الفصل الخامس
أمين الخولي والهرمنيوطيقا
فَرادة الشيخ أمين الخولي تظهر في محاولته الرائدة لتوطين
الهرمنيوطيقا والمناهج الجديدة في تفسير النصوص في مجال
الدراسات الدينية بالعربية. بعد استقراءٍ وتتبعٍ يمكن القولُ: إن
الخولي هو أول هرمنيوطيقي بالعربية، وربما في عالَم الإسلام. إذ
لا أعرف أحدًا سبقه إلى ذلك، حتى في بلاد الإسلام غير
العربية.
لقد رأيت ذلك منذ ربع قرن، حين كنت أُدرس «الاتجاهات الجديدة
في التفسير» لمجموعة من تلامذتي في الحوزة: أن المنحى الذي يدعو
إليه أمين الخولي في تفسير القرآن يهتم بالتعرف على الطريقة التي
يفكر بها المفسر، وكيف يُسقط المفسر رؤيتَه للعالَم
وثقافته وفهمه على ما يريد تفسيرَه من الآيات. هذا هو المدخل لكل
من يدعو إلى استئناف النظر في مناهج التفسير وتجديدها؛ إذ «يتحدد
مدخل التجديد عند الخولي والمدرسة الحديثة كلها في وظيفة
المفسر أولًا، وفي مكانة النص المفسر ثانيًا، فليس
مقبولًا عند الخولي أن يظل التفسير المعاصِر مجرد أداةٍ
لاختياراتٍ مذهبيةٍ وتوظيفاتٍ دعويةٍ مهما كانت أهميتُها.»
١ عند اطلاعي على التعقيب الذي كتبه أمين الخولي على
مقالة «التفسير» في: «دائرة المعارف الإسلامية»، وجدتُه يتحدث عن
أفقٍ مختلف ومنهجٍ بديل لتفسير النص القرآني وتأويلِه، في ضوء
أدواتٍ ومفاهيم جديدة، يستعيرها من الهرمنيوطيقا
الألمانية.
عمل أمين الخولي في شبابه إمامًا بالمفوضية المصرية في روما،
وفي وقتٍ لاحق ببرلين في ألمانيا.
٢ وعند عودته من ألمانيا سنة ١٩٢٧م باشر التدريس في
الأزهر. ويبدو أن مكوثَه في ألمانيا أتاح له فرصة التعرف على
الهرمنيوطيقا ودراستِها. وهو ما تجلى في حديثِه عنها
وتقديمِها بإيجاز ووضوح. ومعروف أن الهرمنيوطيقا في العصر
الحديث ألمانية المنشأ والمسيرة، فمع شلايرماخر نهاية القرن
الثامن عشر تبلور مفهومٌ مختلفٌ للهرمنيوطيقا في العصر الحديث،
وتطور هذا المفهوم مع وليم دلتي، ومارتن هيدغر، حتى بلغت أوجَ
تطورها مع هانز جورج غادامير تلميذ مارتن هيدغر. مع أن أهم
الأعمال في الهرمنيوطيقا لم تترجم للعربية إلا بعد ذلك بعشرات
السنين.
كانت وما زالت الفلسفة الألمانية مرجعية التفكير
الهرمنيوطيقي في عالم الإسلام، فما حدث مع الشيخ أمين الخولي
في الماضي، حدث بعده مع الشيخ محمد مجتهد شبستري، الذي ذهب إلى
ألمانيا، بعد رحلة الشيخ أمين الخولي بأربعين عامًا تقريبًا، فعمل
إمامًا للمركز الإسلامي في هامبورغ، وتعلم الهرمنيوطيقا
بالألمانية هناك،
٣ ليعود إلى إيران مبشرًا بها، ومؤلفًا وشارحًا لها
بالفارسية.
وقد ذكرنا أكثر من مرة أن إعادة بناء الفكر الديني تتطلب أن
ينهض بها رجال الدين قبل غيرهم؛ لأنهم الأكثر دراية بالتراث،
والأكثر إدراكًا لهذه الحاجة الملحة، والأكثر اهتمامًا بمصائر
الفكر الديني ومآلاته. لذلك ليس مصادفة أن تعرف العربيةُ
الهرمنيوطيقا في النصف الأول من القرن العشرين عبر جهود الشيخ
أمين الخولي، وهو رجل دين كان مكلفًا بمهمة دينية في إيطاليا
وألمانيا، وهكذا تعرفت الفارسية على الهرمنيوطيقا عبر جهود
الشيخ محمد مجتهد شبستري، وهو رجل دين كان مكلفًا بمهمة دينية
في ألمانيا. في النصف الأول من القرن التاسع عشر تعرفت العربية
على ملامح من صورة الغرب وتقدمه عبر كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»،
٤ الذي ألفه الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي «١٨٠١–١٨٧٣م»،
وهو رجل دين أيضًا كان إمامًا لبعثة الطلاب المصرية في
باريس.
لم يتحدث الخولي عن المرحلة والكيفية التي تعرف بها على
الهرمنيوطيقا، ولم تخبرنا الكتابات التي اطلعنا عليها بما
يوضح ذلك. على الرغم من أن أكثر الباحثين المعاصرين من الألمان
والعرب يتحدثون عن ريادته وبعض تلامذته في هذا المضمار. وأقنعتني
مطالعة آثاره بذلك، خاصةً ما تحدث فيها عن التفسير، وعزز قناعتي
ما كتبه السيد أحمد خليل من تأثير شلايرماخر على الخولي، وتبنيه
للنهج الجديد الذي اختطه شلايرماخر في تعريف عملية التفسير
بوصفها «فنًّا للفهم»، عبر النظر إلى المفسر وطريقة فهمه،
والعوامل المؤثرة في كيفية فَهْم النص، وأُفُقه التاريخي.
ونبه خليل إلى أن العوامل التي تبناها الخولي في التفسير هي
ذاتها التي نبه إليها شلايرماخر قبل ذلك.
٥
ويبدو لي أن اطلاع الخولي توقف عند شلايرماخر وأتباعِه في
القرن التاسع عشر، ولم يشأ، أو لم تسمح له ظروفُه، أن يتعمق في
استلهام الهرمنيوطيقا الفلسفية، الذي أضحت عملية التفسير على
وفقها: «حدثًا أنطولوجيًّا»، يتسِع للنصوص والوجود أيضًا، كما
شرحها هيدغر وتلميذُه غادامير.
ما يقوله الشيخ الخولي يحيل إلى الهرمنيوطيقا، وهو ما
تجلى بوضوح في حديثه عن «أُفُق المفسر»، فلم تَعُد عمليةُ
التفسير في مفهومه تلقيًا سلبيًّا صامتًا للمفسر، وإصغاءً من
المفسر لما يُمْليه عليه النص؛ لا دور فيه للمفسر سوى
الكشف عن المعنى الكامن في النص، بل أصبح التفسير في رأي الخولي
عملية حوارٍ وإنتاجٍ متبادَل للمعنى، يشترك فيها المفسر مع
النص. وذلك ما شرحتْه الهرمنيوطيقا الحديثة، بوصفها «فنًّا للفهم»،
٦ أو قراءةً للقراءة، أو فهمًا للفهم، أو تفسيرًا
لكيفية تلقي المفسر للنص، وطريقة إنتاجه للمعنى المقتنَص
منه، في ضوء: أفق انتظارِه، ورؤيتِه للعالم، وإطار ثقافتِه،
ومسلماتِه وأحكامِه المُسبقة. وبذلك يصبح التفسير لدى الخولي
مقاربة هرمنيوطيقية للنص.
ظهرت كتاباتٌ هرمنيوطيقيةٌ متعددةٌ بالعربية في فترات
لاحقة، غير أنها انشغلت بتطبيقاتِها على النصوص الأدبية
وغيرها، وتوظيفِها أداةً في النقد الأدبي، فقد كان وما زال كل
الخبراء بالهرمنيوطيقا في عالَم الإسلام يحذرون من تطبيقِها في
تفسير القرآن، وتوظيفها في فهم النصوص الدينية، لئلا يثيروا
ضغينة رجال الدين الذين يتشبثون بالمناهج التراثية للتفسير،
وقلقهم حيال أية مناهج جديدة في فهم الدين وتفسير نصوصه.
مضى الشيخ أمين الخولي بشجاعة وحده، في وقت مبكر في هذا
الطريق، فكان رائدًا، لم ينفرد بريادتِه للكتابة والتعريف بهذا
الفن فقط، بل بادر أيضًا لتوجيه تلامذتِه لتطبيقِه على تفسير
القرآن، كما أسس فريقًا للدراسات الأدبية والهرمنيوطيقية
يضم جماعةً من تلامذته، مثل محمد أحمد خلف الله، وعائشة عبد
الرحمن «بنت الشاطئ»، ومحمد العلائي.
٧ واشتهرت هذه الجماعة باسم «الأمناء».
٨
لم يقتصر أمين الخولي على الهرمنيوطيقا والدعوة إلى توظيفها
في التفسير، بل رأى ضرورة الانفتاح على علم الاجتماع وعلمِ
النفس والعلوم الإنسانية الحديثة، لأجل بناء منهج مختلف للفهم
والتفسير.