نشر كتاب «أصل الأنواع»
١٨٥٩
[في دفتر يوميات أبي بتاريخ ١ أكتوبر ١٨٥٩، يرِد الإدخال التالي: «أنهيتُ بروفات طباعة مُلخَّص كتاب «أصل الأنواع» (بعدما استغرقتُ ثلاثة عشر شهرًا وعشرة أيام)؛ طُبعَت من الكتاب ١٢٥٠ نسخة. نُشرَت الطبعة الأولى في ٢٤ نوفمبر، وبيعت النُّسخ كلها في اليوم الأول.»
في الثاني من أكتوبر، سافر إلى مصحةٍ للعلاج المائي في بلدة إلكلي بالقرب من ليدز؛ حيث مكث مع أسرتِه حتى شهر ديسمبر، وفي التاسع من ذلك الشهر، عاد مجدَّدًا إلى داون. ولا يوجد بعد ذلك في مُفكِّرته اليومية عن هذا العام سوى الإدخال التالي: «إبَّان نهاية نوفمبر وبداية ديسمبر، كنت منشغلًا بالتصحيح لطرح الطبعة الثانية التي تكوَّنت من ٣٠٠٠ نسخة، وبالعديد من الخطابات.»
يشير الخِطاب الأول وبضعة من الخطابات التالية إلى بروفات الطباعة، وإلى باكورة نُسَخ كتاب «أصل الأنواع» التي أرسلَت إلى بعض الأصدقاء قبل نشرِ الكتاب.]
من سي لايل إلى تشارلز داروين١
٣ أكتوبر ١٨٥٩
عزيزي داروين
لقد انتهيتُ حالًا من كتابك، وأنا في منتهى السعادة؛ لأنني بذلت قُصارى جهدي مع هوكر لإقناعك بنشره دون أن تنتظر وقتًا لم يكن ليأتي أبدًا على الأرجح وإن عشتَ مائة عام، في حين أنك أعددتَ بالفعل كلَّ حقائقك التي أقمتَ عليها قدرًا هائلًا من التعميمات العظيمة.
إنه مثال رائع على الاستدلال المنطقي المقنع، وحجةٌ متينة طويلة تمتد عبْر العديد من الصفحات، صحيح أن التكثيف هائل، بل ربما يكون صعبًا للغاية على غير المتخصِّصين، لكنه بيان تمهيدي فعَّال ومهم، وهذا سيسمح — حتى قبل ظهور بروفاتك التفصيلية — بإدراج بعض التوضيح المفيد بالأمثلة في بعض الحالات، كما فعلتَ في أمثلة الحَمامِ وهُدابيات الأرجل، التي استخدمتَها ببراعة شديدة.
أعني أنه حين تُطلَب منك طبعةٌ جديدة قريبًا، وهو ما أتوقَّع حدوثه بكل تأكيد، ربما يُمكنك أن تورِد في الكتاب حالاتٍ فعليةً لتخفيف هذا الكم الهائل من الافتراضات المجرَّدة. بالنسبة إليَّ، فأنا مستعد جدًّا للتسليم بصحة البيانات التي تذكرها إلى حدِّ أنني لا أظن أن نشر «الدلائل الداعمة» سيُشكِّل فارقًا كبيرًا، ولطالما كنت أرى بوضوح شديد أننا إذا أقررنا بصحة شيءٍ ما، فسوف ينطبق الأمر نفسه على جميعِ ما تدَّعيه في صفحاتك الختامية. وهذا ما جعلني أتردَّد لفترة طويلة جدًّا؛ بسبب شعوري الدائم بأن حالة الإنسان وأعراقه هي نفسها حالةُ الحيوانات الأخرى، وحالة النباتات أيضًا، وأننا إذا اعترفنا بوجود «سبب حقيقي» لإحداها، بدلًا من سببٍ تخيُّليٍّ مجهولٍ تمامًا، مثل كلمة «الخَلق»، فستنطبق النتائج نفسها على الحالات الأخرى.
ولأنني سأغادر هذا المكان الآن، يؤسفني القول إنني لا أملِك وقتًا للاسترسال بشأن الكثير من التعليقات، وللتعبير عن مدى إعجابي البالغ بفصل «الجُزُر المحيطية» و«الأعضاء الأثرية» و«علم الأجنة» و«المفتاح النَّسَبي للنظام الطبيعي»، و«التوزيع الجغرافي»، وإذا واصلتُ فسوف أنسخ عناوينَ كل فصولك. لكني سأدلي برأيٍ عن جزء «التلخيص»، إذا كان لا يزال ممكنًا إجراءُ شيء من التعديل الطفيف، أو على الأقل حذف كلمة أو اثنتَين في ذاك الجزء.
إن الصفحة الأولى من هذا الملخَّص المهم للغاية تمنح الخَصمَ أفضلية؛ وذلك بما تحمِله من طرحٍ مفاجئ وتقريبي لاعتراضٍ صادم مثل تكوُّن «العين» لا من خلال وسيلةٍ تُشبه العقل البشري، ولا حتى قوة تَفُوق العقلَ البشري بدرجة كبيرة للغاية، بل من خلال تباينات مستحثَّة كتلك التي يستفيد منها مُربُّو الماشية. وبذلك سيستلزم الأمر صفحاتٍ عديدةً لذكرِ الاعتراض وإزالته. وبما أنك تريد الإقناع، فسيكون من الأفضل أن تصمُت عن ذلك. احذف عدة جُمَل، ثم اطرح المسألة بدرجة أكبر من التفصيل في طبعاتٍ مستقبلية. وبين رمي حجر العثرة هذا في طريق القارئ، وصولًا إلى النَّمل العامل، في صفحة ٤٦٠، ينبغي أن تضيف بعضَ الصفحات؛ وسيمنح موضوعُ النمل هذا القارئَ فرصةً للهدوء حتى يتعافى من صدمةِ دعوته إلى تصديقِ أن العين وصلت إلى الكمال بعد حالةٍ من العمى التام أو العمى الجزئي، عبْر مثلِ هذه التحوُّلات التي نشهدها. أظن أن قليلًا من الحذف سيُقلِّل بشدةٍ من إمكانية أن تُثير هذه الجُمل اعتراضات، هذا إنْ لم يكن لديك وقتٌ لإعادة الصياغة وإضافة مزيد من التفاصيل.
… لكن هذه أمور صغيرة، مجرَّد بقعٍ على الشمس. أرى أن تشبيهك للحروف التي تظل باقيةً في هجاء الكلمات، بينما تنتهي فائدتها في النُّطق، بالأعضاء الأثرية ممتازٌ؛ فكلاهما يتعلَّق بالنَّسَب بالفعل.
إن عدم وجود طيور غير مألوفة في ماديرا يُمثِّل إشكاليةً أكبرَ ممَّا بدا لي عليه الأمر. أستطيع أن أستشهد بفقراتٍ تُوضِّح فيها أن التباينات قد استُحثَّت من الظروف الجديدة للمستعمرين الجُدد؛ ممَّا يقتضي أن تكون بعض طيور ماديرا غير مألوفة، شأنُها في ذلك شأن طيور جالاباجوس. وقد كان الوقت وفيرًا في حالة ماديرا وبورتو سانتو …
لقد وضعتَ أوراقك داخل مخطوطة قديمة؛ لذا يفرِض مكتب البريد عليها رسومًا إضافية، قدرُها بِنسان، كالخطابات، وهذا ملائم تمامًا. ليتَهم يفرضون الرسومَ نفسَها على جميع المخطوطات. لقد دَفعتُ أربعة شلنات وستة بِنسات قبل بضعة أيام مقابل هُراءٍ أتاني من باريس، من رجلٍ يستطيع إثبات وجود ٣٠٠ طوفان في وادي نهر السين.
مع خالص تهانِيَّ القلبية لك على عملك العظيم.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
إلكلي، يوركشاير،
١١ أكتوبر
[١٨٥٩]
عزيزي
لايل
أشكرك من أعماق قلبي لأنك منحتني الكثيرَ من وقتك الثمين في كتابة الخطاب الطويل المؤرَّخ باليوم الثالث من الشهر، والخطاب الأطول المؤرَّخ باليوم الرابع. لقد كتبتُ خطابًا قصيرًا وأرسلتُه مع بروفة الطباعة الناقصة إلى بلدة سكاربورو. لقد اعتمدتُ، مع جزيل شُكري، كل تصحيحاتك الصغيرة في الفصل الأخير، وطبَّقتُ التصحيحات الكبرى قدرَ استطاعتي، دون عناء كبير. خفَّفتُ أيضًا من وقعِ الفقرة الاستهلالية المتعلِّقة بمسألة العين (سأعرِضُ في عملي الأكبر ما حدث من تدرُّج في بنية العين)، واكتفيت باستخدام مصطلح «الأعضاء المعقَّدة» فحسب. يا لك من وزير عدلٍ رائع؛ إذْ تُخبر محامي أحد الطرفَين بأفضلِ السُّبُل للفوز بقضية! لقد كان إغفال ذِكر كلمة «الأحياء» بعد علماء التاريخ الطبيعي البارزين خطأً فادحًا.
بخصوص عدم وجود طيورٍ غير مألوفة في ماديرا وبرمودا. أنت مُحقٌّ، ثمَّة حَلْقة ناقصة، ولم أكن أظن أن أحدًا سيكتشفها، لقد ارتكبتُ خطأً غبيًّا في حذفِ مناقشةٍ كنت قد كتبتها كاملة. لكن دعني ألتمِس العذرَ لنفسي في النهاية بأن تحديد الأشياء الجديرة بالحذف كان صعبًا للغاية. إن الطيورَ التي واجهت صعوباتٍ في مواطنها الأصلية، حين تستقر مجتمعةً في بلد جديد وفي الوقت نفسه تقريبًا، لن تتعرَّض لكثير من التعديلات؛ لأن العَلاقات المتبادلة بينها لن تضطرب بشدة. غير أنني أوافقك الرأي تمامًا في أنها لا بُد أن تتعرَّض لبعض التعديلات بمرور الزمن. أعتقد أنها بقيت على حالها في ماديرا وبرمودا بسبب استمرار طيورٍ مهاجرة من النوع نفسه لم تتغيَّر صفاتُها في الوصول من البر الرئيسي، وتهاجنها مع الطيور التي استقرَّت في الجزر. يُمكن إثبات ذلك في برمودا، وهو مرجَّح جدًّا في ماديرا، مثلما اتضح لي من خطاباتٍ أرسلها إي في هاركورت. وعِلاوةً على ذلك، توجد أسبابٌ كثيرة للاعتقاد بأن النسل الهجين للمهاجرين الجُدد (أو الدم الجديد كما يقول المربُّون) والمستعمرين القُدامى من الأنواع نفسِها سيكون أشدَّ حيوية، وستكون احتمالية بقائه على قيد الحياة أكبرَ؛ ممَّا سيُعزِّز كثيرًا من أثرِ هذا التهاجُنِ في إبقاء المستعمرين القُدامى محتفظين بصفاتهم.
بخصوص اتسام كائنات جالاباجوس بطابَع أمريكي في ضوء فَرْضية الخَلق. لا أستطيع أن أوافقك الرأي في أنه إذا كانت الأنواع قد خُلقت لتتنافس مع أشكال أمريكية، كانت ستُخلَق ولا بد على النمط الأمريكي. لكن الحقائق تُشير إلى العكس تمامًا. انظر إلى الأرض غير المزروعة وغير المحروثة في لابلاتا، إنها «مغطاة» بكائنات أوروبية لا تجمعها علاقةٌ قريبة بالكائنات الأصلية. معنى هذا أنها ليست أنماطًا أمريكية تغزو الكائنات الأصلية. ينطبِق هذا على كل جزيرة في أنحاء العالم. من المهم جدًّا أن نراعي نتائج «ألفونس دي كاندول» على الدوام (وإن كان لا يرى أهميتها الكاملة)، التي تشير إلى أن [النباتات] المتوطِّنة تختلف للغاية في العموم عن النباتات الأصلية (التي تنتمي في جزء كبير من الحالات إلى أجناسٍ غير أصلية). إنني متيقن تمامًا من أنك ستفهم أنني لذلك أكتب بطريقةٍ افتراضية من أجل الاختصار.
بخصوص الخلق المستمر للكائنات الوحيدة الخلية. هذا الاعتقاد زائد عن الحاجة (ولا أساس له) وفقًا لنظرية الانتقاء الطبيعي، التي تُشير ضمنيًّا إلى عدم وجود نزعة «ضرورية» إلى التطوُّر. إذا لم يحدث انحراف مفيد في بنية أي كائن وحيد الخلية، تحت ظروف حياته «البسيطة للغاية»، فربما يظلُّ حتى يومنا هذا على حالته التي كان عليها قبل العصر السيلوري بوقت طويل، دون أيِّ تغيُّر. أعترف بأنه ستوجد نزعةٌ إلى الارتقاء في تعقيد التكوين بوجه عام، لكنه سيكون طفيفًا وبطيئًا في الكائنات المتكيِّفة على الظروف البسيطة للغاية. فأنَّى لتكوينٍ مُعقَّد أن يفيد كائنًا وحيدَ الخلية؟ وإذا لم يُفِده، فلن يحدث ارتقاء. ولهذا لا تختلف نقعيات الحِقبة الوسطى عن النقعيات الحية سوى اختلاف طفيف. قد ينجح الشكل الأصلي من الكائن الوحيد الخلية في البقاء على قيد الحياة دون أن يتغيَّر، ويظل متكيِّفًا على ظروفه البسيطة، في حين أنَّ نسل هذا الكائن الوحيد الخلية قد يتكيَّف على ظروفٍ أشدَّ تعقيدًا. من الممكن أن يكون النموذج الأولي البدائي لجميع الكائنات الحية والمنقرضة، على قيد الحياة الآن! إضافةً إلى ذلك، فالأشكال الأرقى قد تتدنَّى أحيانًا مثلما تقول؛ إذ «يبدو» (؟!) أن الأفعى الثعبانية العمياء لديها عادات ديدان الأرض. ولهذا يبدو لي أن فكرةَ الخلق الجديد للأشكال البسيطة غيرُ ذات صلة إطلاقًا.
«أليس لِزامًا علينا أن نفترض وجودَ قوة قديمة بادئة مُبدِعة لا تتصرَّف بطريقة مُوحَّدة، وإلا فكيف أمكنَ أن يظهر الإنسان لاحقًا؟» لستُ متيقنًا من أنني أفهم ما قلتَه بعد الجملة المذكورة أعلاه. لا بد لنا، في ظلِّ ما نعرفه حاليًّا، أن نفترض خَلقَ شكلٍ واحد أو بضعة أشكال بالطريقة نفسِها التي يفترض بها الفلاسفةُ وجودَ قوة جذبٍ بلا أي تفسير. لكني أرفض تمامًا، لأنني أرى ذلك غيرَ ضروري على الإطلاق، أي إضافة لاحقة لأي «قُدرات وسِمات وقوًى جديدة»، أو لأي «مبدأ تحسين»، إلا من حيث أن كل صفة من الصفات المُنتقاة طبيعيًّا أو المحتفظ بها تُمثِّل ميزةً أو تحسينًا بطريقةٍ ما، وإلا فما كانت ستُنتقى. ولو أنني كنت مقتنعًا باحتياجي إلى مثل هذه الإضافات في نظرية الانتقاء الطبيعي، لرفضتها باعتبارها محضَ هُراء، لكني أومن بصحتها؛ لأنني لا أستطيع تصديقَ أنها كانت ستُفسِّر فئاتٍ بأكملها من الحقائق التي أرى، إن كنتُ في كامل قواي العقلية ورُشدي، أنها تفسِّرها إذا كانت خاطئة. بقدرِ ما أفهمه من ملاحظاتك ورسوماتك التوضيحية، فأنت تشكُّ في احتمالية تدرُّج القوى الفكرية. حسنًا، يبدو لي، عند النظر إلى الحيوانات الحاليَّة، كلٌّ على حدة، أن لدينا تدرُّجًا دقيقًا جدًّا في القوى الفكرية للفقاريات، مع وجود فجوة واسعة بعض الشيء (لكنها لا تُضاهي نصفَ اتساع الفجوات في العديد من حالات البنية الجسدية) بين أحد أفراد الهوتنتوت وأحد أفراد إنسان الغاب على سبيل المثال، حتى وإن كان ذاك الفرد قد تطوَّر عقليًّا بقدرِ ما تطوَّر الكلب عقليًّا من الذئب. أفترضُ أنك لا تشك في أن القدرات الفكرية مهمَّة لرفاهية كل كائن قدرَ أهميةِ البنية الجسدية؛ وإن صحَّ ذلك، فلا أرى صعوبةً في أن يُنتقى الأفراد ذوو القدرات الفكرية العليا في أحد الأنواع باستمرار، وبذلك تتحسَّن القدرات الفكرية للأنواع الجديدة، ويساعدها في ذلك على الأرجح تأثيراتُ التمرين العقلي المتوارثة. وأنا أرى أن هذه العملية تجري الآن مع أعراق الإنسان؛ إذ تَفنى الأعراقُ ذات القدرات الفكرية الأقل. لكن المجال لا يسمح بمناقشة هذه النقطة هنا. إذا كنتُ أفهمك، فلا بد أن النقطة المفصلية في خلافنا هي أنك تعتقد أنه من المستحيل أن تتحسَّن القدراتُ الفكرية لأي نوع تحسُّنًا كبيرًا بالانتقاء الطبيعي المستمر للأفراد ذوي القدرات الفكرية العليا. لكي تتضح لك كيفية تدرُّج العقول، ما عليك سوى تأمُّل مدى الصعوبة الهائلة التي واجهت جميعَ مَن حاولوا تحديدَ الاختلاف بين عقل الإنسان والحيوانات الأدنى منه حتى الآن؛ إذ يبدو أن هذه الحيوانات تتمتَّع بالسِّمات العقلية نفسها، لكنها على درجةٍ من الكمال أدنى بكثير من السمات العقلية التي يتمتَّع بها الإنسانُ في أكثر حالاته همجية. ما كنت لأعتَدَّ بنظرية الانتقاء الطبيعي إطلاقًا إذا كانت ستتطلَّب إضافاتٍ خارقةً عند أي مرحلة من مراحل الانحدار. أظن أن عِلم الأجنة وعلم التنادُد والتصنيف، وما إلى ذلك، كلها توضِّح لنا أن الفقاريات جميعها قد انحدرت من أصل واحد، أمَّا عن كيفية ظهور هذا الأصل فنحن لا نعرف ذلك. أعتقد وإذا اعترفتَ، ولو أدنى اعتراف، بالتفسير الذي طرحتُه فيما يتعلَّق بعلم الأجنة وعلم التنادُد والتصنيف، فستجد صعوبةً في القول بأن التفسير صالح حتى الآن، لكن صحَّته تتوقَّف عند هذا الحد، وهنا يجب أن نستعين ﺑ «إضافة قوًى مُبدعة جديدة». أظن أنك إمَّا سترفض التفسيرَ بأكمله أو ستُقرُّه بأكمله؛ وأخشى، بناءً على خطابك الأخير، أن يتحقَّق الاحتمال الأول، وفي هذه الحالة سأكون متيقنًا من أن ذلك خطئي، لا عيبٌ في النظرية، وسيكون هذا عزاءً لي بالتأكيد. وبخصوص انحدار الممالك الكبرى (كالفقاريات والمفصليات وما إلى ذلك) من أصل واحد، فقد قُلت في الختام إن التشابه وحدَه يجعل من ذلك احتمالًا مرجَّحًا لديَّ، وأرى في تقديري الشخصي أن صحة حُججي وحقائقي تقتصر على كل مملكة منفصلة على حدة.
بخصوص الأشكال التي تُغلَب وتشترك في وراثتها للدونية. أظن أنني لم أكن حَذِرًا بما يكفي، ولكن ألَا يُمكن أن يشير مصطلحُ الدونية إلى درجةٍ أقلَّ من التكيُّف مع الظروف الطبيعية؟
إن ملاحظاتي لا تنطبق على نوعٍ مفرد، بل على مجموعات أو أجناس؛ إذ تتكيَّف أنواع معظم الأجناس على الأقل مع مناخاتٍ أشد حرارةً بعض الشيء، وأخرى أقل حرارةً بعض الشيء، ومع مناخاتٍ أشد رطوبةً بعض الشيء، وأخرى أجفَّ بعض الشيء، وعندما تُغلَب أنواعٌ متعدِّدة لمجموعةٍ ما وتفنى بفعلِ عدد من أنواع مجموعة أخرى، فلا أعتقد أن السبب في العادة هو تكيُّف «كل» نوع جديد مع المُناخ؛ بل لأن كل الأنواع الجديدة تحظى بأفضليةٍ شائعة بينها في الحصول على القُوت أو الهروب من الأعداء. وبخصوص المجموعات، فثمَّة توضيحٌ أنسبُ من مثال الزنوج وذوي البشرة البيضاء في ليبيريا؛ ألَا وهو الانقراض المستقبلي شبه الأكيد لجنس إنسان الغاب بأيدي جنس الإنسان، وليس ذلك لأن الإنسان أصلحُ للتكيُّف مع المُناخ؛ بل بسببِ ما يرِثه جنسُ إنسان الغاب من دونيةٍ فكرية مقارنةً بجنس الإنسان الذي يستطيع بقدراته الفكرية اختراعَ الأسلحة وإزالة الغابات. أعتقد، بناءً على الأسباب الواردة في مناقشتي، أن التأقلم مع المُناخات المختلفة يحدُث بسهولة تحت تأثير الطبيعة. لقد استغرق الأمرُ سنواتٍ كثيرةً جدًّا كي أحرِّر عقلي من وهمِ أهمية المُناخ الكبيرة «المُبالغ فيها» — لأن تأثيره المهمَّ جليٌّ جدًّا، في حين أن التأثير المهم للتناحر بين كائنٍ وآخر مستترٌ جدًّا — حتى إنني أرغب في سبِّ القطب الشمالي، وإهانةِ خط الاستواء، كما قال سيدني سميث. أناشدك مرارًا أن تُفكِّر (مع العلم أنني لم أجد «أي شيء» أكثرَ إفادةً من ذلك) في حالة آلاف النباتات في النقطة الوُسطى من نطاقاتها الخاصة بها، والتي نعلم يقينًا أنها تستطيع تحمُّل قدرٍ أكبرَ بقليل من الحرارة أو البرودة، وقدرٍ أكبرَ بقليل من الرطوبة والجفاف تحمُّلًا مثاليًّا، لكنها لا توجد بأعدادٍ كبيرة في البؤر الرئيسية الكبيرة من نطاق انتشارها، مع أنها ستُغطِّي الأرضَ كلها إذا فَنيت الأنواعُ الأخرى التي تسكن تلك المنطقة. وهكذا يتبيَّن لنا أن أعدادها تظل مُحجَّمة، في جميع الحالات تقريبًا، وليس ذلك بسبب المُناخ، بل بسبب تناحرها مع الكائنات الحية الأخرى. ربما ستظن أن كل هذا واضح جدًّا، لكني كنت أتبنَّى فكرةً خاطئة تمامًا عن اقتصاد الطبيعة، على حد ظني، إلى أن ظَلِلت أكرِّر ذلك لنفسي آلاف المرات …
بخصوص التهجين. لقد سُررتُ جدًّا باستحسانك هذا الفصل، وستُذهَل من الجهد المضني الذي كلَّفني إيَّاه؛ فكثيرًا ما كنتُ أتَّبع مسارًا خاطئًا، حسبما أعتقد.
إن الاعتراف بأجنة الأعضاء التنبُّئية يكافئ رفضَ نظرية الانتقاء الطبيعي.
إنني في غاية السعادة لأنك ترى كتابي جديرًا بالمطالعة مرةً أخرى، من أجل موضوع الكتاب نفسه بقدرِ ما هو من أجلي أيضًا، أو أكثر. لكني أعتبر انشغالَك بعضَ الوقت القليل بالموضوع — أي انهماكك في طرح بعض المشكلات التي واجهتك شخصيًّا في استيعابه، وحلِّها — أهمَّ بكثير من قراءة كتابي. وأتوقَّع أنك، إذا فكَّرت فيه باستغراقٍ كافٍ، فستحيد عن رأيك، وإذا حدث ذلك في أي وقت على الإطلاق، فسأعرف أن نظرية الانتقاء الطبيعي موثوقةٌ عمومًا؛ من شبه المؤكَّد أنها تتضمَّن أخطاءً عديدة، كما طُرِح الآن، وإن كنتُ لا أستطيع رؤيتَها. لا تُفكِّر بالطبع في الرد على هذا الخطاب، ولكن إذا أتيحت لك أيُّ «فرصة» أخرى لإرسال خطاب آخر، فلتُخبرني فقط بما إذا كنت قد زحزحتُك عن أيٍّ من اعتراضاتك ولو قَيدَ أنملة. إلى اللقاء. مع خالص شكري على خطاباتك الطويلة وتعليقاتك القيِّمة.
من تشارلز داروين إلى إل أجاسي
داون، ١١ نوفمبر [١٨٥٩]
سيدي
العزيز
لقد تجرَّأتُ على أن أبعث إليك بنسخة من كتابي (الذي ما زال مجرَّد نبذة حتى الآن) عن «أصل الأنواع». ونظرًا إلى أن الاستنتاجات التي توصَّلتُ إليها بشأن عدة نقاط تختلف بشدة عن استنتاجاتك، ظننتُ أنك (إذا قرأتَ مجلَّدي في أي وقت) ربما تظن أني أرسلته إليك بدافعٍ من التحدي أو التبجُّح، لكني أؤكِّد لك أنني أتصرَّف بِنِيَّة مختلفة تمامًا. وأرجو، على الأقل، أن أنال تقديرك، بِغض النظر عن مدى الخطأ الذي قد تراه في استنتاجاتي؛ لأنني سعيت بكل جِدٍّ إلى بلوغ الحقيقة.
من تشارلز داروين إلى إيه دي
كاندول
داون، ١١ نوفمبر [١٨٥٩]
سيدي العزيز
ارتأيتُ أنك ستسمح لي بأن أرسل إليك نسخةً من عملي (الذي لا يزال نبذةً فحسب حتى الآن) عن «أصل الأنواع» (بواسطة دار «ويليامز آند نورجيت» لنشر الكتب وبيعها). أودُّ فعل ذلك؛ لأنه الطريقة الوحيدة، وإن كانت غيرَ مناسبة تمامًا، التي أستطيع أن أثبت لك بها الاهتمامَ البالغ الذي تملَّكني، والفائدة العظيمة التي جنيتها، من دراسة عملك العظيم والنبيل عن «التوزيع الجغرافي». يمكنني القول إنك إذا اقتنعت بقراءة مُجلَّدي، فلن تجده مفهومًا إلا إذا قرأته كلَّه دُفعةً واحدة حتى نهايته بلا توقُّف؛ لأنه مُكثَّف للغاية. سأكون في منتهى السرور إذا نال أيُّ جزء منه اهتمامك. لكني أعي تمامًا أنك ستختلف كليًّا مع الاستنتاج الذي توصَّلتُ إليه.
من تشارلز داروين إلى هيو
فالكونر
داون، ١١ نوفمبر [١٨٥٩]
عزيزي فالكونر
لقد طلبتُ من موراي أن يبعث إليك بنسخة من كتابي عن «أصل الأنواع»، الذي لا يزال محضَ نُبذة حتى الآن.
إذا قرأتَه، فيجب أن تقرأه كلَّه دُفعةً واحدة حتى نهايته بلا توقُّف، وإلا فستجده غيرَ مفهوم لأنه مُكثَّف للغاية.
يا إلهي! ما أشدَّ الوحشيةَ الضارية التي ستنتابك حين تقرؤه! وكم سترغب في أن تصلبني حيًّا! يؤسفني القول إن هذا هو التأثير الوحيد الذي سيُحدثه فيك، لكن إذا زحزحك محتواه عن موقفك ولو قَيد أنملة، فعندئذٍ سأكون مقتنعًا تمامًا بأنك ستُصبح، سنةً تلو الأخرى، أقل ثباتًا على موقفك المؤمن بعدم قابلية الأنواع للتغيُّر. وبهذه القناعة الجريئة المتجاسرة.
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ١١ نوفمبر [١٨٥٩]
عزيزي
جراي
قد طلبت أن تُرسَل إليك نسخةٌ من كتابي عن «أصل الأنواع» (الذي لا يزال نُبذةً فحسب حتى الآن). أعرف أن ليس لديك مُتَّسع من الوقت، لكن إن استطعتَ قراءته، فسأكون سعيدًا للغاية … إذا قرأته في أي وقتٍ على الإطلاق، واستطعت استقطاعَ بعض الوقت لتُرسل إليَّ أيَّ رسالة، مهما كانت قصيرة (لأنني أقدِّر رأيك للغاية)، تخبرني فيها بأضعف أجزائه وأفضلها من وجهة نظرك، فسأكون في منتهى الامتنان. ولأنك لست جيولوجيًّا، فستسامحني على غروري في إخبارك بأنَّ لايل استحسن الفصلَين الجيولوجيَّين، ويرى أن الفصل المتعلِّق ﺑ «قصور السجل الجيولوجي» ليس مبالغًا فيه. إنه على مشارف التحوُّل إلى اعتناق آرائي …
دعني أضيف أنني أعترف تمامًا بوجود صعوبات عديدةً لم تشرحها نظريتي عن الانحدار مع التعديل شرحًا وافيًا، لكني لا أستطيع تصديقَ أن نظريةً خاطئة يُمكنها أن تشرح عددًا هائلًا من مجموعات الحقائق، وهو ما أرى أن نظريتي تشرحه بالتأكيد. فعلى هذه الأرض، أنزل مرساتي، وأعتقد أن الصعوبات ستتلاشى رُويدًا …
من تشارلز داروين إلى جيه إس
هنزلو
داون، ١١ نوفمبر [١٨٥٩]
عزيزي هنزلو
لقد طلبتُ من موراي أن يرسل نسخةً من كتابي عن «الأنواع» إليك يا أستاذي العزيز القديم في التاريخ الطبيعي، لكني مع ذلك أخشى ألا تستحسن تلميذك هذه المرة. فالكتاب في حالته الحاليَّة لا يدل على مقدار الجهد المضني الذي بذلته في موضوعه.
إذا كان لديك مُتسع من الوقت لتقرأه بإمعان، وتكبَّدتَ عناء الإشارة إلى أردأ أجزائه وأفضلِها من وجهة نظرك، فسيكون ذلك عَونًا مُهمًّا جدًّا لي في كتابة كتابي الأكبر، الذي أرجو أن أبدأه في غضون بضعة أشهر. تعرف أيضًا مدى تقديري الكبير لرأيك. لكن من غير المنطقي أن أرغب في الحصول على انتقادات مُفصَّلة وطويلة وأتوقَّع منك ذلك، بل ملاحظات عامة فحسب، تُشير فيها إلى أردأ الأجزاء.
وإذا «تزحزحتَ ولو قَيد أنملة»، عن إصراركَ على عدم قابلية الأنواع للتغيُّر (وإن كنتُ لا أتوقَّع ذلك)، فسأكون مقتنعًا حينها بأنك ستتزحزح أكثرَ فأكثر كلما فكَّرت في الأمر؛ لأن هذه هي العملية التي مرَّ بها عقلي.
تشارلز داروين إلى جون لوبوك٤
إلكلي، يوركشاير،
السبت [١٢ نوفمبر ١٨٥٩]
… شكرًا جزيلًا لك على دعوتي إلى القدوم إلى برايتون. أرجو من كل قلبي أن تستمتع بإجازتك. لقد طلبتُ من موراي أن يرسل إليك نسخةً في شارع مانشن هاوس، وفوجئت بأنك لم تتسلَّمها. يوجد كمٌّ هائل من الحجج المنطقية الوجيهة التي تُعارض أفكاري، إلى حد أنك، أو أي أحد آخر من المعارضين، ستُقنع نفسك بسهولة بأنني مخطئ تمامًا، وصحيحٌ أنني مخطئ جزئيًّا بالطبع، أو ربما حتى كليًّا، لكني لا أستطيع رؤية ضلال الأساليب التي اتبعتها. أظن أنه حين ثَبت لأول مرة أن الرعد والبرق يحدُثان بأسباب ثانوية، حزن البعض للتخلِّي عن فكرة أن كل ومضة من البرق كانت تحدُث بفعلٍ مباشر من يد الرب.
إلى اللقاء؛ فأنا أشعر بتوعُّك شديد اليوم؛ لذا لن أزيد على ذلك.
تشارلز داروين إلى جون لوبوك
إلكلي، يوركشاير، الثلاثاء [١٥ نوفمبر ١٨٥٩]
عزيزي لوبوك
أرجو أن تعذرني على إزعاجك مُجدَّدًا. لا أعرف كيف أخطأتُ في التعبير عمَّا بداخلي إلى الحد الذي جعلك تعتقد أننا قبِلنا دعوتك الكريمة إلى برايتون. كلُّ ما قصدته هو أن أشكرك من أعماق قلبي على رغبتك في أن ترى رجلًا عجوزًا مُنهكًا مثلي. فأنا لا أعرف متى سنغادر هذا المكان، ليس قبل أسبوعَين، وسنرغب عندئذٍ في الاستراحة تحت قمة سقفنا الهرمي المدبَّب.
لا أظن أنني أعجِبت بأي كتاب تقريبًا أكثرَ ممَّا أعجِبت بكتاب «اللاهوت الطبيعي» الذي ألَّفه بالي. كان بإمكاني في الماضي أن أسرُد محتواه عن ظهر قلب تقريبًا.
أنا سعيد بأنك حصلت على كتابي، ولكن يؤسفني القول إنك تبالغ في تقديره. سأكون ممتنًّا لأي انتقادات. لا أكترث بالمقالات النقدية، وإنما برأيك أنت وهوكر وهكسلي ولايل، وأمثالكم.
إلى اللقاء، مع جزيل شكرنا المشترك للسيدة لوبوك ولك. وداعًا.
من تشارلز داروين إلى إل جينينز٥
إلكلي، يوركشاير،
١٣ نوفمبر ١٨٥٩
عزيزي
جينينز
يجب أن أشكرك على رسالتك اللطيفة جدًّا التي أرسلتها إليَّ من داون. لقد مرضتُ بشدة هذا الصيف، وأخضع للعلاج المائي هنا منذ ستة أسابيع، لكنَّ مفعوله طفيفٌ جدًّا حتى الآن. سأبقى هنا أسبوعَين آخرَين على الأقل. أرجو أن تتذكَّر أن كتابي مجرَّد نُبذة ومكثَّف للغاية، ويجب أن يُقرأ بإمعان لكي يُفهَم ولو قدرًا ضئيلًا منه. سأكون ممتنًّا جدًّا لأي انتقادات. لكني أعي تمامًا أنك لن تتفق معي بالكامل على الإطلاق. فقد استغرق تحويل قناعاتي إلى الإيمان بهذه الأفكار سنواتٍ عديدة. صحيحٌ أنني ربما أكون مخطئًا بفداحة، لكني لا أستطيع إقناع نفسي بأن النظرية التي تشرح فئاتٍ كثيرةً من الحقائق (كما أرى أنها تشرحها بكل تأكيد) يُمكن أن تكون خاطئةً تمامًا؛ بالرغم من الصعوبات العديدة التي يجب التغلُّب عليها بطريقة أو بأخرى، والتي تُحيِّرني شخصيًّا حتى إلى يومنا هذا.
ليت حالتي الصحية قد سمحت لي بنشر الكتاب كاملًا، إذا تعافيتُ بما يكفي في أي وقت، فسأفعل ذلك؛ لأنني أتممت كتابة الجزء الأكبر، وهذا المجلَّد الحالي ملخَّص لمخطوطته.
يؤسفني أن تجد هذه الرسالة غير قابلة للقراءة تقريبًا، لكني متوعِّك، ولا أستطيع القعودَ منتصِبًا إلا بصعوبة بالغة. إلى اللقاء، مع جزيل شكري لك على رسالتك اللطيفة والذكرى السارَّة للأيام الخوالي.
من تشارلز داروين إلى إيه آر
والاس
إلكلي، ١٣ نوفمبر ١٨٥٩
سيدي العزيز
لقد أخبرتُ موراي أن يرسل إليك نسخةً من كتابي بالبريد (إن أمكن)، وآمُل أن تتسلَّمها بالتزامن تقريبًا مع هذه الرسالة. (ملحوظة: إحدى أصابعي مصابة؛ لذا أكتب بخطٍّ سيئ للغاية.) إذا لم يكن لديك مانع، فسأودُّ بشدة أن أسمع انطباعك العام عن الكتاب، نظرًا إلى أنك فكَّرت في الموضوع بإمعان، وأفكارنا تكاد تكون متماثلة. أرجو أن تجد فيه بعض المعلومات الجديدة عليك، لكن يؤسفني القول إنها لن تكون كثيرة. تذكَّر أنه ليس سوى مُلخَّص، ومُكثَّف للغاية. الرب وحده يعلم ما سيكون انطباع الجمهور عنه. لم يقرأه أحدٌ سوى لايل، الذي ظَلِلت أراسله كثيرًا. يعتقد هوكر أن لايل قد غيَّر رأيه تمامًا واعتنق فكرتي، لكنه لا يبدو كذلك في خطاباته إليَّ، غير أنه شديد الاهتمام بالموضوع، وذلك جلي للغاية. لا أظن أن الحُكَّام الحقيقيين، أمثال هوكر ولايل وآسا جراي، سيُغفلون إسهامك في النظرية. سمعتُ من السيد سلاتر أن ورقتك عن أرخبيل الملايو قد قُرِئت في الجمعية اللينية، وأنه كان في «غاية» الاهتمام بها.
لم ألتقِ أيًّا من علماء التاريخ الطبيعي منذ ستة أشهر أو تسعة بسبب حالتي الصحية؛ لذا ليس لديَّ أي أخبار جديدة أخبرك بها. أكتب هذا الخطاب في إلكلي ويلز، حيث أقيم مع أسرتي منذ ستة أسابيع، وسأبقى بضعة أسابيع أخرى. لكني لم أتحسَّن إلا قليلًا حتى الآن. الرب وحده يَعلم متى سأتعافى بما يكفي لنشر كتابي الأكبر.
من تشارلز داروين إلى دبليو دي
فوكس
إلكلي،
يوركشاير،
الأربعاء [١٦ نوفمبر
١٨٥٩]
… يعجبني المكان للغاية، وقد استمتع به الأطفال كثيرًا، وعاد بالنفع على زوجتي. وعاد بالنفع على هنرييتا في البداية أيضًا، لكن حالها ساء مُجدَّدًا. أمَّا أنا فتعرَّضتُ لسلسلة من الحوادث: الْتواء في الكاحل أولًا، ثم تورُّم شديد في ساقي كلها ووجهي، وطفح جلدي شديد، ومجموعة متتالية بشِعة من الدمامل، أربعة أو خمسة في المرة الواحدة. لقد مَرِضتُ بشدة، وليس لديَّ إيمان بأن هذه «المحنة الفريدة»، كما يصفها الطبيب، تنفعني كثيرًا … الأرجح أنك تلقَّيت كتابي الممل عن الأنواع، أو ستتلقَّاه قريبًا جدًّا، وأعتقد بطبيعة الحال أنه يحوي الحقيقةَ بدرجة كبيرة، لكنك لن تتفق معي إطلاقًا. لقد غيَّر الدكتور هوكر، الذي أعتبره أحدَ أفضل الخبراء في أوروبا، رأيه وصار مقتنعًا تمامًا بأفكاري، ويظن أن لايل أيضًا أصبح كذلك؛ وأؤكِّد لك أن لايل، بِناءً على خطاباته إليَّ عن الموضوع، قد تزحزح عن قناعته السابقة وصار مُتردِّدًا بشدة. إلى اللقاء. إذا أثَّر الكتاب في أفكارك، فلتخبرني …
من تشارلز داروين إلى دبليو بي
كاربنتر
إلكلي، يوركشاير،
١٨ نوفمبر [١٨٥٩]
عزيزي
كاربنتر
يجب أن أشكرك على خطابك بالأصالة عن نفسي، وإذا كنت أعرف نفسي، يجب أن أوجِّه إليك شُكرًا أشدَّ حرارةً نيابةً عن الموضوع. ذلك أنك، حسبما يبدو، قد فهمت فصلي الأخير دون قراءة الفصول السابقة، فلا شك أنك فكَّرت في الموضوع في قرارة نفسك بنُضج وعُمق شديد؛ إذ إنني وجدت صعوبةً هائلة في أن أجعل حتى أبرعَ الرجال يفهمون مقصدي. ستلقى آرائي معارضةً قوية. وإذا كنتُ مُصيبًا في العموم (مع مراعاة وجود بعض الأخطاء الجزئية لم ألحظها بالطبع)، فإن الاعتراف بصحة آرائي سيتوقَّف على ذوي السُّمعة الراسخة من أمثالك بأكثرَ ممَّا يتوقَّف على كتاباتي نفسها. ومن ثَم، بافتراض أنك اعتقدت بصحة آرائي في العموم حين قرأت كتابي، لك مني خالص الشكر والاحترام على استعدادك للمجازفة باحتمالية انخفاض شعبيتك في سبيل الدفاع عن هذه الآراء. لا أعرف إطلاقًا ما إذا كان أي شخص سيكتب مراجعةً عن الكتاب في أيٍّ من الدوريات العلمية. وأنا لا أعرف كيف يُمكن لمؤلِّفٍ أن يستفسر عن شيء كهذا أو يتدخَّل فيه، لكن إذا كنتَ راغبًا في كتابة مقالٍ عن الكتاب في أي مكان، فأنا متيقن، بِناءً على الإعجاب الذي لطالما شعرتُ به وأعربت عنه تجاه كتابك عن «علم وظائف الأعضاء المُقارَن»، من أن مقالك النقدي سيكون ممتازًا، وسيُقدِّم عونًا جليلًا للقضية التي أظن أنني مُهتَم بها اهتمامًا عميقًا غير أناني. أشعر بتوعُّك شديد اليوم، وصحيحٌ أن هذه الرسالة مكتوبة بخط سيئ، وربما يكاد يكون غير مقروء، لكن اعذرني لأنني لم أستطِع تفويتَ البريد دون أن أشكرك على رسالتك. ستُواجهك مُهمَّة صعبة في زحزحة السِّير إتش هولاند عن رأيه ولو قَيد أنملة. لا أظن (وأقول هذا سرًّا بيننا) أن الرجل العظيم لديه معرفة كافية لمعالجة الموضوع.
من تشارلز داروين إلى دبليو بي
كاربنتر
إلكلي، يوركشاير،
١٩ نوفمبر [١٨٥٩]
عزيزي
كاربنتر
أرجو أن تعذرني على إزعاجك مُجدَّدًا. إذا استطعتَ، بعد قراءة كتابي، التوصُّل إلى استنتاجٍ قاطع بأيِّ درجة كانت، فهل يكون من غير الملائم أن أطلب منك إرسال خطاب إليَّ؟ لا أطلب مناقشةً مُطوَّلة، بل فكرة موجزة فحسب عن انطباعك العام. فبِناءً على معرفتك الواسعة، وعادتك في تحرِّي الحقيقة، وقدراتك، فإنني أكِّن لرأيك أعلى درجات التقدير. وبالرغم من أنني أومن بصحة اعتقادي بالطبع، فأنا أرى أن الاعتقاد لا يكون حيويًّا إلا حين يتشارك أناس آخرون في الإيمان به. وحتى الآن لا أعرف سوى مؤمن واحد، لكني أعتبره صاحب الخبرة الأكبر، وأقصد هنا هوكر. حين أتأمَّل الحالات العديدة التي عكف فيها رجالٌ على دراسة موضوع واحد على مدار سنوات، وأقنعوا أنفسهم بصحة أكثر الاعتقادات حماقةً، أحيانًا ما يراودني قليلٌ من الخوف حيالَ احتمالية أن أكون واحدًا من هؤلاء المجانين المهووسين بفكرة واحدة.
أرجو مُجدَّدًا أن تعذرني على هذا الطلب الذي أخشى أن تراه غيرَ ملائم. تكفيني رسالة قصيرة، وأستطيع أن أتحمَّل رأيًا معارضًا مُخالفًا، فسيتحتَّم عليَّ تحمُّل الكثير من مثل هذه الآراء.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
إلكلي، يوركشاير،
الأحد [نوفمبر ١٨٥٩]
عزيزي
هوكر
آمُل أن تكون قد تلقَّيت النُّسخ الثلاث المُخصَّصة لعلماء النبات الأجانب قبل موعد الطرد الذي توَد إرساله، ونسختك أنت أيضًا. لقد تلقَّيتُ خطابًا من كاربنتر، الذي أظنه من المحتمل أن يُغيِّر رأيَه ويعتنق فكرتي. وكذلك تلقَّيت خطابًا من كاتريفاج، الذي يميل إلى الاتفاق معنا. يقول إنه عَرَض في محاضرته رسمًا بيانيًّا يُشبه رسمي البياني بشدة!
كنتُ في غاية السعادة بفوز السيد بينثام بالقلادة الملكية.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ٢١ نوفمبر ١٨٥٩
عزيزي هوكر
أرجو أن تُبلِغ السيدةَ هوكر شكري لها على رسالتها اللطيفة جدًّا، التي أسعدتني بشدة. نحن في غاية الأسف لأنها لا تستطيع المجيء إلى هنا، لكننا سنسعد برؤيتك هنا في الأسبوع الثاني من يناير أو أي وقتٍ آخر، وسيُسعدنا أيضًا أن يأتي دبليو معك (سيكون أولادنا في المنزل). سأستمتع جدًّا بمناقشةِ أي نقاط في كتابي معك …
أكره سماعَك تُسيء إلى عملك. فأنا، على عكس ذلك، أكِنُّ خالصَ التقدير الصادق تُجاه كل كتاباتك. إنني أحمل في قرارة نفسي قناعةً قديمة راسخة بأن علماء التاريخ الطبيعي الذين يجمعون الحقائقَ ويتوصَّلون إلى الكثير من التعميمات الجزئية هُم مَن يَنفعون العلمَ «حقًّا». أمَّا أولئك الذين يكتفون بجمعِ الحقائق، فلا يسعني أن أحترمَهم كثيرًا.
كنتُ آمُل أن أذهب إلى النادي غدًا، لكني لا أظن أنني سأكون قادرًا على ذلك. يبدو أن «إلكلي» لم تُجدِ أيَّ نفع حقيقي لي. حضرتُ جلسةَ قضاة الصُّلح يوم الإثنين، وظَلِلت عالِقًا أفصلُ في بعض القضايا المزعِجة وقتًا أطول من المعتاد بساعة ونصف، ثم عُدت إلى المنزل مُنهَكًا تمامًا غيرَ قادر على استجماع قواي. يا لي من شخصٍ عديم القيمة! … لك جزيل شكري على رسالتك المُبهِجة.
من إتش سي واطسون إلى تشارلز
داروين
تيمز ديتون، ٢١ نوفمبر
[١٨٥٩]
سيدي
العزيز
- الأول: من المؤكَّد أن فكرتك الأساسية؛ أي «الانتقاء الطبيعي» سوف تنال اعترافًا بأنها حقيقةٌ راسخة في العلم. إنها تحمل سمات كل الحقائق الطبيعية العظيمة؛ إذ تُوضِّح ما كان غامضًا، وتبسِّط ما كان مُعقَّدًا، وتُضيف معلوماتٍ هائلةً إلى المعرفة السابقة. إنك أعظمُ ثوري في التاريخ الطبيعي في هذا القرن، إن لم يكن في جميع القرون.
- الثاني: ربما ستحتاج، بعض الشيء، إلى أن تُحجِّم تطبيقاتك الحاليةَ لمبدأ الانتقاء الطبيعي أو أن تُعدِّلها، وربما ستحتاج بعض الشيء أيضًا إلى توسيع نِطاقها. من دون الخوض في مسائلَ تفصيليةٍ بدرجة أكبر، أرى أن الكتاب يتضمَّن مثالًا أساسيًّا على عدم الاتساق، نشأ من قصور المقارنةِ بين الضروب والأنواع، ومثالًا آخر يتمثَّل في افتراض وجودِ شيء أشبه بالحاجز لدى الطبيعة ينشأ من «التشعُّب»، غير أنه لا توجد أسسٌ كافية تدعم هذا الافتراض. ومع ذلك، ربما تكون هذه أخطاءً من وحي تصوُّري الشخصي؛ لأن إدراكي لآرائك لا يزال منقوصًا. ومن الأفضل ألَّا أزعجك بشأنها قبل أن أقرأ الكتابَ مرةً أخرى.
- الثالث: الآن وقد عُرضَت هذه الآراءُ الجديدة بإنصافٍ أمام جمهور العلماء، يبدو من اللافت للنظر حقًّا كيف أن الكثيرين منهم لم يرَوا طريقَهم الصحيحَ قبل ذلك. فكيف ظلَّ السير سي لايل، على سبيل المثال، يقرأ عن موضوع الأنواع و«تعاقبها»، ويكتب عنه ويُفكِّر فيه طوال ثلاثين عامًا، ومع ذلك ظلَّ يبحث باستمرار في الطريق الخطأ!
قبل ربع قرن، لا بد أننا كنَّا، أنا وأنت، نحمل الرأي نفسَه فيما يتعلَّق بالمسألةِ الرئيسية، لكنك استطعت التوصُّل إلى «كيفية» التعاقب، التي تُعَد هي أهمَّ شيء على الإطلاق، بينما فشِلت أنا في استيعابها. أرسل إليك ضِمن هذه الدُّفعة البريدية كُتيبًا صغيرًا قديمًا مثيرًا للجدل عن كومب وسكوت. وإذا كلَّفتَ نفسَك عناءَ إلقاء نظرة خاطفة على الفقرات المدوَّنة على الهامش، فستجد أنني منذ ربع قرن، كنتُ أيضًا أحدَ القلائل الذين شكَّكوا آنذاك في التميُّز المُطلَق للأنواع، وخَلقها خلقًا خاصًّا. لكني، كالبقية، عجزتُ عن اكتشاف «الكيفية» التي ظلَّت محجوزة ﻟ «تكتشفها» فطنتُك و«تُطبِّقها» بصيرتك.
لقد أجبتَ عن استفساري بشأنِ الفجوة بين قرد الساتيروس والبشَر كما كان متوقَّعًا. والحق أن التفسيرَ الواضح لم يخطُر ببالي قَط إلا بعدما قرأتُ الأوراقَ البحثية في دورية «لينيان بروسيدينجز» ببضعة أشهر. فلا شكَّ أن الأنواع الأولى من «أشباه البشر» سرعان ما شنَّت حربًا مباشِرةً على أبناء عمومتهم من أنواع «ما دون البشر» أدَّت إلى فَنائهم. وهكذا تشكَّلت الفجوة، ثم استمرَّت في الاتساع وصولًا إلى الفجوة الحالية الهائلة التي لا تزال تتسع. وكم سيكون ذلك، إضافةً إلى التسلسل الزمني الذي اقترحتَه لحياة الحيوانات، صادمًا لأفكار الكثيرين من الرجال!
من جيه دي هوكر إلى تشارلز
داروين
نادي الأثنيام، الإثنين [٢١ نوفمبر
١٨٥٩]
عزيزي داروين
أذنبتُ بعدم إرسال خطابٍ إليك قبل هذا الحين، ولو لكي أشكرَك فيه على كتابك العظيم فحسب — يا له من كتلةٍ من الاستدلال المنطقي المُحكَم بشأن حقائقَ غريبةٍ وظواهرَ جديدة! — لقد كُتِب بأسلوب ممتاز، وسيُحقِّق نجاحًا كبيرًا. أقول هذا بِناءً على المرَّات القليلة التي قضيتُها في مطالعة فصلَين أو ثلاثة؛ لأنني لم أتمكَّن من قراءته إلى الآن. لايل، الذي يمكث معنا، مسحورٌ تمامًا، ويُبالغ في إبداء سعادته به بكل زهو. يجب أن أتقبَّل مجاملاتك لي، واعترافك بالمساعدة المزعومة مني، باعتبارِ ذلك تعبيرًا عن مَودةٍ حارة من رجلٍ صادق (وإن كان موهومًا)، ثم إنني أتقبَّله لأنه مُشبِع جدًّا لغروري، ولكن، يا صديقي العزيز، لا اسمي ولا رأيي ولا مساعدتي تستحق أيًّا من مثل هذه الإطراءات، وإذا كنتُ غيرَ أمينٍ بما يكفي لأفرح بما لا أستحق، فيجب أن يتوقَّف ذلك فحسب. ما أشدَّ اختلافَ صياغة الكتاب عن صياغة المخطوطة! أرى أنني سأحتاج إلى مناقشة الكثير معك. لم تُنهِ الطابعاتُ الكسولة طباعةَ مقالتي المنحوسة، التي ستبدو، بجوار كتابك، كمنديلٍ رثٍّ ممزَّق بجوار إحدى رايات شعار النَّبَالة الملكي …
أتمنَّى أن تكونوا كلكم بخير.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
إلكلي، يوركشاير [نوفمبر ١٨٥٩]
عزيزي هوكر
… تلقَّيتُ خطابًا من [هكسلي] يثني فيه على كتابي ثناءً كبيرًا إلى حدِّ أن تواضعي (إذ إنني أحاول زراعةَ تلك النبتة الصعبة في نفسي) يمنعني من إرساله إليك، مثلما كنتُ أرغب في ذلك؛ لأنه متواضع جدًّا في الحديث عن نفسه.
لقد جرَّأتني إلى حدِّ أنني صرت أشعر الآن بأنني أستطيع أن أواجِه ثُلة من النقَّاد المتوحشين. أظنك ما زلت مع آل لايل. أرسل إليهم أطيبَ تحياتي. إنني أشعر بالانتصار إذ أسمع أنه لم يزل يستحسن أفكاري.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
إلكلي ويلز، يوركشاير،
٢٣ نوفمبر
[١٨٥٩]
عزيزي
لايل
لا أستطيع منْع نفسي من اعتقاد أنك تُبالغ في تقدير أهمية الأصل المتعدِّد للكلاب. الفارق الوحيد أنه، في حالة الأصول المُفرَدة، نشأ اختلاف الأعراق كاملًا منذ أن دجَّن الإنسانُ الأنواع. أمَّا في حالة الأصول المُتعدِّدة، فقد نشأ جزء من الاختلاف تحت ظروف طبيعية. وأنا أفضِّل نظريةَ الأصل المفرَد في كل الحالات «تفضيلًا مطلقًا»، إذا كانت الحقائقُ تسمح بتقبُّلها. لكن يبدو لي (نظرًا إلى مدى ولع الهَمَج بترويض الحيوانات) أنه من المستبعَد «بديهيًّا» أن يكون الإنسان، على مَرِّ كُلِّ العصور وفي كل أنحاء العالم، قد دجَّن نوعًا واحدًا فقط بمفرده من جِنس الكلبيات الموزَّع على نطاق واسع. إضافةً إلى ذلك، يبدو أن التشابهَ الشديد بين ثلاثة أنواع على الأقل من الكلاب الأمريكية المدجَّنة مع أنواع برية لم تزَل تعيش في البلدان التي تُدجَّن فيها الآن، يكاد يُحتِّم علينا الاعترافَ بأن الإنسان قد دَجَّن أكثرَ من جنس بري واحد من الكلبيات.
أشكرك من أعماق قلبي على ما أبديته تجاه كتابي من حماسة هائلة واهتمامٍ بالغ، وسأظل يا عزيزي لايل، صديقك ومُريدك المُحب.
سوف يقرأ السير جيه هيرشل، الذي أرسلتُ إليه نسخة، كتابي. يقول إنه يميل إلى الجانب الذي يُعارضني. إذا الْتقيتَه بعدما يقرؤه، فأرجو أن تعرف رأيه؛ لأنه بالطبع لن يبعث إليَّ بخطاب، وأنا مُتلهِّف لمعرفةِ ما إذا كان لي أي تأثير في عقلٍ كعقله.
من تي إتش هكسلي إلى تشارلز
داروين
جيرمين ستريت، ويستمنستر،
٢٣ نوفمبر ١٨٥٩
عزيزي
داروين
أتممتُ كتابك بالأمس؛ فقد حالفني الحظ في أحد الفحوصات، ممَّا أتاح لي بضعَ ساعات من فراغ متواصل.
وبخصوص الفصول الأربعة الأولى، فأنا أتفق مع المبادئ المذكورة فيها تمامًا وكليًّا. أعتقد أنك قد قدَّمت سببًا حقيقيًّا يُفسر نشأةَ الأنواع، ورميت على كاهل خصومك عبء إثبات أن الأنواع لم تنشأ بالطريقة التي تفترضها.
لكني أشعر بأنني لم أدرِك على الإطلاق حتى الآن مغزى الفصول الثالث والرابع والخامس، والتي أراها لافتةً جدًّا وبديعة، لكني لن أكتب المزيدَ عنها الآن.
لم يخطر ببالي سوى اعتراضَين وحيدَين وهُما: أولًا، أنك أثقلت كاهلك بمشكلةٍ بلا داعٍ حين تبنَّيت مبدأ «لا قفزات في الطبيعة» بكل صراحة … وثانيًا أنني لا أرى ما يدعو إلى حدوثِ التباين أصلًا، إذا كانت الظروفُ الطبيعية ذاتَ أهمية ضئيلة جدًّا كما تفترض.
ومع ذلك، يجب أن أقرأ الكتاب مرَّتَين أخريَين أو ثلاثًا قبل أن أتجرَّأ على البدء في اكتشاف الأخطاء.
إنني على يقين أنك لن تسمح لنفسك إطلاقًا بأن تستاء أو تنزعج ممَّا قد تتعرَّض له، إذا لم أكن مخطئًا في توقُّعي، من إساءةٍ بالغة وتحريف شديد. فلْتثِق بأنك كسبت امتنانًا دائمًا من كل الرجال المفكِّرين. أمَّا بخصوص الكلاب الوضيعة التي ستنبح وتعوي، فعليك أن تتذكَّر أن بعض أصدقائك، على أي حال، قد مُنِحوا قدرًا من نعمة التأهُّب للشجار، التي قد تنفعك جدًّا، وإن كنتَ قد استنكرتها مرارًا كما ينبغي لك.
وها أنا ذا أشحِذ مخالبي ومنقاري استعدادًا لذلك.
عندما أعيد قراءةَ خطابي، أجد أنه ضعيفٌ للغاية في التعبير عن كل خواطري تجاهك وتجاه كتابك النبيل إلى حدٍّ يُخجلني بعض الشيء، لكنك ستفهم أنني، كما قال الببغاء في القصة، «أكنُّ ما هو أكثر من ذلك».
من تشارلز داروين إلى تي إتش
هكسلي
إلكلي، ٢٥ نوفمبر [١٨٥٩]
عزيزي هكسلي
أرسِلَ إليَّ خطابك من داون. وككاثوليكي طيب تلقَّى مَسحةً بزيت الزيتون المُبارَك، أستطيع الآن أن أرنِّم «نشيد شمعون». كنت سأسرُّ جدًّا حتى ولو برُبع ما قلتَه. فقبل خمسة عشر شهرًا بالضبط، حين بدأت كتابةَ هذا الكتاب، كانت تراودني شكوكٌ فظيعة، وظننت أنني ربما أوهمت نفسي، كما أوهم الكثيرون أنفسَهم من قبلُ، ثم حدَّدت في ذهني ثلاثة حُكَّام، عازمًا في قرارة نفسي على تقبُّل حُكمهم مهما كان. وهؤلاء الحُكَّام هم لايل وهوكر وأنت. وهذا ما جعلني مُتلهِّفًا جدًّا لمعرفة حُكمك. صرتُ راضيًا الآن، ويمكنني الترنُّم بنشيد شمعون. كم سيكون من المضحك إذا أشدتُ بك حين تُهاجم بعضَ المؤمنين بالخَلق إيمانًا راسخًا! لقد تطرَّقتَ بذكاء شديد إلى نقطةٍ أرَّقتني كثيرًا، وهي: إذا لم يكن للظروف الخارجية، سوى درجة طفيفة من التأثير «المباشر»، فما الذي يُحدِّد بحق السماء كلَّ تباين بعينه؟ ما الذي يجعل خُصلةً من الريش تظهر على رأس ديك أو يؤدِّي إلى ظهور الطحلب على رجلة الزهور؟ وأنا أرغب بشدة في أن أناقش ذلك معك …
عزيزي هكسلي، أشكرك من أعماق قلبي على خطابك.
من إيرازموس داروين (شقيقه) إلى تشارلز
داروين
٢٣ نوفمبر [١٨٥٩]
عزيزي تشارلز
… أمَّا عن رأيي، فصدقًا أراه أكثرَ الكتب التي قرأتها إثارةً للاهتمام على الإطلاق، ولا يُمكن أن يضاهيه إلا باكورة معرفتي بالكيمياء، التي أدخلَتني عالَمًا جديدًا، أو بالأحرى أغوارًا خفية لا يعرفها أحد. من وجهةِ نظري، أجد أن التوزيعَ الجغرافي، أعني علاقةَ الجُزُر بالقارات، هو أشد الأدلة إقناعًا، وكذلك علاقة الأشكال الأقدم من الأنواع بالأشكال الموجودة حاليًّا. يمكنني القول إني لا أشعر أن عدمَ وجود بعض الضروب دليلٌ كافٍ، لكني على كل حال لا أعرف إطلاقًا، لو كان كلُّ شيءٍ حيٍّ الآن مُتحفِّرًا، أكان علماءُ الحفريات يستطيعون تمييزه أم لا. وفي الحقيقة، الاستدلالُ المنطقي البديهي مُقنع لي تمامًا إلى حدِّ أنني، إذا لم تكن الحقائقُ متماشيةً معه، حسنًا، كنت سأشعر بأن الحقائق خاطئة ولا أكترث بها. لقد جعلَتني الحُمَّى في حالة من الفتور الشديد إلى حد أنني أقول يا ليتني درست مسألةَ الانتقاء الطبيعي بإمعان قبل ذلك.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
إلكلي، [٢٤ نوفمبر ١٨٥٩]
عزيزي
لايل
أود أن أشكرك مُجدَّدًا على مجموعةٍ قيِّمة للغاية من الانتقادات التي أوردتَها في خطابٍ بتاريخ ٢٢ نوفمبر.
ترغب السيدة بيلوك في ترجمة كتابي إلى الفرنسية؛ فعرضتُ عليها أن ألقي نظرةً سريعة على البروفات لاكتشاف أي أخطاء «علمية». هل سمعتَ عنها من قبل؟ أعتقد أن موراي وافق بِناءً على نصيحتي المُلِحة، لكني أخشى أن يكون هذا تهوُّرًا وتسرُّعًا منِّي. لقد أرسل إليَّ كاتريفاج خطابًا قال فيه إنه يتفق مع معظم آرائي. إنه اختصاصي ممتاز في التاريخ الطبيعي. أنا في عجلةٍ من أمري وليس لدَيَّ مُتَّسع من الوقت. هل يُمكنك أن تُرسِل إلينا رسالةً قصيرة بخصوص مسألة الحيتان؟ أشكرك مُجدَّدًا على ما تُسديه إليَّ من نصائح ومساعدة بلا كَلل أو مَلل، وأكنُّ تبجيلًا صادقًا لحبك الخالص غير الأناني للحقيقة.
[بخصوص ترجمة الكتاب إلى الفرنسية، أرسل داروين خطابًا إلى السيد موراي في نوفمبر ١٨٥٩ قال فيه: «إنني مُتلهِّف «جدًّا» على ترجمة كتابي؛ من أجل الموضوع نفسه (لا للشهرة فحسب والرب وحده يعلم)؛ فذيوع صيته في الخارج سيعود بنفعٍ غير مباشر على مبيعات النسخة الإنجليزية. لو كان القرار بيدي، لوافقت من دون أجر، وأرسلتُ نسخةً على الفور، واكتفيتُ بأن ألْتمس منها [السيدة بيلوك] أن تستعين بمختَصٍّ في العلوم ليُلقي نظرةً سريعة على الترجمة … ربما تقول إنني، وإن كنت سيئًا جدًّا في الفرنسية، أستطيع اكتشافَ أي خطأ علمي، وإنني سألقي نظرةً سريعة على البروفات الفرنسية.»
ترِد في رسالة أخرى إلى السيد دي كاتريفاج جملةٌ تُبيِّن مدى تلهُّفه الشديد لتغيير رأي أحد أعظم علماء الحيوان المعاصرين وإقناعه بمذهبه: «كم أود أن أعرف ما إذا كان ميلن إدواردز قد قرأ النسخةَ التي أرسلتُها إليه، وما إذا كان يرى أنني قدَّمت حُججًا مقنعة تُؤيِّد الجانبَ الذي نتبنَّاه من المسألة! فلا يوجد في الدنيا عالِم تاريخ طبيعي أكنُّ لرأيه مثل ذلك الاحترام العميق. ولست ساذجًا بالطبع إلى حدِّ أن أتوقَّع تغييرَ رأيه.»]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
إلكلي، [٢٦ نوفمبر ١٨٥٩]
عزيزي
لايل
تلقَّيتُ خطابك الذي أرسلتَه في يوم الرابع والعشرين. لا فائدة من أن أحاول شكرك؛ فأي شكر لن يُوفِّي لطفَك حقَّه. سوف أحذف موضوع الحوت والدب بالتأكيد …
كانت الطبعةُ مُكوَّنة من ١٢٥٠ نسخة. حينما كنت أصبحُ في حالة معنوية جيدة، أحيانًا ما كنت أتخيَّل أن كتابي سينجح، لكني لم أبنِ قِلاعًا على الرمال قط، وأتوقَّع هذا النجاح الذي حقَّقه، ولست أقصد بهذا حجمَ المبيعات، بل الانطباع الذي تركه فيك (وأنت الذي دائمًا ما أعتبره حَكمًا كبيرًا)، وكذلك هوكر وهكسلي. لقد تجاوز الأمر برُمَّته أشدَّ طموحاتي جموحًا وبفارق هائل.
إلى اللقاء، إنني مُتعَب؛ لأنني كنتُ عاكفًا على تفحُّص الأوراق.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
إلكلي، يوركشاير،
٢ ديسمبر
[١٨٥٩]
عزيزي
لايل
أعتقد يقينًا أنني مَدين براحتي في السنوات القليلة القادمة من حياتي لدعمك السخي، ودعم قلةٍ قليلة من أناس آخرين. لا أظن أنني شجاع بما يكفي لتحمُّل أن أكون مكروهًا بلا دعم؛ أشعر الآن بأني جريء كالأسد. ولكنْ ثمَّة شيء واحد أرى أنني يجب أن أتعلَّمه؛ ألا وهو أن أقلِّل من إعجابي بنفسي وبكتابي. إلى اللقاء، مع خالص شكري.
سأعود إلى الديار في السابع من الشهر، وسأبيت في منزل إيرازموس. سأزورك في حوالي الساعة العاشرة من يوم الخميس، الذي يوافق الثامن من الشهر، وأجلس معك أثناء فطورك، كما جلسنا مرارًا.
أتمنَّى لو كانت توجد أي احتمالية لزحزحة بريستويتش عن رأيه، لكن يؤسفني القول إنه مُتعصِّب في إيمانه بنظرية التغيُّر بالكوارث.
[في ديسمبر، نُشِرت في مجلة «ماكمِلان ماجازين» مقالةٌ بعنوان «الزمن والحياة» بقلم البروفيسور هكسلي. يتناول الجزءُ الأكبر من المقالة تحليلَ حجَّة «أصل الأنواع»، لكنها تعرض أيضًا مضمون محاضرة ألقيت في المعهد الملكي قبل نشر ذلك الكتاب. أيَّد البروفيسور هكسلي فكرةَ التطوُّر بكل قوة في محاضرته، وهو يُوضِّح أنه كان يعتمد في فعل ذلك اعتمادًا كبيرًا على معرفة «الطابع العام للبحوث التي كان السيد داروين منهمكًا في إجرائها لفترة طويلة»، وقد دعَّمه في ذلك ثقتُه الكاملة في معرفته ومثابرته و«حُبِّه الفاضل النبيل للحقيقة». ومن الواضح أن والدي فرح جدًّا بكلمات السيد هكسلي، وكتب قائلًا في خطاب إليه:
«يجب أن أشكرك على تعليقك اللطيف للغاية الذي أوردته في «ماكمِلان» عن كتابي. لا يُمكن لأحدٍ أن ينال إطراءً أكثرَ إبهاجًا وتشريفًا من ذلك. لم أسمع بمحاضرتك بسبب حياتي المنعزلة. إنك تنسب إليَّ الفضلَ بدرجةٍ أكبر ممَّا أستحقُّه بكثير، من واقع صداقتنا المتبادلة. لقد شرحتَ فكرتي الرئيسية بوضوحٍ مثير للإعجاب. كم أن موهبتك عظيمة في الكتابة (أو بالأحرى) في التفكير بوضوح!»]
من تشارلز داروين إلى دبليو بي
كاربنتر
إلكلي، يوركشاير،
٣
ديسمبر [١٨٥٩]
عزيزي
كاربنتر
من تشارلز داروين إلى سي لايل
السبت [٥ ديسمبر، ١٨٥٩]
… تلقَّيت صباحَ اليوم خطابًا من كاربنتر. إنه يكتب مقالًا نقديًّا عنِّي لمجلة «ناشونال». لقد غيَّر رأيه وصار مُقتنعًا بفكرتي إلى حدٍّ كبير، وإن لم يكن بقدرِ اقتناعي بها؛ فهو يُقِر بأن كلَّ الطيور من سلف واحد، ويُرجِّح أن كل الأسماك والزواحف من سلفٍ آخر. غير أن الجُرعة الأخيرة تخنقه. إنه لا يستطيع الاعترافَ بأن الفقاريات كلها جاءت من سلفٍ واحد. من المؤكَّد أنه سيصل إلى ذلك بِناءً على الأدلة المستقاة من علم التنادد وعلم الأجنة. أرى أن إقناعَ عالِم فسيولوجيا عظيم برأيي شيءٌ رائعٌ؛ لأنني أظنه عظيمًا في ذلك المجال بالتأكيد. ما أشدَّ فضولي لمعرفة الصف الذي سينحاز إليه أوين! يؤسفني القول إنه سيكون ضدنا بكل تأكيد، رغم أنه أرسل إليَّ رسالةً فضفاضة عن استقبال كتابي، وقال إنه على أتم استعداد لدراسة استدلالي بإنصافٍ ودون تحيُّز.
من جيه دي هوكر إلى تشارلز
داروين
كيو، الإثنين
عزيزي
داروين
أعرِف أن الخطابات تنهال عليك منذ نُشر كتابك؛ لذا سأحجم عن الإسهام في ذلك. آمُل أن تكون الآن قد أنهيت الطبعةَ الثانية على أكمل وجه، وسمعتُ أنك كنت تتعافى في لندن. لم أصل إلى نصف الكتاب بعدُ، لا من افتقارٍ إلى الإرادة، بل الوقت؛ لأنه أصعبُ الكتب التي صادفتها في القراءة إن أراد المرء أن يحصل منها الفائدة الكاملة؛ فهو زاخر بالمادة العلمية والاستدلال. إنني سعيد للغاية بأنك نشرته في هذه الصورة؛ فلو أنك نشرت الأجزاء الثلاثة، دون التمهيد لها بتلك النبذة؛ لاختنق بها أيُّ عالِم تاريخ طبيعي من علماء القرن التاسع عشر، ولتحلل دماغي في محاولة استيعاب محتوياتها. لقد تعبت من الإعجاب بكمِّ الحقائق المدهش الذي استخدمتَه، ومهارتك في تنظيم تلك الحقائق ورميها على الخصوم؛ الكتاب واضح جدًّا إلى الحد الذي بلغتُه في القراءة، لكن من الصعب جدًّا استيعابه بالكامل. ذلك أنه يبدو مختلفًا بعض الشيء عن المخطوطة، وكثيرًا ما أتخيَّل أنني غبي ولا بد لأنني لم أفهمه فهمًا كاملًا في المخطوطة. أخبرني لايل بانتقاداته. لم أفهمها كلها، ويوجد العديد من الأمور البسيطة التي آمُل أن أناقشها معك يومًا ما. رأيت مقالةً نقدية مفعمة بالإطراء في صحيفة «إنجلش تشيرشمان»، صحيح أنها قصيرة ولا تعرض مناقشةً جدية للموضوع، لكنها تَكيل المديح لك ولكتابك، وتتحدَّث عن مذهبك بتأييد! … أتصوَّر أن بينثام وهنزلو لا يزالان معترضَين …
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، السبت [١٢ ديسمبر ١٨٥٩]
… خضتُ لقاءاتٍ حواريةً طويلة جدًّا مع … ربما ستودُّ أن تسمع عنها … أستنتجُ من عدة تعبيرات أنه يتفق معنا بشدة في الأساس …
قال ما معناه أن تفسيري كان أفضلَ التفسيرات التي نُشِرت على الإطلاق بشأن كيفية تكوُّن الأنواع. فقلت إن سماع ذلك يُسعدني جدًّا. فأوقفني فجأةً قائلًا: «يجب ألَّا تفترض إطلاقًا أنني أتفق معك في كل النقاط.» فقلتُ إنني أظن أن احتمالية أن أكون مُصيبًا في كل النقاط تقريبًا ليست أكبر من احتمالية أن أرمي عملةً معدنية في الهواء ويظهر لي الوجه ذو الصورة عشرين مرةً متتالية. سألته بعد ذلك عن الجزء الأسوأ في رأيه. فقال إنه ليس لديه اعتراض مُعيَّن على أي جزء. وأضاف:
«إذا كان لا بد أن أنتقد، فينبغي أن أقول: «لا نريد أن نعرف ما يعتقده داروين وما هو مقتنع به، بل ما يستطيع إثباته».» فوافقتُ تمامًا وبكل صدق على أنني أخطأت بشدة في هذا الجانب، ودافعت عن حُجتي العامة المتمثِّلة في ابتكار نظرية، وملاحظة عدد مجموعات الحقائق التي ستشرحها هذه النظرية. وأضفت أنني سأسعى إلى تعديل الكلمات التي تُعبِّر عن «الاعتقاد» و«الاقتناع». فأوقفني فجأةً قائلًا: «إذن تُفسِد كتابك؛ إذ إن سر جاذبيته (!) أنه يُعبِّر عن داروين ذاته.» وأضاف اعتراضًا آخرَ مفادُه أن الكتاب كان أكثر كمالًا ممَّا ينبغي؛ بمعنى أنه شرح كل شيء، وأنه كان من المستبعد جدًّا أن أنجح في هذا. أتفق تمامًا مع هذا الاعتراض الغريب، وهو يعني شيئًا من الاثنَين: إمَّا أن كتابي سيئ جدًّا أو جيد جدًّا …
لقد سمعتُ، بطريقةٍ غير مباشرة، أن هيرشل يقول إن كتابي «هو قانون العشوائية الفوضوية.» لا أعرف معنى ذلك بالضبط، لكن من الواضح أنه يحمل احتقارًا شديدًا. إذا صحَّ ذلك، فسيكون بمثابة ضربة موجِعة وتثبيط بالغ.
من تشارلز داروين إلى جون لوبوك
١٤ ديسمبر [١٨٥٩]
… لقد استفدت كثيرًا في الفترة الأخيرة من إقامتي في إلكلي، لكني أظن أنني لن أستعيد تمامَ عافيتي أبدًا؛ لأن العمل الذي أؤدِّيه منذ عودتي قد أنهكني قليلًا أكثرَ من مرة. إنني مشغول بالحصول على طبعة جديدة (فيها عدد قليل جدًّا من التصحيحات).
لقد حقَّق كتابي حتى الآن نجاحًا أكبرَ «بكثير» ممَّا كنت أحلُم به؛ موراي يطبع الآن ٣٠٠٠ نسخة. هل أنهيتَ قراءته؟ إذا كنتَ أنهيت القراءة، فأرجو أن تخبرني بما إذا كنت تتفق معي بشأن القضية «العامة»، أم تعارضني. إذا كنت تعارضني، فأنا أعرف جيدًا أنك ستكون خَصمًا شريفًا مُنصفًا نزيهًا جدًّا، وهذا أكثرُ بكثير ممَّا أستطيع قوله عن كل خصومي …
أرجو أن تخبرني بما كنتَ تفعله. هل كان لديك مُتَّسع من الوقت لأيِّ عمل في التاريخ الطبيعي؟ …
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ١٤ ديسمبر [١٨٥٩]
عزيزي هوكر
من المؤكَّد أنك سعيد جدًّا بالاستقرار في بيتك، وآمُل أنْ تكون راضيًا عن كل التحسينات. واقع خبرتي أن التحسينات لا تصل إلى الكمال أبدًا. يؤسفني بشدة سماعُ أنك ما زلت مشغولًا جدًّا، ولديك كمٌّ هائل من العمل. والآن سأتطرَّق إلى مغزى رسالتي الأساسي، وهو أنني أطلب منك ومن السيدة هوكر (التي لم أرَها منذ زمن طويل حقًّا) وأتوسَّل إليكما، أنتما وكل أطفالكما، أن تأتوا وتقضوا أسبوعًا هنا، إن كان هذا ممكنًا. هذا سيُسعدنا أنا وزوجتي للغاية … يبدو أننا سنظل في المنزل طَوال الشتاء، ويناسبنا مجيئكم في أي وقت، لكن لا تؤجِّل الزيارةَ إلى وقت متأخِّر جدًّا، إن استطعت؛ لأنك قد تسهو عنها. فكِّر في هذا، وأقنِع السيدة هوكر، وكُن رجلًا طيِّبًا وتعالَ.
إلى اللقاء يا صديقي العزيز الطيب.
إن علمَ الأجنة هو جزئي المفضَّل في كتابي، ويؤسفني أن أيًّا من أصدقائي لم يذكر لي ذلك.
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ٢١ ديسمبر [١٨٥٩]
عزيزي
جراي
لقد تلقَّيت خطابَك الثمينَ الطويل اللطيف جدًّا. سأرسل إليك مُجدَّدًا في غضون أيام؛ لأنني الآن مُتوعِّك ولديَّ الكثير من الأمور العاجلة التي ينبغي القيام بها، رسالة اليوم شخصية فحسب. أعتقد أن صدور طبعة أمريكية سيسرُّني لأسباب عديدة. لقد حسمت أمري ورضيت بالتعرُّض لإساءات بالغة، لكني أرى أنه من المهم أن يقرأ أفكاري رجالٌ أذكياء يألَفون الجدلَ العلمي، وإن «لم» يكونوا مُتخصِّصين في التاريخ الطبيعي. ربما يبدو ذلك غيرَ منطقي، لكني أظن أن هؤلاء الرجال سيجرُّون وراءهم علماءَ التاريخ الطبيعي الذين تترسَّخ في عقولهم فكرةُ أن كلَّ نوعٍ كِيانٌ مستقل بذاته. لقد بيعت الطبعةُ الأولى المكوَّنة من ١٢٥٠ نسخةً في اليوم الأول، والآن تعكف دار النشر التي أتعامل معها على طبعِ ٣٠٠٠ نسخة أخرى، ﺑ «أقصى سرعة ممكنة». لا أقول ذلك إلا لأنه قد يجعل طرحَه للبيع في أمريكا مُربِحًا على الأرجح. سيكون امتناني لك بلا حدودٍ إذا استطعتَ أن تُساعد في إصدار طبعةٍ جديدة أمريكية، وأن تتخذ أيَّ تدابير لازمة لجني أي أرباح، من أجلي ومن أجل دار النشر التي أتعامل معها. ليست الطبعةُ الجديدة سوى نُسخة مُعاد طبعُها من نظيرتها الأولى، لكني أجريت «بضعة» تصحيحات مُهمة. سوف أرسل النسخة المنقَّحة في غضونِ بضعة أيام من طبعِ أكبرِ قدرٍ ممكن منها، والبقيةُ بعد ذلك، وتستطيع أن تفعل أيَّ شيء تريده، وإذا لم ترغب في فعلِ شيء، فلا بأس أيضًا. سأكون سعيدًا بإصدار الطبعة الجديدة لا القديمة، على عَجَل شديد، ومع خالص شكري.
سأرسل إليك مجددًا عمَّا قريب.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٢٢ [ديسمبر، ١٨٥٩]
عزيزي
لايل
إنني مُتوعِّك جدًّا إلى حدٍّ يُعجزني عن مغادرة المنزل؛ لذا لن ألقاك.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون [٢٣ ديسمبر ١٨٥٩]
عزيزي هوكر
لقد تلقَّيت في الليلة الماضية «مُقدِّمتك» التي أشكرك عليها شكرًا جزيلًا، لقد فوجئت بحجمها الكبير؛ لن أستطيع قراءتها قريبًا. كان لُطفًا بالغًا منك أنك أرسلت ورقةَ نودين البحثية؛ لأنني كنتُ مُتلهِّفًا للاطِّلاع عليها. إنني مندهش من أن دوكين يقول إنها مطابِقة لنظريتي. فالآلية التي يطرحها نودين هو ومجموعة من الكُتَّاب الإنجليز فيها، هي الانتقاء الاصطناعي، وعندما يقول إن الأنواع تكوَّنت بالطريقة نفسها، ظننت أنه سيُثبت في ورقته الكيفيةَ التي أطرحها بالضبط. لكني لا أجد أيَّ كلمة على غرار الصراع من أجل البقاء والانتقاء الطبيعي. وعلى العكس من ذلك، يُقدِّم في (صفحة ١٠٣) مبدأ الغائية (الذي لا أفهمه)، والذي، بحسب قوله، يرى بعض المؤلِّفين أنه يعني القدرية، فيما يرى آخرون أنه يعني العنايةَ الإلهية، والذي يُكيِّف أشكالَ جميع الكائنات الحية، وينشر التناغمَ بينها على مستوى الطبيعة كلها.
إنه يفترضُ كعلماء الجيولوجيا القُدامى (الذين افترضوا أن قوى الطبيعة كانت أشدَّ في الماضي) أن الأنواعَ كانت أكثرَ قابليةً للتغيُّر في البداية. وصحيحٌ أن تشبيهه المتعلِّق بالشجرةَ والتصنيفَ مماثلٌ لتشبيهي (أنا وآخرين)، لكني أعتقد أنه لم يُفكِّر مليًّا في الموضوع، وإلا لكان قد رأى أن علمَ الأنساب في حدِّ ذاته لا يُنتج تصنيفًا؛ لذا فأنا لا أرى في ورقة نودين نهجًا «شديد» القرب إلى نهجي ونهج والاس بأكثر ممَّا أراه في ورقة لامارك؛ فكلنا نتفق في مسألة التعديل والانحدار. إذا لم أتلقَّ خطابًا منك، فسأردُّ ورقة «ريفيو أورتيكول» في غضون بضعة أيام (مع الغلاف). أظن أن لايل سيفرح برؤيتها. بالمناسبة، سأظل مُحتفظًا بالمجلَّد إلى أن تُخبرني بما إذا كان لي أن أرسله إلى لايل أم لا. أودُّ أن يرى لايل هذه الرسالة، مع أن دفاع المرء عن استقلال أفكاره وأسبقيتها فعلٌ أحمق.
من إيه سيجويك٢٤ إلى تشارلز داروين
كامبريدج، ٢٤
ديسمبر، [١٨٥٩]
عزيزي
داروين
أرسل إليك لأشكرَك على كتابك «أصل الأنواع». أظنه قد وصل في أواخر الأسبوع الماضي، لكنه ربما يكون قد وصل قبل ذلك ببضعة أيام، ولم ألحظْه وسط طرود الكتب المُرسلة إليَّ، التي غالبًا ما تظل غيرَ مفتوحة عندما أكون كسولًا أو مشغولًا بأي عمل لديَّ. لقد بدأت في قراءته حالما فتحته، وأنهيته يوم الخميس بعد مقاطعاتٍ كثيرة. كنت منشغلًا يوم أمس؛ أولًا، بالتحضير لمحاضرتي، وثانيًا، بحضور اجتماعٍ لإخوتي من الزملاء من أجل مناقشة المقترحات النهائية للمفوضين البرلمانيين، وثالثًا، بإلقاء مُحاضرة، ورابعًا، بسماعِ مُلخَّص المناقشة وردِّ الكلية، الذي وافقنا عليه، تماشيًا مع رغبتي الشخصية، على مُخطَّط المفوَّضين، وخامسًا، بتناول العشاء مع صديقٍ قديم في كلية «كلير كوليدج»، وسادسًا، بالذهاب بعد انتهاء العشاء إلى الاجتماع الأسبوعي لنادي راي، الذي عُدت منه في العاشرة مساءً، مُنهكًا للغاية، غيرَ قادر على صعود دَرَج بيتي إلا بجهد جهيد. وأخيرًا، بمطالعة صحيفة «ذا تايمز» لرؤيةِ ما يجري في العالَم الحافل.
لا أذكر ذلك بهدف ملء فراغٍ فحسب (وإن كنت أعتقد أن الطبيعة تكره الفراغات)، ولكن لإثبات أنني أرسل إليك ردي وشكري في أبكرِ وقتِ فراغِ سَنَح لي، وإن كان ذاك الوقت السانح ضئيلًا جدًّا. إذ لولا أنني أراك رجلًا هادئَ الطبع ومُحبًّا للحقيقة، لَمَا أخبرتك بأن قراءة كتابك (بالرغم ممَّا يحويه من معرفة عظيمة، ومخزون من الحقائق، وآراء ممتازة عن الأجزاء المختلفة من الطبيعة العضوية، وتلميحات مثيرة للإعجاب عن انتشار العديد من الكائنات العضوية التي تجمعها صلةُ قرابة عبْر مناطقَ واسعة، إلى آخر ذلك) أشعرَتني بألمٍ أكثرَ ممَّا أشعرتني به من لذة. لقد أعجِبتُ جدًّا بأجزاءٍ منه، وضحِكت من أجزاءٍ أخرى حتى كادت ضلوعي تؤلمني، فيما قرأت أجزاءً أخرى بحُزن بالغ؛ لأنني أظنها خاطئةً تمامًا ومؤذيةً بشدة. فبعدما بدأتَ السيرَ بنا في عربة ترام هادئة، تتمثَّل في الحقيقة الطبيعية الراسخة، «تخلَّيت» عن نهج الاستقراء الحقيقي، وفاجأتنا بآليةٍ جامحة، في رأيي، كقاطرة الأسقف ويلكينس التي كانت ستسافر بنا إلى القمر. يستند العديدُ من استنتاجاتك على افتراضاتٍ لا يُمكن إثباتُها ولا إثبات بُطلانها، فلماذا إذن تُعبِّر عنها بلغةِ الاستقراء الفلسفي وترتيبه؟ وبخصوص مبدئك العام — الانتقاء الطبيعي — فماذا يكون سوى نتيجة ثانوية لحقائقَ أولية مُفترضة، أو معروفة! أرى أن استخدام كلمة «التطوير» أفضلُ منه؛ لأنها أقربُ إلى سبب الحقيقة. إنك لا تُنكر السببية. وأنا أصفُ السببية (في العموم) بأنها مشيئةُ الرب، وأستطيع إثباتَ أن الربَّ يتصرَّف من أجل مصلحة مخلوقاته. وهو يتصرَّف أيضًا بموجب قوانين نستطيع دراستها وفهمها. وأظن أن التصرُّف بموجب قانون، وتحت ما يُسمَّى العلل الغائية، يشمل مبدأك كلَّه. إنك تكتب عن «الانتقاء الطبيعي» كما لو أنه يحدُث بوعي بواسطة العامل المُنتقِي. إنه ليس سوى نتيجة للتطوير المُفترَض، وما يتبعه من صراعٍ على الحياة. لقد عرضتَ هذا الرأي عن الطبيعة عرضًا مثيرًا للإعجاب، وإن كان كلُّ علماء التاريخ الطبيعي يعترفون به ولا يُنكره كلُّ ذي حس منطقي رشيد. فكلنا نعترف بأن التطوير حقيقةٌ تاريخية، ولكن كيف حدث؟ انتبه إلى كلامي، إننا نواجه مشكلةً مباشرةً في اللغة، ومشكلةً أكبرَ منها في المنطق. يوجد جزءٌ معنوي أو ميتافيزيقي في الطبيعة إضافةً إلى الجزء المادي. وأي رجل يُنكر ذلك فهو غارق في الحماقة. ثم إن دُرَّة تاج العلوم العضوية وعظَمتها أنها تربِط المادي بالمعنوي عبْر «علة غائية»، ولكنها «لا» تسمح لنا بخلطهما في مفهومنا الأول المتعلِّق بالقوانين، وتصنيفنا لهذه القوانين، سواءٌ أتناولنا أحدَ جانبَي الطبيعة، أم الجانبَ الآخر. غير أنك تجاهلتَ هذا الرابط، وإذا لم أكن مُخطئًا في فهمِ مغزاك، فأنت بذلت قُصارى جهدك في حالة أو اثنتَين من الحالات التي تحمل دلالةً مُعيَّنة لتكسِره. ولو كان من الممكن كسرُه (ونحمَد الربَّ أنه ليس كذلك) لعانت الإنسانية، في رأيي، من ضررٍ ربما كان سيجعلها وحشية، ويهوي بالعِرق البشري إلى درجة انحطاطٍ أدنى من أي درجة أخرى سقط إليها منذ أن أخبرتنا سجلاته المكتوبة عن تاريخه. لتتأمَّل حالة خلايا النحل على سبيل المثال. إذا أسفر تطويرك عن التعديل المتعاقِب للنحلة وخلاياها (وهو تعديل لا يستطيع أيُّ إنسان إثباته) فسوف تظل العلةُ الغائية ساريةً باعتبارها العلةَ التوجيهية التي تصرَّفت الأجيالُ المتعاقبة وتحسَّنت وفقًا لها. لقد صدمتَ نزعتي الأخلاقية صدمةً كبيرة ببعض فقرات كتابك، كتلك التي أشرتُ إليها، (وفقرات غيرها تكاد تضاهيها سوءًا). أظن أنك «تُعظِّم» من أهمية الدليل الجيولوجي في تكهُّنك بشأن الانحدار العضوي، وأنك «تُقلِّل» من أهميته في مناقشتك للروابط المفقودة في تسلسل النَّسَب الطبيعي، لكن ورقتي شارفت على الانتهاء، ويجب أن أذهب إلى قاعة المحاضرات. لذا سأختتم الخطابَ قائلًا إنني أكره الفصلَ الختامي بشدة — ليس بصفته مُلخصًا؛ فهو جيد في هذا الصدد — بل بسبب نبرة الثقة المُنتصرة التي تُناشد بها الجيلَ الصاعد (بنبرةٍ استنكرتُها عندما استخدمها مؤلِّف كتاب «بقايا») والتنبُّؤ بأشياءَ لم تُوجَد بعدُ في رحم الزمن، وإذا كان لنا أن نثق في خبرة الحس البشري المتراكمة واستدلالات منطقه، فمن المستبعَد جدًّا أن توجد في أي مكان سوى الرحم الخِصب لخيال الإنسان. والآن حان الوقتُ لأقول شيئًا عن ابنِ قردٍ وأحد أصدقائك القدامى: لقد صرتُ أفضل، بل أفضل بكثير، ممَّا كنتُ في العام الماضي. أحاضرُ ثلاث مرات في الأسبوع (بعدما كنت أحاضر ستة أيام في الأسبوع سابقًا) دون الشعور بإرهاق شديد، لكني أجد، بسبب فقدان النشاط والذاكرة وكل القدرات الإنتاجية، أن هيكلي الجسدي ينهار رويدًا نحو الأرض. غير أنني أحمل رؤًى للمستقبل. وهي جزءٌ لا يتجزَّأ مني بقدرِ مَعِدتي وقلبي، وستتحقَّق هذه الرؤى بما هو أفضل وأعظم. ولكن بشرط واحد؛ أن أقبَل الوحي الإلهي الذي يكشف به الربُّ عن نفسه في أفعاله وكلامه بكل تواضع، وأبذل قُصارى جهدي لأتصرَّف وفقَ تلك المعرفة التي لا يستطيع سواه أن يمنحني إياها، ولا يستطيع سواه أن يساعدني في فعلِ ذلك. إذا فعلنا أنا وأنت كلَّ ذلك، فسنلتقي في الجنة.
أكتب إليك على عَجَل، وبروحِ المحبة الأخوية؛ لذا فلتسامحني على أيِّ جملة قد يتصادَف أنها لا تُعجبك، وصدِّقني، بالرغم من أي خلاف في بعض النقاط ذات الأهمية الأخلاقية الشديدة، فأنا صديقك القديم المُخلص.
من تشارلز داروين إلى تي إتش
هكسلي
داون، ٢٥ ديسمبر [١٨٥٩]
عزيزي هكسلي
مع عميق شكري على حماستك تجاه الموضوع، وخالص تقديري لذلك.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ٢٥ [ديسمبر،
١٨٥٩]
لا أصدِّق إطلاقًا أنك استوعبت أيًّا من أفكاري لا إراديًّا. دائمًا ما كنتَ تُوفِّيني حقي وزيادة. لكني أظنني ظلمتك؛ إذ جعلتك تقرأ المخطوطةَ القديمة؛ لأنها كبحت أفكارك الأصلية بالتأكيد. ثمَّة شيء واحد أقتنع به تمامَ الاقتناع؛ ألَا وهو أن التقدُّم المستقبلي (الذي يُعَد النقطةَ البالغة الأهمية) للموضوع سيعتمد على أن يهتم أناسٌ مُجِدُّون أكْفاء ومشهورون حقًّا، مثلك، ومثل لايل وهكسلي، بالموضوع بأكثرَ ممَّا يتوقَّف على كتابي. أرى بوضوح أن هذا هو ما يُؤثِّر في أصدقائي غيرِ المُتخصِّصين في العلم.
قُلت لنفسي الليلة الماضية إنني سأكتفي بإلقاء نظرة سريعة على مُقدِّمتك، لكني لن أقرأ، ولكني لم أستطِع المقاومة، وظَلِلت أقرأ طوال ساعة كاملة.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
٢٨ ديسمبر ١٨٥٩
من سي داروين إلى تي إتش هكسلي
داون، ٢٨ ديسمبر [١٨٥٩]
عزيزي
هكسلي
[لن يكفي حيِّزٌ ضئيل لتقديم فكرة وافية عن مقالة السيد هكسلي في صحيفة «ذا تايمز» بتاريخ ٢٦ ديسمبر. فهي مُصمَّمة تصميمًا مثيرًا للإعجاب، من أجلِ أن تُؤكِّد أحقيةَ كتاب «أصل الأنواع» في الإنصات إليه باحترام، وتنأى بنفسها عن أي شكلٍ من أشكال الدوجماتية في تأكيد صحة المذاهب التي تُؤيِّدها في تلك المسألة. يُمكننا الآن الاستشهادُ ببضع فقرات منها: «يبدو لنا بلا جدال أن هذه الفرضية العبقرية تُمكِّننا من تقديم سببٍ للعديد من حالات الشذوذ الجلية في توزيع الكائنات الحية عبْر الزمان والمكان، وأنها لا تتعارض مع ظواهر الحياة والتكوين الأساسية.» ويواصل السيد هكسلي المُضيَ قُدُمًا ليوصي قُرَّاء كتاب «أصل الأنواع» بأن يتبنَّوا حالةً من «التشكُّك النشط»: وهي حالة من «شكٍّ يعشق الحقيقةَ إلى حدِّ أنه لا يجرؤ على أن يستريح مُؤقَّتًا في تشكيكه، ولا على إخماد نفسه بتصديقِ اعتقادٍ لا مُبرِّر له.» وتتناقض الفقرةُ الأخيرة تناقضًا صارخًا مع البروفيسور سيجويك وفرضية «حبال الفقاعات» التي ذكرها. إذ كتب السيد هكسلي قائلًا: «إن السيد داروين يكره التخمينات المجرَّدة مثلما تكره الطبيعةُ الفراغ. ثم إنَّ نهمَه للحُجج والحالات المشابهة السابقة يُضاهي نهمَ أيِّ محامٍ دستوري لها، وكل المبادئ التي يُرسيها قابلةٌ للرصد والتجرِبة. ويدَّعي المسارُ، الذي يَطلب منَّا اتباعَه، أنه ليس مُجرَّد سبيل عَرَضي سطحي، بل جسر راسخ واسع من الحقائق. وإذا كان كذلك حقًّا، فسوف يحملنا بأمانٍ فوق العديد من الفجوات الموجودة في معرفتنا، ويقودنا إلى منطقةٍ خالية من فِخاخ العلل الغائية، تلك العذارى الفاتنات العاقرات التي حذَّرتْنا منها مرجعيةٌ عُليا موثوقةٌ، وكانت مُحِقةً تمامًا في ذاك التحذير.»
لا شكَّ أن ظهورَ هذه المقالة القوية في الجريدة اليومية الرائدة، كان له تأثير قوي بكل تأكيد في جمهور القُرَّاء. وقد سمح لي السيد هكسلي بأن أقتبس من أحد الخطابات كلامَه عن الصدفة السعيدة التي ألقت بين يديه فرصةَ كتابة هذه المقالة.
«أُرسِلَت نسخةُ كتاب «أصل الأنواع» إلى السيد لوكاس، أحد العاملين بصحيفة «ذا تايمز» آنذاك في إطار سير العمل الطبيعي، على ما أظن. ومع أن السيد لوكاس كان صحفيًّا ممتازًا، ثم صار في وقتٍ لاحق مُحرِّرًا لمجلة «وانس إيه ويك»، فقد كان بريئًا من أي معرفة بالعلوم كطفلٍ رضيع، ونَدَب حظَّه لأحد معارفه بسبب اضطراره إلى التعامل مع كتابٍ كهذا. وعندئذٍ، أوصاه أحدُهم بأن يطلب مني إخراجه من ورطته، ومن ثَم تقدَّم إليَّ بطلبه، لكنه أوضح لي أن الضرورة ستُحتِّم عليه من الناحية الرسمية أن يُصدِّق على أي شيء قد أرغب في كتابته، وذلك بأن يُصدِّره بمقدمة تمهيدية من فقرتَين أو ثلاث من وحي قريحته.
كنت مُتلهِّفًا جدًّا على اغتنام هذه الفرصة التي عُرضَت عليَّ هكذا لأمنح الكتابَ فرصةً عادلة أمام الكم الهائل من قُرَّاء جريدة «ذا تايمز»؛ فلم أشترط أيَّ شيء بخصوص شروط كتابة المقالة، ولمَّا كنت منخرطًا للغاية في التفكير في الموضوع، وأعتقد أنني كتبت هذه المقالة أسرعَ ممَّا كتبت أيَّ شيء آخر في حياتي، وأرسلتها إلى السيد لوكاس، الذي أضاف في بدايتها فقرته الاستهلالية حسب اتفاقنا السابق.
وعندما ظهرت المقالة، نشأت تكهُّنات كثيرةٌ حول هُوية كاتبها. تسرَّب السرُّ مع مرور الوقت، كما تتسرَّب كل الأسرار، لكني لم أسهم في ذلك، ثم اعتدت أن أستمدَّ قدرًا كبيرًا من التسلية البريئة من التأكيدات الحادَّة المُتحمِّسة التي كان يُطلقها بعضٌ من أذكى أصدقائي، قائلين إنهم كانوا يعرفون من الفقرة الأولى أن المقالة من تأليفي!
ونظرًا إلى أن صحيفة «ذا تايمز» أشارت منذ بضع سنوات إلى صِلتي بالمقالة، فأظن أن نشْر هذه القصة التاريخية الصغيرة لن يكون انتهاكًا للثقة، هذا إذا كنتَ ترى أنها تستحق الحيِّز الذي ستشغله.»]