادة بناء شيء منها.
١٦  يُمنى طريف الخولي، قراءة في كتاب الخير: التطوير والتجديد في الفكر الديني، دار الكتب والوثائق القومية، ١٩٩٦م، ص٤.
١٧  مناهج تجديد، ص٤٦، عن: جريدة الأهرام ٢٧ رمضان ١٣٨٤ﻫ.
١٨  المرجع السابق، ص٤٦.
١٩  المجددون في الإسلام، ص٦٢.
٢٠  المجددون في الإسلام، ص٦٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤