Wave Image
الفصل الرابع

التفسير الأدبي للقرآن عند الخولي

كان مدخل الشيخ أمين الخولي لتجديد مناهج تفسير القرآن توظيفَ المناهج الحديثة في تفسير ونقد النصوص الأدبية، وتعميمَها لتشمل النص القرآني؛ لذلك دعا إلى ما أسماه: «التفسير الأدبي للقرآن»،١ مستندًا في تسويغ دعوته إلى هذا النوع من التفسير إلى أن أسلوب تعاطِي العرب مع هذا النص كان أدبيًّا، «لأن العربي القُح، أو مَن ربطته بالعربية تلك الروابط، يقرأ هذا الكتاب الجليل، ويدرسه درسًا أدبيًّا، كما تدرس الأممُ المختلفة عيون آداب اللغات المختلفة، وتلك الدراسة الأدبية، لأثر عظيمٍ كهذا القرآن، هي ما يجب أن يقوم به الدارسون أولًا، وفاءً بحق هذا الكتاب. ولو لم يقصدوا الاهتداء به، أو الانتفاع مما حوى وشمل. فالقرآن كتاب الفن العربي الأقدس، سواء نظر إليه الناظر على أنه كذلك للدين أم لا.»٢ يشرح الشيخ الخولي طريقتَه في التفسير الأدبي قائلًا: «إن التفسير اليوم — فيما أفهمه — هو الدراسة الأدبية، الصحيحة المنهج، الكاملة المناحي، المتسقة التوزيع، والمقصد الأول للتفسير اليوم أدبي محضٌ صرف، غير متأثر بأي اعتبار، وراء ذلك … وعليه يتوقف تحقق كل غرضٍ آخر يقصِد إليه. هذه هي نظرتنا إلى التفسير اليوم وهذا غرضنا مِنْه.»٣ «وهذا التفسير الأدبي عندي هو الذي يجب أنْ يتقدم كل مُحاولةٍ لمعرفة شَيءٍ من فِقْه القُرآن، أو أخلاق القرآن، أو عبارات الإسلام ومعاملاته في القرآن.»٤ تبتني طريقة «التفسير الأدبي للقرآن» على تفسير الآيات في سياق موضوعات القرآن، وليس تفسيرَها على وفق ترتيبها في سور القرآن، «فصواب الرأي — فيما يبدو — أن يفسَّر القرآن موضوعًا موضوعًا، لا أن يفسر على ترتيبه في المصحف الكريم سورًا أو قطعًا.»٥ إذ يصنف المفسر الآيات تبعًا لموضوعاتها، ويتعرف على مناسبات نزولها، والسياق الذي وردت فيه، والدلالات الحافة بها؛ بغية اكتشاف وحدتِها العضوية، والمنطقِ الداخلي الذي تنتظم فيه، وشبكة الدلالات المنبثة فيها، وما يمكن أن تولده من مفاهيم ومعانٍ مشتركة، تمثل المفاهيمَ المفتاحية للإصلاح النفسي الخُلُقي والاجتماعي الذي يرمي إليه القرآنُ. مقصد التفسير الأدبي عند الخولي ليس أدبيًّا أو فنيًّا، كما يمكن أن تَشِي به تسميتُه؛ لأنه يرفض أن يكونَ الأدب للأدب، أو أن يكون الفن للفن؛ إذ يقول في تحليله الدلالي لكلمةٍ في إحدى الآياتِ: (ونريد هنا لنقف عند هذه الوحدة للاستعمال القرآني في تعبيره بالضعف والضعفين «فيضاعفه»،٦ وهي وقفة أدبية. على أنها وقفةٌ ليست وقفةً يرادُ منها الفن للفن، بل هِي فنه المرتبط بالهدف الاجتماعي الذي يرمى إليه القرآن دائمًا، نبتغيه أول ما نبتغي من هذه الأحاديث. وإن الفن يُرْجى للفن وحده، فإنا لا نأخذ هنا بهذا الاتجاه. ولا نحسب القرآن قد أخذ به؛ لأنه يجعل فنه القوي وسيلةً لإصلاح الحياة البشرية، ذلك الإصلاح الخُلُقي والاجتماعي العام الذي أُنزل من أجله هدًى للناس ورحمة).٧ ليست هناك آية أو كلمة تَرِد في القرآن إلا ويكون هدفُها الهدي والرحمة، وليس الهدف الأدب بوصفه أدبًا، أو الفن بوصفه فنًّا؛ لأن «طبيعة النص القرآني من حيث هو كتاب هديٍ ودين، تقتضي توجيه كل لفظٍ وآيةٍ إلى مناط الهداية والاعتبار.»٨

يشرح الخولي ما ينشده في طريقة تفسيره الأدبي، فيؤكد أنه يتمحور حول بُعدين:

  • أحدهما: دراسة حول القرآن.
  • والثاني: دراسة القرآن ذاته.
ويعني بالدراسة حول القرآن «دراسة البيئة المادية والمعنوية والثقافية التي نزل فيها القرآن الكريم.»٩ واستكشاف تشكل الواقع وطبيعة الظروف السائدة في عصر الوحي، ونمط الاجتماع العربي في عصر النزول، وكيفية الحياة الاجتماعية والثقافية وقتئذٍ، وما يسودها من ظواهر ذات صلة بالمكان والزمان والبيئة، سواء أكانت ماديةً أو معنوية، ودراسة كل ما يتصل بالذوق العربي، وأساليب التعبير، وأنماط تلقِّي وفهمِ الكلام المتعارفة في المجتمع، فكيف تلقاه وفهمه المشافَهون به في بيئتهم وثقافتهم وذوقهم ومشكلات واقعهم.١٠ بمعنى أن الخولي أراد أن يقرأ النص «قراءة تزامُنية»، ويضيء تفسيرَه من خلال اختراق الطبقات المتراكمة مما أنتجه المفسرون وغيرُهم من تأويلاتٍ وتفسيراتٍ، ينتمي كلٌّ منها إلى زمان المفسر ونمط فهمه وثقافتِه وأحكامِه السابقة، ولا تحيل بالضرورة إلى معنى النص القرآني، بالمعنى الذي تلقاه المخاطَبون به في عصر النزول. إنه يحاول صياغة فنٍّ لفهم القرآن، ينشد إيقاظ المعنى المحتجب فيه، والكشف عنه بتفكيك ونزع ما تلفع به من مدلولات تدفقت متواليةً بمرور الزمان. ولا يمكن أن يتحقق ذلك من دون الاعتماد على علوم الإنسان والمجتمع واللسانيات وعلوم اللغة الحديثة.
أما البعد الثاني لتفسيره الأدبي وهو دراسة القرآن ذاته، فيريد به شرح الكلمات، وبيان معاني المفردات، والكشف عن طبيعةِ حياة الألفاظ وتطور دلالتها عبر الزمان، ومعرفة مدَياتِ التأثر والتأثير المتبادَل بين العربية وغيرِها من لغاتِ المجتمعات المسلمة، وما اصطبغت به العربية في عصور ازدهارِ وانحطاط الحضارة الإسلامية، وأثر الزمان في صيرورةِ المعاني وتحولاتها، والتعرف على مدى تأثير كل ذلك في تفسير القرآن. هنا ينبه الخولي إلى أنه «من الخطأ البين أن يعمد متأدب في فهم النص القرآني الجليل فهمًا لا يقوم على تقديرٍ تامٍّ لهذا التدرج والتغيير الذي مس حياة الألفاظ ودلالتَها.»١١
كذلك يستند في تفسيره إلى البعد النفسي؛ ففي ضوء اهتمامه باكتشاف صلة البلاغة والأدب بالنفس الإنسانية، والوشيجة العميقة التي تربط بينهما، وكيف أنها ترجمةٌ لما يجيش في النفس؛ تحدث الشيخ الخولي عن الإعجاز النفسي للقرآن، الذي ينبثق عن التفسير النفسي، وبيان ما يُحْدثه القرآن من أثرٍ بالغٍ في النفس البشرية، وطبيعة تذوق هذا النص والتفاعُل معه. وشدد على ضرورة الاستعانة بعلم النفس في دراسة وتحليل ذلك، فإن «فهم الإعجاز الفني بالمعاني النفسية، يحوج إلى تناول القرآن بتفسير نفساني.»١٢ وحدد مفهوم «الإعجاز النفسي لبلاغة القرآنِ الكريم؛ بمعنى أثرِه العظيم على النفس الإنسانية ووقْعه عليها وفعله فيها.»١٣
رأى الخولي التفسير النفساني الطريق الذي يخلِّصُ التفسير من الادعاء والتمحل؛ فهو لا غير يضيء لنا أبعادًا مهمة في بنية النص القرآني، ويخرجنا من سوء الفهم المكرر لتعليل ما يسود المصحف من سماتٍ وخصائص بيانية. يلخص الخولي رؤيتَه هذه قائلًا: «فبالأمور النفسية لا غير، يعلَّل إيجازُه وإطنابُه، وتوكيدُه وإشارتُه، وإجمالُه وتفصيلُه، وتكرارُه وإطالتُه، وتقسيمُه وتفصيلُه، وترتيبُه ومناسباتُه، وما قام من تعليل هذه الأشياء وغيرها، على ذلك الأصل فهو الدقيق المنضبط، وما جاوز ذلك فهو الادعاء والتمحل، أو هو أشبه شيء به.»١٤
وتنبه الشيخ الخولي مبكرًا إلى خطأ الزعم بسبق القرآنِ لاكتشافات العِلْم ومكاسبِه، أو الاشتغال على إسقاط هذه الاكتشافات على الآيات الكريمة، وحذر من خطورة الإسراف في توظيف نتائج العلم الحديث في التفسير، وكيف أن ذلك ينتهي إلى إهدار معاني القرآن، وهدفِه المحوري في هداية الناس إلى التي هي أقوم؛ إذ يشرح ذلك قائلًا: «وثمة معنًى بعيد، قد سبقت إليه أوهام قوم في هذا العصر، فآثرت أن أنفي القصد إليه هنا، أو التعويل على شيء منه … ذلك هو استخراج قضايا علم النفس ونظرياتِه من القرآن، تدعيمًا للزعم بأنه يتضمن كل شيء … ولا نناقش هؤلاء المُسرفين هنا، وإنما ننفي أنا نريد إلى شيء من هذا في تبين الإعجاز وتفهمه. فنحن ندع علماء النفس، في تجاربهم العلمية، ومشاهداتهم الواقعية، أو تأملاتهم النظرية … ولا نرى سبق القرآن إليه، أو تقدمه على الأجيال بأصلِه، وما إلى ذلك، بل نتلقاه منهم، لنعتمد عليه من بيان الوجه النفسي للإعجاز.»١٥ لو تدبرنا هذا البيان الواضح للخولي لما استهلكنا جهودًا كثيرةً وأموالًا هائلة في الإصرار على سَبْق القُرآنِ لما جاء به العلم والمعرفة الحديثة، وتقويل الآيات ما لا تقوله في مجالات العلوم الطبيعية والإنسانية المختلفة، والعمل على خلط الدين بالعلم، وإهدار طاقات الكثير من الباحثين الشباب، وتضييع عقولهم في متاهات بناء: علم نفس إسلامي، وعلم اجتماع إسلامي، وعلم اقتصاد إسلامي، وأدب إسلامي، وفن إسلامي، وغير ذلك مما ورطتْنا فيه أقلام كتاب الجماعات الدينية، وكدستْه من كتاباتٍ تثير هويةً جائعةً للالتحاق بقطار تقدم العلوم والمعارف والتكنولوجيا، وتحرض نفسًا يعذبها الغياب عن العصر، فتعِدها باللحاق بقطار التقدم بل والتفوق عليهم، من خلال ما يسمى ﺑ «أسلمة المعرفة».١٦

وواصل الجيل الثاني، ممثلًا بنصر حامد أبو زيد، نهج «مدرسة الأمناء» التي شَاد لبناتها الفكرية أمين الخولي، وكان أبو زيد الأكثر براعةً في تطوير مدرسة الشيخ الخولي والجيل الأول من تلامذته، عبر توظيفه الهرمنيوطيقا في فهم القرآن وتفسيرِه.

١  للتفسير الأدبي أكثر من طريقة، لكن الشيخ أمين الخولي يشرح طريقته في هذا التفسير في كتابه: «مناهج التجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب»، وهكذا في تعقيبه على مادة التفسير في: «دائرة المعارف الإسلامية».
٢  الخولي، أمين، مناهج تجديد، ص٢٣٠.
٣  الخولي، أمين، من هدي القرآن، القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب، ١٩٩٦م، ص٨.
٤  الخولي، أمين، دراسات إسلامية، القاهرة: دار الكتب المصرية، ١٩٩٦م، ص٣٨.
٥  تعقيب على مقالة «التفسير» في: دائرة المعارف الإسلامية، ص٢٣٤١.
٦  البقرة، ٢٤٥.
٧  الخولي، أمين، من هدي القرآن، مرجع سابق، ص١٠٩.
٨  عبد الرحمن، عائشة، القرآن وقضايا الإنسان، القاهرة: دار المعارف، ١٩٩٩م، ص٢٢.
٩  القيام، عمر حسن، أدبية النص القرآني: بحث في نظرية التفسير، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ٢٠١٢م، ص ٤٤.
١٠  الخولي، أمين، من هدي القرآن، مرجع سابق، ص٢٣٦.
١١  المرجع السابق، ص٢٣٧.
١٢  الخولي، أمين، مناهج تجديد، ص١٦٠.
١٣  المرجع السابق، ص١٥٢.
١٤  المرجع السابق، ص١٥٤.
١٥  المرجع السابق، ص١٥٣.
١٦  كنت أنا ضحية هذا الوهم قبل أكثر من أربعين عامًا، لكني سرعان ما تحررت منه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤