الرحلة الطويلة
أبحر الطبيب والحيوانات ستة أسابيع، ومع أن تلك الفترة قد تبدو طويلة، إلا أن الرحلة حقيقة كانت قصيرة؛ إذ لم يهدر الطبيب والحيوانات وقتًا؛ فتبعوا عصفورة الجنة طوال النهار وهي تطير أمام القارب، وحملت العصفورة ليلًا مصباحًا صغيرًا لئلا يضلوا الطريق.
أصبح الجو أكثر دفئًا مع إبحارهم جنوبًا. كانت بولينيزيا، وتشي تشي، والتمساح في غاية السعادة؛ فركضوا في أرجاء القارب يضحكون، وأطلوا من جانبه آملين أن يكونوا أول من يبصر أفريقيا؛ كانوا سيبلغون موطنهم الأصلي في وقت قصير!
أما الخنزير والكلب والبومة، فلم يشعروا بالسعادة نفسها تجاه الطقس. كان احتمال الحرارة لديهم أشق كثيرًا، فلم يسعهم إلا الجلوس في الظل وألسنتهم تتدلى من أفواههم ورشف الليمونادة.
حافظت البطة داب داب على برودة جسدها بالسباحة في المحيط خلف القارب، وغاصت أحيانًا تحت الماء، وسبحت تحت القارب، وأمسكت بالكثير من الأسماك، وفرح الجميع بتناول السمك على العشاء. كان هذا بمثابة تغيير لطيف لعلب الفول والخضراوات المحفوظة.
سبحت مجموعة من الدلافين في أحد الأيام بجانب القارب، فجلست بولينيزيا على حافته لتحدثهم. سألت الدلافين إن كان هذا هو قارب الدكتور دوليتل، فأجابت بولينيزيا بنعم.
قالت الدلافين: «نحن سعداء جدًّا بسماع هذا. ستُسر القردة بذلك، فقد كانوا يشعرون بالقلق.»
قالت بولينيزيا: «سنبلغهم في وقت قصير. تقول عصفورة الجنة إننا سنصل في غضون أيام قليلة.»
سألت الدلافين: «هل تمانعون أن نسبح بجواركم بعض الوقت. سيشرفنا السفر مع الدكتور دوليتل.»
فقالت بولينيزيا: «يمكنكم هذا بالطبع.» وشعرت بالفخر فهي في المقام الأول من علم الدكتور دوليتل أن يتحدث لغة الحيوانات، وها قد سمعت جميع الحيوانات به.
بعد يومين، مع مغرب الشمس، أمسك الدكتور دوليتل منظاره ثم صاح: «تعالوا جميعًا وانظروا! أوشكت رحلتنا على الانتهاء؛ بإمكاني أن أرى سواحل أفريقيا!»
هرعت جميع الحيوانات إلى جانبه، وتناوبوا النظر عبر المنظار، وهللوا فرحًا باقترابهم من غايتهم.
سأل الكلب جيب: «كم تبقى من الوقت لنبلغ الشاطئ؟»
فقال الدكتور دوليتل: «أتوقع أن نصل إلى هناك بحلول الصباح، أظن هذا.»
لكن في اللحظة نفسها أظلمت السماء واشتدت الريح، فهرع الجميع إلى كابينة القارب لئلا يبتلوا خلال العاصفة. دوى الرعد وسطع البرق، وأخذ المطر يهطل وارتفعت الأمواج حتى إن المياه تدفقت على سطح القارب.
خلد الجميع إلى النوم آملين أن تنتهي العاصفة قبل حلول الصباح، لكن في منتصف الليل دوى صوت ارتطام وتوقف القارب وبدأ ينقلب على جانبه.
صاح الطبيب: «ماذا حدث بحق السماء؟» وفتح باب الكابينة وتسلق صاعدًا سطح القارب، وتعذر عليه السير وسط الرياح والمطر.
قالت بولينيزيا: «أعتقد أن قاربنا تحطم.»
قال الطبيب: «لا بد أننا اصطدمنا بصخور أفريقيا. يا إلهي! آمل ألا نكون قد حطمنا القارب.»
قالت البطة داب داب: «سأفحصه.» وغاصت بجانب القارب وسبحت تحت الماء لفحص قاعه. كان هناك خرق كبير به من أثر الاصطدام بالصخور، وقد تدفق الماء إلى داخله وأخذ يغوص بهم بسرعة، فأسرعت داب داب عائدة إلى سطح القارب وأبلغتهم بذلك.
بدأت بعض الحيوانات تفزع. لم يُخف الأمر التمساح وجيب، إذ يستطيعا السباحة، وتستطيع بولينيزيا وعصفورة الجنة والبطة داب داب والبومة تو تو الطيران، أما القرد تشي تشي والخنزير جاب جاب فلا يستطيعان السباحة أو الطيران.
من ثم صاحت بولينيزيا: «ائتوا بالحبل. قلت لكم إنه سينفعنا. نحتاج إلى مساعدتك من جديد يا داب داب. خذي طرف هذا الحبل وطيري إلى اليابسة واربطيه حول شجرة.»
فعلت داب داب ما طلب منها. كانت الرياح عاتية، لكنها لم تضل طريقها، وعقدت الحبل بإحكام حول شجرة وعقد الدكتور دوليتل الطرف الآخر منه حول حافة القارب.
ثم قالت بولينيزيا: «ليتسلق الحبل الآن كل من لا يستطيع السباحة أو الطيران، بذا سنصل إلى الشاطئ.» وبهذه الكيفية بالضبط بلغت جميع الحيوانات الشاطئ بأمان.
وضع الطبيب صندوق أغراضه وبعض المعدات الطبية في سلة علقها بالحبل ودفعها ليرسلها إلى الشاطئ، ثم تبعها على الفور.
لكن القارب لم يكن بحال جيدة؛ فقد كان الخرق في قاعه كبيرًا، وكانت الأمواج شديدة الارتفاع. اصطدم القارب بالصخور وبدأ يتحطم وألواحه تتساقط عنه واحدًا تلو الآخر. كره الدكتور دوليتل أن يتركه، لكن لم يسعه فعل شيء حيال ذلك، فقال: «سأضطر إلى العثور على طريقة أخرى أسدد بها ديني للصياد.»
أوى الجميع إلى كهف حتى توقف المطر. كان الكهف مريحًا وجافًا مع أنهم كانوا جميعًا مبتلين من أثر العاصفة. وعندما استيقظوا صباحًا كانت الشمس مشرقة، فعادوا إلى الشاطئ الرملي ليجفوا.
قالت بولينيزيا: «آه، أفريقيا الجميلة العتيقة. أتعلمون أنني لم آت إلى هنا منذ أكثر من مائة عام، لكن المكان لم يختلف فيه شيء؛ إنها الشواطئ نفسها، والنخل نفسه. آه، كم العودة إلى الوطن رائعة!»
لاحظ الدكتور دوليتل والحيوانات الأخرى أن عينا بولينيزيا تدمعان. كانت فرحة إلى هذا الحد برؤية موطنها الأصلي من جديد.
هنا صاح الدكتور دوليتل: «آه، لا.» فالتفتت الحيوانات لتنظر إليه؛ وتساءلوا جميعًا ما الأمر.
قال الدكتور دوليتل: «أضعت قبعتي! يبدو أن الريح قد عصفت بها. هذا مؤسف جدًّا؛ فقد أحببت هذه القبعة جدًّا.»
فقالت البطة داب داب إنها ستذهب للبحث عنها، وطارت عائدة فوق المحيط وفي غضون بضع دقائق، وجدت قبعته العالية تطفو على الماء، فهبطت لالتقاطها، لكنها عندئذ لاحظت أن أحد الفئران البيضاء يركب بداخلها.
فسألته: «ما الذي تفعله هنا؟ لقد طلب منك الطبيب أن تمكث في بودلبي.»
فأجاب الفأر: «لكن لدي أقارب في أفريقيا، بالإضافة إلى أن الذهاب في رحلة بحرية استهواني، فاختبأت وسط بعض المتاع وأتيت معكم، وقد حالفني الحظ إلى حد بعيد، إذ طرت أنا والقبعة عن السفينة في آن واحد، فأمسكت بها ومنذ ذلك الحين وأنا أركب بها.»
التقطت داب داب القبعة وبداخلها الفأر وحملتهما عائدة إلى الشاطئ، فاحتشد الجميع حولها لإلقاء نظرة على القبعة.
أجمعوا على أن الفأر لا يستطيع السير في الأدغال بمفرده، فحاولوا أن يجدوا له مكانًا في صندوق أغراض الدكتور دوليتل يستطيع التنقل فيه بارتياح، لكنهم عندئذ سمعوا صوت شيء يشق طريقه بين الأشجار، فكفوا عن الحركة ليرهفوا السمع.
خرج رجل من وسط الأدغال وتأملهم، ثم سألهم عما يفعلونه في هذا المكان.
أجابه الطبيب: «اسمي الدكتور دوليتل، وقد طُلب مني المجيء إلى أفريقيا لمساعدة القردة هنا، فقد أصابها مرض شديد كما تعلم.»
قال الرجل: «عليك أولًا أن تتكلم مع الملك.»
ولما كان الدكتور دوليتل يريد أن يصل إلى القرود على الفور، سأل: «أي ملك؟ أخشى أننا ليس لدينا الوقت لهذا.»
قال الرجل: «كل هذه الأرض خاضعة للملك، والغرباء يجب أن يمثلوا أمامه. اتبعني.»
أدرك الدكتور دوليتل أنه لا جدوى من الجدال، فجمع هو والحيوانات متاعهم وتبعوا الرجل بين الأدغال، وتوقفوا عندما بلغوا ساحة مفتوحة خاوية من الأشجار يقع في أحد أطرافها بناء. كان هذا في الواقع قصر الملك، إلا أنه لم يكن كبيرًا، بل كان في الواقع صغيرًا، لكن بناءه حسن وقوي، يقي من المطر عند هطوله، والمناخ بداخله بارد عند الحر. بعبارة أخرى، كان مثاليًا لسكن الملك والملكة والأمير.
جلس الملك والملكة أمام القصر تحت شمسية كبيرة، الملك يقرأ بعض الأوراق الهامة، فيما نامت الملكة نومًا عميقًا على كرسيها، فلما دنا الدكتور دوليتل والحيوانات، رفع الملك بصره.
وسأل: «ومن أنت؟» لم تبد عليه السعادة بقدوم زوار.
فقال الدكتور دوليتل: «لقد أتينا من أجل القرود.» ثم قص عليه ما حدث ليلة الشتاء الباردة وحكى له عن عصفورة الجنة، وعن الصياد الطيب الذي أقرضه القارب، وعن العاصفة واصطدام القارب بالصخور وغرقه.
قال الملك: «كل هذا مثير جدًّا للاهتمام.» — مع أنه لم يبد عليه الاهتمام على الإطلاق — وأردف قائلًا: «لكنك لا تستطيع المرور عبر أرضي. لقد سمحت لرجل مثلك أن ينتفع بها ذات مرة، وكنت جم اللطف معه في الواقع، لكنه بعدئذ رحل تاركًا حفرًا فيها بعد أن حفرها بحثًا عن الذهب، واختفى في منتصف الليل دون أن يشكرني، فأقسمت ألا أسمح لزائر آخر بأن يستغلني.»
فقال الدكتور دوليتل: «لكننا لا ننوي شرًّا. نود مساعدة القردة المريضة وحسب.»
لكن الملك لم يصغ إليه، وأشار إلى حراسه.
قال: «خذوا هذا الرجل وحيواناته، وزُجوا بهم في السجن. أريدهم أن يغربوا عن وجهي.»
قاد الحراس الطبيب وحيواناته وزجوا بهم في زنزانة حجرية، كانت غرفة صغيرة ذات جدران عالية، بابها قوي سميك وليس بها إلا نافذة واحدة مرتفعة.
الجميع شعروا بالإحباط، إذ لم يتوقع أحد هذا. وأخذ جاب جاب المسكين يبكي، فغضب تشي تشي وأخبره أن يكف عن البكاء.
قال الدكتور دوليتل: «لن يفيدنا التعارك. علينا أن نفكر بوضوح فيما علينا فعله.»
عندئذ لاحظ الدكتور دوليتل أن بولينيزيا ليست معهم، فناداها، لكنه لم يجد جوابًا.
فقال: «لا أظن أنني رأيتها منذ أن كنا نتحدث مع الملك. آه، آمل أن تكون بخير.»
تمتم التمساح في غضب قائلًا: «الأرجح أنها رحلت، وهذا هو المتوقع تمامًا منها! إنها على الأرجح مع أصدقائها القدماء الآن، فقد كانت متحمسة جدًّا لعودتها لأفريقيا. هذا هو كل ما تحدثت عنه، وها قد تركتنا محتجزين هنا.»
قالت بولينيزيا وهي تتسلق خارجة من جيب الدكتور دوليتل: «لست أنا هذا الطائر.»
صاح الدكتور دوليتل قائلًا: «بولينيزيا! كم أنا سعيد برؤيتك.»
قالت هي: «لك أن تسعد، فحجمي صغير بما يكفي للمرور عبر هذه النافذة الصغيرة. لقد خشيت أن يضعوني في قفص، فاختبأت في جيبك.»
قال الطبيب: «يا إلهي. من حسن حظك أنني لم أجلس عليك!»
قالت بولينيزيا: «أصغوا إلي الآن. لدي خطة، وقفزت على مقعد طويل لترى سائر الحيوانات والدكتور دوليتل بوضوح.»
ثم قالت: «الليلة بحلول الظلام، سأتسلل خارجة من النافذة وأطير عائدة إلى القصر، ثم سأجد طريقة لإقناع الملك بأن يسمح لنا بالمرور عبر أرضه.»
سأل جاب جاب الخنزير: «وكيف ستفعلين ذلك؟ لستِ سوى طائر.»
قالت بولينيزيا: «هذا صحيح، لكن عليك أن تتذكر أنني أستطيع أن أتحدث لغة البشر، وأنا واثقة من أنني سأهتدي إلى خطة ذكية.»
من ثم طارت بولينيزيا مساءً والقمر يرسل ضوءه إلى النافذة الصغيرة المرتفعة، وتسللت خارجة منها بسهولة، ثم طارت إلى قصر الملك. كان زجاج إحدى نوافذ القصر محطمًا، فتسلقت بولينيزيا النافذة ودخلت عبر الفتحة الموجودة بالزجاج.
تجولت خلسة في أرجاء القصر إلى أن عثرت على حجرة نوم الملك، ففتحت بابها بهدوء واختلست النظر داخلها. كانت الملكة في حفل راقص، فيما كان الملك على فراشه، يغط في نومه العميق.
انتقلت بولينيزيا بسرعة إلى الجانب الآخر من الغرفة؛ لم تطر لأنها أدركت أن صوت رفرفة جناحيها قد يكون شديد الارتفاع، واختبأت تحت الفراش.
ثم سعلت، وبدا صوتها بالضبط كصوت الدكتور دوليتل؛ فقد كان بمقدورها تقليد صوت أي شخص.
استيقظ الملك وصاح: «أهذا أنت يا عزيزتي؟» ظانًا أن زوجته قد عادت من الحفل الراقص.
سعلت بولينيزيا مجددًا.
فنهض الملك من رقدته وجلس منتصبًا على فراشه ثم قال: «من هذا؟»
فقالت بولينيزيا وقد بدا صوتها بالضبط كصوت الدكتور دوليتل: «أنا الدكتور دوليتل.»
فسأل الملك: «ما الذي تفعله في حجرة نومي.» وتفقد أرجاء الغرفة، لكنه لم يستطع أن يرى شيئًا في الظلام، فقال: «لقد أمرت بحبسك! كيف تجرؤ على الفرار! أين أنت؟ أنا لا أراك.»
ضحكت بولينيزيا ضحكة بطيئة لطيفة خفيضة الصوت كضحكة الدكتور دوليتل.
فصاح الملك: «توقف عن الضحك. تعال هنا فورًا لأراك.» كان القلق قد بدأ يتسلل إلى نفسه.
قالت بولينيزيا محاولة أن ترفع صوتها قدر الإمكان: «أيها الملك الأحمق، هل نسيت أنك تحدث الطبيب العظيم دوليتل؟ بالطبع لن تراني، فقد جعلت نفسي غير مرئي. ليس هناك ما أعجز عن فعله.»
فصاح الملك: «لم أنت هنا؟»
فقالت بولينيزيا: «جئت لأحذرك، إن لم تطلق سراحي أنا وحيواناتي، فسأبتلي أرضك بمرض، فأنا قادر بلا شك على إصابة الناس بالمرض، تمامًا كما أنا قادر على شفائهم.»
لم يسر بولينيزيا أن تكذب، لكنها لم تدر ما الذي عساها أن تفعله غير ذلك. لم تجد بدًّا من خداع الملك.
فصاح الملك: «ما كنت لتفعل شيئًا كهذا، هل يمكن أن تفعل هذا حقًا؟»
قالت بولينيزيا: «أخشى هذا. يجب أن تطلق سراحنا جميعًا، وتسمح لنا بالمرور عبر أرضك. تذكر يا جلالة الملك، إياك أن تفقدني صبري.»
بدأ الملك يرتعد، وقفز من فراشه ثم صاح: «ستُنفذ مشيئتك أيها الطبيب. سأعالج الأمر فورًا.» ثم هرع خارجًا من باب غرفته ليحدث الحراس.
زحفت بولينيزيا خلسة من تحت الفراش ما إن غادر الملك الغرفة وطارت مسرعة هابطة درج القصر وغادرته عبر نافذة المطبخ.
لكن لسوء الحظ كانت الملكة عائدة إلى القصر في الوقت نفسه ورأت بولينيزيا وهي تتسلل خلسة من النافذة. حسبت هذا أمرًا غريبًا، فلما عادت إلى حجرة نومها، أخبرها الملك عن زائره الغامض، فأدركت على الفور حقيقة ما حدث.
وقالت له: «يا لك من أحمق! لم يكن هذا الطبيب، بل ببغاؤه. لقد رأيتها تغادر من نافذة المطبخ. لقد خدعتك!»
استشاط الملك غضبًا وهرع إلى السجن، لكن كان الأوان قد فات على ذلك؛ إذ كان الحراس قد فتحوا باب الزنزانة بالفعل، ورحل عنها الطبيب والحيوانات.