كتاب «أصل الأنواع» (تكملة)
١٨٦٠
[أقتبس بعضَ الإدخالات من مفكِّرة يوميات أبي:
«٧ يناير. نُشرَت الطبعة الثانية من كتاب «أصل الأنواع»، التي تكوَّنت من ٣٠٠٠ نسخة.»
«٢٢ مايو. نُشرَت الطبعة الأولى من كتاب «أصل الأنواع» في الولايات المتحدة مكوَّنةً من ٢٥٠٠ نسخة.»
دوَّن والدي هنا المبالغَ المالية التي حصل عليها من مبيعات كتاب «أصل الأنواع».
الطبعة الأولى: ١٨٠ جنيهًا
الطبعة الثانية: ٦٣٦ جنيهًا و١٣ شلنًا و٤ بنسات
الإجمالي: ٨١٦ جنيهًا و١٣ شلنًا و٤ بنسات.
بعد نشر الطبعة الثانية، بدأ فورًا، في ٩ يناير، في تفحُّص مواده العلمية لإعداد كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»، فيما كان عمله الآخر الوحيدُ في هذا العام عن نباتات جنس الندية.
ظلَّ في داون طوال هذا العام كله، باستثناء زيارة إلى مصحة الدكتور لين للعلاج المائي في سودبروك، وباستثناء شهر يونيو، وزياراته إلى منزل الآنسة إليزابيث ويدجوود في هارتفيلد، في مقاطعة ساسكس (في يوليو)، وإلى إيستبورن، من ٢٢ سبتمبر إلى ١٦ نوفمبر.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ٣ يناير [١٨٦٠]
عزيزي هوكر
… صحيح أن الجزء المُتعلِّق بالنباتات الهندية الغازية مثيرٌ جدًّا للاهتمام، لكني أظن أن الحقيقة التي ذكرتها قُرب نهاية المقالة؛ ألَا وهي أن الغطاء النباتي الهندي، على عكس الغطاء النباتي لأرخبيل الملايو، يوجد في أجزاءٍ منبسطة ومنخفضة من جزر الملايو، يُخفِّف «جدًّا» من الصعوبة التي بَدَت هائلةً في البداية (الصفحة الأولى). فما من شيء يضاهي الموضوعَ المُفضَّل بشدة لدى المرء. أظن أن هذا نفسه هو ما حدث في حالةِ الهجرة الجليدية، وحالة الإنتاج المستوطن — أي تغلُّب ما تُنتِجه مساحةٌ أكبر من الكائنات على ما تُنتجه مساحاتٌ أصغر؛ لا شك أن الأشكال الهندية واجهَت صعوبةً أشدَّ في الاستيلاء على الأجزاء الباردة من أستراليا. أتحفَّظ على تعليقاتك (الصفحة الأولى)؛ لأنها «لا ترسم تصوُّرًا عن أي شيء في تربة الهند أو مناخها أو غطائها النباتي»، ممَّا يستطيع أن يُعطِّل ظهورَ النباتات الأسترالية. وقُرب نهاية المقالة (الصفحة ١٠٤)، لديك تعليقات رائعة على جهلنا العميق بعِلَّة الاستيطان أو الدخول المحتمل؛ سأجيب عن الصفحة الأولى بصفحةٍ لاحقة، أقصد الصفحة ١٠٤.
إن إبرازك التباينَ بين الرُّكنَين الجنوبي الغربي والجنوبي الشرقي يُعَد إحدى أروع الحالات التي سمعتُ بها على الإطلاق … إنك تعرض الحالةَ بتأثير قوي رائع. أمَّا مناقشتك للأنواع المختلطة التي غَزَت الركنَ الجنوبي الشرقي (ونيوزيلندا)، فهي مشكلةٌ غريبة ومُعقَّدة كمشكلة أعراق الإنسان في بريطانيا. وبخصوص تعليقك على أن النباتات الغازية المختلِطة تمنع نمو النباتات الأصلية، التي كانت أغنى بعدد الأنواع، أو تُدمِّرها، فيبدو لي «جديدًا ومُهمًّا جدًّا». لستُ متيقنًا ممَّا إذا كانت مناقشتك لنباتات نيوزيلندا أكثرَ تثقيفًا لي، أم لا. لا أستطيع المُبالغة في الإعجاب بكلتَيهما. لكنَّ استيعاب كل الحقائق سيتطلَّب وقتًا طويلًا. أرى أن مثالك الذي ذكرتَ فيه أن أكبرَ الرُّتَب الأسترالية ليس لها أي أنواع في أستراليا، أو بضعة أنواع قليلة جدًّا، مذهلٌ حقًّا. على أي حال، لقد «بيَّنتَ» الآن (مع عدم وجود ثدييات في نيوزيلندا) (الملاحظةَ الساخرة اللاذعة الثالثة) أن نيوزيلندا لم تكن قَط مُلتحمةً الْتحامًا مُتَّصلًا، ولا شبه مُتَّصل حتى، بأستراليا برًّا! في الصفحة ٨٩، توجد الجملةُ الوحيدة في المقالة كلها (عن هذا الموضوع) التي أرغب بشدة في دخول جدال محتدِم بشأنها؛ أقصد أنه لا توجد نظرية عن الهجرة عبر المحيطات تستطيع تفسيرَ ذلك وما شابه. الآن أعلن أمام العالم كلِّه أن أحدًا لا يعرف أيَّ شيء عن قوة تأثير الهجرة عبر المحيطات. فأنت لا تعرف ما إذا كانت الرُّتَب غير الموجودة تحوي بذورًا تُدمِّرها مياهُ البحر، ككل البقوليات تقريبًا، وكرتبة أخرى نسيتُها، أم لا. لا تهاجر الطيور من أستراليا إلى نيوزيلندا؛ ولذا «يبدو» أن الطفو على الماء هو الوسيلة الوحيدة الممكنة، لكني أصرُّ على أننا لا نعرف ما يكفي من المعلومات لنُناقش المسألة، لا سيما أننا لا نعرف الحقيقةَ الرئيسية؛ أي ما إذا كانت بذور الرُّتَب الأسترالية تقتلها مياهُ البحر.
النقاش بخصوص الأجناس الأوروبية مثيرٌ جدًّا للاهتمام، لكني، هنا فقط، ألتمس مزيدًا من المعلومات؛ أقصد أني أريد معرفةَ أي هذه الأجناس غير موجود في المناطق المدارية في العالم، بمعنى أيُّها مقصور وجودُه على المناطق المعتدلة. أرغب بشدة في أن أعرف مقدارَ التعديل الذي حدث في أستراليا «بِناءً على مفهوم الهجرة الجليدية». من الأفضل أن أشرح عندما نلتقي، وأجعلك تتفحَّص القائمةَ وتُميِّز محتوياتها بعلامات.
… قائمة النباتات المستوطنة مثيرةٌ جدًّا للاهتمام، ولكن لماذا، باسم كلِّ ما هو طيب وكلِّ ما هو شرير، لا تُلخِّص حقائقَ وتُعلِّق عليها في النهاية؟ هيا بربك، سأسخَر منك مرَّةً ردًّا على السخريات الكثيرة التي ستُبديها تجاه هذا الخطاب. ألَا ينبغي أن تُعلِّق على عدد النباتات التي استوطنت أستراليا والولايات المتحدة «تحت ظروف مناخية شديدة الاختلاف»؛ لتوضيحِ ما للمناخ من أهمية كبيرة، و[على] انتشار نباتات من الهند وأمريكا الشمالية وجنوب أفريقيا بقدرٍ لا بأس به، لتوضيح أن الإدخال المُتكرِّر للبذور مُهم جدًّا؟ وبخصوص «وفرة الأراضي غير المأهولة بالنباتات في أستراليا»، هل تعتقد أن النباتات الأوروبية التي أدخلها الإنسانُ تنمو الآن في أستراليا على بُقَع كانت جرداء تمامًا؟ لكني كلبٌ وقِح، يجب على المرء أن يدافع عن نظرياته الخيالية ضد الرجال القاسين أمثالك. أظن أن هذا الخطاب سيبدو مغرورًا جدًّا، ولكن يجب على المرء أن يُكوِّن رأيًا عمَّا يقرؤه بإمعان، والحق أنني لا أستطيع إيجادَ كلمات قويةً بما يكفي للتعبير عن إعجابي بمقالتك.
بخصوص النباتات المدارية في الفترة الجليدية، سأذكِّرك بالحقائق التي ذكرتها بنفسك، فيما يتعلَّق بسفح جبال الهيمالايا، وإمكانية وجود بعضٍ من أشكال المناطق المدارية وأشكال المناطق المعتدلة على الأقل معًا في آنٍ واحد. أستطيع ذكر حالة مشابهة لحيوانات في المكسيك. آه يا طفلي المدلَّل الصغير، ما أقسى الرجال عليك! إنني سعيد جدًّا باستحسانك الفصولَ الجغرافية …
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، [٤ يناير ١٨٦٠]
عزيزي
إل
لقد عادت دورية «ذا جاردنرز كرونيكل» سالمة. شكرًا على رسالتك. تغمرني سعادةٌ بالغة بأنك تزداد حماسةً تجاه موضوع الأنواع بدرجة أكبر؛ وذلك لأنني، كما أقول دائمًا، مُقتنع تمامًا بأن آراءك وكتاباتك ستُسهِم في إقناع العالَم بدرجة أكبر كثيرًا ممَّا ستُسهم بها آرائي وكتاباتي. سوف تطرح نقاشًا عظيمًا عن الإنسان. إنك جريء جدًّا في هذا، وأنا أُكِنُّ لك احترامًا بالغًا. دُهِشتُ تمامًا، مثلك من الافتقار إلى الأصالة في الحجج المعارضة والحجج المُؤيِّدة أيضًا. جوين جيفريس يهاجمني في خطابه عن حق، بخصوص عدم وجود بعض الأصداف الساحلية تمامًا في كثيرٍ من الأحيان، في رواسب العصر الجيولوجي الثالث على الأقل. كنتُ مُتحيِّرًا؛ لأنني كنت أفكِّر في الحِقبة الجيولوجية الثانية، لكنَّ حالة جنس الخملوس كانت تنطبق على الحِقبة الجيولوجية الثالثة …
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، [٤ يناير، ١٨٦٠]
… سأرسل ورقةَ إيه موراي البحثية وقتما تُنشَر. إنها تحوي تخمينات متسرعةً جدًّا (ربما سيُعدِّلها)، وبلا حقيقة واحدة تُؤيِّدها، ولو كنت أنا مَن طرحها، لانهال عليَّ هو أو نُقَّاد آخرون بانتقادات لاذعة جدًّا. يؤسفني القول إنني لا أحمل «رأيًا مواسِيًا» عن كرامة الإنسان. أنا قانعٌ بأن الإنسان سيرتقي على الأرجح، ولا أكترث كثيرًا بما إذا كُنَّا سنُرى على أننا هَمَج فحسب في مستقبلٍ بعيد جدًّا. شكرًا جزيلًا على رسالتك الأخيرة.
لقد تعرَّضتُ، في إحدى صحف مانشستر، لسخرية لاذعة جيدة بعض الشيء، تُظهر أنني أثبتُّ أن «الأقوياء على حق»، وبالتبعية فإن نابليون على حق، وكل تاجر مخادع على حق أيضًا.
من تشارلز داروين إلى دبليو بي
كاربنتر
داون، ٦ يناير [١٨٦٠]؟
عزيزي كاربنتر
قرأتُ للتو مقالتك الممتازةَ في مجلة «ناشيونال». وأرى أنها ستُقدِّم نفعًا جليلًا، لا سيما إذا عُرِف أنها من تأليفك. يبدو لي أنها تُقدِّم وصفًا واضحًا بامتيازٍ لآراء السيد والاس وآرائي. ما أشدَّ براعتك في الْتفافك من وراء خطوط المعارضين اللاهوتيين بعرض مقارنةٍ مع أعمال رجال أمثال بينثام والمُصنِّفين الأكثر تبنيًا للفلسفة! أشكرك من أعماق قلبي على الطريقة المُشرِّفة «للغاية» التي ذكرتني بها. كنت أرغب في رؤية بعض الانتقادات أو التعليقات بخصوص موضوع علم الأجنة؛ إذ إنك خبير به. لا أظن أن أي شخص نزيه يُمكن أن يقرأ مقالتك دون أن يتأثَّر بها بشدة. لا شك أن المذهب القديم المتمثِّل في الاعتقاد بعدم قابلية أشكال مُعيَّنة للتغيُّر سيندثر، لكن ذلك سيحدث ببطء. كم يخجلني أن أكبِّدك أيَّ عناء! لكني سأكون ممتنًّا جدًّا إذا استطعتَ إخباري بموضعِ ذِكْرِ البَيض ذي الألوان المختلِفة في أفراد فصيلة الوقواق، ومصدر المعلومة القائلة بأن هذا البَيض يوضَع في سبعة وعشرين نوعًا من الأعشاش. هل تعلم أيضًا، بِناءً على ما رصدتَه بنفسك، أن أطراف الأغنام التي ورَدَت إلى الهند الغربية يتغيَّر لونُها؟ حصلت على معلومات مفصَّلة عن فقدان الصوف، لكنَّ تقاريري المدوَّنة قدَّرت أن التغيير أبطأ ممَّا تصفه.
مع خالص شكري واحترامي من أعماق قلبي، تقبَّل أصدق تحياتي يا عزيزي كاربنتر، صديقك المخلص.
من تشارلز داروين إلى إل جينينز٥
داون، ٧ يناير ١٨٦٠
عزيزي جينينز
أنا ممتن جدًّا لرسالتك. يفيدني كثيرًا ويهمني أن أعرف الانطباعَ الذي يتركه كتابي على العقول الفلسفية والمثقَّفة. أشكرك على ما تقوله من كلمات طيبة، وأنت تتفق معي إلى حدٍّ أبعدَ ممَّا كنت أتوقَّعه. ربما تَعُد ذلك تجرُّؤًا مني، لكني مقتنع بأن «الظروف إذا دفعتك إلى الاستمرار في التفكير بشأن الموضوع»، فستتفق معي بدرجة أكبرَ حتى من ذلك. لم يُشكِّك أحدٌ حتى الآن في تفسيري لتبعية جماعةٍ لجماعة أخرى، بِناءً على التناددات، وعلم الأجنة، والأعضاء الأثرية؛ وإذا كان توضيحي لهذه المجموعات من الحقائق صحيحًا أصلًا، فلا شك بأن فئات كاملةً من الكائنات العضوية تنحدر من سلالة نَسَبية واحدة.
يُعَد قصور السجل الجيولوجي إحدى أصعب المشكلات … يبدو هذا القصور في أعلى درجاته خلال أبكر الفترات، ويبدو لي هذا كافيًا لتفسير عدم وجود أشكال وسيطة بين الفئات في الممالك الكبرى نفسها. من المؤكَّد أنه كان تصرُّفًا مُتسرِّعًا منِّي أن أذكر اعتقادي بأن كل الكائنات قد انحدرت من شكلٍ أوَّلي «واحد»، لكني لا أرغب في حذفه؛ لأنني أراه احتمالًا مرجَّحًا. هكسلي وحدَه يؤيِّدني في ذلك، وهو احتمالٌ ينطوي على بعض المزايا. أمَّا بخصوص الإنسان، فلستُ راغبًا على الإطلاق في أن أفرض اعتقادي بالقوة، لكني رأيت أن إخفاء رأيي تمامًا سيكون تصرُّفًا غيرَ نزيه. يحق لأي شخص بالطبع أن يعتقد أن الإنسان ظَهر بمعجزة منفصلة، وإن كنتُ شخصيًّا لا أرى ضرورةَ ذلك ولا رجحانَه.
أرجو أن تتفضَّل بقَبول خالص شكري على رسالتك اللطيفة. اتفاقك معي إلى حدٍّ ما يمنحني ثقةً كبيرة بأنني لست مخطئًا جدًّا. ظَلِلت فترةً طويلة مُتوقِّفًا في منتصف الطريق، لكني لا أعتقد أن أيَّ عقل باحث سيخلد إلى الراحة في منتصف الطريق. سيتعيَّن على الناس إمَّا أن يرفضوا الكل أو يعترفوا بصحة الكل، وما أقصده بكلمة «كل» هنا هو أعضاء كل مملكة كبرى فقط.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١٠ يناير [١٨٦٠]
يا له من نَسَب رفيع للبشرية!
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١٤ يناير [١٨٦٠]
… سأكون مهتمًّا جدًّا بقراءة المناقشة التي طرحتَها عن الإنسان، وسأدلي برأيي بعناية، بِغض النظر عن مدى فائدته، لكني طالما حسبتك حصيفًا جدًّا في مَلَكة التقدير العلمي (وهذه في رأيي إحدى أسمى الصفات وأنفعها) إلى حدِّ أنني أظن أن رأيي لن يجدي في شيء. أضحك إذ أفكِّر إنها لمزحة أن أحذِّرك بعد تحذيراتك لي بشأن الموضوع نفسه!
… يا لها من فائدة عظيمة هائلة تلك التي منحتني إيَّاها حين جعلت موراي ينشر كتابي! لم أكن أدرك حتى اليوم أنه لقي رواجًا كبيرًا؛ لأن إحدى السيدات تقول، في رسالة إلى إي اليوم، إنها سمعت رجلًا يسأل عنه في «محطة القطار»! في طريق «ووترلو بريدج»، وقال بائع الكتب إنه لن يكون لديه أيُّ نسخة حتى تصدُر الطبعة الجديدة. قال بائع الكتب إنه لم يقرأه، لكنه سمِع أنه كتاب مُميَّز جدًّا! …
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ١٤ [يناير
١٨٦٠]
[في دورية «ذا جاردنرز كرونيكل»، ٢١ يناير ١٨٦٠، ظهر خطابٌ قصير من أبي كُتِب ردًّا على ما أرسله السيد ويستوود إلى العدد السابق من الدورية، حيث نُوقشت بعض ظواهر التهجين في سياق كتاب «أصل الأنواع». فكتب السيد ويستوود ردًّا على ذلك (في ١١ فبراير) وطرح مزيدًا من الأدلة ضد مذهب الانحدار، مثل ظهور رسومات للنَّعام في «سجلات مصرية» قديمة بشكل الطائر كما نعرفه الآن. ولا تستحق المراسلات الذِّكر، إلا باعتبارها واحدةً من الحالات القليلة جدًّا التي استُدرِج فيها أبي إلى أيِّ شكل من أشكال النزاع.]
من آسا جراي إلى جيه دي هوكر.
كامبريدج، ماساتشوستس،
٥ يناير
١٨٦٠
عزيزي هوكر
لقد ضاع خطابُك الأخير، الذي وصل إليَّ قُبيل أعياد الميلاد بفترة قصيرة للغاية، في أثناء التحسينات التي تُجرى في غرفة مكتبي في هذا الموسم، ولم يُعثَر عليه حتى الآن. إنني آسف جدًّا على فقدانه؛ لأنه كان يحوي بعض المُذكِّرات المُتعلِّقة بعلم النبات، ولم أحتفظ بها في حوزتي …
كان الجزء الرئيسي من خطابك إشادةً بالِغة بكتاب داروين.
حسنًا، لقد وصل إليَّ الكتاب، وأنهيت قراءته بإمعان قبل بضعة أيام، وأقول بكل صراحة إن إشادتك في محلها.
لقد كُتِب ﺑ «براعة شديدة». ربما استغرق إنتاجه عشرين عامًا. إنه مُكتظ بمادة علمية جديرة جدًّا بالاهتمام قد استوعبها الكاتبُ تمامًا وشرحها جيدًا، وهي أيضًا مكثَّفة ومقنِعة، وإجمالًا، يُقدِّم الكتابُ حجةً أفضل ممَّا كنت أظنه ممكنًا …
كان أجاسي، في آخر مرة رأيته فيها، قد قرأ جزءًا منه فحسب. يقول إنه «سيئ، بل سيئ جدًّا»! (هذا بيني وبينك). الحقيقة [هي] أنه منزعج منه بشدة … ولا عجبَ في ذلك. ذلك أن تضمينَ جميع الأنظمة «المثالية» في نطاق العلم، وإعطاء تفسيرات مادية أو طبيعية وجيهة لكل نقاطه المهمة لا يقلُّ سوءًا عن أن يُعزى إلى فوربس الفضلُ في جميع المواد المتعلِّقة بالأنهار الجليدية … وتقديمه لتفسيرات علمية لكل الظواهر.
أخبِر داروين بكل هذا. سأبعث إليه بخطابٍ عندما تسنح لي فرصة. كما وعدتُ، ستحظيان أنت وهو بمعاملة متساوية في هذا الشأن … يجب أن أكتب بنفسي مقالًا نقديًّا عن كتاب داروين وأبعث به إلى «دورية سيليمان» (لا سيما أنني أظن أن أجاسي يعتزم التصريحَ علانيةً برأيه فيه) ليُنشَر في عدد شهر (مارس) المقبل، وأنا أشرَع في ذلك الآن (في الوقت الذي يجب أن أستغل فيه كلَّ لحظة في العمل على موضوع الفصيلة المركَّبة في كتاب «البعثة الاستكشافية»، والتي أعرف عنها أكثرَ بكثير). وليست تلك بالمهمة السهلة، مثلما قد تتصوَّر.
أظن أنني قد لا أرضيك تمامًا. وأعلم أنني لن أرضي أجاسي إطلاقًا. سمعتُ أن ثمَّة طبعةً جديدة من الكتاب في المطبعة، وسوف يُثير الكتاب اهتمامًا بالِغًا هنا، وبعض الجدل أيضًا …
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ٢٨ يناير [١٨٦٠]
عزيزي
جراي
لقد بعث إليَّ هوكر بخطابك الذي أرسلته إليه، ولا أستطيع التعبيرَ عن مدى سروري العميق به. فنيلُ استحسان رجل لطالما احترمه المرءُ بكل إخلاص، والجميع يُسلِّم بصواب تقديره ومعرفته، لهو أسمى مكافأةٍ يُمكن أن يتمنَّاها مُؤلِّف، وأشكرك من أعماق قلبي على تعبيراتك اللطيفة جدًّا.
بعدما فكَّرت مليًّا، وبِناءً على نصيحةٍ قوية من لايل وآخرين، قرَّرت أن أترك الكتابَ الحالي كما هو (باستثناء تصحيح الأخطاء، أو إدراج جُمَل قصيرة في أماكنَ متفرِّقة) وأن أستخدمَ كلَّ عافيتي «التي لم يتبقَّ منها سوى القليل»، لنشر الجزء الأول (أي تكوين مجلَّد منفصِل مع فهرس، وما إلى ذلك) من المجلَّدات الثلاثة التي ستكون قوام عملي الأكبر؛ لذا فأنا غيرُ مستعد إطلاقًا لاستهلاك الوقت في إجراء تصحيحاتٍ من أجل نشر طبعة في أمريكا. أرفِقُ قائمةً ببضعة تصحيحات في الطبعة الجديدة الثانية، ستكون قد تسلَّمتها كاملةً بحلول هذا الوقت، وأستطيع إرسالَ أربعة تصحيحات أو خمس أو بضع إضافات على القدرِ نفسه من الأهمية الضئيلة، أو بالأحرى على القدرِ نفسه من الإيجاز. أعتزم أيضًا كتابةَ مقدمة «قصيرة» مع نُبذة تاريخية عن الموضوع. سأشرَع في القيام بهذه الأشياء؛ إذ لا بد من القيام بها يومًا ما، وسأرسلها إليك في غضون وقت قصير؛ التصحيحات القليلة أولًا، ثم المقدمة بعد ذلك، هذا إن لم أعرف أنك تخلَّيت تمامًا عن فكرةِ إصدار طبعةٍ منفصلة. ستستطيع حينئذٍ أن تُقرِّر ما إذا كان من المفيد استهلالُ الطبعة الجديدة بتعليقك عليها. ومهما كانت طبيعة تعليقك، أؤكِّد لك أني أتشرَّف «جدًّا» بأن يُستهَل به كتابي …
من آسا جراي إلى تشارلز داروين
كامبريدج، ٢٣ يناير ١٨٦٠
عزيزي
داروين
أكتب لك على عجلٍ لأخبرك بوصول بقية أوراق الطبعة الجديدة، وبما أحدَثته من جَلَبة حيالَ إصدار طبعة جديدة في بوسطن. حسنًا، لقد بدا كلُّ شيء على ما يرام، عندما، ويا للعجب، وجدنا دارَ نشر ثانيةً في نيويورك أعلَنَت إصدار طبعة جديدة أيضًا! أرسلتُ حينئذٍ إلى كلتا دارَي النشر في نيويورك، طالِبًا منهما التراجعَ وإفساح الطريق بدلًا من ذلك «للمؤلِّف» وطبعته الجديدة التي تُمثِّل نسخةً منقَّحة. فتلقَّيت ردًّا من دار «هاربرز» بأنهم يتراجعون، ومن دار «أبلتونس» بأنهم قد «نشروا» الكتابَ بالفعل (وقد رأيت نسخةً في اليوم التالي)، لكنهم أضافوا أنهم، «إذا حقَّق الكتابُ مبيعاتٍ كبيرة، فسيكونون راغبين بالتأكيد في إعطاء المؤلِّف مبالغَ ماليةً عادلة وطائلة.»
ربما أستطيع عقدَ صفقة لصالحك. كلُّ ما تَحقَّق ربحٌ خالص، لكنه لن يكون كثيرًا جدًّا، على ما أظن.
الملاحظاتُ الناقدة الصغيرة التي ظهرت في الصُّحُف حتى الآن تتسم بالبراعة وعمقِ التفكير.
آمُل أن أحصُل في الأسبوع المقبل على أوراق مقالي النقدي من نيوهافن، وأُرسلها إليك، وسأطلب منك إرسالها إلى الدكتور هوكر.
تلبيةً لطلبك، يجب أن أذكر أردأ أجزاء كتابك، وأفضلها من وجهة نظري. غير أن ذلك ليس مُهمَّةً سهلة، ولا يُمكن تنفيذها بكلمة أو اثنتَين. «الجزء الأفضل»، في رأيي، هو «مجمل الكتاب»، أقصد «نهجه» و«طريقته في المناقشة»، والكم الهائل من الحقائق، والاستدلالات الفَطِنة التي تعاملتَ معها كما لو كنتَ على درايةٍ تامة بها. لا أظن أن عشرين عامًا تُعَد بالمدة الطويلة لإنتاج كتاب كهذا.
الأسلوب واضح وجيد، لكنه يحتاج عند مواضعَ متفرِّقة إلى مراجعةِ تفاصيل بسيطة (الصفحة ٩٧، يُلقِّح نفسه ذاتيًّا ﺑ «نفسه»، وما إلى ذلك).
ثم إن صراحتك تُعَد بمثابةِ كلِّ شيء لقضيتك. إنه لَمِما يُنعش النفسَ أن يجد المرءُ شخصًا يطرح نظريةً جديدة ويعترف بكل صراحة أنه يجد صعوباتٍ لا يمكن التغلُّب عليها، حاليًّا على الأقل. أعرف أناسًا لم يتحدَّثوا قَط عن أي صعوبات لديهم.
حالما فهمت افتراضاتك، تأكَّدت أن لديك أساسًا حقيقيًّا يمكنك مواصلةُ البناء عليه. حسنًا، لست أدري كيف يمكن لأحدٍ أن يُقِر بصحة افتراضاتك، ثم يمتنع عن الاعتراف بصحة استنتاجاتك، بصفتها فرضيةً مرجَّحة على الأقل.
من المؤكَّد بالطبع أن مقالي النقدي عن كتابك لا يُعبِّر تمامًا عن القوة الكاملة للانطباع الذي تركه الكتابُ في نفسي. وفي ظل الظروف الحالية، أظن أنني أقدِّم لنظريتك نفعًا بتقديمِ دراسةٍ مُنصِفة مُستحسِنة لها مع عدم تأييد استنتاجاتها الكاملة، بدرجةٍ أكبرَ ممَّا كنت سأقدِّمه لو أعلنت أنني غيَّرت رأيي وصِرت مُقتنعًا بها، والحق أني لا أستطيع قولَ هذه العبارة الأخيرة، بصِدق.
حسنًا، أمَّا الجزء الأسوأ في الكتاب من وجهة نظري، فهو محاولة تفسير تكوُّن الأعضاء، وتكوُّن العيون، وما إلى ذلك، بالانتقاء الطبيعي. فبعض هذه الأجزاء مكتوبٌ بأسلوبٍ لاماركيٍّ تمامًا.
فصلُ «التهجين» ليس «سيئًا»، بل «جيد». لقد كنتَ مدهشًا في بعض أجزائه. بالرغم من ذلك، فأنت لم تُفسِّر بعدُ، كما قد يُطلَب منك أن تُفسِّر، السببَ في أن التشعُّب حتى حدٍّ مُعيَّن يُؤدِّي إلى زيادةٍ في خصوبة الأنواع المهجَّنة، لكنه إذا تخطَّى هذا الحدَّ بمقدار ضئيل يكاد يكون غير ملحوظ، يُسبِّب عُقمًا أو يعكس النزعة. من المرجَّح جدًّا أنك تسير على المسار الصحيح، ولكن لا يزال ينقصك أن تفعل شيئًا ما في هذا الجزء.
هذا يكفي حاليًّا.
… لستُ غافلًا عن مجاملاتك، المجاملة البالغة جدًّا التي تمنحني إياها في تقدير قيمة رأيي. من الواضح أنك تُقدِّره بأكثرَ ممَّا أقدِّره، وإن كنتُ أرى أن استنتاج ذلك من قراءة خطاباتي أمرٌ مستبعَد؛ بسبب الطريقة التي أكتب بها خطاباتي [إليك]، ولا سيما [إلى] هوكر.
لا شيء يمنعني من القول بكل صراحة إنني لم أتعلَّم في حياتي من كتابٍ واحد هذا القدرَ الهائل الذي تعلَّمته من كتابك، ولم يزل لديَّ آلافُ الأشياء التي أرغب بشدة في قولها عنه.
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
[فبراير؟ ١٨٦٠]
… سأكتفي الآن بأن أعرِّج سريعًا على بعض النقاط في خطابك. ما تقوله عن كتابي يغمرني بسعادةٍ بالغة، وليتني كنتُ أستطيع أن أشعر بأنني أستحق كلَّ ما تقوله. أعتقد أن الرأي الناقد من رجلٍ لم يُغيِّر قناعتَه السابقة تمامًا ويعتنق الفكرة الجديدة، إذا كان رأيًا عادلًا ومُستحسنًا إلى حدٍّ كبير، هو الأفضل من كل النواحي. أتفق معك في الرأي بشأن النقاط الرديئة. فمسألةُ العين تُقلقني حتى اليوم، لكني عندما أفكِّر في التدرُّجات المعروفة الدقيقة، يخبرني حسي المنطقيُّ بأنه يجب عليَّ التغلُّب على هذا الخوف.
أرجو أن تتذكَّر وتُخبر البروفيسور وايمان بمدى امتناني الشديد لأي تلميحات أو معلومات أو انتقادات. فأنا أُكنُّ لرأيه أقصى درجات الاحترام. أشعُر بحزن شديد على حالة دانا الصحية. لقد طلبتُ منه بالفعل أن يزورني.
إلى اللقاء، لقد وضعتَ فوق كاهلي حِمل دَين الامتنان، لكني لا أشعر به عبئًا عليَّ. أشعر بأقصى سعادة ممكنة لأنك وجدتَ كتابي جديرًا بالقراءة والتأمُّل؛ لأنني أعتقد في قرارة نفسي أنكم، أنت وثلاثة آخرين، الحكامُ الذين أعتبر رأيهم هو الأقيم على الإطلاق.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، [٣١ يناير ١٨٦٠]
عزيزي هوكر
لقد عقدتُ العزمَ على نشر مُلخَّص صغير عن تقدُّم الآراء بشأن تغيُّر الأنواع. هلَّا أسديت إليَّ، أنت أو السيدة هوكر، صنيعًا بنسخ جملة واحدة من ورقة «نودين» البحثية الواردة في مجلة «ريفيو أورتيكول»، ١٨٥٢، صفحة ١٠٣، أعني تلك الورقة المتعلِّقة بمبدأ الغائية. هل تستطيع إرسالها إليَّ قريبًا، مع وضع تلك الشُّرَط اللعينة التي تُوضع فوق الحروف المتحرِّكة على نحوٍ دقيق؟ أعتقد أن آسا جراي سينجح في الترتيب لطبعة ثانية من كتابي، وأريد أن أرسل إليه هذه المقدِّمة الصغيرة قريبًا. لم تخطر ببالي ضرورةُ إدراج جُملة نودين عن الغائية، وإلا كنت قد نسختها.
ستكون مقدمتي مناسبةً للطبعة الفرنسية أيضًا، التي «أعتقد» أنه جرى الاتفاقُ عليها.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
فبراير
[١٨٦٠]
… بخصوص وضع كتاب «أصل الأنواع» الآن، فإن ورقة هارفي تُعَد انتقادًا جيدًا ضد إكثاري من الحديث عن التدرُّجات الدقيقة غير الملحوظة، وقد ذُهلتُ بالطبع من قذفي بحقيقةِ أن نظريتي لم تسمح بحدوث تباينات مفاجئة بفعل الطبيعة وكبيرة بالدرجة الكافية. سأحتاج إلى أدلةٍ أكثرَ بكثير لأتقبَّل أن الأشكال تغيَّرت في أغلب الأحيان من خلال «قفزات».
«أرسِلُ إليك ضِمن هذه الدُّفعة البريدية هجومًا لاذعًا في دورية «ذا جاردنرز كرونيكل» شنَّه هارفي (الذي يُعَد من صفوة علماء النباتات، كما تعرف على الأرجح). أراه غريبًا بعض الشيء؛ إذ يفترض دوام النباتات المشوَّهة، في حين أن النباتات المشوَّهة عقيمة في العموم، وغالبًا لا تُورَّث. ولكن إذا سلَّمتُ بصحة حجَّته، فهذا يعني أنني بالغتُ في الحذر في عدم الاعتراف بوجود تباينات كبيرة مفاجئة. وبهذا يتضح لي ضررٌ آخر سبَّبته «نُبذتي». ففي مخطوطتي الكبرى، أناقش حالةً مشابِهة أصفُ فيها سمكةً عادية تُشبه السمكة الذهبية المشوَّهة.»
بخصوص ردِّ السير جيه دي هوكر، كتب أبي الخطاب التالي:]
داون، [٢٦ فبراير ١٨٦٠]
سيقول العالَم أيُّ محامٍ ذاك الذي فقدناه إذ صار عالِم نباتات «فحسب»!
إلى اللقاء، يا أستاذي العزيز الذي تتفوَّق عليَّ في موضوعي الذي ابتدعته بنفسي.
يملأ السرورُ أعماق قلبي بأن أراك تستحسن الفصل المتعلِّق بالتصنيف.
تُرى ماذا سيكون رأي هارفي. لكني أظن أنه لا يمكن لأي شخص في البداية أن يدرك أنه هُزِم في جدالٍ ما.
[تشير الخطابات التالية إلى الترجمة الأولى (عام ١٨٦٠) لكتاب «أصل الأنواع» إلى الألمانية، التي أشرف عليها إتش جي برون، المُتخصِّص البارع في علم الحيوان وعلم الحفريات، والذي كان آنذاك في فرايبورج، ثم صار أستاذًا جامعيًّا في هايدلبرج. قيل لي إن الطبعة المترجَمة لم تكن ناجحة؛ إذ بقي أسلوبُ الترجمة جليًّا في الكلام؛ ولِذا لم تكن القراءة ممتعة. أضاف برون إلى الترجمة مُلحَقًا بالصعوبات التي واجهته. من هذه الصعوبات على سبيل المثال: كيف يمكن للانتقاء الطبيعي أن يُفسِّر الاختلافاتِ بين الأنواع، عندما يبدو أن هذه الاختلافات لا تُفيد أصحابها، مثل طول الأذنَين والذيل، أو الطيات في مينا الأسنان لدى أنواعٍ مختلفة من القوارض؟ ينتقد كراوزه في كتابه، «أعمال تشارلز داروين»، الصفحة ٩١، معالجة برون لهذه المسألة، لكن سيتضح أن والدي اقترح إضافةَ تعليقات برون في واقع الأمر. ووجَّه كراوزه إلى برون اتهامًا أخطر (المرجع السابق، الصفحة ٨٧) بقوله إنه أهمل الفقرات التي لم يستحسنها، مثل الفقرة (الواردة في كتاب «أصل الأنواع» الطبعة الأولى، الصفحة ٤٨٨) القائلة بأن «الضوء سيُلقى على أصل الإنسان وتاريخه»، على سبيل المثال. ليس لديَّ أيُّ دليل على ما إذا كان والدي على دِراية بهذه التعديلات أم لا.]
من تشارلز داروين إلى إتش جي
برون
داون، ٤ فبراير [١٨٦٠]
سيدي العزيز الموقَّر
أبعث إليك بأصدقِ آيات شكري على رسالتك اللطيفة جدًّا، كنت أخشى أن تستنكر كتابَ «أصل الأنواع» بشدة، ولم أرسله إليك إلا تعبيرًا عن احترامي الصادق. سأقرأ عملك عن كائنات الجُزُر باهتمام شديد حالما أتلقَّاه. أشكرك من أعماق قلبي على التقييم الناقد في دورية «نويس ياربوخ فير مينيرالوجي»، وأشكرك شكرًا أشدَّ بكثير على حديثك إلى دار نشر «شفايتزربارت» عن إصدار ترجمة؛ لأنني مُتلهِّف جدًّا لِأن يَطَّلع الألمان العظماء والمفكِّرون على كتابي.
أشكرك مجدَّدًا على تعاطفك النبيل السخي، وسأظل، مع كامل احترامي.
سيكون الكتاب مُثيرًا للاهتمام بدرجةٍ أكبر كثيرًا إذا قمت ﺑ «تحريره» (لا أقصد ترجمته)، وإلحاق ملاحظات «مُفنِّدة» أو مُؤكِّدة. لقد حقَّق الكتاب مبيعاتٍ هائلةً جدًّا في إنجلترا إلى حدٍّ يجعلني أظن أن أي مُحرِّر سيجني أرباحًا من الترجمة.
من تشارلز داروين إلى إتش جي
برون
داون، ١٤ فبراير [١٨٦٠]
سيدي العزيز الموقَّر
من تشارلز داروين إلى إتش جي
برون
داون، ١٤ يوليو [١٨٦٠]
سيدي العزيز الموقَّر
سأظل مدينًا لك دائمًا بدرجةٍ كبيرة على الخدمة الجليلة والشرف البالغ اللذَين منحتَني إياهما بترجمة كتابي هذه الترجمة الممتازة. أرجو أن تتقبَّل خالِص صِدقي وأصدق احترامي.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، [١٢ فبراير ١٨٦٠]
… أظن أنه كان من المؤسف جدًّا أن يُهدِر هكسلي في المحاضرة وقتًا هائلًا على التعليقات الأولية … لكني أرى محاضرته رائعةً جدًّا وجريئةً جدًّا. لقد اعترضتُ (وهو يوافقني في ذلك) على الانطباع الذي سيتركه، وهو أن العُقم معيارٌ شامل ومؤكَّد النجاح في الحُكم على الأنواع.
أنا متيقن من أنك ستطرح نقاشًا عظيمًا عن مسألة تطوُّر الإنسان. تغمرني السعادةُ بمعرفة أنك أنت والليدي لايل ستأتيان إلى هنا. أرجو أن تُحدِّد الوقت الذي يناسبك، وإذا لم يُناسبنا، فسنخبرك بذلك. نستطيع حينئذٍ أن نُناقش موضوع الإنسان بإمعان …
كَم أنا مَدين لك ولهوكر! أظن أنني لم أكن لأنشر إطلاقًا لولاكما.
[أُلقيَت المحاضرةُ المُشار إليها في الخطاب الأخير في المعهد الملكي، بتاريخ ١٠ فبراير ١٨٦٠. كُتبَ الخطابُ التالي ردًّا على طلب السيد هكسلي بالحصول على معلوماتٍ عن الاستيلاد والتهجين وغير ذلك. وهو مُهم لأنه يعود بالأذهان إلى الماضي ليُشكِّل فيها تصوُّرًا واضحًا عن تجرِبة الكاتب بخصوص هذا الموضوع.]
من تشارلز داروين إلى تي إتش
هكسلي
إلكلي، يوركشاير، ٢٧ نوفمبر
[١٨٥٩]
عزيزي هكسلي، مُؤلَّفات جيرتنير عظيمةٌ ومُؤلَّفات كولروتير عظيمة، لكنَّ الأوراق البحثية متناثرة عَبر مجلَّدات كثيرة وطويلة جدًّا. اضطُررت إلى تشكيل مُلخَّص للمحتوى كلِّه. كتاب هربرت عن الفصيلة النرجسية جيد جدًّا، ولديه أيضًا ورقتان بحثيتان ممتازتان في دورية «جورنال أوف ذا هورتيكالتشرال سوسايتي». بخصوص الحيوانات، ما من خلاصة يمكن الاعتماد عليها على الإطلاق، بل يجب جمع الحقائق من مصادرَ أصلية تمامًا. يؤسفني أنك تجد مخطوطتي عن الكتاب الأكبر (وهي أكبر من الكتاب الحالي مرتَين أو ثلاثًا)، بكل المراجع، غير قابلة للقراءة، لكنها ستُوفِّر عليك جُهدًا غيرَ محدود، سأعيرك إياها بكل سرور بالطبع، لكني لا أملِك نسخةً أخرى منها؛ لذا يجب أن تُحافظ عليها. لكنَّ خط يدي اللعين سيكون سيئًا للغاية.
بخصوص الاستيلاد، لا أعرف أي كتاب. لا أرى أن عمل «لو» جيد، لكني لا أعرف أفضلَ منه. أعتقد أن «يوات» مرجعية أفضل و«أكثر عَمَلية» بكثير، لكنَّ آراءه وحقائقه متناثرةٌ عبْر ثلاثة مجلَّدات ضخمة أو أربعة. صحيحٌ أنني عرفت معظمها من خلال قراءة أطروحاتٍ بحثية لا حصر لها، و«كل» الدوريات المتعلِّقة بالزراعة والمتعلِّقة بالبستنة، لكنَّ ذلك قد استغرق سنواتٍ طويلة. «تكمُن الصعوبة في أن تعرف المصادرَ التي يمكن الوثوق بها.» أمَّا تقديم ادِّعاء واحد أو اثنَين، فذلك لا يساوي شيئًا؛ إذ إن الحقائق مُعقَّدة جدًّا. آمُل أن أكون حذِرًا بحقٍّ في كلِّ ما أذكره عن هذا الموضوع، وأظنني كذلك، مع أن كلَّ ما طرحته، حتى الآن، مختصَر «إلى حدٍّ بعيد» جدًّا. لقد وجدت أهميةً كبيرة في التواصل مع هُواة الحيوانات ومربيها. فعلى سبيل المثال، كنت قاعدًا ذات مساء في حانةٍ فاخرة لبيع شراب الجِن في «بوره» وسط مجموعةٍ من هواة الحمَام عندما أُشيرَ إلى أن السيد بول أنشأ نوعًا هجينًا من الطيور النفاخة والحمَام البادن ليحصل على حجمٍ أكبر، ولو أنك رأيت إيماءات الرءوس المُتجهِّمة الغامضة المروِّعة التي أبداها كلُّ هُواة تربية الحمَام حيال هذا الإجراء الشائن، لأدركت مدى ضآلة علاقة التهجين بتحسين السلالات، ومدى خطورة هذه العملية على عددٍ لا نهائي من الأجيال. كل هذا قد اتضح بدرجةٍ أكبر كثيرًا ممَّا لو كان مكتوبًا في صفحاتٍ لا تضم سوى ادعاءات وما شابهها. غير أنني أكتب بعشوائية حمقاء. لا أعرف حقًّا كيف أستطيع إسداء نصائح بشأن الحصول على حقائقَ عن استيلاد السلالات وتحسينها. يُعد الذهاب إلى العروض إحدى الطُّرق الممكنة. ولتقرأ أيضًا «كل» الأطروحات البحثية عن أي حيوان داجن «واحد»، ولا تُصدِّق أيَّ شيء دون أن يكون مُؤكَّدًا بشدة. أمَّا بخصوص محاضراتك، فأستطيع أن أقترح عليك بعضَ الحكايات الطريفة والجُمل المسلية، إذا كنت تريد أن تُضحِك الحاضرين.
أشكرك شكرًا جزيلًا على إخباري برأي علماء التاريخ الطبيعي. إذا استطعنا على الإطلاق تكوين أيِّ مجموعة ملتحمة من المؤمنين بالفكرة، فسننتصر مع مرور الوقت. أشعر بسعادة «بالغة» لأن رامزي في صفنا؛ لأنه واحد من نُخبة علماء الجيولوجيا، في رأيي. أرسلت إليه نسخة. وآمُل أن يكون قد تلقَّاها. أتحرَّق فضولًا لمعرفةِ ما إذا كان بريستويتش قد تأثَّر على الإطلاق، لقد أرسلت إليه نسخة، ليس بصفته صديقًا، ولكن بسبب جملة أو اثنتَين في ورقة بحثية، جعلتاني أظن أنه كان مُتشكِّكًا.
المُبجَّل سي كينجسلي في الطريق إلى تغيير رأيه. لقد أخبرني كاتريفاج في خطابٍ أنه يتفق معي إلى حدٍّ بعيد، ويقول إنه عَرَض مُخطَّطات بيانيةً كمخطَّطاتي. مع خالص شكري من أعماق قلبي.
[أذكرُ هنا خاتمةَ محاضرة البروفيسور هكسلي، بصفتها أحدَ أوَّل الأحاديث التي ألقاها في تأييد كتاب «أصل الأنواع»، وأفصحها:
«قلتُ إن رجل العلم هو المُفسِّر المُحلَّف للطبيعة في محكمة المنطق السليم العليا. ولكن ما جدوى كلامه الصادق، إذا كان الجهل هو مستشارَ القاضي، والتحيُّز هو رئيسَ المُحلَّفين؟ لست أعرف أيَّ حقيقة طبيعية كُبرى لم يسبق تقبُّلها من كل الناس في حِقبة زمنية كان فيها الأشخاص الأجدر بالاحترام على اعتقادٍ بأنَّ الظواهر الخاضعة للدراسة تعتمد مباشرةً على الإرادة الإلهية، وأن محاولة دراستها غيرُ مُجدية، بل ومُهينة للذات الإلهية. ويتسم هذا النوعُ من معارضة العلوم الفيزيائية بإصرارٍ عنيد عجيب على البقاء على قيد الحياة. لقد سُحِق وشُوِّه في كل معركة، لكن يبدو أنه لا يُهزَم أبدًا؛ فها هو ذا بعد مائة هزيمة، لم يزَل مُتفشيًا في عصرنا الحاضر قدرَ تفشِّيه في زمن جاليليو، وإن لم يَعُد مُؤذيًا بالقدرِ نفسه لحُسن الحظ.»
«بالرغم من ذلك، فلأولئك الذين انقضت حياتُهم — وأستخدم هنا كلمات نيوتن النبيلة — في الْتقاط حصاةٍ هنا وحصاةٍ هناك على شواطئ محيط الحقيقة العظيم — الذين يشاهدون، يومًا بعد يوم، التقدُّم البطيء، لكنه مُؤكَّد، للمد العظيم الذي يحمل بين طَيَّاته آلافَ الكنوز التي يرفع بها الإنسانُ قَدر حياته ويُجمِّلها — سيكون مثيرًا للضحك، إن لم يكن مُحزنًا جدًّا، أن يرَوا أشباه الملك «كنوت» في العصر الحالي ينصُبون عروشَهم على الشاطئ بكل هيبة وجِدِّية، طالبين من تلك الموجة العالية البقاءَ حيث هي، ومتوعدين بكبح تقدُّمها النافع. تعلو الموجة ويتطايرون، لكنهم، على عكس الملك الدنماركي العجوز الشجاع، لا يتعلَّمون درسَ التواضع؛ فينصبون عروشهم على المسافة التي تبدو لهم آمنة، وتتكرَّر الحماقة.»
«لا شك أن واجب عموم الناس أن يُثبِّطوا أيَّ شيء من هذا القبيل، وألَّا يُصدِّقوا هؤلاء المُتطفِّلين الحمقى الذين يظنُّون أنهم يُقدِّمون خدمةً للرب بمنعِ دراسةِ ما صنعه دراسةً شاملة دقيقة.»
«ليس كتاب أصل الأنواع بالكتاب الأول الذي يناقش أحدَ الأسئلة الكُبرى التي تُولَد من رحم العلم، والتي ستتطلَّب حَسمًا من هذا الجيل، ولن يكون الأخير. العقل الجمعي يغلي على نحوٍ غريب، ويبدو جليًّا لمَن يراقبون علامات العصور أن القرن التاسع عشر سيشهد ثوراتٍ هائلةً في الأفكار والأفعال كتلك التي شهدها القرن السادس عشر. فمن يَدري أيُّ محاكمات وتناحرات أليمة سيكون على العالم المتحضِّر أن يخوضها في مسار هذا الإصلاح الجديد؟»
«لكنِّي أومن بأنه مهما يكن من أمرٍ، فسيكون الدورُ الذي يمكن أن تضطلع به إنجلترا في المعركة عظيمًا ونبيلًا. ذلك أنها تستطيع أن تُثبِت للعالم أن ثمَّة شَعبًا واحدًا يؤمن بأن الاستبداد والديماجوجية ليسا البديلَين الضروريَّين للحكومة بأي حالٍ من الأحوال، وأن الحرية والنظام غيرُ متعارضَين، وأن التبجيل هو خادم المعرفة، وأن النقاش الحر هو حياة الحقيقة، ويؤمن بالوحدة الحقيقية بين أفراد أمة واحدة.»
«فهل ستؤدي إنجلترا هذا الدور؟ يتوقَّف هذا على كيفية تعاملكم، يا عموم الشعب، مع العلم. إذا أعززتموه وبجَّلتموه واتَّبعتم أساليبَه اتباعًا أمينًا مُطلقًا في تطبيقها على كل فروع الفِكر البشري، فسيكون مستقبلُ هذا الشعب أعظمَ من ماضيه.»
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون [١٥ فبراير ١٨٦٠]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ١٨ فبراير [١٨٦٠]
عزيزي
جراي
[بخصوص موقف ممثلي الكنيسة ذوي العقلية الأكثر تحرُّرًا، فهذا الخطاب (المشار إليه سلفًا) من تشارلز كينجسلي مهم:]
من سي كينجسلي إلى تشارلز داروين
إيفرسلي ريكتوري، وينشفيلد،
١٨
نوفمبر ١٨٥٩
سيدي
العزيز
يجب أن أشكرك على تفضُّلك المفاجئ بمنحي شرفَ إرسال كتابك إليَّ. أن يُرسِل عالِم التاريخ الطبيعي الذي — من بين كل علماء التاريخ الطبيعي الأحياء — أرغب بشدة في معرفته والتعلُّم منه، إلى عالِم مثلي كتابَه، لهو أمرٌ يُشجِّعني على أن أكون أشدَّ حذرًا، وربما أكثر تمهُّلًا، في ملاحظاتي.
أشعر بتوعُّك شديد جدًّا (في دماغي)، إلى حدِّ أنني لا أستطيع قراءة كتابك الآن كما ينبغي مع الأسف. كلُّ ما رأيته منه يملؤني ﺑ «دهشة ممزوجة بالرهبة»؛ رهبةٍ من الحقائق الكثيرة ومن هيبة اسمك، وحَدْسك الصافي، وكل ذلك سيُحتِّم عليَّ التخَلِّي عن الكثير ممَّا كنت أومن به وكتبته، إذا تبيَّن أنك مُحق.
لا أهتم بذلك كثيرًا. فليكن الله صادقًا وكل إنسان كاذبًا! لنعرف ما «يوجد» لدينا، وكما قال سقراط القديم، إبسثاي تو لوجو؛ فلنتَّبع الثعلبَ الداهية الخبيث إلى أيٍّ ما قد يقودنا إليه من مستنقعات وغابات، إذا لم يكن بُدٌّ من أن نلتقيه أخيرًا.
- (١)
تعلَّمت منذ أمدٍ بعيد — من مشاهدة تهجين الحيوانات الداجنة والنباتات — ألَّا أومن بعقيدةِ ثبات الأنواع على حالها دون تغيُّر.
- (٢)
تعلَّمت تدريجيًّا أن أومن بأنَّ تصوُّر المرء عن الإله بأنه خلقَ أشكالًا أوَّلية قادرة على تطويرِ نفسها إلى كل الأشكال الضرورية حسب الزمان وحسب المكان، لا يقل نُبلًا عن التصوُّر القائل بأنه احتاج إلى إجراء تدخُّل جديد لسد الثغرات التي أنشأها بنفسه. أتساءل إن كان التصوُّر الأول هو التصوُّر الأسمى أم لا.
لكن بِغض النظر عن مدى صحة ذلك، سأعتبر كتابك قيِّمًا جدًّا، سواءٌ لمحتواه نفسه، أو بصفته دليلًا على أنك تعرف وجودَ شخصٍ مثلي.
[يكتب صديقُ أبي القديم، المُبجَّل جيه برودي إنيس، من قصر ميلتون برودي، الذي كان قسًّا لأبرشية داون على مدار سنوات عديدة، بالعقليةِ نفسها أيضًا:
«لم يهاجم أحدُنا الآخر قَط. قبل أن أعرف السيد داروين، كنتُ قد تبنَّيت المبدأ القائل بأنه ينبغي دراسة التاريخ الطبيعي والجيولوجيا والعلوم عمومًا دون الاستشهاد بالكتاب المقدَّس، وصرَّحت بذلك علانية. فلمَّا كان كتاب الطبيعة والكتاب المقدَّس من المصدر الإلهي نفسه، فقد سارا في مسارَين متوازيَين، وعندما يُفهمان فهمًا صحيحًا، لن يتقاطعا أبدًا …»
«كانت آراؤه بشأن هذا الموضوع تحمل المغزى نفسَه، بدرجةٍ كبيرة، من جانبه. صحيحٌ أن أيَّ محادثات أجريناها عن موضوعاتٍ دينية بحتة لم تزَل تحمل حتى الآن خصوصيةً مقدَّسة كما كانت في حياته، لكني أستطيع الإفصاحَ عن خُلاصةٍ طريفة لإحداها. كُنَّا نتحدَّث عن التناقض الظاهر بين بعض الاكتشافات المفترَض صحتُها وسِفر التكوين، فقال لي: «أنت (كان من الأحرى أن يقول: «من المفترض بك أن تكون») عالِم لاهوت، وأنا عالِم تاريخ طبيعي، المساران منفصلان. أنا أسعى جاهدًا إلى اكتشاف الحقائق دون أن أضع في الحسبانِ ما قيل في سِفر التكوين. لا أهاجم موسى، وأعتقد أن موسى يستطيع الاعتناءَ بنفسه.» وكتب منذ وقتٍ قريبٍ كلماتٍ تحمل المعنى نفسَه قائلًا: «لا أتذكَّر أنني قد نشرت طَوال حياتي كلمةً تهاجم الدِّين أو رجالَ الدِّين مباشرة، لكن لو أنك قرأتَ كُتيِّبًا صغيرًا من تأليف أحد رجال الدِّين، تلقَّيته قبل يومَين، لضحكتَ واعترفت بأن لي بعضَ الحق في استيائي. فبعدما أساء إليَّ طوال صفحتَين أو ثلاث، بكلمات واضحة قاطعة بما يكفي لإرضاء أي رجل رشيد، يُلخِّص كلامه قائلًا إنه بحث في اللغة الإنجليزية ليجد مصطلحاتٍ مناسبةً للتعبير عن ازدرائه لي ولكل الداروينيين، لكن بحثه كان بلا جدوى.» وكتب في خطابٍ آخرَ لي بعدما غادرت داون: «كثيرًا ما اختلفنا، لكنك أحد أولئك الأناس النادرين الذين يمكن للمرء أن يختلف معهم ولا يُكنُّ لهم مثقال ذرة من العداء، وهذا شيء سأفتخر [به] جدًّا، لو كان بإمكان أي شخص أن يقوله عني.»
«وفي زيارتي الأخيرة إلى داون، قال السيد داروين، على مائدة العشاء في بيته: «كنت أنا وبرودي إنيس صديقَين مقرَّبَين جدًّا طوال ثلاثين عامًا، ولم نتَّفق اتفاقًا تامًّا على أي موضوع سوى مرة واحدة، وحينئذٍ حدَّق كلانا إلى الآخر بحِدَّة، وظننا أن أحدنا كان مريضًا جدًّا بكل تأكيد.»»]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٢٣ فبراير [١٨٦٠]
عزيزي
لايل
تلك إجابة رائعة من والد القاضي كرومبتون. ما أغرب أن يتوصَّل القاضي إلى النقاط نفسِها التي توصَّلتَ إليها بالضبط! هذا يُوضِّح لي كم كنتَ ستصبح محاميًا ممتازًا، وكم من الأفعال الظالمة كنت ستجعلها تبدو عادلة! لكنَّ العلم مجالٌ أعظم بكثير من القانون، وإن كان هذا الثاني ربما جعلك اللورد كينوردي. إذا أصدرت طبعةً أخرى من الكتاب، فسأذكر مزيدًا من التفاصيل عن التدرُّج في العين، وعن كل الأشكال الآتية من نموذج أوَّلي واحد، في محاولة لأنْ أنفي عنهما هذه الدرجةَ الصارخة من الاستبعاد …
بخصوص اعتراض برون على عدم إمكانية الكشف عن كيفية نشأة الحياة، وكذلك تعليق آسا جراي، الذي يشبهه إلى حدٍّ ما، بأن الانتقاء الطبيعي ليس سببًا حقيقيًّا، فقد أثار اهتمامي بشدة أنني وجدت بالصدفة في كتاب «حياة نيوتن»، الذي ألَّفه بروستر، أن لايبنيتس اعترض على قانون الجاذبية لأن نيوتن لم يستطِع توضيح ماهية الجاذبية نفسها. وقد تصادَف أنني استخدمت في الخطابات هذه الحجةَ نفسَها بالضبط دون أن أعرف أن أي أحد قد اعترض بالفعل على قانون الجاذبية. يُجيب نيوتن قائلًا إنه من المنطق أن يفهم المرءُ حركاتِ ساعةٍ ما، مع أنه لا يعرف سببَ نزول الوزن إلى الأرض. فيواصل لايبنيتس الاعتراضَ قائلًا إن قانون الجاذبية يتعارض مع الدِّين الطبيعي! أليس هذا غريبًا؟ أعتقد أنني سأستخدم هذه الحقائق من أجل بعض التعليقات التمهيدية في كتابي الأكبر.
… (أفهمُ) أنك تسأل عن السبب في غياب حالات التشوُّه في الحيوانات الأعلى رتبة، مع أنها حين تعيش، تكون عقيمةً في الغالبية العُظمى من الأحيان (حتى الحيوانات العملاقة والقَزَمة منها تكون عقيمةً «في العموم»)، ولا نعرف أن الحالة المشوَّهة التي ذكرها هارفي كانت ستتزاوج وتتكاثر. أعتقد أن ثمَّة حالةً واحدة مُسجَّلة لزهرة متناظرة شعاعيًّا خِصبة، ولا أستطيع تذكُّر ما إذا كانت هذه الزهرة قد تكاثرت ذاتيًّا أم لا.
بالعودة مُجدَّدًا إلى موضوع العين. أعتقد أن عدم مواجهة المشكلة كان سيصير تصرُّفًا غيرَ أمين، بل والأسوأ (كما كان تاليران سيقول) أنه كان ليصبح تصرُّفًا غير حكيم، في رأيي؛ لأنه كان سيؤخَذ عليَّ، مثلما أخذ عليَّ إتش هولاند موضوعَ عظام الأذن، حتى أخرسه هكسلي بإظهار التدرُّج الدقيق الذي حدث بين الكائنات الحية.
أشكرك شكرًا. جزيلًا على خطابك المُبهج جدًّا.
بالمناسبة، ألقيتُ على عاتق وولستون ورقةً بحثية كتبها ألكسندر جوردان، الذي يُثبت ميتافيزيقيًّا أن كل سُلالاتنا المزروعة أنواع خلقها الرب.
يُحرِّف وولستون بعضَ فقرات كتابي تحريفًا عجيبًا من دون قصد. لقد كتب المقالَ النقدي دون أن يعيد قراءة بعض الفقرات.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٢٥ فبراير [١٨٦٠]
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، السبت ٣ مارس [١٨٦٠]
عزيزي هوكر
يا له من عملٍ شاقٍّ ذاك الذي أدَّيته يوم الخميس هذا! لم أستطِع الذهاب إلى لندن حتى يوم الإثنين، وقد كان من الحماقة أن أذهب بعد ذلك؛ لأنني أُصِبت بنوبة حُمَّى (مع درجة طفيفة من الْتهاب ذات الجنب) اعترتني بقوة الأسد، وزالت عني بوداعة الحمل، لكنها أنهكتني بشدة.
تغمرني السعادةُ بسماعي عن ثويتس … تلقَّيت خِطابًا مُذهلًا من الدكتور بوت، قد يتحوَّل إلى موضعِ سخرية منه ومني؛ لذا لن أرسله إلى أي أحد. إنه يكتب بدافع نبيل من حُب الحقيقة.
أتساءل ما هو رأي ليندلي يا تُرى، من المرجَّح أنه أشد انشغالًا من أن يقرأ عن المسألة أو يُفكِّر فيها.
أشعر بالضيق من تحفُّظ بينثام؛ لأن معرفة الأجزاء الأردأ من وجهة نظر رجلٍ يتسم بقدراته على الرصد والملاحظة كانت ستصبح قيِّمةً جدًّا.
[فيما يلي المذكِّرة المشار إليها:]
الجيولوجيون | علماء الحيوان وعلماء الحفريات | علماء وظائف الأعضاء | علماء النباتات |
---|---|---|---|
لايل | هكسلي | كاربنتر | هوكر |
رامزي* | جيه لوبوك | السير إتش هولاند (إلى حدٍّ بعيد) | إتش سي واطسون |
جوكس† | إل جينينز (إلى حدٍّ بعيد) | آسا جراي (إلى حدٍّ ما) | |
إتش دي روجرز | سيرلز وود‡ | الدكتور بوت (إلى حدٍّ بعيد) | |
ثويتس |
[الخطاب التالي مُهم من حيث علاقته بذكرِ السيد بينثام في الخطاب الأخير:]
من جي بينثام إلى فرانسيس داروين
٢٥ ويلتون بليس، جنوب غرب،
٣٠ مايو
١٨٨٢
سيدي العزيز
امتثالًا لرسالتك التي تلقَّيتَها الليلة الماضية، أُرفِقُ إليك هذه الرسالةَ التي تلقَّيتها من أبيك. كان ينبغي أن أفعل ذلك حين رأيت الطلبَ العام منشورًا في الصُّحُف، لكني لم أكن أظن أن أيًّا منها قد يكون مُفيدًا لك. صحيح أنني كنت أشعر بإطراءٍ شديد عندما كان السيد داروين يُشرِّفني من حينٍ إلى آخر بأن يَذكرني ذكرًا لطيفًا ودودًا، لكني لم أُمنَح شرف الانضمام إلى دائرةِ أقرب المقرَّبين إليه؛ لذا فهو لم يتواصل معي قَط بخصوص آرائه وأعماله. كنتُ من أصدقِ المعجبين به، وتبنَّيت نظرياته واستنتاجاته بالكامل، بالرغم ممَّا سبَّبته لي من وجعٍ شديد وإحباط بالغ في البداية. ففي اليوم الذي قُرئَت فيه ورقته الشهيرة في جمعية «لينيان سوسايتي»، بتاريخ ١ يوليو عام ١٨٥٨؛ كانت ورقةٌ طويلة من تأليفي قد أُعِدَّت للقراءة هناك، وكنت قد جمعت فيها، في سياق التعليق على النباتات البريطانية، عددًا من الملاحظات والحقائق التي تُوضِّح ما كنت أعتقد آنذاك أنه ثبات الأنواع، بالرغم من الصعوبة المحتملة في تعيين حدودها، وتُبيِّن الورقةُ أيضًا وجود نزعة لدى الأشكال الشاذة، الناتجة عن الزراعة أو غيرها من الطرق، إلى التراجع ضِمن تلك الحدود الأصلية في حالة عدم التدخُّل بها. ولحسن الحظ الشديد أن ورقة السيد داروين قد حلَّت محلَّ ورقتي آنذاك، وحالما قُرئَت، شعرت بأنني مُلزَم بإرجاء قراءة ورقتي لأعيد النظر فيها، فبدأت أفكِّر بجدية في بعض الشكوك المُتعلِّقة بالموضوع وبظهور «أصل الأنواع»، فاضطُررت على مضض، إلى التخلِّي عن قناعاتي التي لطالما كنت متمسِّكًا بها، ونتائجِ كمٍّ هائل من الجهد المضني والدراسة، وألغيت من ورقتي كلَّ ذلك الجزء الذي كان يُؤيِّد ثباتَ الأنواع في الأصل، واكتفيت بنشر أجزاءٍ من بقية الورقة في شكلٍ آخر، معظمها في دورية «ناتشورال هيستوري ريفيو». وقد اعترفتُ منذ ذلك الحين في مناسباتٍ مختلفة بإيماني التام بآراء السيد داروين، بالأخص في خطابي الرئاسي في عام ١٨٦٣، وخطابي الثالث عشر والأخير، الذي صدر في شكل تقرير إلى الجمعية البريطانية في اجتماعها في مدينة بلفاست عام ١٨٧٤.
إنني أحتفي بالخطابات التي تلقَّيتها من السيد داروين أشدَّ الاحتفاء، إلى حد أنني سأكون ممتنًّا لك إذا أعدتها إليَّ عندما تقضي حاجتك منها. لم أحتفظ بالأظرُف مع الأسف، وعادةً ما كان السيد داروين يكتفي بتأريخها بالشهر فقط وليس بالسنة؛ لذا فهي ليست مُرتَّبةً زمنيًّا.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون ١٢ [مارس] [١٨٦٠]
عزيزي
لايل
بالتفكير مليًّا فيما تحدَّثنا عنه، بشأن أن الدرجة العالية من التطوُّر الفكري لدى الإغريق القُدامى بما شهدته من تحسُّن لاحق طفيف أو بقائها دون تحسُّن أصلًا تُمثِّل مشكلةً واضحة، خطر ببالي للتو أن الحالة في الواقع تتسق تمامًا مع آرائنا. صحيح أن الحالة ستكون مشكلةً أكيدة وفقًا للمذهب اللاماركي أو الأثري القائل بأن التقدُّم حتمي، ولكن وفق الرأي الذي أومن به والمتمثِّل في أن التقدُّم يحدث حسب الظروف، فهو ليس متعارضًا معه إطلاقًا، ويتسق مع حقائق التقدُّم الأخرى في البنية الجسدية لحيوانات أخرى. ذلك لأنه، في حالة الفوضى السياسية أو الاستبداد أو سوء الحكومة، أو بعد اجتياح الهَمَج، من المرجَّح أن تكون القوة أو الوحشية هي ما ينتصر في النهاية، وليس الفِكر.
استمتعنا جدًّا بزيارتكما أنت والليدي لايل.
طابت ليلتك.
من تشارلز داروين إلى جيه
بريستويتش٢٤
داون، ١٢ مارس
[١٨٦٠]
… في وقتٍ ما في المستقبل، عندما تحظى ببعضٍ من وقت الفراغ، وعندما تقرأ كتاب «أصل الأنواع»، سأعتبر تفضُّلك بإرسال أي انتقادات عامة إليَّ صنيعًا «استثنائيًّا» منك. لا أقصد انتقاداتٍ طويلةً جدًّا، بل ما يمكن أن تورده في خطاب. دائمًا ما كنتُ مُعجبًا جدًّا بأوراقك البحثية المختلفة، وسيسرني للغاية معرفةُ رأيك، الذي قد يُقدِّم لي مساعدةً حقيقية.
أرجو ألَّا تفترض أنني أتوقَّع أن «أغيِّر قناعاتك» أو «أضِلَّك»؛ وإنما سأكون راضيًا إذا استطعتُ زحزحةَ قناعاتك الراسخة قَيد أنملة، وأرجوك أيضًا ألَّا تخشى إزعاجي بالانتقادات الحادة؛ فقد تلقَّيت ضرباتٍ عنيفةً من بعض أقرب أصدقائي. إذا لم يكن مزعجًا أن تُرسل إليَّ رأيك، فسأكون ممتنًّا لك حقًّا بكل تأكيد …
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ٣ أبريل [١٨٦٠]
… أتذكَّر جيدًا حين كان التفكير في العين يُصيبني بالتوتُّر الشديد، لكني تجاوزت هذه المرحلة من الشكوى، والآن صارت التفاصيل الصغيرة التافهة في البنية هي التي غالبًا ما تُشعرني بانزعاجٍ شديد. فرؤية ريشةٍ ما في ذيل طاووس تصيبني بالغثيان، كلما حدَّقت إليها! …
[في خطاب إلى السير تشارلز لايل يَرِد ذِكر مقال سيجويك النقدي في مجلة «ذا سبيكتاتور»، بتاريخ ٢٤ مارس:
«أنا الآن متيقن من أن سيجويك هو كاتب المقال المنشور في مجلة «ذا سبيكتاتور». فلا أحد سواه يستطيع استخدام هذه المصطلحات المسيئة. ويا له من تحريف لمفاهيمي! إن أيَّ جاهل تمامًا بالموضوع سيفترض أنني طَرَحت «أولًا» الاعتقادَ القائل بأن الفواصل بين التكوينات المتعاقبة تُشير إلى فترات بينية طويلة. ذلك جَور عظيم. لكنَّ العجوز العزيز المسكين سيجويك يبدو مُتعصِّبًا بشأن المسألة. «فهمٌ مشوَّش!» إذا جرى بيننا أيُّ حديث على الإطلاق، فسأخبره بأنني لم أستطِع قَط تصديقَ أنه يمكن لمحقِّق أن يكون رجلًا طيبًا، لكني صرت أعرف الآن أن الرجل قد يسلخ جِلدَ رجل آخر بانتقاداته اللاذعة، ويكون في الوقت ذاته نبيلًا طيبَ القلب مثل سيجويك.»
«لا داعيَ إلى أن أمضي قُدُمًا في هذه الاعتراضات. لكني لا أستطيع أن أختم المقال دون التعبير عن بُغضي للنظرية بسبب ماديتها الراسخة العنيدة، ولأنها هَجَرت المسار الاستقرائي، المسارَ الوحيد الذي يؤدِّي إلى الحقيقة الطبيعية، ولأنها تُنكر العلل الغائية إنكارًا تامًّا؛ ممَّا يشير إلى أنها تترك في مُؤيِّديها فهمًا مشوَّشًا.»
«لا يعني هذا أنني أعتقد أن داروين ملحِد، لكن لا يسعني إلا أن أعتبر ماديته إلحادية. وأنا أرى أنها غير صحيحة؛ لأنها تتعارض مع مسار الطبيعة الواضح، وتتضاد تمامًا مع الحقيقة الاستقرائية. ثم إنها مؤذية بشدة.»
«إن كل سلسلة من الحقائق ترتبط معًا بسلسلة من الافتراضات وأشكال متكرِّرة من المبدأ الوحيد الخاطئ. لا يستطيع المرء أن يصنع حبلًا قويًّا من خيط من فُقَّاعات هوائية.»
«لكنَّ أي مفارقة مذهلة وجديدة (مفترَضة)، حين يجري التعبير عنها بوضوح شديد وبشيء كبير من المعقولية، تترك في عقولَ البعض نوعًا من الإثارة الممتعة التي تجعلهم ينزعون إلى تأييدها، وإذا لم يكونوا معتادين التفكير المتمعِّن، وكرهوا تحمُّل مشقة التحقُّق الدقيق من مدى صحتها، فمن المحتمل أن يستنتجوا أن ما (يبدو) «أصيلًا» لا بد أن يكون نتاج «نبوغ» أصيل، وأن أي شيء يتعارض بشدة مع المفاهيم السائدة لا بد أن يكون «اكتشافًا» عظيمًا؛ أي إنهم سيستنتجون باختصار، أنَّ أيَّ شيء يأتي من «قاع بئر» ما، هو لا بد «الحقيقة» التي من المفترض أنها مخفية هناك.»
من تشارلز داروين إلى دبليو بي
كاربنتر
داون، ٦ أبريل [١٨٦٠]
عزيزي كاربنتر
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١٠ أبريل [١٨٦٠]
عزيزي
لايل
شكرًا جزيلًا على رسالتك التي أرسلتها في الرابع من الشهر؛ سُررتُ جدًّا حين عرفت أنك في توركي. كان ينبغي أن أُسلِّي نفسي بالكتابة إليك قبل الآن، لكنَّ هوكر وهكسلي كانا يُقيمان معي هنا، وقد شغلا وقتي كله؛ إذ إن القليلَ من أي شيء جرعةٌ كاملة بالنسبة إليَّ … نُشِر عددٌ هائل من المقالات النقدية، وقد مَلِلت من نفسي بشدة. يوجد مقال نقدي طويل جدًّا كتبه كاربنتر في دورية «ميديكال آند شيرورج ريفيو»، وهو مقال جيد جدًّا ومتوازن جيدًا، لكنه ليس ممتازًا. يناقش كاربنتر كُتب هوكر بتفصيل مُطوَّل لا يقل عن التفصيل الذي يوليه لكتابي، ويقتبس مقتطفات ممتازة، لكني لم أستطِع أن أجعل هوكر يكترث البتة بتلقِّيه الإشادة.
من المؤلم أن يكون المرءُ مكروهًا بهذا القدْر الشديد الذي يكرهني به …
أرجو من أعماق قلبي أن يُكلَّل عملك في توركي بالنجاح. أرسِل أطيبَ تحياتي إلى فالكونر، وأرجو أن يكون بكل خير. كانت زيارة هوكر وهكسلي (مع السيدة هكسلي) مُبهجةً جدًّا. لكنَّ عزيزي هوكر المسكين ملَّ من كتابي للغاية، وإذا لم تكن أشد شعورًا بالملل، فهذه أعجوبة ومعجزة، إذا كان ذلك ممكنًا. إلى اللقاء يا عزيزي لايل.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون [١٣ أبريل ١٨٦٠]
عزيزي هوكر
غالبًا ما تُسفر مسائلُ الأسبقية عن شجاراتٍ بغيضة؛ لذا سأعتبره صنيعًا جليلًا منك إذا قرأت المُرفَق. إذا رأيت إرساله تصرُّفًا مناسبًا (وكنت متيقنًا من ذلك بلا أي جدال)، وإذا رأيته كافيًا وزيادة، فأرجو منك أن تُغيِّر التاريخ إلى اليوم الذي سترسله فيه بالبريد، وليكن ذلك قريبًا. تبدو الحالة الواردة في دورية «ذا جاردنرز كرونيكل» أقوى «قليلًا» من تلك الواردة في كتاب السيد ماثيو؛ لأن الفقراتِ الواردة في الكتاب متناثرةٌ في ثلاثة مواضع؛ لكن ملاحظة ذلك لن تكون سوى إفراط في الانتباه إلى الفروق والتفاصيل البسيطة. إذا كنتَ معترضًا على خطابي، فأرجو أن تعيده، لكني لا أتوقَّع أنك ستفعل ذلك، وإنما ظننت أنك لن تُمانع في إلقاءِ نظرة سريعة عليه. عزيزي هوكر، من الرائع لي أن أحظى بصديقٍ جيدٍ صدوق قديم مثلك. إنني أَدين كثيرًا لأصدقائي بما لدَي من عِلم.
شكرًا جزيلًا على محاضرة هكسلي. بدا لي الجزء الأخير فصيحًا للغاية.
… تفحَّصتُ المقالَ النقدي في [«إدنبرة»] بإمعانٍ مُجدَّدًا، وقارنت بين الفقرات، وأنا مذهول من التحريفات. لكنني سعيد بأنني قرَّرت عدم الرد. ربما يكون ذلك تصرُّفًا أنانيًّا، لكنَّ الردَّ على المقال وقضاء المزيد من الوقت للتفكير فيه مزعجان للغاية. أشعر بأسفٍ بالغ لأن هكسلي تعرَّض لمثل هذا الهجومِ الوحشي بسببي. لعلك لا تكترث كثيرًا بالهجوم غير المبرَّر عليك.
ذكرَ لايل في خطابه أنك بدَوت له كأنك منهك من الإفراط في العمل. أرجو أن تتوخَّى الحذرَ وتتذكَّر كم من رجال كثيرين جدًّا قد فعلوا ذلك، واستهانوا بالأمر حتى فوات الأوان. أنا أيضًا كثيرًا ما كنت أستهين به. تعرف أن صحتك كانت معتلةً أصلًا قبل رحلتك إلى الهند.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، أبريل [١٨٦٠]
عزيزي
لايل
سُررت جدًّا بتلقِّي رسالتك الطويلة اللطيفة من توركي. لقد منعني كمٌّ هائل من الخطابات المتتالية من إرسال رسالة إلى ويلز. شدَّ ما سُرِرت أيضًا بمعرفة رأيك في تجاهُل مقال [«إدنبرة ريفيو»] النقدي. ارتأى هوكر وهكسلي أنه من الواجب أن أَلفت الانتباه إلى تغيير الاقتباسات المُستشهَد بها، وصحيحٌ أنهما على صواب في هذا القول، لكني كرهت الفكرةَ بشدة إلى حدِّ أنني قرَّرت ألَّا أفعل ذلك. سوف آتي إلى لندن يوم السبت الموافق الرابع عشر؛ من أجل حفل السير بي برودي؛ لأنَّ لديَّ كومةً من الحاجات المكدَّسة التي أحتاج إلى قضائها في لندن، وسوف أزورك سريعًا في حوالي الساعة العاشرة إلا ربعًا من صباح الأحد (إذا لم أسمع منك ما يمنع ذلك)، وأقعد معك إلى الفطور، لكني لن أمكث طويلًا، وبذلك لن آخذ الكثير من وقتك. يجب أن أقول ملاحظةً أخرى عن الجدلِ شبه اللاهوتي المثارِ حول الانتقاء الطبيعي، ولتخبرني برأيك عندما نلتقي في لندن. هل تعتبر أن التبايناتِ المتتاليةَ في حجم حوصلة الحمَام النفاخ، والتي راكَمها الإنسانُ لإشباع هواه، كانت نتاجَ «القُوى المُبدعة الداعمة لدى الإله براهما؟» من منظور وجود إله قدير عليم لا بد أنه يُسيِّر كلَّ شيء وفق أوامره ويعرف كلَّ شيء، لن يكون ثمة مفرٌّ من الإقرار بهذا، لكني، بكل أمانة وصدق، لا أستطيع الإقرار به. فلا يبدو من المعقول لي على الإطلاق أن يهتم خالق الكون بحوصلة حمامةٍ لا لشيء إلا لإرضاء أهواء الإنسان السخيفة. أمَّا إذا كنت تتفق معي في رؤية أن هذا التوسُّط من الإله غير مُبرَّر، فلا أرى أيَّ سبب يدفع المرء إلى الإيمان بوجود مثل هذه التوسُّطات في حالة الكائنات الطبيعية، التي تُنتقى فيها خصائص غريبة مثيرة للإعجاب انتقاءً طبيعيًّا لتُفيد الكائن نفسه. تخيَّل أن حمامةً في الطبيعة تخوض في الماء، ثم تطفو إلى الأعلى بحوصلتها المنتفخة، وتُبحر بحثًا عن الطعام. ما الإعجاب الذي قد يُثيره ذلك؟ التكيُّف مع قوانين الضغط الهيدروستاتيكي، وما إلى آخرِ ذلك. لا أستطيع إطلاقًا أن أرى أيَّ صعوبة في أن يُنتِج الانتقاء الطبيعي البِنية الأشد إتقانًا، «إذا كان من الممكن الوصول إلى مثل هذه البنية بالتدرُّج»، وأنا أعرف من واقع تجرِبتي وخبرتي مدى صعوبة تحديد أي بِنية لا تُعرف لها على الأقل بعض التدرُّجات التي أدَّت إليها في النهاية.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، [١٨ أبريل ١٨٦٠]
عزيزي هوكر
… أنا مسرور بأن رواية «آدم بيد» نالت إعجابك بشدة. فقد كنتُ مسحورًا بها …
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ٢٥ أبريل [١٨٦٠]
عزيزي
جراي
يجب أن أشكرك بالطبع على نسخة المقال النقدي المنشور عن كتاب «أصل الأنواع» في مجلة «نورث أميريكان ريفيو». أراه ذكيًّا، وأنا متيقن من أنه سيضر بكتابي. كنت أعتزم إبداء بعض التعليقات عليه، لكنَّ لايل كان يرغب بشدة في الاحتفاظ به، ورأسي مُشوَّش تمامًا بين المقالات العديدة التي قرأتها مُؤخَّرًا. لا أشك في أن كاتب المقال مخطئ بشأن خلايا النحل، أقصد بشأن المسافة، صحيحٌ أن أيَّ مسافة أقصر، أو حتى أطول، ستكون مناسبة، لكن بعض المواضع حينئذٍ ستقع خارجَ نطاقات التكاثر، غير أن ذلك لا يضيف إلى الكتاب مشكلةً عويصة. يتبنَّى كاتب المقال رأيًا غريبًا عن الغريزة؛ إذ يبدو أنه يعتبر الذكاء غريزةً مُتطوِّرة، وأنا أرى ذلك خاطئًا تمامًا. أظنه لم يدرس موضوع الغريزة وعقول الحيوانات كثيرًا من قبل، ربما قرأ عنه فحسب.
هدفي الرئيسي من هذا الخطاب هو أن أسألك عمَّا إذا كنت تستطيع أن تشتري لي نسخةً يوم الأربعاء، الموافق ٢٨ مارس، من صحيفة «ذا نيويورك تايمز». ذلك أنها تتضمَّن مقالًا نقديًّا «لافتًا جدًّا» عن كتابي، وأرغب بشدة في الاحتفاظ بها. ما أغربَ أن يظهر المقالان الأبرز لكتابي (أي مقالك وهذا المقال) في أمريكا! صحيح أن هذا المقال ليس مفيدًا في الواقع، لكنه مُبهر بعض الشيء. نُشِر مقالٌ نقدي جيد في مجلة «ريفو دي دو موند»، بتاريخ الأول من أبريل، كتبه السيد لوجيل، الذي يُقال إنه رجل شديد الذكاء.
منذ حوالي أسبوعَين، مكث هوكر هنا بضعة أيام، وكان مؤنسًا جدًّا، لكني أظنه يُرهق نفسه بالإفراط في العمل. يا لها من مهمة هائلة تلك التي سيخوضها هو وبينثام في تأليف كتاب «أجناس النباتات»، حسب ما أتخيَّل! آمُل ألَّا ينغمس فيها انغماسًا بالِغًا إلى حدٍّ يُعجزه عن تدبير بعض الوقت لمسألة التوزيع الجغرافي، وغير ذلك من المسائل المشابهة.
بدأتُ العمل بانتظام، لكنْ ببطء شديد كالعادة، على التفاصيل المتعلِّقة بالتباين تحت تأثير التدجين.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، [٨ مايو ١٨٦٠]
… أرسلت للحصول على دورية «كاناديان ناتشوراليست». وإذا لم أستطِع الحصولَ على نسخة، فسأستعير نسختك. تلقَّيت صباح اليوم خطابًا من هنزلو، الذي يقول إن سيجويك قرَّر في ليلة الإثنين الماضي أن يشن هجومًا ضاريًا عليَّ في «جمعية كامبريدج الفلسفية». على أي حال، أتشرَّف جدًّا بأن أُهاجَم هناك، وفي «الجمعية الملكية» في إدنبرة.
لا أرى أيَّ جدوى في أن يتكبَّد المرء عناءَ تفنيد حجج فردية، ولا أن يتكبَّد عناء مجادلة أولئك الذين لا يهتمُّون بما أقوله. إذا فكَّرتَ لحظة، فسيتبيَّن لك (بِناءً على مذهبنا) أنه لا بد من وجود أجناس كبيرة لا تتغيَّر (طالِع الصفحة ٥٦ بخصوص هذا الموضوع، في الطبعة الثانية من كتاب «أصل الأنواع»). مع أنني لا أناقش الحالة بالتفصيل.
ربما لا يكون هذا سوى تعصُّب لأفكاري، لكني لا أميل إلى تأييد فكرة وجود قارة أتلانتس، وأُفضِّل عليها فكرتي التي تفيد بهجرة نباتات وحيوانات من العالم القديم إلى العالم الجديد، أو العكس، وذلك عبْر مسار قريب من مضيق بيرينج حين كان المُناخ أشدَّ حرارةً بكثير. من المهم جدًّا، كما تقول، رؤية أشكال حية من النباتات تعود إلى أزمنة ماضية قديمة جدًّا. أتُرانا سنتمكَّن على الإطلاق من اكتشاف نباتات اليابسة في حِقبة الفحم، ونجدها لا تختلف كثيرًا عن نباتات المستنقعات أو النباتات التي تصنع الفحم؟ أعمل عملًا دءوبًا على مخطوطة الحَمام المُباركة، لكني، لسبب أو آخر، أتقدَّم فيها ببطء شديد …
تلقَّيت صباح اليوم خطابًا من أكاديمية العلوم الطبيعية في فيلادلفيا، تُعلن فيه اختياري مُراسِلًا … هذا يُبيِّن أن بعض علماء التاريخ الطبيعي هناك لا يرونني عالمًا فاسقًا كما يراني الكثيرون هنا.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، [١٥ مايو
١٨٦٠]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١٨ مايو [١٨٦٠]
عزيزي
لايل
أُرسِل إليك خطابًا من آسا جراي لتتبيَّن منه مدى اشتداد المعركة هناك. وأُرسل إليك أيضًا خطابًا آخرَ من والاس، إنه مُنصِف جدًّا في كلامه، وإن كان يبالغ في المديح ويبالغ في التواضع، وهو بريء من الحسد والغيرة على نحوٍ مثير للإعجاب. لا بُد أنه رجل طيب. ربما أُرفِق خطابًا من تومسون، البروفيسور في كلية «كَلْكَتا»، وليس ذلك لأنه مهم، لكنَّ هوكر شديد الإعجاب به …
من تشارلز داروين إلى إيه آر
والاس
داون، في ١٨ مايو ١٨٦٠
عزيزي السيد والاس
تلقَّيت صباح اليوم خطابك الذي أرسلته من أمبوينا مُؤرَّخًا بتاريخ ١٦ فبراير، والذي تعرِض فيه بعض الملاحظات وتُعبِّر عن استحسانك المفرط لكتابي. لقد غمرني خطابك بالسعادة، وأتفق معك تمامًا بشأن أفضل أجزائه وأضعفها. صحيح أن قصور السجل الجيولوجي هو أضعف جزء على الإطلاق كما تقول، لكني رغم ذلك سعيد برؤية أن عدد الذين غيَّروا رأيهم وآمنوا بأفكاري من الجيولوجيين أكبرُ تقريبًا من عدد الذين غيَّروا رأيهم من المُتخصِّصين في الفروع الأخرى من العلوم الطبيعية … أعتقد أن إقناع الجيولوجيين بتغيير رأيهم أسهلُ من إقناع علماء التاريخ الطبيعي في العموم؛ لأن الجيولوجيين أكثرُ اعتيادًا على الاستدلال المنطقي. قبل أن أُخبرك بمستجدَّات تقدُّم الآراء بخصوص الموضوع، لا بد أن أُعبِّر لك عن مدى إعجابي البالغ بأسلوبك اللطيف في الحديث عن كتابي. أغلب الأشخاص لو كانوا في مثل مكانتك لشعروا ببعض الحسد أو الغيرة. تبدو طاهرًا بكل نبل من هذا العيب الشائع لدى البشر. لكنك تتحدَّث عن نفسك بتواضعٍ مُبالَغ فيه. لو أنك حظيت بما سنح لي من فراغ، لقدَّمتَ الموضوع بجودةٍ لا تقل عن جودة كتابي، بل وربما أفضل …
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ٢٢ مايو ١٨٦٠
عزيزي
جراي
سأتطرَّق الآن إلى مناقشة الرأي اللاهوتي في المسألة. دائمًا ما كان هذا موجعًا لي. إنني في حيرةٍ من أمري. لم تكن لديَّ أيُّ نية لأن أُقدِّم نظرةً إلحادية. لكني أعترف بأنني لا أستطيع أن أرى، كما يرى الآخرون، وكما كنتُ أتمنَّى أن أرى أنا أيضًا، دليلًا واضحًا على وجود التصميم والإحسان من حولنا في جميع الجوانب. وإنما يبدو لي أن العالَم مليء بكمٍّ هائل من الشقاء. لا أستطيع إقناعَ نفسي بأن رَبًّا خيِّرًا كُلي القدرة كان سيُصمِّم النمسيات ويخلقها مُزوَّدةً بالرغبة الصريحة في أن تتغذَّى داخل أجساد اليساريع الحية، أو أن يَجُبل القطَّ على اللَّعب بالفئران. ولمَّا كنت لا أُصدِّق ذلك، فلست أرى ضرورةً للإيمان بأن العين قد صُمِّمت خصوصًا لغرضٍ مُعيَّن. ومن ناحية أخرى، لا أستطيع بأي حالٍ من الأحوال أن أرضى بالنظر إلى هذا الكون البديع، ولا سيما طبيعة الإنسان، واستنتاج أن كل شيء قد نَتَج من قوة غاشمة. أميلُ إلى رؤية أن كل شيء قد نتج من قوانين مُصمَّمة، وأن التفاصيل، سواء أكانت جيدةً أم سيئة، تُسيَّر وفق مقادير ما يجوز لنا أن نُسمِّيه الصُّدفة. هذا لا يعني أنني قانع «تمامًا» بتلك الفكرة. إذ يراودني شعور عميق بأن الموضوع كلَّه أعمقُ من أن يفهمه العقل البشري. إنْ كان للإنسان أن يدرك كُنه هذا الموضوع؛ فللكلب أيضًا أن يطرح نظرياتٍ عن عقل نيوتن. ليرجو كل إنسان ما يطيق، وليؤمن بما يطيق. أتفق معك بالتأكيد في أن آرائي ليست إلحاديةً إطلاقًا بالضرورة. إن البرق يقتل الإنسان، سواءٌ أكان صالحًا أم طالحًا؛ بسبب عمل قوانين الطبيعة على نحوٍ شديد التعقيد. والطفل (الذي قد يصير أبله) يولد بفعل قوانين أشد تعقيدًا، ولا أستطيع أن أرى سببًا يمنع احتمالية أن يكون الإنسان، أو أي حيوان آخر، قد نشأ في الأصل بفعل قوانين أخرى، وأن تكون كل هذه القوانين قد صُمِّمت عمدًا بقُدرة خالقٍ عليم توقَّع كلَّ ما سيحمله المستقبل من أحداث ونتائج. لكني كلما فكَّرت، اشتدَّت حيرتي، كما اتضح ذلك بالفعل في هذا الخطاب على الأرجح.
أُقدِّر مدى عُمق لُطفك واهتمامك البالغَين.
يا له من تصرُّفٍ مراوِغ منه أن يتظاهر بأنه لم يفهم ما قصدتُه ﺑ «مستوطني» أمريكا الجنوبية! قد يظن أيُّ شخص أنني لم أتطرَّق في مُجلَّدي كله إلى مسألةِ التوزيع الجغرافي. ثم إنه يتجاهل كلَّ ما قلتُه عن التصنيف، والتعاقب الجيولوجي، وأمثلة التنادد وعلم الأجنة والأعضاء الأثرية (الصفحة ٤٩٦).
يُخطئ الكاتب أيضًا في قوله إن ما ذكرتُه (بوقاحة مُبالَغ فيها) عن «عمى الآراء المُسبَقة» ينطبق على المؤمنين بفكرة الخلق، في حين أنني لم أقصد به إلا مَن يرفضون فكرةَ وجود عدد كبير من الأنواع الحقيقية، لكنهم يؤمنون بالباقي (الصفحة ٥٠٠).
إنه يُغيِّر كلامي قليلًا؛ فأنا «أسأل» عمَّا إذا كان المؤمنون بفكرة الخَلق يعتقدون حقًّا أن ذرات العناصر قد انبثقت في الحياة فجأة. لكنه يقول إنني أصفهم بأنهم يعتقدون ذلك بالفعل، وهذا مختلِف عن ذاك بالتأكيد (الصفحة ٥٠١).
إنه يتحدَّث عن أنني «أُندِّد» بجميع المؤمنين بفكرة الخلق، وأنا أرى في هذا اتهامًا جائرًا (الصفحة ٥٠١).
يجعلني أبدو وكأنني أقولُ عن الفقرات الظهرية إنها متباينة، هذا خطأ تمامًا؛ فأنا لا أذكر في الكتاب بأكمله كلمةً واحدة عن الفقرات الظهرية (الصفحة ٥٢٢).
يا لها من جملةٍ مُتعصِّبة تلك التي تقول إنني أتظاهر بالصراحة، وإنني أتعجَّل في الاندفاع عبْر الحواجز التي أوقفت كوفييه! حجةٌ كهذه قد توقِف أيَّ تقدُّم في العلم (الصفحة ٥٢٥).
يا له من تصرُّف مخادع أن يقتبس جزءًا من تعليقي لك على خطابي «الموجَز» [المنشور في دورية «جورنال أوف ذا بروسيدينجز أوف ذا لينيان سوسايتي»]، وكأنه ينطبق على الموضوع كله (الصفحة ٥٣٠).
كم هو تصرُّف مخادِع أيضًا أن يقول إننا مُطالَبون بقَبول النظرية، بِناءً على قصور السجل الجيولوجي! في حين أنني [أذكر] مرارًا وتكرارًا مدى خطورةِ المشكلة التي يُشكِّلها هذا القصور (الصفحة ٥٣٠).»]
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ٣٠ مايو [١٨٦٠]
عزيزي هوكر
أردُّ إليك خطابَ هارفي، وقد سُررتُ جدًّا بمعرفة السبب الذي جعله لا يقرأ مقالك. كنت أخشى أن يكون التعصُّب هو السبب، ويُسعدني أني أراه يتَّفق معنا قليلًا (وبدرجةٍ أكبرَ كثيرًا ممَّا كنت أعتقد) …
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، مساء الجمعة [١ يونيو
١٨٦٠]
هل اطَّلعت على مقالةِ هوبكنز في العددِ الجديد من مجلة «فريزر»؟ أظن أن جمهورَ القُرَّاء سيجدها ثقيلة. سيكون معارضًا تمامًا لي، كما تنبَّأتَ، لكنه في العموم مُهذَّب في تعامله معي على المستوى الشخصي. وفقًا لمعيار البرهان الذي يؤمن به، لن يتقدَّم العلم «الطبيعي» أبدًا؛ فأنا مقتنع تمامًا بأنه من دون وضع النظريات، لن توجد عمليات رصد وملاحظة.
ستُنشَر المحاضرةُ التي ألقاها فيليبس في كامبريدج.
ستُحدِث كلُّ هذه الهجمات المُتكرِّرة تأثيرًا جسيمًا؛ فلن يُغيِّر المزيدُ من الأشخاص قناعاتِهم ولن يعتنقوا الفكرة الجديدة، بل ربما سيرتد البعض. آمُل ألَّا تُصاب بالإحباط؛ فأنا عازم على القتال حتى النهاية. وبالرغم من ذلك، سمعت أن باكِل العظيم يستحسن كتابي بشدة.
تلقَّيت رسالةً من بلايث المسكين، الذي يعمل في كلكتا، والذي أُصيب بخيبةِ أملٍ كبيرة عندما سمِع أن اللورد كانينج لن يمنح أيَّ أموال؛ لذا أخاف بشدةٍ أن تذهب كلُّ جهودك المضنية سُدًى. يقول بلايث (وهو خبير بارع جدًّا من عدة جوانب) إن أفكاره عن الأنواع تغيَّرت جذريًّا …
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ٥ يونيو [١٨٦٠]
عزيزي هوكر
أجد سرورًا كبيرًا في كتابةِ الخطابات إليك؛ إذ ليس لديَّ مَن أتحدَّث إليه عن مثل هذه المسائلِ التي نتراسل بشأنها. لكني أتوسَّل إليك بكل جديةٍ ألا تراسلني إلا إذا كنت راغبًا في ذلك؛ لأن حالَ كلٍّ منَّا مختلِفة تمامًا عن حال الآخر؛ فأنت شديدُ الانشغال وتلتقي بأناسٍ كثيرين …
هل رأيت المقال المسيء الذي كتبه … عني؟ … إنه يتفوَّق حتى على مقال «نورث بريتيش» ومقال «إدنبرة» في سوء الفهم والتحريف. لم أشهد في حياتي ما هو أكثر جَورًا ممَّا فعله في مناقشةِ مسألةِ خلايا النحل حين تجاهل حالة نحل ميليبونا، الذي يبني أقراصَ عسلٍ تكاد تكون وسيطةً بالضبط بين ما يبنيه نحلُ الخليات وما يبنيه النحل الطنَّان. ما الذي فعله … حتى يشعر بأنه أفضلُ للغاية منَّا كلنا، نحن علماءَ التاريخ الطبيعي الحقراء وكل الاقتصاديين السياسيين، بمن فيهم ذاك الفيلسوف العظيم مالتوس؟ ومع ذلك، فهذا المقال النقدي وخطابُ هارفي أقنعاني بأني شارحٌ سيئ جدًّا بكل تأكيد. فلا هذا ولا ذلك يفهم حقيقةَ ما قصدته بالانتقاء الطبيعي. أميل إلى التخلِّي عن المحاولة لأنني أراها ميئوسًا منها. يبدو أن أولئك الذين لا يفهمون لا يُمكن إفهامهم.
بالمناسبة، أظن أننا نتفق تمامًا، باستثناء أنني ربما أستخدم مصطلحاتٍ أقوى من اللازم في حديثي عن الانتقاء. أتفق معك تمامًا، بل أكاد أذهب إلى حدٍّ أبعدَ ممَّا تذهب إليه عندما قلتَ إن المُناخ (أي القابلية للتباين بسبب كل الأسباب المجهولة) «وصيفة نشطة تُؤثِّر في سيدتها تأثيرًا مُهمًّا للغاية.» الواقع أنني لم أُلمِّح قَط إلى أن الانتقاءَ الطبيعي هو «السبب الفَعَّال الغالب إلى حدٍّ يُقصي السببَ الآخر»؛ أي القابلية للتباين بسبب المُناخ، وغير ذلك. فمصطلح «الانتقاء» نفسه يشير ضمنيًّا إلى أن شيئًا ما؛ أي التباين أو الاختلاف، يُنتقى …
ما هي حال تَقدُّم كتابك (أعني مجلَّدك العام عن النباتات)، أرجو من الرب أن تكون أنجحَ مني في جعلِ الناس يفهمون مقصدك. ربما ينبغي أن أبدأ في رؤية أنني مخطئ تمامًا، وأنني كنت أحمقَ تمامًا، لكني على أي حال لا أستطيع إقناعَ نفسي حتى الآن بأنك أنت ولايل وهكسلي وكاربنتر وآسا جراي وواطسون، والبقية، كلكم حمقى معًا. حسنًا، الزمن وحدَه هو ما سيُبيِّن الحقيقة. إلى اللقاء …
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٦ يونيو [١٨٦٠]
… عزائي أنَّ … يسخر من مالتوس؛ لأن ذلك يُوضِّح أنه، وإن كان عالِم رياضيات، لا يستطيع فهْمَ الاستدلال المنطقي الشائع. بالمناسبة، ما حدث مع مالتوس مثال مُحبِط جدًّا على كيفيةِ تحريف أوضح الحجج وإساءة فهمِها على مرِّ سنوات طويلة. لقد قرأت مقال دورية «فيوتشر»، ما أغربَ أن يطرح العديدُ من نُقَّادِي حُججًا لا تستند إلى استدلالٍ منطقي سليم كتلك القائلة إن ضروبَ الكلابِ والقطط لا تمتزج، وأن يطرحوا العقيدةَ المدحوضة القديمة القائلة بالتشابهات المُحدَّدة … لقد بدأ اليأسُ يراودني ويُشعرني بأنني لن أنجح أبدًا في جعلِ أغلب الناس يفهمون أفكاري. حتى هوبكنز لا يفهمها فهمًا تامًّا. بالمناسبة، سُررت جدًّا أنه أشار إليَّ بنفسه. لا بد أنني شارح سيئ جدًّا. أرجو من الرب أن تُحقِّق نجاحًا أفضل. لقد بيَّنت لي مقالات نقدية عديدة وخطابات عديدة، بوضوحٍ صارخ، مدى قلة ما فُهِم من مقصدي. أظن أن «الانتقاء الطبيعي» كان مصطلحًا سيئًا، لكني أرى أن تغييره الآن سيُفاقم الالتباس، ثم إنني لا أرى مصطلحًا أفضل؛ فمصطلح «الحفاظ الطبيعي» لن يعني الحفاظَ على ضروبٍ مُعيَّنة، وسيبدو شيئًا بديهيًّا، ولن يضعَ انتقاء الإنسان وانتقاء الطبيعة ضِمن منظور واحد. لا يسعني إلا أن أرجو أن أجعل المسألةَ أوضح في النهاية بالتفسيرات المتكرِّرة. إذا تشعَّبت مخطوطتي، فأعتقد أنني سأنشر مُجلدًا واحدًا يقتصر على مناقشةِ مسألة تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين. أُريد أن أُوضِّح أنني لست مُتسرِّعًا جدًّا كما يظنني الكثيرون.
لا أفهم تمامًا ما قصدتَه بقولك «إنهم كلما أثبتوا أنك تستهين بأهمية الظروف الطبيعية، كان ذلك أفضل لك؛ لأن الجيولوجيا تهُبُّ لإنقاذك.»
ثمَّة مغالطة واحدة مستمرة لدى موراي وكثيرين آخرين عند التلميح إلى اختلافات طفيفة في الظروف الطبيعية أرى أنها مُهمَّة جدًّا؛ ألَا وهي إغفال أن الأنواع كلها، باستثناء الأنواع المحلية جدًّا، تمتَد على مساحةٍ كبيرة، ورغم أنها مُعرَّضة لِمَا يُسمِّيه العالم «تنوُّعات» كبيرة، تظل ثابتةً على حالها. وقد اكتفيتُ بالتلميح إلى ذلك في كتاب «أصل الأنواع» في المقارنة بين كائنات العالمَين القديم والجديد. إلى اللقاء. هل ستكون موجودًا في أكسفورد؟ إذا تحسَّنت صحةُ إتش، فربما سأذهب إلى هناك.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، [١٤ يونيو ١٨٦٠]
وَرَد نقدٌ قصير عني في العددِ قبل الأخير من مجلة «أول ذا يير راوند»، لكنه لا يستحق استشارتك بشأنه؛ فمعظمه إعادة صياغة مُتقنة لكلامي. أثارت رسالتك الأخيرة اهتمامي بشدة وخفَّفت عني كثيرًا.
لقد ذكرتُ بصراحة أنني أعتقد أن تأثيرَ الظروف الطبيعية المباشرَ في النباتات أكبرُ من تأثيرها المباشر في الحيوانات. لكني كلما أمعنت في الدراسة، دُفعت إلى اعتقاد أن الانتقاء الطبيعي يُنظِّم، في الحالة الطبيعية، فروقًا ضئيلةً جدًّا. فكما أن الحجر المربَّع أو الطوب أو الخشب موادُّ لا غنَى عنها في تشييد أي مبنًى، وتُؤثِّر في طابعه، فإن القابلية للتباين أيضًا لا غنَى عنها، وتُمثِّل قوةً مُؤثِّرة. وعلى الرغم من ذلك، فمثلما يُعَد المهندس المعماري «أهم» شخصٍ في تشييد المباني، فإن الانتقاء هو الأهم أيضًا في بناء الأجساد العضوية …
الرواية التالية مأخوذة عن شاهدِ عيان على المشهد.
«كانت الإثارةُ بالغة. اتضح أن قاعة المحاضرات التي كان من المُقرَّر إجراءُ النقاش فيها أصغرَ حجمًا من أن تستوعب الجمهورَ الغفير، ونُقِل الاجتماع إلى مكتبة المتحف، التي كانت مكتظَّة عن آخرها قبل وقت طويل من دخول الأبطال ساحةَ النزال. قُدِّرت أعداد الجمهور بما يتراوح بين ٧٠٠ فرد و١٠٠٠ فرد. ولو أن هذا النقاش قد عُقِد في وقتِ الدراسة الجامعية، أو سُمِح فيه بحضور عامة الناس، لكان من المستحيل استيعابُ تدفُّق الحاضرين القادمين لسماع خُطبة الأسقف الجريء. تولَّى البروفيسور هنزلو، الذي كان رئيس القسم «دي»، رئاسةَ الاجتماع، وأعلن بكل حكمة في «بداية الجلسة» أنه لن يُسمَح لأي شخص ليس لديه حُجج سليمة يطرحها في تأييد أحد الجانبَين أو الجانب الآخر بأن يخاطب جموعَ الحاضرين، وتبيَّن أن هذا التحذير كان ضروريًّا لأن هنزلو قد منع ما لا يقل عن أربعة مقاتلين من استكمال خطاباتهم بسبب غموض كلامهم.
يُتبَع الخطاب المُقتبَس أعلاه على النحو التالي:
شهد مساء ذلك اليوم جلسةً نقاشية أدبية مزدحمة في غرف أستاذ علم النباتات المضياف الودود، الدكتور دوبيني؛ حيث كان الموضوع الوحيد تقريبًا هو المعركة المثارة حول كتاب «أصل الأنواع»، وقد بُهرتُ جدًّا بالطريقة المُنصفة غيرِ المُتحيِّزة التي ناقش بها أساتذةُ أكسفورد ذوو المعاطف السوداء ورابطات العنق البيضاء المسألةَ، والصراحة التي قدَّموا بها تهنئتهم للمنتصرين في المعركة.»]
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
سودبروك بارك، مساء الإثنين
[٢ يوليو ١٨٦٠]
عزيزي
هوكر
تلقَّيت خطابك للتو. عندما وصل خطابك، لم أكن بخير بسبب إصابتي بصداع شديد شبهِ مستمر طوال ثمانٍ وأربعين ساعة، وانخفاض معنوياتي، وتفكيري في أنني عبء عديم الجدوى على نفسي وعلى الآخرين، لكن خطابك أبهجني جدًّا؛ فلُطفك ومحبتك جعلا عينيَّ تغرورقان بالدموع. ما أهونَ الشهرةَ والشرف والسرور والثروة؛ فكلُّها أشياءُ وضيعة لا قيمة لها إذا ما قورنت بالمحبة، وهذا مبدأ أعرفُ، من خطابك، أنك ستتفق معه من صميم قلبك … كم كنت سأتمنَّى أن أتجوَّل معك في أنحاء أكسفورد، لو كنت بصحة جيدة، وكم كنت سأتمنَّى بشدة أكبرَ بكثير أن أسمعك تنتصر على الأسقف! أنا مذهول من نجاحك وجُرأتك. لا أستطيع أن أفهم قدرةَ الأشخاص على الجدال أمام جمهورٍ كالخطباء المفوَّهين. لم أكن أعرف أن لديك هذه القدرة. قرأت في الآونةِ الأخيرة كمًّا هائلًا من الآراء المعادية إلى حدِّ أنني بدأت أظن أنني ربما كنتُ مخطئًا تمامًا، وأن … كان محقًّا عندما قال إن الموضوع برُمَّته سيُصبح طيَّ النسيان في غضون عشر سنوات، لكنني وقد عرفت الآن أنك أنت وهكسلي ستقاتلان علانيةً (وهو شيء أنا متيقن من أنني لن أستطيع فعْلَه أبدًا) صرت مؤمنًا تمامًا بأنَّ قضيتنا ستنتصر على المدى البعيد. يسرني أنني لم أكن في أكسفورد؛ لأنني كنت سأُهزَم هزيمةً نكراء، في ظل حالتي [الصحية] الحالية.
من تشارلز داروين إلى تي إتش
هكسلي
سودبروك بارك، ريتشموند،
٣ يوليو [١٨٦٠]
… تلقَّيت خطابًا من أكسفورد، كتبه هوكر في وقتٍ مُتأخِّر من مساء الأحد، يُخبرني فيه بالمعارك الرهيبة التي نشبت حول مسألة الأنواع في أكسفورد. يقول لي إنك قاتلتَ بشرفٍ مع أوين (لكني لم أعرف أيَّ تفاصيل)، وإنك رددت على أسقف أكسفورد بكل براعة. أُفكِّر في كثيرٍ من الأحيان أن أصدقائي (وأنت بالذات بقدرٍ أكبر بكثير من الآخرين) لديهم سببٌ وجيه ليكرهوني؛ لأنني حرَّكت الوحلَ الراكد، وأوقعتهم في عناء بغيض جدًّا. لو كنتُ صديقًا لنفسي، لكرهتُ نفسي. (وليست لديَّ أيُّ فكرة عن كيفية كتابة هذه الجملة بلغة إنجليزية سليمة.) لكن تذكَّر أنني لو لم أكن قد حرَّكت هذا الوحل الراكد، فمن المؤكَّد أن شخصًا ما كان سيفعل ذلك في وقتٍ قريب. لشدَّ ما أحترم جُرأتك؛ فلو كنت مكانك لمتُّ فور محاولتي الردَّ على الأسقف وسط تجمُّعٍ كهذا …
[في ٢٠ يوليو، كتب والدي إلى السيد هكسلي يقول:
«بِناءً على كلِّ ما أسمعه من عدة أشخاص، يبدو أن أكسفورد قدَّمت لهذا الموضوع فائدةً جليلة. فمن المهم جدًّا أن يعرف العالم أن بضعة رجال أفاضل لا يخشَون التعبير عن آرائهم.»]
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
[يوليو
١٨٦٠]
… قرأت للتو مقال «كورترلي». إنه ذكي للغاية؛ إذ ينتقي بكل مهارة الأجزاءَ الأكثرَ اعتمادًا على التخمين، ويطرح كل المشكلات طرحًا جيدًا. يسخر مني ببراعة من خلال استشهاده بهجوم صحيفة «أنتي-جيكوبِن» على جَدي. لم يُلمح كاتب المقال إليك، ولا إلى هكسلي، وهو أمرٌ غريب للغاية، وأستطيع أن أرى بوضوح في مواضعَ متفرِّقة إسهام … في كتابته. ستصيب الصفحات الختامية لايل بالخوف والقلق. يا إلهي، سيكون بطلًا حقيقيًّا إذا انحاز إلى صَفِّنا! طابت ليلتك. صديقك المُحب الذي سُخِر منه بشدة، لكنه ليس حزينًا.
أستطيع أن أرى وجود تلاعب غريب في المقال النقدي؛ لأن إحدى الصفحات قد قُصَّت وأُعيدت طباعتها.
[في كتابة أحد الخطابات في ٢٢ يوليو إلى الدكتور آسا جراي، يشير والدي إلى موقف لايل:
«بالنظر إلى عمره وآرائه السابقة ومكانته في المجتمع، أعتقد أن سلوكه إزاء هذا الموضوع كان بطوليًّا.»]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
[هارتفيلد، ساسكس] ٢٢ يوليو [١٨٦٠]
عزيزي جراي
… هنزلو ودوبيني متزعزعان. سمعتُ من هوكر أنه سمِع من هوخشتر أن آرائي تُحقِّق تقدُّمًا كبيرًا في ألمانيا، وأن بعض العلماء والباحثين الجيدين يناقشون المسألة. أضاف برون في نهاية ترجمته فصلًا من الانتقادات، لكنه مكتوب بلغة ألمانية صعبة جدًّا إلى حدِّ أنني لم أقرأه بعد. يُظنُّ أن مقال هوبكنز في «فريزر» هو أفضل ما ظَهَر من المقالات المعارضة لنا. أعتقد أن هوبكنز يعارض بشدة بالِغة؛ لأن مسار دراسته لم يدفعه قط إلى التفكير مليًّا في موضوعاتٍ مثل التوزيع الجغرافي والتصنيف وأشكال التنادد، وما إلى ذلك؛ لذا فإن معرفته بوجودِ تفسيرٍ ما لا تُشعره بالارتياح.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
هارتفيلد [ساسكس]، ٣٠ يوليو
[١٨٦٠]
… تلقَّيت الكثيرَ من الخطابات المُبهِجة عن الجمعية البريطانية، ويبدو أن صفَّنا يُحقِّق نجاحًا جيدًا جدًّا. يشهد الجانبُ الآخر من المحيط الأطلنطي الكثيرَ من النقاشات بقدرِ ما يشهده هذا الجانب. أعتقد أن أحدًا لا يفهم القضيةَ برُمَّتها أفضلَ من آسا جراي، وهو يقاتل بشرف. إنه ممتاز في الاستدلال المنطقي. لقد أرسلتُ إحدى مناقشاته المطبوعة إلى دورية «ذا أثنيام» البريطانية، والمحرِّر يقول إنه سينشرها. صَدَر مقالُ دورية «كورترلي» منذ مدة. إنه خالٍ من الضغينة، وهذا شيء رائع … يجعلني أبدو وكأنني أقول أشياءَ كثيرةً لم أقُلها بالفعل. وفي النهاية، يقتبس كل استنتاجاتك ضد لامارك، ويناشدك بكل جدية أن تظل مستمسكًا بالعقيدة الصحيحة. أتصوَّر أنه سيجعلك قلِقًا قليلًا. يُحرَّض … عليك الأسقف (مع موركيسون) بدهاء شديد باعتبارك قائدَ مذهب الاتساقية. المقال النقدي الآخر الوحيد الجدير بالذكر، على حدِّ ما أتذكَّر، واردٌ في العدد الثالث من مجلة «لندن ريفيو»، كتبه جيولوجي ما، والغريب أنه يستحسن الكتاب. لقد كُتِب ببراعةٍ شديدة، وأرغب بشدة في معرفة هُوية مُؤلِّفه. أتلهَّف لأن أعرف، عند عودتك، ما إذا كانت ترجمة برون الألمانية لكتاب «أصل الأنواع» قد لفتت أيَّ انتباهٍ إلى الموضوع أم لا. هكسلي مُتلهِّف لمقال في دورية «ناتشورال هيستوري ريفيو» سيُحرِّره مع آخرين، ولديه عدد هائل من المساعدين الممتازين؛ ولهذا أعتقد حقًّا أنه سيجعله مُنتَجًا ممتازًا. لا أعمل الآن على شيء سوى القليل من الأعمال المتعلِّقة بعلم النبات على سبيل التسلية. سأكون مُتلهِّفًا جدًّا من الآن فصاعدًا لمعرفة مُجريات جولتك وما أثمرته. أتوقَّع أن يكون كتابك عن التاريخ الجيولوجي للإنسان قذيفةً مدوية بقوةٍ هائلة. آمُل ألَّا يتأخَّر طويلًا. مع أطيب تحياتي إلى السيدة لايل. صحيح أن هذا ليس بالشيء الذي يستحق الإرسال، لكن ليس لديَّ شيء أفضل أقوله.
من تشارلز داروين إلى إف واتكينز٥٢
داون، ٣٠ يوليو،
[١٨٦٠؟]
عزيزي
واتكينز
منحتني رسالتك سعادةً بالغة. في ظلِّ ما أعيشه من حياة منعزلة، مع سوء حالتي الصحية، كثيرًا ما أسرح بخيالي في الأيام الخوالي أكثرَ ممَّا قد يفعل معظمُ الرجال على الأرجح، وها هو ذا وجهك اللطيف يبدو أمامي بقسماته القديمة المُبهجة، وأراه بوضوحٍ كما لو كنت أراك بالفعل.
لقد حظي كتابي بالإشادة وتعرَّض كذلك للإساءة البالغة، فضلًا عن السخرية الشديدة من جانب أسقف أكسفورد، لكن بِناءً على ما أراه من تأثيره في علماء أكْفاء حقًّا، أشعر بيقين أنني، «في الغالب»، على الطريق الصحيح. بخصوص سؤالك، أظن أن الحجج سليمة، وتُوضِّح أن الحيوانات كلها قد انحدرت من أربعةِ أشكال أوَّلية أو خمسة، وأن القياس والعلل الضعيفة تُسهم في توضيحِ أنها كلها قد انحدرت من نموذج أوَّلي واحد.
إلى اللقاء يا صديقي القديم. أعود بذاكرتي إلى أيام كامبريدج الخوالي بسرور خالص.
من تي إتش هكسلي إلى تشارلز
داروين
٦ أغسطس ١٨٦٠
عزيزي
داروين
لا بد أن أُعلن حليفًا جديدًا عظيمًا انضمَّ إليك …
لقد كتب إليَّ فون بيير ما يلي: «وعِلاوةً على ذلك، أرى أنك لم تزل تكتب المقالات. كتبتَ مقالًا نقديًّا عن كتاب السيد داروين لم أجد منه سوى نبذات في صحيفة ألمانية. لقد نسيت الاسم البشع للصحيفة الإنجليزية التي وَرَد فيها مقالك. وأنا لا أستطيع العثورَ على الصحيفة هنا على أية حال. ونظرًا إلى أنني مهتم جدًّا بأفكارِ السيد داروين، التي تحدَّثتُ عنها علانيةً وربما أكون قد نشرت شيئًا عنها، فسأكون ممتنًّا لك للغاية إذا استطعت أن ترسل إليَّ ما كتبتَه عن هذه الأفكار.
لقد ذكرتُ الأفكارَ نفسَها التي ذكرها السيد داروين عن تغيُّر الأنواع أو أصل الأنواع. (طالِع الجزءَ الأول.) لكني استندتُ إلى الجغرافيا الحيوانية فقط. ستجد في الفصل الأخير من أطروحة «أوبر بابواس آند ألفورين» (عن البابواويين والفُرس) أنني أتحدَّث عن هذا الموضوع بكل تأكيد دون أن أعرف أنَّ السيد داروين كان مُهتمًّا به.»
لقد أعطاني فون بيير الأطروحةَ التي يُشير إليها عندما كان هنا، لكني لم أستطِع العثورَ عليها منذ أن تلقَّيت هذا الخطابَ قبل يومَين. عندما أجدها، سأُخبرك بمحتواها.
من تشارلز داروين إلى تي إتش
هكسلي
داون، ٨ أغسطس [١٨٦٠]
عزيزي هكسلي
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١١ أغسطس [١٨٦٠]
… ضحكتُ من اعتقاد وودورد بأنك رجلٌ قد يتأثَّر رأيه بكلام الجمهور، لكني بعدما سخرت منه بشدة، كان عليَّ الاعتراف لنفسي بأنني كنت خائفًا من التأثير الذي قد يُحدِثه هذا الكمُّ الهائل من الهجمات الضارية التي يشنها رجالٌ عظماء. لمَّا كنت أملِك نسخةً فائضة (أرسلها موراي) من دورية «ذا كورترلي ريفيو»، فأنا أُرسلها إليك ضمن هذه الدُّفعة البريدية؛ ربما تستمتع بها. لقد استمتعت بالجزء المتعلق بصحيفة «أنتي-جيكوبِن». إنه مليء بالأخطاء، وهوكر يُفكِّر في الرد عليه. كان من المفترض أن يتضمَّن صفحةً ما لكنها أُلغيت، أودُّ أن أعرف أي خطأ فادح كانت تحتوي عليه. يقول هوكر إن … تلاعب بالأسقف، وجعله يُعبِّر عن أي رأي أراد التعبير عنه، لقد أراد أن يجعل المقالَ مزعجًا لك بأقصى درجةٍ ممكنة. سأُرسل عددَ دورية «ذا أثنيام» في غضون يوم أو اثنَين.
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ١١ أغسطس [١٨٦٠]
عزيزي
جراي
يدهشني أن أجاسي لم ينجح في كتابة شيء أفضل. ما أسخفَ تلك المراوغة المنطقية: «إذا لم تكن الأنواع موجودة، فكيف يُمكن أن تتباين؟» كما لو أن أي أحد يُشكِّك في وجودها المؤقَّت. يا لروعته وهو يفترض وجودَ فارق مُحدَّد وواضح بين الفروق الفردية والضروب! لا عجبَ أن الرجل، الذي يصِف أشكالًا متطابقةً بأنها أنواع مختلفة عندما تكون موجودةً في بلدَين، لا يستطيع أن يجد تباينًا في الطبيعة. كما أنه يحيد عن المنطق ثانيةً بافتراضه أن الضروب الداجنة التي انتقاها الإنسان لإشباع أهوائه الشخصية (صفحة ١٤٧) من المفترض أن تُشبه الضروب أو الأنواع الطبيعية. أرى المقال كله رديئًا، ولا يستحق ردًّا تفصيليًّا (حتى وإن كنت أستطيع ذلك، وأشكُّ بشدة في أنني أمتلك مهارتك في انتقاء أبرز النقاط الضعيفة ومهاجمتها)، وأنت قد رددت بالفعل على عدة نقاط. لا شك أن اسم أجاسي لا يُستهان به إطلاقًا في ميزان الكِفة المعارضة لنا …
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١ سبتمبر [١٨٦٠]
عزيزي
لايل
أثار خطابك المُؤرَّخ بتاريخ يوم الثامن والعشرين، والذي تلقَّيته صباح اليوم، بالغَ اهتمامي. لقد «أسعدني»؛ لأنه يُوضِّح أنك فكَّرت مليًّا في الانتقاء الطبيعي مُؤخَّرًا. شدَّ ما أدهشَتني قلةُ الاعتراضات والمشكلات؛ فهذا جديد عليَّ تمامًا في المقالات النقدية المنشورة. تحمِل تعليقاتك طابعًا مختلفًا وجديدًا تمامًا عليَّ. سأقرؤها سريعًا، وأعرض بعض الحجج مثلما يرِد على ذهني.
طرحتُ احتماليةَ أن أرخبيل جالاباجوس كان ملتحمًا «على نحوٍ متصل» بأمريكا، لمجرَّد الإذعانِ للكثيرين الذين يؤمنون بصحةِ مذهب فوربس، ولم أرَ الخطرَ في إقراري بهذا، فيما يتعلَّق ببقاء ثدييات صغيرة على قيد الحياة هناك في مثل هذه الحالة. الواقع أن حالةَ أرخبيل جالاباجوس، بِناءً على حقائقَ مُعيَّنة عن أصداف بحر ساحلية (أي أنواع ساحلية في المحيط الهادئ وأمريكا الجنوبية) أقنعتني أكثر من جميع حالات الجزر الأخرى بأن أرخبيل جالاباجوس لم يكن ملتحمًا بالبر الرئيسي على نحوٍ متصل قَط، وإنما كان هذا محضَ إذعان خسيس، وذعرًا من هوكر والبقية.
بخصوص الجزر المرجانية، أظن أن الثدييات لم تبقَ على قيد الحياة «طويلًا جدًّا»، حتى لو كانت الجزر الرئيسية تسكُنها ثدييات (لأن المخطَّط العام لمجموعات الجزر المرجانية، كما قلت في كتابي عن الشِّعاب المرجانية، لا يبدو كمخطَّط «قارة» سابقة)، وذلك بِناءً على المساحة الصغيرة للغاية، والظروف الشديدة الخصوصية، واحتمالية أن تكون كل الجزر المرجانية أو الغالبية العظمى منها، في أثناء الهبوط، قد تشقَّقت وغُمِرت بمياه البحر مرارًا إبان وجودها كجزر مرجانية.
لا أستطيع تصوُّر إمكانية تحوُّل أي زاحف موجود إلى ثديي. فبِناءً على حالات التنادد، ينبغي أن أعتبر انحدارَ كل الثدييات من سلف واحد شيئًا أكيدًا. أمَّا عن طبيعة هذا السلف، فيستحيل التكهُّن بها. أغلب الظن أنه أشبه بخُلد الماء أو آكل النمل الشائك من أيِّ شكل معروف آخر؛ وذلك لأن هذَين الحيوانَين يجمعان بين طباع الزواحف (وطابع الطيور بدرجةٍ أقل) وطباع الثدييات. ومثلما تتوسَّط الذَّفَّافة حاليًّا بين الزواحف والأسماك، يجب أن نتخيَّل شكلًا ما كوسيط بين الثدييات والطيور من ناحية (لأنها تحتفظ بالطابع الجنيني نفسِه فترةً أطول)، وبين الثدييات والزواحف من ناحيةٍ أخرى. وبخصوص عدم تطوُّر أي كائن ثديي على أي جزيرة، إضافةً إلى عدم توفُّر الزمن اللازم لتطوُّر مذهل كهذا، فلا بُد أن يكون السلف الضروري الخاص بهذه الجزيرة قد وصل إليها حاملًا طابعَ جنينِ أحد الثدييات، لا أحد الزواحف «المتطوِّرة بالفعل» أو الطيور أو الأسماك.
قد نُكسِب أحدَ الطيور عاداتِ أحد الثدييات، لكن الوراثة ستحفظ جزءًا من البنية الشبيهة ببنية الطيور إلى الأبد تقريبًا، وتمنع تصنيف مخلوق جديد على أنه حيوان ثديي حقيقي.
كثيرًا ما تكهَّنتُ بقِدَم عهد الجُزُر، لكن ليس بدقة تكهُّناتك؛ بل الأحرى أنني لم أتكهَّن بها على الإطلاق من منظور «عدم» قيام الانتقاء الطبيعي بما كان سيغدو مُتوقَّعًا. إن حجَّة وجود أصداف ساحلية من العصر المايوسيني في جزر الكناري جديدةٌ عليَّ. لقد انبهرت بشدة (من مقدار التعرية) [ﺑ] قِدَم عهد جزيرة سانت هيلينا، وعُمرها يتوافق مع خصوصية النباتات. وبخصوص أن الخفافيش في نيوزيلندا (ملحوظة: يوجد اثنان أو ثلاثة من الخفافيش الأوروبية في ماديرا، وفي جزر الكناري على ما أظن) لم تتطوَّر منها مجموعة من الخفافيش غير القادرة على الطيران، فأنا أجد هذا المثال مفاجئًا، لا سيما أن جنسَ الخفافيش في نيوزيلندا خاصٌّ جدًّا بالمكان، ومن ثَم فمن المرجَّح أنه وصل إليها منذ فترة طويلة، وثمَّة حديث الآن عن وجود حفريات من العصر الطباشيري هناك. وعلى الرغم من ذلك، يجب توضيح الخطوة الضرورية الأولى؛ أي بداية اعتياد الخفافيش أن تتغذَّى على الأرض، أو بأي طريقة كانت، وفي أي مكان، باستثناء الجو. أنا مُضطر إلى الاعتراف بأنني أعرف بالفعل حقيقةً واحدة مشابهة، ألَا وهي وجود نوع هندي يقتل الضفادع. لاحظ أنني، في حالةِ الدُّب القطبي اللعينة التي ذكرتُها، أُوضِّح بالفعل أن الخطوة الأولى، التي سيكون بها التحوُّل إلى حوت «سهلًا»، «لن تُشكِّل أي صعوبة»! ينطبق الأمر نفسه على الفقمات؛ فأنا لا أعرف أيَّ حقيقة تُظهِر أيَّ تباين بدائي يتمثَّل في تغذي الفقمات على الشواطئ. ثم إن الفقمات تتجوَّل كثيرًا؛ لقد بحثتُ بلا جدوى ولم أجد «أي» حالة لأي نوع من الفقمات يقتصر وجوده على جزيرة من الجزر. ومن ثَم، فمن المُرجَّح أن الفقمات المتجوِّلة تهاجنت مع أفراد نوع كانت تمرُّ بتغييرٍ ما على جزيرةٍ ما، مثلما هي الحال مع الطيور البرية في ماديرا وبرمودا. ينطبق التعليق نفسه حتى على الخفافيش؛ لأنها كثيرًا ما تأتي إلى برمودا من البر الرئيسي، مع أنه يبعُد عنها حوالي ٦٠٠ ميل. وبخصوص الإجوانة البحرية في أرخبيل جالاباجوس، يُمكن للمرء أن يستنتج، بِناءً على الندرة الشديدة للعادات البحرية لدى السحالي، واقتصار وجود الأنواع الأرضية على بضع جزر صغيرة، أنَّ سلَفَها على الأرجح قد وصل أولًا إلى جالاباجوس، لكن من المستحيل معرفة بلده الذي جاء منه؛ لأنني أعتقد أنه ليس ذا صِلة قرابة واضحة بأي نوعٍ معروف. من المرجَّح أن ذرية الأنواع الأرضية قد جُعلَت بحرية. الآن في هذه الحالة لا أدَّعي أنني أستطيع إظهارَ تباين في العادات، لكن يوجد لدينا في الأنواع الأرضية نوعٌ يتغذَّى على النباتات (هذه في حد ذاتها حالةٌ استثنائية بعض الشيء)، لا سيما على الأشنيات في العموم، ولن يكون تغييرًا كبيرًا لذريتها أن تتغذَّى أولًا على الطحالبِ الساحلية ثم على الطحالبِ الواقعة تحت سطح البحر. لقد قلتُ ما أستطيع قوله في سياق الدفاع، لكنَّ نهجك الهجومي جيد. رغم ذلك، يجب أن نتذكَّر دائمًا أنه لن يتحقَّق أيُّ تغييرٍ فعليٍّ على الإطلاق إلا عندما «يتصادف» حدوثُ تباين في العادات أو البنية أو كلَيهما في الاتجاه الصحيح؛ لكي يمنح الكائن الحي المعني أفضليةً على الكائنات الأخرى التي تسكن الأرضَ أو الماء، وقد يستغرق هذا، في أي حالة مُعيَّنة، وقتًا طويلًا غيرَ مُسمًّى. إنني سعيد جدًّا بأنك ستقرأ مخطوطتي عن الكلاب؛ لأن معرفة رأيك في ميزان الأدلة ستكون مُهمَّةً لي. فغالبًا ما يكون تقييمُ موضوعٍ ما صعبًا للغاية بعد التفكير فيه لفترة طويلة. أشكرك بكل صدق من أعماق قلبي على خطابك المثير جدًّا للاهتمام. إلى اللقاء.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ٢ سبتمبر [١٨٦٠]
عزيزي هوكر
إنني مشدوه من أخبارك التي تلقَّيتُها صباح اليوم. لقد أصبحتُ رجعيًّا مُسنًّا جدًّا إلى حدِّ أنني مذهول من حيويتك. أستحلفك بالرب ألَّا تذهب وتُلقي بنفسك إلى التهلكة. عجبًا، أعتقد أن الجنون قد مسَّك بكل تأكيد. يجب أن أُقرَّ بأنها ستكون جولةً مثيرة جدًّا للاهتمام، وإذا وصلتَ إلى قمةِ لبنان، التي أظنها مثيرةً جدًّا للاهتمام، فيجب أن تجمع أي خنافس موجودة أسفل الحجارة هناك، لكن علماء الحشرات أشبهُ بعرباتٍ شديدة البطء. يمكنني القول إنه لا فائدةَ يُمكن تحصيلها منهم. [إنهم] لم يستكشفوا جبالَ الألب البريطانية قَط.
إذا صادفت أيَّ بُحيرات مِلحية بشدة، فلتهتم بنباتاتها وحيواناتها البالغة الصغر؛ فأنا كثيرًا ما فوجئت بمدى قلة الاهتمام بها.
تلقَّيتُ خطابًا طويلًا من لايل، الذي يطرح صعوباتٍ عبقريةً تُعارض فكرةَ الانتقاء الطبيعي، بدعوى أن الانتقاء لم يُحدِث أكثرَ ممَّا أحدثه. هذا جيد جدًّا؛ لأنه يُبيِّن أنه صار مُلمًّا بالموضوع تمامًا، وأنه جادٌّ في نواياه. إنه خطاب باهر جدًّا في المُجمل، ويغمر قلبي بالبهجة.
… كم سأفتقدك يا أعزَّ أصدقائي وأطيبهم! ليباركك الرب.
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ١٠ سبتمبر [١٨٦٠]
اكتفيتُ بإلقاءِ نظرة خاطفة على الفقرات التي ارتأيت أنها تبدو لي جيدةً جدًّا، لكني أرى أنها كثيرة جدًّا إلى حدٍّ يُعجزني عن ذِكرها بالتحديد، وهذه ليست مبالَغة. وقعت عيناي بالصدفة البحتة على التشبيه المُبهِج بين ألوان المنشور ومجموعاتنا الاصطناعية. أرى خطأً واحدًا صغيرًا في أحافيرِ «الماشية» بأمريكا الجنوبية.
أستغربُ كيف أن كلَّ شخص يزن الحجج بميزان مختلف؛ فأنا أرى السماتِ والظواهرَ الجنينية أقوى فئةٍ مفردةٍ من الحقائق، بفارق كبير عن أقربِ نظيراتها، في تأييدِ فكرة تغيُّر الأنواع، ولا أظن أن أحدًا من نُقَّادي قد ألمح إلى ذلك. يبدو لي أن عدمَ بداية حدوث التباين في سنٍّ صغيرة جدًّا، وتوارُثه في فترةٍ مكافئة غير مُبكِّرة جدًّا، يشرح أعظمَ الحقائق في التاريخ الطبيعي، أو بالأحرى في علم الحيوان؛ ألَا وهي تشابه الأجنة.
[كتب الدكتور جراي ثلاثة مقالات في مجلة «أتلانتيك مانثلي»، في أعداد يوليو وأغسطس وأكتوبر، وقد أُعيدت طباعتها في صورةِ كُتيِّب في عام ١٨٦١، وتُمثِّل الآن الفصل الثالث في كتاب «داروينيانا» (١٨٧٦)، بعنوان «عدم تعارض الانتقاء الطبيعي مع اللاهوت الطبيعي».]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١٢ سبتمبر [١٨٦٠]
عزيزي
لايل
لم أُفكِّر قَط في أن أُريَ أيَّ شخص خطابَك. ذكرتُ في خطابٍ إلى هوكر أن أحد خطاباتك قد أثار بالغ اهتمامي بما يحويه من اعتراضات أصلية، تستند بصفةٍ أساسية إلى فكرة أن تأثيرَ الانتقاء الطبيعي لم يكن كبيرًا بالقدرِ الذي كان يُحتمَل توقُّعه … أرى في خطابك الذي تلقَّيتُه للتو أنك حسَّنت حجتك المُعارضة للانتقاء الطبيعي؛ وهي ستُحدِث تأثيرًا ملحوظًا بين الجمهور (لا تدَع حداثتها تُغريك بأن تجعلها أقوى ممَّا ينبغي)، لكني أراها ليست مُفحِمةً جدًّا «حقًّا»، مع أنني لا أستطيع الرد عليها، لا سيما سبب عدم بلوغ القوارض مرحلةً عالية من التطوُّر في أستراليا. لا بد أنك تفترض أنها سكنت أستراليا منذ فترة طويلة جدًّا، وقد يكون هذا صحيحًا أو غير صحيح. لكني أشعر بأن جهلنا عميقٌ جدًّا؛ فلماذا يُحفَظ أحدُ الأشكال وتبقى بنيته كما هي تقريبًا أو يتقدَّم في تكوينه أو حتى يتراجع، أو ينقرض، إلى حدٍّ يُعجزني عن إعطاء هذه الإشكالية أهميةً كبيرة جدًّا؟ ثم إننا، كما تقول مرارًا في خطابك، لا نعرف عدد العصور الجيولوجية التي ربما يكون قد استغرقها إحداثُ أي تقدُّم كبير في التكوين. تذكَّر القرود الموجودة في تكوينات العصر الإيوسيني الجيولوجية، لكني أعترف بأنك طرحت اعتراضًا وصعوبةً ممتازَين، وليس بوسعي سوى إعطاء إجابات غير مُقنعة ومبهمة تمامًا، كتلك التي وضعتَها أنت، ومع ذلك، فإنك لا تولي أهميةً كافية للضرورة المطْلقة للتباينات التي تنشأ أولًا في الاتجاه الصحيح؛ أي بداية تعوُّد الفقمات على التغذي على الشواطئ.
أتفق تمامًا مع ما تقوله عن أن نوعًا واحدًا فقط من أنواعٍ كثيرة يُصبح معدَّلًا. أتذكَّر أن هذا بهرني بشدة عند جدولة ضروب النباتات، ولديَّ مناقشةٌ في مكانٍ ما عن هذه النقطة. وهو يرِد ضمنيًّا بالطبع في أفكاري عن التصنيف والتشعُّب المتمثِّلة في أن نوعًا واحدًا فقط أو اثنَين من الأجناس، حتى الكبيرة منها، تتولَّد عنه أنواعٌ جديدة، ويُصبح العديد من أجناسٍ كاملة منقرضًا «تمامًا» … رجاءً فلتُطالِع الصفحة ٣٤١ من كتاب «أصل الأنواع». بالرغم من ذلك، لا أتذكَّر أنني ذكرت في كتاب «أصل الأنواع» حقيقةَ أن قلةً قليلة فقط من الأنواع في كل جنس هي التي تتباين. لقد طرحتَ وجهةَ النظر طرحًا أفضلَ بكثير في خطابك. فبدلًا من القول، كما أقول مرارًا، إن قلةً قليلة من الأنواع هي التي تتباين في آنٍ واحد، كان يجب أن أقول إن قلةً قليلة من أنواع أي جنس هي التي تتباين «أصلًا» لكي تُصبح مُعدَّلة؛ لأن هذا هو التفسير الأساسي للتصنيف، وهو مُوضَّح في مُخطَّطي المنقوش …
أتفق معك تمامًا بشأنِ الحقيقة الغريبة غير القابلة للتفسير التي تتجسَّد في حفظ خُلد الماء والتريجونيا الأسترالية أو جنس اللينجولا السيلوري. دائمًا ما أُكرِّر لنفسي أننا لا نعرف سببَ نُدرة أي نوع مُفرد بعينه أو انتشاره في أشهر البلدان. لديَّ مجموعةُ ملاحظات في مكانٍ ما عن الكائنات التي تسكن المياه العذبة، ومن الغريب أن الكثير من هذه الأشكال قديمٌ أو وسيط، وأظن أن هذا يُفسَّر بأن التناحُر كان أقلَّ حدة، وأن مُعدَّل تغيُّر الكائنات كان أبطأ في المناطق المحصورة الصغيرة، مثل كل المناطق التي تُشكِّلها المياه العذبة، مقارنةً بالبحر أو اليابسة.
أرى أنك تشير في الصفحة الأخيرة إلى أن الجرابيات لم تصبح مشيميات في أستراليا، معتبرًا هذه مشكلةً في النظرية، لكني أرى من غير المنطقي إطلاقًا أن تتوقَّع ذلك؛ لأننا يجب أن نعتبر أن الجرابيات والمشيميات قد انحدرت من شكلِ وسيط أدنى. إن الحجَّة القائمة على أن القوارض لم تبلغ مرحلةً عالية من التطوُّر في أستراليا (بافتراض أنها ظلَّت موجودةً هناك فترةً طويلة) أقوى بكثير. يؤسفني أن أراك تُلمح إلى خلق «أنماط متتالية متمايزة، إضافةً إلى عددٍ مُعيَّن من الأنماط الأصلية متمايزة». تذكَّر أنك، إذا اعترفت بصحة ذلك، فستتخلَّى عن الحجة القائمة على علم الأجنة (الأهم عندي على الإطلاق)، والحجة القائمة على علم التشكُّل، أو الحجة القائمة على التنادد. لقد آذيتني وآذيت نفسك، وأعتقد أنك ستعيش إلى اليوم الذي ستأسف فيه على ذلك. سأكتفي الآن بهذا القدرِ من الحديث عن الأنواع.
الاقتباس اللافت الذي نَسخَته إي كان من تأليفك في رسالةٍ إليَّ قبل سنوات عديدة! نَسَخَته هي وأرسلته إلى السيدة سيسموندي؛ وبينما كانت عمَّتي تفرِز خطاباتها مؤخَّرًا، وجدت خطابات إي وأعادتها إليها … صرتُ في الآونة الأخيرة عاطلًا بصورة مخزية؛ إنني أراقب (نبات جنس الندية) بدلًا من الكتابة، والملاحظة أمتعُ بكثير من الكتابة.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
١٥ مارين باريد، إيستبورن،
الأحد [٢٣
سبتمبر ١٨٦٠]
عزيزي
لايل
تلقَّيتُ خطابك المؤرَّخ بتاريخ اليوم الثامن عشر قُبيل سفري إلى هنا للتو. إنك تتحدَّث عن أنك لا تُريد أن تُكبِّدني عناءَ الرد على الخطابات. لا تفكر في هذا أبدًا؛ لأنني أعتبر كلَّ خطاب من خطاباتك شرفًا وسرورًا، وهذا أكثر بكثير ممَّا أستطيع قوله عن بعض الخطابات التي أتلقَّاها. لديَّ الآن خطاب ينبغي أن أكتب ردًّا عليه، وهو مُكوَّن من «١٣ صفحةً مطوية مليئة بكتابة مكدَّسة» عن موضوع الأنواع! …
لديَّ قناعةٌ راسخة بأن الثدييات كلها انحدرت من أصلٍ أبويٍّ «واحد» بلا شك. فعند التفكير مليًّا في الكم الهائل من التفاصيل، يتضح أن الكثير جدًّا منها لا يؤثِّر في عاداتها سوى تأثيرٍ تافه للغاية (مثل عدد عظام الرأس وغيرها، وتغطية الشعر، والتطوُّر الجنيني المتطابق، وما إلى ذلك). الآن يجب أن أعتبر هذا القدرَ الكبير من التشابه ناجمًا عن الوراثة من أصلٍ مشترك. أُدرك أن بعض الحالات تشهد اكتساب عضو مشابه أو شِبه مشابه بتأثيرات الانتقاء الطبيعي المستقلَّة. بالرغم من ذلك، يمكن في معظم هذه الحالات المتمثِّلة في اكتساب أعضاء شديدة التشابه، اكتشافُ بعض الاختلافات التناددية المهمة. أرجو منك أن تقرأ الصفحة ١٩٣، التي تبدأ بكلمتَي «الأعضاء الكهربائية»، وصدِّقني أن جُملة «في كلٍّ من حالات النوعَين المتمايزَين جدًّا هذه» … إلى آخره، لم تُوضَع بتسرُّع؛ لأنني تفحَّصت كل حالة بإمعان. طبِّق هذه الحجة على هيكل الثدييات كله، الداخلي والخارجي، وسترى سبب اعتقادي القوي جدًّا بأنها قد انحدرت كلها من سلف واحد. أعدتُ قراءة خطابك للتو، ولست متيقنًا من أنني أفهم قصدك.
أرفِق مُخطَّطَين بيانيَّين يُوضِّحان الكيفيةَ التي «أُخمِّن» أن الثدييات تطوَّرت بها. فكَّرت في ذلك قليلًا عند كتابة الصفحة ٤٢٩، التي تبدأ بكلمتَي «السيد ووترهاوس». (يُرجى قراءة الفقرة.) ليست لديَّ معرفة كافية لاختيار واحد من هذَين المخطَّطَين. إذا كان دماغ الجرابيات في الحالة الجنينية يتشابه بشدةٍ مع دماغ المشيميات، فسأُفضِّل المخطَّط الثاني بقوة، وهذا يتسق مع قِدَم عهد خنافس «ميكروليستيس». بوجه عام، أُفضِّل المخطَّط الأول؛ وبخصوصِ ما إذا كانت الجرابيات قد واصلت التطوُّر، أو الارتقاء عبْر المراتب، من فترة مُبكِّرة جدًّا؛ فهذا يعتمد على ظروفٍ مُعقَّدة للغاية، وهي أشد تعقيدًا من أن يمكن تخمينها. لم يرتقِ جنس اللينجولا منذ العصر السيلوري، في حين أن رخويات أخرى ربما تكون قد ارتقت.
لا أظن أن أصل الكلاب المُتعدِّد يتعارض مع أصل الإنسان المفرد … فكل سلالات الإنسان بعضها أقرب إلى بعضٍ بدرجة هائلة، منها إلى أي قرد، إلى حدٍّ يستوجب عليَّ النظر إلى سلالات الإنسان كلها باعتبارها منحدرةً من أصلٍ أبويٍّ واحد (مثلما هي الحال مع انحدار الثدييات كلها من سلف واحد). ينبغي أن أرتئي أرجحية أن سلالات الإنسان كانت أقل عددًا وأقل تشعُّبًا في الماضي ممَّا هي الآن، وهذا بالطبع ما لم تكن بعض السلالات الأدنى والأشد شذوذًا حتى من سلالة الهوتنتوت قد انقرضت. لنفترض، كما أعتقد أنا شخصيًّا أن كلابنا انحدرت من شكلَين أو ثلاثة من الذئاب وحيوانات ابن آوى، وغير ذلك، فإن هذه الحيوانات تظل رغم ذلك، من «وجهة نظرنا»، منحدرةً من سلف واحد مجهول قديم جدًّا. بخصوص الكلاب الداجنة؛ فالسؤال يرتكز ببساطة حول ما إذا كان مقدَّار الاختلاف كله قد نتج منذ أن دجَّن الإنسان نوعًا واحدًا، أم إن جزءًا من الاختلاف ينشأ في الطبيعة. يظن أجاسي والبقية أن الزنوج والقوقاز صارا الآن نوعَين متمايزَين، وهو محض عبثٍ أن نناقش ما إذا كانا يستحقان أن يوصفا وفق هذا المعيار ذي القيمة المحدَّدة، بأنهما نوعان، عندما كان أقل تمايزًا بعض الشيء.
أتفق مع إجابتك التي أجبتَ بها على نفسك بخصوص هذه النقطة، وأرى التشبيه بما يمارسه الإنسان الآن من كبحِ تطوُّر أي إنسان جديد قد يتطوَّر تشبيهًا جيدًا وجديدًا. فالرجل الأبيض «يُحسِّن وجه الأرض بأن يُزيل مَن عليه» حتى الأعراق التي تكاد تكون مماثلةً له. بخصوص الجزر، أظنني سأعتمد على حُجة عدم توافر الوقت وحدَها، وليس على الخفافيش والقوارض.
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ٢٦ سبتمبر [١٨٦٠]
… تلقَّيت خطابًا من أربع عشرة ورقة بصفحتَيها من هارفي يُعارض فيه كتابي، وصحيح أنه يتضمَّن بعضَ التعليقات المبتكرة الجديدة، لكنَّ الواقع أن هارفي لا يفهم إطلاقًا ما أعنيه بالانتقاء الطبيعي، وهذا غريب. ناشدتُه أن يقرأ الحوار الذي سيُنشَر في العدد القادم من دورية «سيليمان»؛ لأنك لا تتطرَّق إلى الموضوع أبدًا إلا وتجعله أوضحَ. الأشد غرابةً لي أنك دائمًا ما تقول كلمات وتستخدم صفات تُعبِّر عن قصدي تمامًا. أمَّا لايل وهوكر وأناس آخرون، فهم يفهمون كتابي تمامًا، لكنهم أحيانًا ما يستخدمون مصطلحاتٍ أعترض عليها. حسنًا، انتهى تعبُك الاستثنائي، إذا كان لرأيي نصيب لا بأس به من الحقيقة، فكلِّي يقين من أن جهدك الهائل لن يذهب سُدًى …
ما زلت آمُل، وأكاد أكون واثقًا، أنك ستصل يومًا ما إلى الإيمان بفكرة تعديل الأنواع بدرجةٍ أكبر من تلك التي وصلت إليها في البداية أو تؤمن بها الآن. هل تستطيع أن تُخبرني بما إذا كنتَ قد بلغت حدًّا أبعد، أو درجةً أشد رسوخًا، في الإيمان بأفكاري ممَّا بلغته في البداية؟ أود بشدة أن أعرف ذلك. أستطيع أن أُلاحظ في مراسلاتي الكثيرة للغاية مع لايل، الذي كان يعترض كثيرًا في البداية، أنه، ربما من دون وعي بنفسه، قد غيَّر قناعاته بنفسه تغييرًا كبيرًا خلال الأشهر الستة الماضية، وأظن أن هذا الأمر نفسه ينطبق على هوكر. إن هذه الحقيقة تمنحني ثقةً أكبرَ بكثير ممَّا تمنحني إياه أيُّ حقيقة أخرى.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
١٥ مارين باريد، إيستبورن،
مساء
الجمعة [٢٨ سبتمبر ١٨٦٠]
لا أستطيع حتى الآن أن أرى كيف يُمكن طرح الأصل المتعدِّد للكلاب باعتباره حجةً للأصل المتعدِّد للإنسان بطريقة صحيحة. أليس شعورك هذا أثرًا متبقيًا من ذاك المترسِّخ عميقًا في عقولنا كلها بأن النوع كِيان مستقل بذاته، شيء متمايز عن الضَّرب؟ ألَا يعني هذا أن حالة الكلب تضرُّ بحجة الخصوبة، ومن ثمَّ فإن إحدى الحجج الرئيسية المتمثِّلة في أن سلالات الإنسان ضروبٌ وليست أنواعًا؛ لأنها خِصبة فيما بينها، تُضعَف بشدة؟
أتفق تمامًا مع ما يقوله هوكر بأن أي تباين ممكن تحت تأثير التربية والزراعة فهو «ممكن» في الطبيعة، وهذا لا يعني أن الانتقاء الرامي إلى تلبية رغبات الإنسان، والانتقاء الطبيعي الرامي إلى تحقيق مصلحة الكائن الحي سيؤديان على الإطلاق إلى تراكم الشكل نفسه أو الوصول إليه.
بمناسبة الحديث عن «الانتقاء الطبيعي»؛ لو أنني اضطُرِرت إلى البدء من الأول مُجدَّدًا، لاستخدمت مصطلح «الحفظ الطبيعي». ذلك أنني أجد رجالًا، مثل هارفي من دبلن، لا يستطيعون فهْمَ قصدي مع أنه قرأ الكتاب مرتَين. قال لي الدكتور جراي، أمين المتحف البريطاني، إن «حدوث «الانتقاء» في النباتات يبدو مستحيلًا بكل وضوح! ولا يمكن لأحد إخباره بالكيفية التي قد يتحقَّق بها ذلك!» ويمكن له الآن أن يُضيف أن المؤلِّف لم يُحاول توضيح ذلك له!
من تشارلز داروين إلى سي لايل
١٥ مارين باريد، إيستبورن،
٨ أكتوبر
[١٨٦٠]
عزيزي
لايل
أُرسلُ إليك الترجمة [الإنجليزية] لِمَا كتبه برون (مخطوطة تضم ترجمةَ الاعتراضات التي طرحها برون في نهاية ترجمته الألمانية لكتاب «أصل الأنواع»)، مع العلم أن الجزء الأول من الفصل بما يحويه من عبارات عامة وإشادة لم يُترجم. إنه يُقدِّم بعضَ الانتقادات الوجيهة. ذلك أنه يُقيم عليَّ حجةً تبدو قويةً مُؤثِّرة ظاهريًّا، وهو مُحق فيها إلى حدٍّ ما، بقوله إنني لا أستطيع تفسيرَ سبب وجود ذيل أطول لدى فأرٍ ما وأذنَين أطول لدى فأرٍ آخر، وما إلى ذلك. لكن يبدو أنه يرتبك بشأن افتراض أن هذه الأجزاء لم تتباين معًا على الإطلاق، أو أن أحدها قد تباين قبل الآخر بوقت ضئيل جدًّا إلى حدِّ أنه يُعَد في الحقيقة مُعاصرًا له. لي أن أسأل المؤمن بفكرة الخلق عمَّا إذا كان يظن أن هذه الاختلافات في الفأرَين لها أي فائدة، أو أن لها علاقةً ما بقوانين النمو، وإذا اعترف بذلك، فربما يأتي دور الانتقاء. مَن يظن أن الرب خلقَ الحيوانات مختلفةً لا لشيء إلا للتسلية أو التنوُّع، كما يُصمِّم الإنسان ملابسه، لن يعترف بأي قوة لحجة الشخصنة التي أطرحها.
يُخطئ برون خطأً فادحًا فيما يتعلَّق بافتراضي وجود عدة فترات جليدية، بِغض النظر عن حدوث مثل هذه الفترات من عدمه.
إنه يخطئ فيما يتعلَّق بافتراضي أن التطوُّر يحدث بالمعدل نفسِه في كل أنحاء العالم. أفترض أنه أساء فهم ذلك بسببِ مسألة الهجرة المُفترضة إلى كلِّ مناطق الأشكال الأكثر هيمنة.
… إنني سعيد جدًّا بأنني أسأت فهمك بشأن أن الأنواع لا تتحلَّى بالقدرة على التباين، مع أن قلةً منها، في الواقع، تلد أنواعًا جديدة. يبدو أنني ميَّال بشدة إلى إساءة فهمك، أفترض أنني دائمًا ما أتخيَّل اعتراضات. تُبيِّن لي حالةُ الهنود الحُمر التي ذكرتها أننا متفقان تمامًا …
بالأمس جاءني خطابٌ من سيلان أرسله إليَّ ثويتس الذي كان يعارضني بشدة. يقول الآن: «أجد أنني، كلما أصبحت أكثرَ دراية بآرائك المتعلِّقة بظواهر الطبيعة المختلفة، ازداد استحسان عقلي لها.»
من تشارلز داروين إلى جيه إم
رودويل٦٣
١٥ مارين باريد،
إيستبورن،
٥ نوفمبر [١٨٦٠]
سيدي العزيز
لا أعرف ما إذا كان السيد كيربي عمَّك بالمصاهرة، لكنَّ خطاباتك تُؤكِّد لي أنك تحمل دم كيربي في عروقك، وأنك، لو لم تتخصَّص في دراسة اللغات، لأصبحت من صفوة علماء التاريخ الطبيعي.
أرجو بكل صدق أن تتمكَّن من تنفيذ عزمِك على الكتابة عن «ميلاد الكلمات وحياتها وموتها». لقد اخترتَ عنوانًا ممتازًا على أي حال، والبعض يرى أن هذا هو الجزء الأصعب في تأليف كتاب. أتذكَّر حين قال لي السير جيه هيرشيل قبل بضع سنوات في رأس الرجاء الصالح إنه يتمنَّى أن يعالج شخصٌ ما اللغةَ كما يعالج لايل الجيولوجيا. لا بد أنك لُغوي بارع إذ ترجمت القرآن! ولأنني سيئ إلى حدٍّ بشع في فهمِ اللغات، أُكنُّ احترامًا بالِغًا لعلماء اللغويات. لا أعرف ما إذا كان «قاموس اشتقاق الكلمات»، الذي كتبه صهري هينزلي ويدجوود، سيكون ضِمن مجال تخصُّصك على الإطلاق أم لا، لكنه يتناول نشأة الكلمات بإيجاز، وببراعة شديدة، كما يبدو لي. تتكرَّمُ بالقول إنك ستُبلِّغني بأي حقائق قد تخطر ببالك، وأنا متيقن من أنني سأكون في غاية الامتنان. فمن بين الخطابات الكثيرة التي أتلقَّاها، لا يضاهي خطاباتِك قيمةً سوى قلة قليلة جدًّا.
مع خالص شكري واعتذاري على هذا الخطاب غير المنظَّم المكتوب على عجل، ولك مني أصدقُ تحياتي يا سيدي العزيز.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
٢٠ نوفمبر [١٨٦٠]
أرى أنها ستُحدِث تأثيرًا جيدًا، وتمنح القارئَ بعض الثقة. سيكون إمعانُ النظر في كل المقالات النقدية مُهمةً مُملَّة بشعة.
[فيما يلي عيِّناتٌ من الحواشي تُرِكَت فيها مواضعُ الإشارات إلى المجلَّد والصفحة فارغة. سيُرى في بعض الحالات أنه نسي على ما يبدو أنه كان يكتب حواشي، وواصَل الكتابةَ كما لو كان يكتب خطابًا إلى لايل:
-
يؤكِّد الدكتور بري أنني أشرَح بنيةَ خلايا نحل العسل ﺑ «نظرية الضغط المدحوضة». لكني لا أقول أيَّ كلمة يُمكن تفسيرها بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة على أنها إشارة إلى الضغط.
-
يستشهد ناقد دورية «إدنبرة» بكتابي قائلًا إنني ذكرت فيه أن «فقرات الحمَام الظهرية تتباين في عددها، ويعارض هذه الحقيقة». أنا لا أُلمح في أي مكان إلى الفقرات الظهرية، بل أشرتُ إلى الفقرات العجزية والفقرات الذيلية فحسب.
-
يُشكِّك ناقد دورية «إدنبرة» في أن تكون هذه الأعضاء خياشيم البرنقيلات. لكنَّ البروفيسور أوين في عام ١٨٥٤ يعترف، دون تردُّد، بأنها خياشيم، مثلما فعل جون هانتر منذ زمن بعيد.
-
سيُحذَف حساب منطقة وايلد اللعين، وستُدرَج ملحوظة مفادُها أنني مقتنع بعدم دقته استنادًا إلى مقال نقدي في صحيفة «ساترداي ريفيو»، واستنادًا إلى فيليبس، كما أرى في جدول محتويات كتابه أنه يُلمح إليه.
-
يقول السيد هوبكنز (مجلة «فريزر») — وأنا هنا أقتبس فقط ممَّا أتذكَّره تذكُّرًا واهيًا غيرَ دقيق — إنني «أُحاجج تأييدًا لآرائي استنادًا إلى القصور الشديد في السجل الجيولوجي»، ويقول إن هذه هي المرة الأولى على الإطلاق في تاريخ العلم التي يسمع فيها بالاستشهاد بالجهل باعتباره حُجة. لكنني أعترف مرارًا، بأشد لهجة مؤكِّدة أستطيع استخدامها، بأن الدليل المنقوص الذي تُقدِّمه الجيولوجيا بخصوص الأشكال المؤقَّتة يتعارض بشدة مع آرائي. يوجد فرقٌ كبير بالطبع بين الاعتراف الكامل باعتراضٍ ما، والقيامِ بعد ذلك بمحاولة إظهار أنه ليس قويًّا جدًّا قدرَ ما يبدو للوهلة الأولى، والسيد هوبكنز يُؤكِّد أنني أقمت حجتي على ذاك الاعتراض.
-
سوف أُضيف أيضًا حاشيةً عن الانتقاء الطبيعي، وأُوضِّح الطرقَ المتعدِّدة التي أُسيء بها فهمه.
-
يُكذِّب أحدُ الكُتَّاب في دورية «إدنبرة فيلوسوفيكال جورنال» قولي إن نقَّار الخشب في لابلاتا لا يرتاد الأشجار أبدًا. لقد رصدتُ عاداته طوال عامَين، لكنَّ الأهم أن أزارا، الذي يُقرُّ الجميع بصحةِ ما يقوله، أكَّد بطريقةٍ أكثر تشديدًا منِّي أنه لا يرتاد الأشجار أبدًا. ينفي السيد إيه موراي وجوبَ إطلاق تسمية «نقار الخشب» عليه؛ لديه إصبعا قدمٍ أماميتان وأخريان خلفيتان، وريش ذيل مُدبَّب، ولسان طويل مُدبَّب، ونفس الشكل العام للجسم، وطريقة الطيران نفسها، واللون نفسه، والصوت نفسه. صحيح أنه كان مُصنَّفًا حتى وقتٍ قريب ضِمن الجنس نفسه — النقارات الحقيقية Picus — مع كل نقارات الخشب الأخرى، لكنه صار الآن مصنَّفًا باعتباره جنسًا مستقلًّا بين فصيلة نقارات الخشب Picidæ. وتختلف تلك الفصيلة عن جنس Picus النموذجي فقط في أن منقارها ليس قويًّا جدًّا، وأن فكَّها العلوي مُحدَّب قليلًا. أظن أن هذه الحقائق تُبرِّر تمامًا قولي إنه «في كل أجزاء تكوينه الأساسية» نقار خشب.]
من تشارلز داروين إلى تي إتش
هكسلي
داون، ٢٢ نوفمبر [١٨٦٠]
عزيزي هكسلي
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٢٤ نوفمبر [١٨٦٠]
عزيزي
لايل
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ٢٦ نوفمبر ١٨٦٠
عزيزي
جراي
يجب أن أشكرك على خطابَين. أعني الخطابَين اللذَين كان ثانيهما يحتوي على التصحيحات، واللذَين كُتبا قبل أن تتلقَّى خطابي الذي طلبتُ فيه إصدارَ طبعة جديدة أمريكية، وتقول فيه إنه لا جدوى من طباعة مقالاتك النقدية في صورة كُتيب، بسبب استحالةِ نَيل الكُتيبات للشهرة. يُسعدني جدًّا أن أقول إن مقال مجلة عدد أغسطس من دورية «أتلانتيك»، أو المقال الثاني، قد أُعيد نشره في مجلة «أنالز آند ماجازين أوف ناتشورال هيستوري»، لكني لم أرَه هناك. قرأت المقال الثالث كلَّه بإمعان يوم أمس، وأراه «مثيرًا للإعجاب»، كما رأيته من قبل. ولكن يُحزنني القول إنني لا أستطيع أن أقتنع بمسألة التصميم بالدرجة التي تقتنع بها. أعي أنني في حالة تشوُّش ميئوس منه تمامًا. لا أظن أن الدُّنيا، بشكلها الذي نراه، نتاجُ الصدفة، لكني رغم ذلك لا أستطيع أن أرى كل شيء على حدةٍ نتاجًا للتصميم. سأضرب لك هنا مثالًا حاسمًا؛ إنك تدفعني إلى استنتاجِ أنك تعتقد أن ذاك التباين «قد سُيِّر في مسارات مفيدة مُعيَّنة» (صفحة ٤١٤). لا أستطيع الإيمانَ بذلك، وأعتقد أنك ستُضطر إلى رؤيةِ أن ذيل الطيور الهزازة قد دُفِع إلى التباين في عددِ ريشه واتجاه هذا الريش من أجل إشباع نزوة بضعة رجال. بالرغم من ذلك، لو كانت الطيور الهزازة برية، واستخدمت ذيلها غير الطبيعي من أجل غاية خاصةٍ ما، كالإبحار في نفس اتجاه هبوب الريح، على عكس الطيور الأخرى، لقال الجميع: «يا له من تكيُّف جميل مُصمَّم لحكمة!» أقول مُجدَّدًا إنني في حالةِ حيرة ميئوس منها، وسأظل دائمًا.
شكرًا جزيلًا لك على نقدِك لمقال بوين المطبوع في مذكرة رُبعية («مذكرات الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم»، المجلَّد الثامن.) إن الهدوء الذي يزعم به أن كل الحيوانات تفتقر إلى العقل سخيفٌ تمامًا. من الشنيع أنه يُقدِّم حججًا معارضةً لإمكانية التباين التراكمي في الصفحة ١٠٣، ويتجاهل الانتقاءَ تمامًا بالفعل! إن احتمالية إنتاج حيوان مُحسَّن من الماشية القصيرة القرون، أو حمامة نفاخة مُحسَّنة، بالتباين التراكمي من دون الانتقاء البشري تكاد تكون معدومة، وكذلك هي احتمالية إنتاج أنواع طبيعية من دون الانتقاء الطبيعي. ما أبرعَ الطريقةَ التي تُظهِر بها في «ذا أتلانتيك» أن ظواهر الجيولوجيا والفلك، بحسبِ ما يقوله بوين، ظواهرُ ميتافيزيقية، لكنه يتجاهل ذلك في المذكرة الربعية.
ليس عندي الكثير لأُخبرك به عن كتابي. سمعتُ للتو أن دو بوا-ريموند يتفق معي. يُحقِّق كتابي مبيعاتٍ جيدة، وكثرة المقالات النقدية لم توقف البيع … لذا يجب أن أبدأ العمل فورًا على طبعةٍ جديدة مُصحَّحة. سأُرسل إليك نسخةً تحسُّبًا لتوافر أي فرصة تُمكِّنك من إعادة قراءة الكتاب في أي وقت، لكن، يا إلهي، لا بد أنك ضجِرت منه للغاية!
من تشارلز داروين إلى تي إتش
هكسلي
داون، ٢ ديسمبر
[١٨٦٠]
… سئمتُ المقالات النقدية العِدائية. رغم ذلك، كانت مفيدةً في أنها أوضحت لي متى ينبغي أن أُسهب قليلًا وأطرح بضعة نقاشات جديدة. بالطبع سأرسل إليك نسخةً من الطبعة الجديدة.
أتفق معك تمامًا في أن الصعوبات الكامنة في مفاهيمي هائلة، لكن بعدما رأيتُ كلَّ ما قالته المقالات النقدية ضدي، صرت أشدَّ إيمانًا من ذي قبل بأن العقيدة صحيحة «في العموم». ويوجد شيء آخر يُعزِّز إيماني؛ ألَا وهو أن بعض الذين كانوا يتفقون معي بقدرٍ ضئيل فحسب صاروا يتفقون معي بقدرٍ أكبر الآن، وبعض الذين كانوا يُعارضونني معارضةً حادة قلَّلوا من حدةِ معارضتهم. هذا يُحبطني قليلًا لأنك لا تميل إلى أن ترى الفكرةَ العامة أرجح ولو بقدرٍ ضئيل ممَّا كنت تراها في البداية. أعتبر هذا نذيرَ شؤم بعض الشيء. وبخلاف ذلك، أنا راضٍ عن درجة إيمانك. أستطيع أن أرى بكل وضوح أن آرائي، إذا لاقت قَبولًا عامًّا في أي وقت على الإطلاق، فسيكون مَن يتبنَّونها شُبَّانًا يكبرون ويحلُّون محلَّ العلماء المسنين، وشُبَّانًا يجدون أنهم يستطيعون تجميعَ الحقائق والبحث بجدٍّ حتى يصلوا إلى مسارات بحثية جديدة تُمكِّنهم من إجراء الدراسات العلمية بِناءً على فكرةِ الانحدار أفضلَ ممَّا يمكن إجراؤها بِناءً على فكرة الخلق. ولكن فلتسامحني على إطالتي الحديث بهذا الغرور الشديد. فعندما يعيش المرء في عُزلة شديدة مثلي، يُفكِّر بطريقة سخيفة في عمله الذي صنعه بيدَيه.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ١١ ديسمبر
[١٨٦٠]
… تلقَّيت خطابًا من إيه جراي صباح اليوم؛ وبِناءً على اقتراحي، سيُعيد طباعة مقالات مجلة «ذا أتلانتيك» الثلاثة في شكل كُتَيب، وسيُرسل ٢٥٠ نسخة إلى إنجلترا أنوي أن أدفع مقابلها نصفَ تكلفة الطبعة كلها، وسيُوزِّع نسخًا مجانية، وسيحاول بيع نسخٍ أخرى بإدراج بضعة إعلانات، ومنشورات دعائية إن أمكن، في الدوريات.
… يدرس ديفيد فوربس جيولوجيا تشيلي بإمعان شديد منذ فترة، ولأنني أُقدِّر الثناء على الملاحظة الدقيقة أكثرَ بكثير ممَّا أُقدِّر الثناء على أي خاصية أخرى، فلتسامحني (إذا استطعت) على غروري «الذي لا يُطاق» في نسخِ آخر جملة من رسالته هنا: «أرى أُفْرودتك البحثية المتعلِّقة بتشيلي واحدةً من أجمل نماذج الاستقصاء العلمي الجيولوجي بلا استثناء.» أشعر برغبة في التبختر كديك رومي!