خاتمة
ربما أمكن استخلاصُ فكرةٍ ما عن المسار العام لحالة والدي الصحية من الخطابات الواردة في الصفحات السابقة. ويتخذ موضوعُ الصحة في سيرته الذاتية اهتمامًا بارزًا بدرجةٍ أكبرَ ممَّا يستلزمه في أغلب السِّيَر الذاتية؛ لأنه، مع الأسف، كان عنصرًا أصيلًا جدًّا في تحديدِ شكل حياته الخارجي.
كانت حالته الصحية في السنوات العشر الأخيرة من حياته باعثًا على الرضا والأمل في نفوس أفراد أسرته. فقد ظهرت أمارات التحسُّن على حالته من عدة جوانب. صار أقلَّ اكتئابًا وضيقًا، وأصبح قادرًا على العمل بدرجةٍ أفضلَ من الاستمرار. وَرَد بعضُ الكلام سلفًا عن علاج الدكتور بينس جونز، الذي استفاد منه والدي بالتأكيد. وفي سنواتٍ لاحقة، صار يتابع حالته الصحية لدى السير أندرو كلارك، وتحسَّنت صحته العامة جدًّا تحت رعايته. ولم يكن والدي يشعر بدَينِ الامتنان للسير أندرو كلارك بسبب خدماته التي كان يُقدِّمها بسخاء فقط. وإنما كان مَدينًا أيضًا لتأثيره الشخصي المُبهج بالتشجيع الذي كان يتكرَّر مرارًا، والذي أضاف شيئًا من الأصالة إلى سعادته، وكان يجِد بهجةً حقيقية في صداقة السير أندور ولُطفه تجاهه شخصيًّا وتجاه أبنائه.
تحمل الصفحات السابقة بضعَ إشارات متفرِّقة إلى شعوره بألم أو عدم ارتياح في منطقة القلب. ولا أستطيع أن أدَّعي أنني أعرف إلى أي مدًى تُبيِّن هذه الإشارات أن قلبه تضرَّر في وقتٍ مبكِّر من حياته، لكن المؤكَّد في كل الأحوال أنه لم يكن يعاني مشكلةً خطيرة أو دائمة من هذا النوع حتى ما قبل وفاته بوقتٍ قصير. بالرغم من التحسُّن العام في صحته، الذي أُشير إليه أعلاه، من المؤكَّد أن حيويته الجسدية كانت تضمحل في السنوات القليلة الأخيرة من حياته، وكان هذا الاضمحلال يظهر من حينٍ إلى آخر. وتُوضِّح ذلك جملةٌ واردة في خطاب إلى صديقه القديم السير جيمس سوليفان بتاريخ ١٠ يناير ١٨٧٩: «عملي العلمي يصيبني بإرهاقٍ أشدَّ ممَّا كان يصيبني به عادة، ولكن ليس لديَّ شيءٌ آخر أفعله، ولا يهم ما إذا خارت قوى المرء تمامًا قبل الأوان أو بعده بعامٍ أو اثنَين.»
نجد شعورًا مشابهًا في خطابٍ إلى السير جيه دي هوكر بتاريخ ١٥ يونيو ١٨٨١. كان والدي يقيم آنذاك في باترديل، وكتب في الخطاب قائلًا: «أشعر ببعض اليأس من حالي … ليست لديَّ الشجاعةُ ولا القدرة لبدء أي بحث علمي يستمر سنوات، وهذا هو الشيء الوحيد الذي أستمتع به، وليس لديَّ مهامُّ تافهة أستطيع تأديتها.»
في ١٣ ديسمبر ذهب إلى منزل ابنته في شارع بريانستون ليمكث أسبوعًا هناك. وإبَّان إقامته في لندن، ذهب ليزور السيد رومينز، وبُوغِت عندما كان على عتبة الباب بنوبةٍ بدا أنها من نفس النوع الذي تكرَّر مرارًا كثيرةً بعدئذٍ. وتُعَد هذه الحادثة، التي أعرِضها بكلمات السيد رومينز، مثيرةً للاهتمام أيضًا من منظورٍ مختلف؛ لأنها تقدِّم مثالًا آخر يُبيِّن مدى اهتمام والدي الشديد بمراعاة الآخرين:
«تصادف أنني كنت بالخارج، لكن كبير خُدَّامي، عندما لاحظ أن السيد داروين متوعِّك، طلب منه أنه يدخل، فقال إنه يُفضِّل العودةَ إلى المنزل، ورغم أن كبيرَ الخدم ألحَّ عليه لينتظر على الأقل ريثما يُحضر عربةَ أجرة، قال إنه يُحبِّذ ألَّا يُكبِّده عناءً شديدًا. وللسبب نفسه رفض أن يسمح لكبيرِ الخَدم بمرافقته. لذا وقف يشاهده وهو يمشي بصعوبةٍ نحو الاتجاه الذي كان من المفترض أن يلتقي فيه عرباتِ الأجرة، ورأى أنه، حين ابتعد عن المنزل حوالي ثلاثمائة ياردة، ترنَّح وأمسك بسياج الحديقة كما لو كان يحاول تجنُّب السقوط. لذا هُرع كبيرُ الخدم إلى مساعدته، ولكن بعد بضع ثوانٍ، رآه يستدير وكان واضحًا أنه يعتزم العودةَ إلى منزلي. غير أنه بعدما قطع جزءًا من طريق العودة، بدا أنه يشعر بتحسُّن؛ إذ غيَّر رأيه مرةً أخرى، وشرع في محاولةِ العثور على عربة أجرة.»
في أثناء الأسبوع الأخير من شهر فبراير وبداية شهر مارس، تكرَّرت نوبات الألم في منطقة القلب، مع عدم انتظام النبض، وصارت تحدث بالفعل بعد ظهر كل يوم تقريبًا. وقد أُصيب بنوبة من هذا النوع في ٧ مارس عندما كان يسير بمفرده على بُعد مسافة قصيرة من المنزل، فعاد إلى المنزل بصعوبة، وكانت هذه هي المرةَ الأخيرة التي استطاع فيها الوصول إلى «ممشاه الرملي» المفضَّل. وبعد ذلك بمدة قصيرة، أصبح مرضه أشدَّ حدةً وإثارةً للقلق بوضوح، وفَحَصَه السيد أندرو كلارك الذي تكفَّل الدكتور نورمان مور بمواصلة نهجه العلاجي، من مستشفى سانت بارثولوميو، والسيد ألفري من منطقة سانت ماري كراي. كان يعاني أحاسيسَ مزعجةً بالإنهاك والإعياء، وبدا أنه صار مُدركًا بحزنٍ عميق أن أيام قدرته على العمل قد ولَّت. تعافى رويدًا من هذه الحالة، وصار أكثرَ مرحًا وتفاؤلًا، كما يتضح في الخطاب التالي المُرسل إلى السيد هكسلي، الذي كان حريصًا بشدة على أن يخضع والدي لإشراف طبي أكثرَ عنايةً ممَّا كانت تسمح به الترتيبات الموجودة آنذاك:
داون، ٢٧ مارس ١٨٨٢
عزيزي
هكسلي
تستلزم هذه الإشارة إلى السير أندرو كلارك قليلًا من الشرح. كان السير أندرو كلارك نفسه مستعدًّا على الدوام لتكريس نفسه لمساعدة والدي، لكن والدي لم يستطِع تحمُّل فكرة استدعائه؛ لأنه كان يدرك مدى ثِقل العبء الواقع عليه بسبب عمله.
لم يطرأ أيُّ تغيير جدير بالذكر في بداية أبريل، ولكن في يوم السبت الموافق الخامس عشر من الشهر، أُصيب بدُوار وهو قاعد ليتناول العشاء في المساء، وأُغمي عليه وهو يحاول الوصول إلى أريكته. وفي اليوم السابع عشر، تحسَّنت حالته مرةً أخرى، وفي فترة غيابي المؤقَّت، سجَّل لي التقدُّم المُحرَز في تجربةٍ كنت مشاركًا فيها. وفي مساء ١٨ أبريل في حوالي الساعة الثانية عشرة إلا ربعًا، أُصيب بنوبة حادة، وأُغمي عليه، ثم عاد إليه وعيُه بصعوبة بالغة. بدا وكأنه كان يدرك اقتراب الموت، وقال: «لست خائفًا على الإطلاق من الموت». وطوال صباح اليوم التالي، ظلَّ يعاني غثيانًا وإغماءً شديدَين، وبالكاد استجمع قواه قبل أن تأتي النهاية.
تُوفِّي في حوالي الساعة الرابعة من يوم الأربعاء الموافق ١٩ أبريل من عام ١٨٨٢.
أختمُ سِجل حياة والدي ببضع كلمات تأمُّلية أُضيفت إلى مخطوطة «سيرته الذاتية» في عام ١٨٧٩:
«بالنسبة إليَّ، أعتقد أنني تصرَّفت التصرُّف السليم بالسعي في سبيل العلم وتكريس حياتي له باستمرار. ولا أشعر بأي ندمٍ على ارتكاب أي خطيئة كبرى، لكنني كثيرًا ما ندمتُ على أنني لم أُقدِّم المزيد من النفع المباشر للآخرين.»