جسر القرود
غضب الملك غضبًا شديدًا! وجافاه النوم طوال الليل، ودار في أرجاء غرفته في سخط ملوحًا بقبضته.
قال: «كيف يجرءون على خداعي هكذا! لا يستطيع أحد أن يعاملني بهذه الطريقة! أنا الملك!» واتهم الجميع بالحمق، وألقى فرشاة أسنانه على قطة القصر.
لم تر الملكة زوجها غاضبًا إلى هذا الحد من قبل، لكنها أدركت أنه يشعر بالحرج، فمن الصعب أن يقر بأن ببغاء خدعه.
أرسل الملك جميع حراسه إلى الأدغال للقبض على الدكتور دوليتل، ثم أرسل أيضًا جميع طاقم القصر؛ من الطهاة والخادمات ومدبرات المنزل، وحتى الملكة أرسلها في إحدى مجموعات البحث عن الدكتور دوليتل.
في الوقت نفسه، كان الدكتور دوليتل وحيواناته يندفعون بين الأدغال، فقد فطنوا إلى أن عليهم بلوغ القرود المريضة في أقصر وقت ممكن، وتوقعوا أن يكتشف الملك في نهاية الأمر خدعتهم ويرسل في إثرهم حراسه، لكنهم لسوء الحظ لم يعوا السرعة التي كُشف بها أمرهم.
كانت ساقا جاب جاب الخنزير قصيرتين، فشعر في غضون وقت قصير جدًّا بالتعب، فحمله الطبيب. وهذا جعل رحلتهم أصعب، واضطروا أيضًا إلى جر الصندوق المليء بالأدوية معهم.
حسب الملك أن العثور على الدكتور دوليتل وأصدقائه سيكون سهلًا، ورأى أنهم سيضلون طريقهم بسهولة في الأدغال، غير أنه كان مخطئًا. كان القرد تشي تشي على دراية بدروب تلك الأرض، من ثم ساعد الطبيب وسائر الحيوانات في الإسراع، إذ كان يعلم السبل المختصرة التي تؤدي إلى أرض القرود.
أيضًا كان تشي تشي وبولينيزيا على دراية بكل أنواع الفاكهة التي تنبتها الأدغال، الأمر الذي أجدى نفعًا كبيرًا. وقد علما أين يمكن العثور على الماء، إذ إن الطبيب والحيوانات اضطروا للسفر لعدة أيام، ووجدا للطبيب والحيوانات التين والبلح وجوز الهند، وعلما كيف يصنعان شرابًا لذيذًا من البرتقال والعسل.
نام الطبيب والحيوانات ليلًا في خيمة من سعف النخيل، وصنعوا أسرة سميكة لينة مريحة جدًّا من العشب المجفف، وناموا جميعًا نومًا هانئًا.
كان الارتياح بعد كل هذا السير جيدًا. أشعل الدكتور دوليتل نارًا باستخدام فروع الأشجار وأوراقها، وجلس هو والحيوانات بعد العشاء في دائرة حول النيران، ينشدون الأغاني، وروى تشي تشي أحيانًا القصص عن الأدغال.
كان القرد يعرف الكثير من القصص، ولأن القردة لا تملك كتب تاريخ ولا تُدون ما يذكرها بجميع حكاياتها، تحافظ على قصصها بروايتها مرارًا وتكرارًا. تعلم تشي تشي كل القصص التي يرويها من والديه، وهما تعلماها من والديهما. وبذا لم يضع تاريخ وقَصَص القرود.
عاد بعض هذه القصص إلى زمن شديد القدم. كان لدى تشي تشي قصص تعود إلى عصور كان الإنسان فيها لا يزال يسكن الكهوف ويرتدي جلود الحيوانات؛ كان هذا قبل أن يعرف الإنسان النار. حكى تشي تشي أيضًا للحيوانات عن حيوانات الماموث الضخمة التي كانت تأكل بتأن أوراق قمم الأشجار، وعن السحالي التي امتلكت ذيولًا طويلة بطول القطارات، وأسهب في الحديث أحيانًا إلى أن خمدت النيران ولم تعد إلا رمادًا. عندئذ كانوا جميعًا يضطرون إلى التجول في المكان بسرعة بحثًا عن المزيد من العصي لإشعال نار جديدة.
بعد الليلة الأولى من البحث في الأدغال، عاد حراس الملك وطاقمه إلى القصر وغضب الملك لأنهم لم يعودوا بالسجناء، فأمرهم بالعودة من حيث أتوا، وقال: «لا تعودوا إلا بعد أن تقبضوا على الطبيب!»
بعبارة أخرى، في الوقت الذي شق فيه الدكتور دوليتل والحيوانات طريقهم وسط الأدغال، حاسبين أنهم قد نأوا بأنفسهم عن الخطر، كان هناك من يتبعهم. لو علم تشي تشي بهذا، لحرص أكثر على أن يتخفوا.
تسلق تشي تشي يومًا ما قمة إحدى الأشجار، وتأمل اليابسة الممتدة أمامهم، ثم هبط الشجرة في حماس وقال: «لقد اقتربنا من أرض القردة، سنبلغها قريبًا.»
بعد مرور ساعة أو اثنتين، فاجأتهم مجموعة من القرود، أحدهم كان ابن عم تشي تشي. كانت مجموعة القردة تجلس على الأشجار بالقرب من حافة مستنقع في انتظارهم، فلما رأوا الدكتور دوليتل يدنو أخذوا يصيحون ويلوحون بأوراق الأشجار ويقفزون.
وأحاط الكثير منهم بالطبيب والحيوانات، وأخذوا حقيبة الدكتور دوليتل وصندوقه، بل وساعدوا أيضًا في حمل جاب جاب، وركض بعضهم متقدمًا الآخرين ليخبر سائر القردة بأن الدكتور دوليتل قد وصل.
لكن رجال الملك كانوا إلى تلك اللحظة يتبعون الطبيب والحيوانات، ولما سمعوا القردة تهلل عرفوا أن الطبيب والحيوانات قريبون، فسارعوا بالاتجاه نحو مصدر الضوضاء للقبض على الطبيب وحيواناته كي يعودوا جميعًا إلى بيوتهم.
كان القرد الذي تطوع لحمل جاب جاب يسير ببطء وتثاقل في أثر الآخرين وهم يتجهون نحو قرية القرود. تنامت إلى سمعه ضوضاء، فالتفت، فأبصر قائد حرس الملك وهو يتسلل خلسة بين الأشجار، فعجل السير ليدرك الطبيب.
أبصر قائد الحرس القرد وهو يسرع في سيره، فأخذ هو بدوره يركض، وتبعه جميع الحراس. ركضوا بسرعة وبلا توقف كما لم يركضوا من قبل موقنين بأنهم قد أوشكوا على القبض على الدكتور دوليتل وأصدقائه.
كان الجميع يركض! الدكتور دوليتل، وحيواناته، والقرود وحراس الملك. إلا أن الطبيب المسكين لم يعتد القيام بمثل هذا الجهد، فانزلق ووقع أرضًا في الطين، وأبصره قائد الحرس، فأيقن أنه سيمسك بالطبيب أخيرًا.
لكن في اللحظة نفسها، وقع القائد بدوره، إذ لم يلحظ قردين كانا بانتظاره؛ وضعا عصا امتدت بعرض الطريق ليتعثر بها القائد. وما إن وقع ركضت القردة مبتعدة بسرعة. منح هذا الطبيب بعض الوقت للنهوض، فركض قُدمًا بسرعة خلف القردة.
صاح تشي تشي للجميع: «لا تقلقوا. أوشكنا على الوصول.» لكن كانت هناك عقبة أخرى؛ انتهت أرض الملك عند جرف شديد الانحدار، يجري تحته على عمق كبير نهر؛ وعلى الناحية الأخرى منه جرف آخر شديد الانحدار تقع عليه أرض القردة.
تطلع جيب إلى أرض القردة على الناحية الأخرى من تلك الهوة ثم قال: «يا للهول! كيف سنعبر؟ سيأتي حراس الملك في أي لحظة.»
أوقع القرد الكبير الخنزير جاب جاب الذي كان يحمله، وصاح: «بسرعة! جسر! علينا أن نصنع جسرًا!»
تلفت الطبيب حوله وتساءل ما الذي سيستخدمونه لصنع الجسر. كان هناك عدد قليل من قطع الخشب حولهم، لكنه لا يكفي لصنع جسر، فنظر إلى الأدغال متسائلًا ما الذي فاتته ملاحظته، فلما عاود الالتفات إلى الهوة، وجد القرود قد صنعوا بالفعل جسرًا؛ جسرًا من أجسامهم هم! تشابكت أيديهم وأرجلهم ومددوا أجسادهم عبر الهوة التي تفصل بين أرض الملك وأرض القرود.
وصاحوا للطبيب بأن عليه العبور قائلين: «مروا! بسرعة! مروا جميعًا!»
كان الدكتور دوليتل هو آخر من عبر، وفي اللحظة نفسها التي عبر فيها إلى الناحية الأخرى من الجسر، بلغ رجال الملك الجرف، فلوحوا بقبضتهم، وصرخوا بغضب لما أدركوا أنهم أتوا بعد فوات الأوان. وبلغ الطبيب والحيوانات أرض القرود بسلام، وجذبت القردة بعضها بعضًا إلى الناحية الأخرى من الجسر.
قال تشي تشي: «يجب أن تعلم يا حضرة الطبيب أن الكثير من المستكشفين والعلماء مكثوا خلسة بين الشجيرات آملين أن يروا هذا الجسر، لكننا لم نسمح لأحد من البشر أن يطَلع على هذه الحيلة. أنت أول من يرى جسر القردة.» فقال الدكتور دوليتل إنه شديد السرور بذلك.
كان الدكتور دوليتل يود الاسترخاء بعدما بلغ الجميع بسلام أرض القرود، لكن لم يكن هناك وقت لذلك، فبدأ على الفور في مساعدة القردة المريضة.