الفصل السادس

مفتاح تفسير كل كتاب هو الكتاب ذاته

مفتاح تفسير كل كتاب هو الكتاب ذاته؛ لأن نصوصَه مُضَاءٌ بعضُها بالبعض الآخر، سواء أكان كتابًا مقدسًا أو غيره، آياتُ القرآن الكريم تفسر إحداها الأخرى. الحياد التام في الفهم غيرُ ممكن، المفسرون الذين أعلنوا تمسكهم بهذا المنهج في التفسير تعذر عليهم الحياد الذي ينشدونه؛ لذلك تحكم في تفسيرِهم: رؤيتُهم للعالَم، ونمط تكوينهم المعرفي، وثقافتُهم، ومسبقاتُهم المضمرة، وأفق انتظارهم. مثلًا نقرأ في مقدمة تفسير (الميزان) للعلامة محمد حسين الطباطبائي أن منهجه يقوم على تفسير القرآن بالقرآن، غير أن كل ما جاء في تفسيره لآيات القرآن يفسرُه في ضوء تكوينِه الفلسفي والعرفاني والكلامي والفقهي، ولم يعد للقرآن من أثرٍ إلا محدودًا في تفسير القرآن بالقرآن. يوظف الطباطبائي براهين المنطق الأرسطي ومصطلحاته، ومفاهيم الفلسفة اليونانية ومصطلحاتها، وآراء الفلاسفةِ المسلمين، ولا يبتعد عن الفضاء الذي تتحدثُه الحِكمة المتعاليةُ وما تضمنه كتاب (الأسفار الأربعة) لملا صدرا الشيرازي، ويحضر في (الميزان) عرفان محيي الدين بن عربي بكثافةٍ، مضافًا إلى مقولات المتكلمين الشيعة المتأخرين، ممن تنعكس في كتاباتِهم أصداء آراء مُلا صدرا.

تحدث الشيخ أمين الخولي عن فكرة تلوين النص بوضوح في قوله: «إن الشخص الذي يفسر نصًّا يلون هذا النص — ولا سيما النص الأدبي — بتفسيرِه له وفهمه إياه. وإذ أن المتفهم لعبارةٍ هو الذي يحدد بشخصيتِه المستوى الفكري لها، وهو الذي يعيِّن الأفق العقلي، الذي يمتد إليه معناها ومرماها، يفعل ذلك كله وفق مستواه الفكري، وعلى سَعة أفقه العقلي … لأنه لا يستطيع أن يعدو ذلك من شخصيتِه، ولا تمكنه مجاوزته أبدًا … فلن يفهمَ من النص إلا ما يرقى إليه فكرُه، ويمتد إليه عقلُه. وبمقدار هذا يتحكم في النص، ويحدد بيانه.»١
وأظن أن أمين الخولي اقتبس مصطلح «يلون النص» من التعبير المشهور للمتصوف الجنيد البغدادي:٢ «لَوْن الماء لَوْن إنائه.»٣ وذلك يؤشر للأهمية الفائقة لنصوص المتصوفةِ والعرفاء، وطرائقِهم في تبصر واكتشاف ما لبث مجهولًا من رؤيتِهم للحقيقة الدينية، ومناهج قراءتهم للنص، خارج أسوار قواعد التفسير وأصول الفقه الموروثة. مثلما يصطبغ الماء بلون الإناء؛ يذهب الخولي في تحليلِه للكيفية التي يغدو فيها النص مرآةً تنعكس فيها ألوان صورة المفسر، وكأن القارئ يرى صورتَه في النص، وتتلون هذه الصورة بأحكامه السابقة، فيتشكل معناها في ضوء ما يرسمه أفق انتظارِه. يشير الشيخُ الخولي إلى ذلك قائلًا: «فهو في حقيقة الأمر يَجُر إليه العبارة جرًّا، ويشدها شدًّا؛ يمطها إلى الشمال، وحينًا إلى الجنوب؛ وطورًا يجذبها إلى أعلى، وآونة ينزل بها إلى أسفل؛ فيفيض عليها في كل حالة من ذاته، ولا يستخرج منها إلا قدر طاقته الفكرية واستطاعته العقلية؛ وما أكثر ما يكون ذلك واضحًا حينما تسعف اللغة عليه، وتتسع له ثروتُها، من التجوزات والتأولات، فتمد هذه المحاولة المفسرة، بما لديها من ذلك … وإن المستطاع منه في اللغة العربية لكثير وكثير.»٤
هكذا يتخِذ الخولي المقاربة الهرمنيوطيقية مرجعيةً في تقويم اتجاهات التفسير القرآني المتنوعة، ولا يستثني من ذلك أي شكل من أشكال التفسير، فسواء كان التفسير عقليًّا اجتهاديًّا، أو نقليًّا مرويًّا، أو غير ذلك، تحضر بصمةُ المفسر لتطبع تفسيرَه، فكل تفسير يحمل توقيع المفسر وطبيعة شخصيتِه، مهما حاول ذلك المفسر أن يتجرد ويكون موضوعيًّا ومحايدًا. يكتب الخولي: «على هذا الأصل وجدنا آثارَ شخصية المتصدين لتفسير القرآن، تطبع تفسيرهم له في كل عهد وعصر، وعلى أي طريقة ومنهج، سواء أكان تفسيرُهم له نقليًّا مرويًّا، أم كان عقليًّا اجتهاديًّا.»٥
يرفض الشيخ الخولي رأي من يستثني التفسير الروائي من بصمة ذات المفسر، مُسَوغًا ذلك بأن هذا الضرْب من التفسير لا يعدو أن يكون سوى بيانٍ لمعنى الآيات في ضوء الأحاديث المروية، وفي مثل هذا التفسير لا يتدخل المفسر عادةً. غير أن الخولي يرفض حياد المفسر الروائي في هذا الصنف من التفسير، ويدلل على أن انتخاب المفسر لرواياتٍ دون سواها يؤشر إلى أفقِ انتظاره وإطار تفكيره ومسلماتِه وأحكامِه السابقة. هذا هو سببُ الاختلاف الواسع في التفاسير الروائية، واستناد كل مفسر إلى نوع معين من الروايات المفسرة لكل آية وبيان مضمونها. يكتب الخولي: «ولعله لا يبدو هذا الأثر الشخصي واضحًا في التفسير المروي لأول وهلة، ولكنك تتبينُه إذا ما قَدرْت أن المتصدي لهذا التفسير النقلي إنما يجمع حول الآية من المرويات، ما يشعر أنها متجهةٌ إليه، متعلقةٌ به، فيقصد إلى ما تبادر لذهنه من معناها، وتدفعه الفكرةُ العامة فيها، فيصل بينها وبين ما يُروى حولها في اطمئنان … وبهذا الاطمئنان يتأثر نفسيًّا وعقليًّا، حينما يقبل مرويًّا ويُعنى به، أو يرفض من ذلك مرويًّا — إن رفضه — ولم يرتحْ إليه … ومن هنا نستطيع القول حتى في التفسير النقلي وتداوله، تكون شخصية المتعرض للتفسير هي الملونة له، المروجَة لصنف منه.»٦ في ضوء هذا الفهم يصبح التفسير الروائي أحد أشكال التفسير بالرأي، حسب المصطلح المعروف في أنواع التفسير، وحتى انتخاب آية لتفسير آية أو كلمة قرآنية أخرى أو ما يعرف ﺑ «تفسير القرآن بالقرآن» يخضع لهذه المعادلة التي شرحها الشيخ الخولي.

تظهر ذات المفسر والإطار المعرفي له في تلوين ما يفسره، فمثلًا لو كان المفسر متكلمًا، يكتسي تفسيرُه صبغةً كلامية، ولو كان فقيهًا يكتسي تفسيرُه صبغةً فقهية، ولو كان متصوفًا يكتسي تفسيرُه صبغةً صوفية، ولو كان أديبًا يكتسي تفسيرُه صبغةً أدبية … وهكذا.

كأن الخولي يقرر قاعدةً كُليةً في التفسير، لا تستثني أي شكل من أشكال التفسير من التحرر من بصمة المفسر وفهمِه الخاص، حتى تفسير القرآن بالقرآن، الذي يُظن بأنه التفسير الوحيد الذي يتحرر من ذات المفسر، يخضع فيه المفسر إلى هذه المعادلة، فليس بوسعه أن يتخلص مما هو مستتر من مسلماتِه ومضمراتِه، حين ينتخب آيةً أو كلمةً لتفسير آيةٍ أو كلمةٍ قرآنية.

وكما يتحدث الخولي عن التأثير المتبادَل بين رؤية المفسر للعالَم والعلم الذي يتخصص فيه وبين عملية التفسير، ينبه أيضًا إلى تفاعُل ذلك العلم مع تخصص المفسر، ليتطور في طور جديد يثريه ويتكامل به، بعد توظيفه في حقل التفسير. إنه يتحدث عن ذلك في إشارة دالة بقوله: «إن التفسير على هذا التلوين، يتأثر بالعلوم والمعارف التي يلقى بها المفسر النص، ويستعين بها في استجلاء معانيه، كما أن وصل هذه العلوم بالتفسير يُكسب هاتيك العلوم نفسها ضربًا من الثروة، بقدر أثره في تاريخها … وقد جاءك ما فعل الرازي في تفسيره … فهذا ومثله تلوينٌ كلاميٌّ للتفسير، يضفي على القرآن؛ من منهج علم الكلام ويوجه تفسيرَه … كما تجد تلوينًا فقهيًّا للتفسير، وآخر بلاغيًّا، وغيرهما قصصيًّا …»٧ العلوم تنمو وتتطور من خلال اتساع مجالات تطبيقها في حقولٍ علمية جديدة؛ إذ يفضح التطبيق ثغراتِها ويكشف عيوبَها، ويحذف أخطاءَها.

لا أظن الشيخ الخولي يورطنا في نسبية الفَهْم، بل أراه يحاول تحرير فهم النص القرآني من سوء فهم وأخطاء المفسرين، الذين ظلوا على الدوام بشرًا، يتحدثون إلى زمانِهم وبيئاتِهم وثقافاتِهم ونمط رؤيتِهم للعالَم، وهم أنفسهم تعاطَوا مع تفسيرات المفسرين من قبلهم بوصفها آراءً نسبية، تخضع لمشروطيات اللغة والزمان والمكان والبيئة والثقافة، وليست فهمًا أبديًّا يتعالى على أية مشروطية تاريخية.

يمكن للباحث أن يكتشف تلوين المفسر للنص الذي يفسره لدى تلامذة الخولي؛ ففي الوقت الذي تمثل محمد أحمد خلف الله نهجَ أستاذه الخولي في أطروحته للدكتوراه،٨ أخفقت تلميذتُه وزوجتُه عائشة عبد الرحمن في أنْ تتمثل ذلك النهج في تفسيرِها،٩ وكانت أشد وفاءً لماضي التفسير منها إلى متطلبات الواقع، ولم تجسد ما كان يتبناه أستاذُها أمين الخولي في التفسير، ودعوتَه لتوظيف مناهج التأويل الحديثة والهرمنيوطيقيا. فبينما يتجه بعض تلامذة الخولي لمغامرةِ ركوب سفينة علوم الإنسان والمجتمع الحديثة ومناهج التأويل والهرمنيوطيقا، ويجازف بتطبيقها في التفسير في مجتمع تقليدي، ويتعرض إلى هجمةٍ عنيفة، كانت عائشة عبدالرحمن تغرق في أمواج التراث، وكأنها غفلت أو تجاهلت دعوة شيخِها للتجديد في صدر قوله: «أول التجديد …»،١٠ فغرقت في العجز: «قتل القديم فهمًا»، وتشبعت بالقديم أعمالُها، بلا أن نقرأ فيها ملامح للجديد، وحتى أعمال تلامذتها ورسائلهم في الدراسات العليا، التي كانت ترشدهم إليها وتشرف عليها، ظلت مسكونةً بالقديم أيضًا.١١

كأن بنت الشاطئ لم تشأ أن تتورط في الخُروج على المناهج الموروثة للتفسير، لخوفِها من ردود الأفعال؛ لأن ما تلقتْه أطروحة خلف الله من هجومٍ عنيف جعل كل تلامذةِ الخولي يفكرون طويلًا قبل أن يترسموا نهج أستاذِهم التجديدي. ربما لم تدرك عائشة عبد الرحمن بعمقٍ مأزق التفسيرِ الموروث، وما كان يرمي إليه أستاذُها الخولي من تحرير المعنى القرآني من رؤية المفسر القديمة للعالم، ووضع هذا المعنى في لغةٍ تكتشف المتطلبات الروحية والأخلاقية والجمالية للمسلم اليوم.

التجديد شديد الوطأة على النفس والمشاعر والمصالح، لا يستسيغُه إلا عقلٌ شجاع، وإنسانٌ يمتلك قدرة المغامرة في الخروج على المألوف، ومستعِدٌّ لدفع ضريبة موجعة. لذلك لم يكن موقف بنت الشاطئ غريبًا، فقد تكرر هذا الموقف لدى كثيرٍ من التلامذة الذين عجزوا عن تمثل النهج التجديدي لأساتذتهم، فوقفوا خارج آفاق رؤية الأستاذ، فركنوا إلى التراث ليتشددوا في استئنافه كما هو، وهذا ما نراه ماثلًا في النزوع السلفي للشيخ محمد رشيد رضا، بعد رحيل أستاذه الشيخ محمد عبده، وغيره.

١  تعقيب على مقالة «التفسير» في: دائرة المعارف الإسلامية، ص٢٣٣٢–٢٣٣٤.
٢  أبو القاسم الجنيد بن محمد الخزاز القواريري، متصوف شهير من متصوفة بغداد في القرن الثالث. ولد ببغداد وتوفي ودفن فيها سنة ٢٩٧ﻫ.
٣  الكلاباذي، أبو بكر محمد بن إسحاق، التعرف لمذهب أهل التصوف، ضبطه وعلق عليه وخرج آياته وأحاديثه: أحمد شمس الدين، بيروت: دار الكتب العلمية، ط١، ١٩٩٣م، ص١٥٦. ومحيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، بيروت: دار الكتب العلمية، باب ٣٤١، ج٥، ص٢٣٩.
٤  الخولي، أمين، مناهج تجديد، ص٢٢٤.
٥  المرجع السابق، ص٢٢٤.
٦  المرجع السابق، ص٢٢٤.
٧  المرجع السابق، ص٢٢٩.
٨  أطروحة محمد أحمد خلف الله بعنوان: «الفن القصصي في القرآن الكريم» أشرف عليها: الشيخ أمين الخولي، ورفضتْها لجنة المناقشة. نتحدث عن الضجة التي أثارتْها بعد قليل.
٩  عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ، التفسير البياني للقرآن الكريم، القاهرة، دار المعارف، ج٢.
١٠  الخولي، أمين، تعقيب على مقالة «التفسير» في: دائرة المعارف الإسلامية، ص٢٣٣٦. يقول الخولي: «أول التجديد قتل القديم فهمًا.»
١١  ذكرت عائشة عبد الرحمن في مقدمة الجزء الأول من تفسيرِها عنوانات أطروحات الدكتوراه لتلامذتها التي اقترحتْها وأشرفت عليها عندما كانت أستاذةً للدراسات القرآنية والإسلامية العليا في جامعة القرويين في المغرب، وهي دراساتٌ تتناول موضوعاتٍ قرآنيةً تراثيةً، وتحقيق كتب قديمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤