الفصل الثالث

تدريس علم الأديان في الأزهر

يعود الفضل للشيخ أمين الخولي في تدشين تدريس علم الأديان في الأزهر؛ ففي سنة ١٩٣٥م بدأ الخولي بتدريس «تاريخ المِلل والنحَل» في كلية أصول الدين في الأزهر، وتركز بحثُه على تعليم تلامذتِه كيفية دراسة الأديان وتاريخِها على وَفْق مناهج البحثِ العلمي الحديث، وعدم التوقف عند الأخبار والمرويات القديمة الواردة في دراستِها؛ لأن الآفاق الجديدة للبحث العلمي تسعى لاكتشاف تاريخ للدين خارج المسار الذي ترويه مؤلفات المِلل والنحَل المعروفة في التراث. لذلك نبه أمين الخولي تلامذتَه إلى ضرورةِ توظيف المُعطيات العلمية الحديثة في دراسة نشأة الدين، وبيان ماهيته، واكتشاف التنَاغُم بين الدين ونمط عيش وظروفِ وثقافة المجتمع الذي ظهر فيه، وكيف يتحقق الدين في حياة الفرد والمجتمع، عبر التفاعل والتأثير المتبادَل بينه ومختلف المُعطيَات المادية والمعنوية في بيئة نشأتِه، وكيف يؤثر الدين في المجتمعات وتؤثر هي فيه، وكيف ترسم أنماط عيشِ وظروف وثقافات المجتمعات التي تعتنقه مآلاتِه. في بيانه لمنهجه هذا يكتب أمين الخولي: «إن دراسة تاريخ الأديان تحتاج إلى مصادر أوسع وأكثر من الرواية المنقولة والخبر المسرود، وتعتمد على تلك المصادر المادية والمعنوية اعتماد غيرها من فروع التاريخ. بل قد ينفسح لها المجال في بعض المصادر بأبعد وأوسع مما ينفسح لغيرها، لاتصَال الشعور الديني بالحياة البشرية في مختلف أدوارها، وتأثيره على صوَرها المختلفة، من: فنيةٍ، وعلميةٍ، وعمليةٍ، فلا بد من الرجوع إلى ما يمكن أن يوجد من تلك المصادر الصامتة، وكشفها الأكثر صدقًا، ولا بد من الحرص على تتبعها حيث كانت، واستخراجها تحقيقًا للدرس الصحيح.»١
لم يتردد الشيخ أمين الخولي عن إعلان منهجِه الذي ينسج على منوال المنهج العلمي الجديد في دراسة الدين، واكتشاف نشأتِه ومسيرته عبر التاريخ في ضوء ما يسميه: «الطريقة التجريبية في درس التاريخ»؛ لأنه: «في العصور الحديثة تغير ذلك الاتجاه كل التغير، وصارت الرواية آخر ما يلجأ إليه، وأصعب ما يُعتمد عليه، لاتهامها واعتوار الضعف نواحيها، وبذلت جهود جديرة بالإكبار في استجواب الآثار، واستفسار الأنقاض والأحجار، فحُلتْ طلاسم اللغات القديمة التي ظلت في نظر القدماء رقًى وتعاويذ … فكان للدراسة التاريخية — على تعدد مناحيها — مصادر تجريبية، أو تكاد تحدث عن واقع محسوس لا يُعصم عن الخطأ، لكنه يسلم من تلاعب الأهواء وتصرف الألسنة وتدليس الذمم.»٢

محاولة أمين الخولي الرائدة في توطين علم الأديان في الأزهر لم تترسخ ولم تأخذ نصابَها الذي تستحقه في إعادة بناء التعليم الديني؛ لأن مثل هذه المحاولات كانت وما زالت فردية، وظلت حتى اليوم تعبر عن موقفٍ يعرف جيدًا لغة العصر ومناهجَه العلمية، إلا أنه غريب على مضمون المقررات التراثية القديمة، ويعجز عن اختراق بنيتها المغلقَة. وجاء تمدد التيار السلفي واكتساحُه لمؤسسات التعليم الديني ليقضي على كل المحاولات الجادة لإعادة بناء هذا التعليم في عالَم الإسلام ويجهضها في مهدها.

ما زال الأزهر وغيره من مدارس العلم التقليدية في عالَم الإسلام تتردد فيها من حين لآخر دعواتٌ لتجديد النظام التعليمي، غير أن مقرراتها التعليمية ما زالت تدور في حلقة مفرغة لا تبدأ إلا حيث تنتهي ولا تنتهي إلا حيث تبدأ، وكأنها تعوض إخفاقَها العملي بالكلام، وهو كلام يلح على تجديد مقررات التعليم الديني، يقوله السياسيون ويكتبه وعاظُهم باستمرار، ولم يهتم السياسيون بذلك إلا بعد أن أضحت السلفية تهدد وجودَهم. إلا أن هذه الدعوات لم تنتج إلا محاولات شكلية ترقيعية، تمكث عند السطح، وتفشل في التوغل داخل البنية العميقة للتعليمِ الديني كي تعيد تشكيلَها. وتعود أسباب فشل هذه الدعوات إلى أنها لم تدرك بعد أن كل عملية إعادة بناءٍ جادةٍ تتطلب وعيًا بالعصر واستيعابًا لمنطق علومِه وإتقانًا للغةِ معارفِه، وقدرةً على توظيفِها في دراسة الدين وقراءة نصوصِه في ضوء احتياجات عقل وروح وقلب المُسلم اليوم، والإفادة منها في غربلة التراث ونخل رُكامه الواسع وتفكيك مكوناته وتمحيصها.

١  الخولي، أمين، تاريخ المِلل والنحَل، ج١، ص٤٢.
٢  المرجع السابق، ص٤١-٤٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤