انتشار التطوُّر
١٨٦١-١٨٦٢
[حلَّت بداية عام ١٨٦١ وأبي لم يزل يعمل على إنهاء كتابة الفصل الثالث من كتاب «تباين الحيوانات والنباتات». كان قد بدأ كتابته في أغسطس السابق، ولم ينتهِ منه حتى مارس ١٨٦١. غير أنه انشغل على مدار جزء من هذه المدة (خلال ديسمبر ١٨٦٠ ويناير ١٨٦١ على ما أظن) في الإعداد لطبعة جديدة (بلغ قوامها ٢٠٠٠ نسخة) من كتاب «أصل الأنواع» شهدت تصحيحاتٍ وإضافات كثيرة، ونُشرَت في أبريل ١٨٦١.
وبخصوص هذه الطبعة الثالثة، أرسَل خطابًا إلى موراي في ديسمبر ١٨٦٠:
«سأسعد بمعرفة قرارك عندما تُحدِّد عدد النسخ التي ستطبعها، كلما كانت أكثر، كان ذلك أفضل لي من جميع النواحي، حتى إنه يتوافق مع عدم حدوث أضرار؛ لأنني أرجو ألَّا أُضطر بعد ذلك أبدًا إلى إجراء مثل هذا الكم الهائل من التصحيحات أو بالأحرى الإضافات التي أجريتها على أملِ أن أجعل العديد من المراجعين الأغبياء يفهمون المقصودَ على الأقل. أرجو أن أُضفي على الكتاب تحسينًا كبيرًا، وأظن أن هذه التعديلات ستُحقِّق ذلك.»
قُرب نهاية ذاك العام الحالي (١٨٦١)، اكتملت الترتيبات النهائية لإصدار الطبعة الفرنسية الأولى من كتاب «أصل الأنواع»، وفي سبتمبر أرسلت نسخةً من الطبعة الإنجليزية الثالثة إلى الآنسة كليمنس روييه، التي تولَّت مهمةَ الترجمة. كان الكتاب ينتشر آنذاك في قارة أوروبا؛ إذ صدرت طبعةٌ هولندية، ونُشِرَت ترجمة ألمانية في عام ١٨٦٠ كما رأينا. فقد كتب في خطاب إلى السيد موراي (بتاريخ ١٠ سبتمبر ١٨٦١)، قائلًا: «يبدو أن كتابي يثير اهتمامًا بالغًا في ألمانيا، بِناءً على عدد النقاشات التي أُرسِلَت إليَّ.» كان الصمت قد كُسِر، وفي غضون بضع سنوات، صار صوت العِلم الألماني واحدًا من أشد مؤيدي نظرية التطوُّر.
طوال الجزء الأول من العام (١٨٦١) كان والدي يعمل على مجموعة هائلة من التفاصيل التي نُظِّمَت بالترتيب في الفصل الأول من كتاب «تباين الحيوانات والنباتات». ولذلك تظهر في مفكرة يومياته إدخالات مقتضبة مثل «١٦ مايو، الانتهاء من الدواجن (ثمانية أسابيع)؛ ٣١ مايو، البط».
في الأول من يوليو، سافر مع أسرته إلى توركي، حيث مكث حتى ٢٧ أغسطس؛ وهي إجازة أدرجها إدراجًا مُميَّزًا في مفكرة يومياته واصفًا إيَّاها بأنها «ثمانية أسابيع ويوم». كان البيت الذي سكنه موجودًا في «هيسكيث كريسنت»، الذي كان صفًّا مُقوَّسًا من بيوتٍ متراصة بشكلٍ مبهج يقع شمال البحر بمسافة قصيرة، ومنعزلًا بعض الشيء عن المنطقة التي كانت تُمثِّل الجزء الرئيسي من البلدة آنذاك، وليس بعيدًا عن الحد الساحلي الجُرفي الجميل في حي «أنستيز كوف».
في أثناء إجازة توركي، وطوال الفترة المتبقية من العام، عمل على موضوع تلقيح السحلبيات. لن يُعرَض هذا الجزء من عام ١٨٦١ في الفصل الحالي؛ لأن سجلَ حياته (كما هو مُوضَّح في تقديم الكتاب) يبدو، كما ورد في خطاباته، أنه يصبح أوضح عندما تُوضع كل أعماله المتعلِّقة بعلم النباتات معًا وتُناقَش على نحوٍ منفصل. ومن ثَم، فلن تتضمَّن مجموعةُ الفصول الحالية سوى تقدُّم أعماله نحو الاستفاضة في موضوعات كتاب «أصل الأنواع»، مثل نشر كتاب «تباين الحيوانات والنباتات»، و«نشأة الإنسان»، وغير ذلك.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ١٥ يناير [١٨٦١]
عزيزي هوكر
دائمًا ما تغمُر السعادة قلبي عند رؤية خط يدك …
أتفق تمامًا مع ما تقوله عن مقالة هكسلي، وقوة الكتابة … أرى المقالةَ كلها ممتازة. يا لها من طريقة ممتازة تلك التي لخَّص بها أوليفر الكتبَ المتعلِّقة بعلم النبات! يا إلهي، ما أوسعَ اطلاعَه وأكثر قراءته بكل تأكيد! …
إذا صادفت كتابَ «أصل الأنواع من خلال القرابة العضوية» الذي كتبه الدكتور فريك، فاقرأ بضع صفحات متفرِّقة منه … إنه يطلب من القارئ ملاحظةَ أنه توصَّل إلى [نتيجته] بالاستقراء في حين أن نتائجي كلها مبنية على «القياس» فقط. أرى أن رجلًا يُدعى السيد نيل قد قرأ ورقةً بحثيةً أمام جمعية علم الحيوان عن «الانتقاء النموذجي»؛ لكني لا أعرف ما يعنيه بذلك. لم أقرأ ما كتبه إتش سبنسر لأنني أجد أنني يجب أن أكون أشدَّ وأشدَّ اقتصادًا في استخدام ما لديَّ من عافية ضئيلة جدًّا. أظن في بعض الأحيان أن صحتي ستنهار تمامًا عمَّا قريب … حالما يُصبح هذا الطقس الشنيع أكثرَ اعتدالًا بقليل، يجب أن أُجرِّب الخضوعَ لقليل من العلاج المائي. هل قرأت رواية «ذات الرداء الأبيض»؟ حبْكتها مثيرة للاهتمام إلى حدٍّ عجيب. أستطيع أن أُرشِّح كتابًا أثار بالغَ اهتمامي؛ ألَا وهو كتاب «رحلة في المناطق النائية»، الذي ألَّفه أولمستيد. إنه يرسم صورةً واضحة مفعمة بالتفاصيل الباهرة للإنسان والعبودية في الولايات الجنوبية …
من تشارلز داروين إلى سي لايل
٢ فبراير ١٨٦١
عزيزي
لايل
«ليتني كنت أملك وقتًا لأحكي لك كثيرًا عن المدى الذي يبلغه بوين وأجاسي، كلٌّ بطريقته الخاصة. فالأول يُنكر وجودَ الوراثة كلها بجميع أنواعها (انتقال الصفات بأكمله خلا أمثلة مُحدَّدة). والثاني يكاد يُنكر أننا منحدرون وراثيًّا من أجداد أجداد أجدادنا، ويُصر على أن اللغات التي يبدو من الواضح أنها منتسِبة إلى أصلٍ واحد، مثل اللاتينية واليونانية والسنسكريتية، لا تَدين بأيٍّ من تشابهاتها لأصلٍ مشترك؛ أي إنها كلها أصلية بذاتها؛ يعترف أجاسي بأن اشتقاق اللغات، واشتقاق الأنواع أو الأشكال، قائمان على أساسٍ واحد، وأنه لا بد أن يُقِر بصحة الثاني إذا أقرَّ بصحةِ الأول، وقد قُلت له إن هذا منطقي تمامًا.»
أليس هذا رائعًا؟
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ٤ فبراير [١٨٦١]
عزيزي هوكر
سُررتُ بتلقِّي خطابك الطويل الودي، ومعرفة أن جمودك تجاه العلم يذوب. أكاد أتمنَّى لو أن ذاك الجمود قد استمرَّ وقتًا أطولَ بعض الشيء، لكن لا تَذُبْ بوتيرةٍ أسرعَ ممَّا ينبغي ولا قوة أشد. لا أحد يستطيع أن يعمل لفترات طويلة بمقدارِ ما كنت تفعل. فلتكُن كسولًا عاطلًا، غير أنه لا يجدُر بي أن أعظَك في هذا؛ فأنا عن نفسي لا أستطيع أن أكون عاطلًا رغم أنني أتمنَّى ذلك كثيرًا، ولا أجد راحتي أبدًا إلا عند العمل. فأنا أعتبر أن كلمة إجازة مكتوبة بلغة ميتة، وهذا يُحزنني بشدة. نشكرك بكل صدق على تعاطفك اللطيف مع إتش المسكينة [ابنته] … لقد شارفت الآن على العودة إلى حالها القديمة، وصارت تستطيع النهوض ساعةً أو اثنتَين مرَّتَين يوميًّا في بعض الأحيان … لقد أصبح عدمُ التفكير في المستقبل مطلقًا، أو بأقل قدرٍ ممكن، قاعدةَ حياتنا. ما أشدَّ اختلافَ الحياة عمَّا كانت عليه في زمن الشباب؛ إذ كانت بلا خوف من المستقبل، ومليئةً بآمال ذهبية، وإن كانت بلا أساس واقعي.
… بخصوص دورية «ناتشورال هيستوري ريفيو»، لا أظن أن السيدات سيكُنَّ حسَّاساتٍ جدًّا تجاه «أمعاء السحالي»؛ لكنَّ الدورية في الوقت الحالي أشبهُ بهجينٍ بكل تأكيد، ولا ينبغي أن تظهر الأوراقُ البحثية الأصلية المدعومة برسوم توضيحية في دورية نقدية على الإطلاق. أشكُّ في أنه سيُجدي أيُّ نفع مادي على الإطلاق، لكني سأندم بشدة إذا مات ولم يُنشَر. كلُّ ما تقوله يبدو معقولًا جدًّا، ولكن هل يُمكن لمقالٍ نقدي، بالمعنى الحرفي للكلمة، أن يُملأ بمادةٍ تستحق القراءة؟
لا أفعل أشياءَ كثيرة، باستثناء إنهاء كتابة الطبعة الجديدة من كتاب «أصل الأنواع»، والتقدُّم زاحفًا ببطء شديد في كتابي «التباين تحت تأثير التدجين» …
[يُشير الخطاب التالي إلى ورقة السيد بيتس البحثية، «إسهامات في إحدى قوائم حشرات وادي الأمازون»، في دورية «ترانزاكشنس أوف ذا إنتومولوجيكال سوسايتي» المجلَّد الخامس، سلسلة جديدة. (قُرئت الورقة في ٢٤ نوفمبر ١٨٦٠.) يشير السيد بيتس إلى أنه مع عودةِ مُناخٍ أدفأ في المناطق الاستوائية بعد انقضاء الفترة الجليدية، «يُفترَض أن الأنواع التي كانت تعيش آنذاك بالقرب من خط الاستواء قد تراجعت شمالًا وجنوبًا إلى مواطنها السابقة، تاركةً بعض الأنواع الأخرى المنتمية إلى الجنس نفسه، التي تغيَّرت بعد ذلك ببطء … لتستوطن المنطقة التي كانت قد هجرتها بالفعل من جديد.» في هذه الحالة، ينبغي أن تظهر لدى الأنواع التي تعيش الآن عند خط الاستواء علاقةٌ واضحة بالأنواع التي تسكن المناطقَ الواقعة حول خط عرض ٢٥، والتي يُفترَض بالطبع أنها ذات صِلة قرابة بعيدة بها. لكنَّ هذا لا ينطبق في الواقع، وهذه هي الصعوبة التي يُشير إليها والدي. طرح السيد بيلت تفسيرًا لذلك في كتابه «عالِمُ تاريخ طبيعي في نيكاراجوا» (١٨٧٤)، الصفحة ٢٦٦. فقال: «أعتقد أن الإجابة هي أن الفترة الجليدية قد شهدت إبادةً شديدة إلى حدِّ أن العديد من الأنواع (وبعض الأجناس، وما إلى ذلك، مثل الحصان الأمريكي) لم تنجُ منها … لكنَّ العديد من الأنواع قد وجدت ملجأً على أراضٍ كُشِفَت بانخفاض سطح البحر، وهي تقع الآن تحت المحيط بسبب كمية المياه الهائلة التي كانت محبوسةً في كُتَل متجمِّدة على اليابسة.»]
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ٢٧ [مارس ١٨٦١]
عزيزي هوكر
كنت أنوي إرسالَ مقال بيتس إليك اليوم بالتحديد. إنني سعيد جدًّا لأنه نال إعجابك. لقد بهرني للغاية. إنه يُقدِّم حُججًا معارضةً للنظرية الجليدية بطريقةٍ ممتازة وقوة ساحقة. لا أستطيع التوقُّف عن التفكير فيه، إنني مشدوه للغاية، لكني أعتقد أن ثمَّة تفسيرًا سيظهر يومًا ما، ولا أستطيع التخلي عن فكرة انخفاض حرارة المناطق الاستوائية. ذلك أنها تُفسِّر الكثيرَ وتتسق مع الكثير. عندما تُرسل إليَّ (وسأكون مُهتمًّا جدًّا بخطابك)، فأرجو منك أن تُخبرني بمدى تماثُل النباتات عمومًا في الطابع الجنسي من دائرة عرض ٠ إلى دائرتَي عرض ٢٥ شمالًا وجنوبًا.
قبل أن أقرأ ما كتبه بيتس، كنتُ قد استأت تمامًا ممَّا كتبته إليك. آمُل أن تُقنِع بيتس بأن يكتب في دورية «لينيان».
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، [أبريل] ٢٣؟
[١٨٦١]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١٢ أبريل [١٨٦١]
عزيزي
لايل
لقد أثار خطابك بالغَ اهتمامي. يبدو أنك أنجزت عملًا أعظم، واتخذت خطوةً أعظمَ من أي شخص على الإطلاق فيما يتعلَّق بمسألة تطوُّر الإنسان.
من بواعثِ الارتياح الشديد سماعُ أنك تظن الرواسب السطحية الفرنسية رواسبَ دلتا وشبه بحرية، لكني قبل يومَين كنت أقول لصديقٍ إن الكيفية المجهولة لتراكم هذه الرواسب بَدَت عيبًا كبيرًا في كل العمل الذي أُنجِز. لم أستطِع تقبُّل النقاط المتعلِّقة بتكسُّرات الجليد أو الطبقات البحرية. فهذا هائل جدًّا. أتذكَّر أن فالكونر أخبرني أنه يظن أن بعض البقايا في كهوف «ديفونشير» تنتمي إلى ما قبل الفترة الجليدية، وهذا، على ما أفترض، هو استنتاجك بخصوص الفئوس الحجرية البدائية الأقدم إضافةً إلى الضباع وأفراس النهر. هذا عظيم. يا له من نَسَبٍ طويل رائع ذلك الذي منحت العِرق البشري إيَّاه!
أنا متيقن من أنني لم أُفكِّر قَط في أن طُرقًا متوازيةً قد تراكمت في أثناء الانحدار. أظن أنني أرى بعض المشكلات في هذا الرأي، مع أنني، عند قراءة رسالتك أولَ مرة، رحَّبت بالفكرة. بالرغم من ذلك، سأُفكِّر في كلِّ ما رأيته هناك. سوف آتي (بمشيئة المعدة) إلى لندن يوم الثلاثاء للعمل على الديوك والدجاج، وسأزورك في حوالي الساعة العاشرة إلا ربعًا من صباح الأربعاء (ما لم أسمع منك ما يعارض ذلك)؛ لأنني أتوق لرؤيتك. أُهنِّئك على عملك العظيم.
من تشارلز داروين إلى توماس
ديفيدسون
داون، ٢٦ أبريل ١٨٦١
سيدي العزيز
أرجو أن تسامحني على هذه الرسالة الطويلة، وتفضَّل بقَبول أصدق تحياتي.
من تشارلز داروين إلى توماس
ديفيدسون
داون، ٣٠ أبريل ١٨٦١
سيدي العزيز
أُرسل إليك بأحرِّ آيات شكري على خطابك، لم أكن أعرف إطلاقًا أنك طالعت عملي. أؤكِّد لك أنني أعتبر الاهتمامَ الذي أوليته إياه، مع الأخذ في الحُسبان بمعرفتك والطابع الفلسفي لعقلك (لأنني أتذكَّر جيدًا خطابًا لافتًا أرسلتَه إليَّ، ولأنني طالعتُ منشوراتك المختلفة)، واحدًا من أقيَم الإطراءات التي تلقَّيتها، بل ربما يكون الأفضل على الإطلاق. إنني أعيش في عُزلةٍ شديدة إلى حدِّ أنني قلَّما أعرف بما يجري، وأنا أرغب بشدة في معرفةِ العمل الذي نشرتَ فيه بعضَ التعليقات على كتابي. إنني مهتم جدًّا بالموضوع، ولعله لا يكون اهتمامًا مدفوعًا بالأنانية فحسب؛ لذا أرجو أن تُصدِّق أن خطابك أسعدني بشدة؛ إذ أكون قانعًا تمامًا عندما ينظر أيُّ أحد إلى الموضوع بعينِ الإنصاف، سواءٌ أوافقني الرأي تمامًا أم بقدرٍ ضئيل أم لم يتَّفق معي. أرجو ألَّا تظن أنني متفاجئ على الإطلاق من اعتراضك على التسليم السريع بصحةِ ما ورد في الكتاب؛ فالحق أنني لا أُكنُّ احترامًا كبيرًا لرأي مَن يفعل ذلك؛ أعني إذا تسنَّى لي أن أحكم على الآخرين بِناءً على الوقت الطويل الذي استغرقه تغييرُ قناعاتي. ذلك أن كل مرحلة من مراحل الاقتناع قد كلَّفتني سنوات. صحيحٌ أن الصعوبات كثيرةٌ وهائلة جدًّا كما تقول، لكني كلما فكَّرت، أراها ناجمةً عن الاستهانة بمقدارِ ما نجهله. إنني أنتمي إلى العصر القديم، حتى إنني أولي الصعوبات الناجمة عن قصور السجل الجيولوجي أهميةً أكبرَ ممَّا يوليه إياها بعضُ الشبان. فممَّا يُذهلني ويُبهجني في الوقت ذاته أنني أجد رجالًا جيدين مثل رامزي وجوكس وجيكي ولايل، وهو العجوز الوحيد من بينهم، لا يرَون أنني بالغت إطلاقًا في قصور السجل. إذا ثبتت صحةُ آرائي في أي وقت على الإطلاق، فسيجب تعديل آرائنا الجيولوجية الحالية تعديلًا كبيرًا. مشكلتي الكبرى هي عدم القدرة على الموازنة بين الآثارِ المباشرة لتأثير تغيُّر ظروف الحياة المستمر منذ فترة طويلة دون أي انتقاء، وتأثير الانتقاء على التغيُّر العرضي (إن جاز القول). أتردَّد كثيرًا بشأن هذه المسألة، لكني عادةً ما أعود إلى إيماني بأن التأثير المباشر لظروف الحياة لم يكن كبيرًا. ربما أدَّى هذا التأثير المباشر على الأقل دورًا صغيرًا للغاية في إنتاج كل التعديلات التكيفية الجميلة التي لا حصرَ لها في كل كائن حي. وبخصوص إيمان الأشخاص، فما يُفاجئني بعض الشيء هو أن يكون أي أحد (مثل كاربنتر) مستعدًّا «للاتفاق معي بدرجة كبيرة» إلى حدِّ الاقتناع بأن الطيور كلها انحدرت من سلفٍ واحد، ولا يزيد على هذا قليلًا فحسب لينطبق ذلك أيضًا على كل أعضاء التقسيم الكبير نفسه؛ ذلك أنه على هذا المستوى من الاعتقاد تصبح كل الحقائق في علم التشكُّل وعلم الأجنة (الأهم من بين كل الموضوعات، برأيي)، محضَ مهازل إلهية … لا أستطيع التعبيرَ عن مدى عُمق سعادتي بأنك ستنشر يومًا ما رأيك النظري عن تعديلِ نوع عضديات الأرجل وتحمُّله؛ أنا متيقن من أن هذا سيكون إضافةً قيِّمة إلى المعرفة.
أرجو أن تسامحني على هذا الخطاب المفعم بالأنانية، لكنك تتحمَّل جزءًا من اللوم على ذلك بإسعادي سعادةً بالغة. طلبتُ من موراي أن يُرسل إليك نسخةً من الطبعة الجديدة، وكتبت اسمك.
أرجو يا سيدي العزيز أن تتقبَّل أصدقَ تحياتي.
في خريف عام ١٨٦٠ والجزء الأول من عام ١٨٦١، تراسَل والدي كثيرًا مع البروفيسور آسا جراي بخصوصِ موضوعٍ أُشير إليه سلفًا؛ ألَا وهو نشر مقالات البروفيسور جراي الثلاث في أعداد يوليو وأغسطس وأكتوبر من مجلة «أتلانتيك مانثلي»، عام ١٨٦٠، في صورة كُتيب. تولَّى السادةُ تروبنر نشرَ الكُتيب، وقد كتب والدي مُتحدِّثًا عنهم: «كان السادةُ تروبنر للنشر في غاية الكرم واللُّطف، ويقولون إنهم لن يأخذوا أيَّ نفقات بالرغم من مجهوداتهم. لقد حدَّدتُ بضعة إعلانات دعائية، وسيُدرجون أحدها في دورياتهم الخاصة مجانًا.»
سيجد القارئ هذه المقالات وقد أُعيد نشْرها في كتاب «داروينيانا» الذي كتبه آسا جراي، في الصفحة ٨٧، تحت عنوان «الانتقاء الطبيعي لا يتعارض مع اللاهوت الطبيعي». لاقى الكتابُ إعجابًا كبيرًا بين الأشخاصِ الأقدر على إدراك محاسنه، وارتأى والدي أنه كان ذا فائدة كبيرة في تقليل المعارضة، وإقناع الناس بتغيير أفكارهم القديمة واعتناق فكرة التطوُّر. ولا يتجلَّى استحسانه الشديد له في خطاباته فحسب، بل كذلك في حقيقةِ أنه أورد ذِكرًا خاصًّا له في مكانٍ بارز جدًّا في الطبعة الثالثة من كتاب «أصل الأنواع». وقد اعترف لايل، من بين رجال آخرين، بقيمة الكُتيب كترياق لنوعية النقد الذي كانت قضيةُ التطوُّر تعانيها. ومن ثَمَّ، أرسل والدي خطابًا إلى الدكتور جراي، قائلًا فيه: «سأذكر لك مثالًا واحدًا على فائدة كتيبك: كان أسقف لندن يسأل لايل عن رأيه في المقال النقدي الوارد في دورية «كورترلي»، وأجاب لايل قائلًا: «اقرأ في مجلة «أتلانتيك» ما كتبه آسا جراي».» يتجلَّى بوضوحٍ تام أن والدي، في مثل حالة منشورات الدكتور جراي، لم يفرح بنجاح رأيه الخاص عن التطوُّر، أي إن التعديلَ يحدث أساسًا بسبب الانتقاء الطبيعي، بل على العكس من ذلك، كان يرى أن النقطةَ المهمة حقًّا هي أنْ يُقبَل مذهب الانحدار. ومن ثَم أرسل خطابًا إلى البروفيسور جراي (١١ مايو ١٨٦٣) بخصوص كتاب «عصور البشر القديمة»، الذي كتبه لايل، قائلًا:
«إنك تتحدَّث عن لايل معتبرًا إياه حَكَمًا، ما أشكو منه الآن أنه يرفض أن يكون حَكَمًا … أكاد أن أتمنَّى أحيانًا أن يكون لايل قد انتقدني. عندما أتحدَّث بضميرِ المتكلِّم هنا، فأنا لا أقصد سوى مسألةِ «تغيُّر الأنواع بالانحدار». فتلك هي النقطة التي أراها فارقة. صحيح أنني شخصيًّا مهتم جدًّا بالانتقاء الطبيعي، لكني أرى ذلك غير مهم تمامًا مُقارنةً بسؤال «الخلق أم التعديل».»]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ١١ أبريل [١٨٦١]
عزيزي
جراي
سررتُ جدًّا بتلقي صورتك، وأنا الآن في انتظار صورتي التي سأُرسلها فورَ مجيئها. إنها قبيحة، ويؤسفني القول إن الذنْب ليس ذنْب المُصوِّر … منذ آخر خطاب أرسلتُه، تلقَّيت عدة خطابات تعُج بأعظمِ إشادة لمقالتك؛ إذ يُقِر الجميع بأنها أفضلُ ما كُتِب، وبفارقٍ كبير عن أقربِ نظيراتها، وأنا متيقن أنها قدَّمت لكتاب «أصل الأنواع» نفعًا كبيرًا. لم أسمع شيئًا بعدُ عن قدرِ مبيعاته. سترى مقالًا نقديًّا في دورية «ذا جاردنرز كرونيكل». عزيزي هنزلو المسكين، الذي أَدين له بالكثير، يُحتضر، وهوكر برفقته. شكرًا جزيلًا على مجموعتَي أوراق المحاضر التي أرسلتها. لا أستطيع فهْم ما يرمي إليه أجاسي. أظنك تحدَّثتَ ذات مرة عن البروفيسور بوين واصفًا إياه بأنه رجل ذكي جدًّا. الحق أني أرى من كتاباته أنه يفتقر إلى مهارة الملاحظة تمامًا. لا يمكن أن يكون قد شاهد الحيوانات كثيرًا، وإلا كان سيرى الفارق بين الكلاب المُسِّنة الحكيمة والكلاب الصغيرة. ورقته البحثية عن الوراثية عجيبة للغاية. ذلك أنك إذا أخبرتَ أحدَ مُربي الحيوانات بأنْ ينتقي أسوأ «أفراد» الحيوانات لديه، ويُنشئ منها نسلًا، ثم يأمل في نيل مبتغاه، فسوف يظن أنك … مجنون.
[تُوفي البروفيسور هنزلو في ١٦ مايو ١٨٦١، جَرَّاء مضاعفات التهاب الشعب الهوائية واحتقان الرئتَين وتضخُّم القلب. لم تستسلم بنيتُه الجسدية القوية سريعًا، وظلَّ في حالةِ وهن مؤلمة طيلة أسابيع، وهو يدري بأن نهايته قريبةٌ وينظر إلى الموت بعينَين شجاعتَين غير خائفتَين. وفي كتاب «سيرة هنزلو» الذي كتبه السيد بلومفيلد (جينينز) (عام ١٨٦٢)، وَرَد وصفٌ جليل مُؤثِّر لزيارة الوداع التي قام بها البروفيسور سيجويك إلى صديقه القديم. قال سيجويك فيما بعدُ إنه لم يرَ قَط «إنسانًا روحُه أقرب إلى الجنة منه».
أرسل والدي خطابًا إلى السير جيه دي هوكر عند سماعه بوفاة هنزلو، قائلًا: «إنني على يقينٍ تامٍّ أن هذه الأرض لم يسِر عليها رجلٌ أفضل منه قَط.»
ذَكَر أبي انطباعاته عن شخصية هنزلو في كتاب «سيرة هنزلو» الذي كتبه بلومفيلد. وأرسل خطابًا إلى السير جيه دي هوكر بخصوص هذه الذكريات (في ٣٠ مايو ١٨٦١) قائلًا:
«كتبتُ صباح اليوم ذكرياتي وانطباعاتي عن شخصية عزيزي المسكين هنزلو في عام ١٨٣٠ تقريبًا. أحببت هذه المهمة؛ ولذا كتبتُ أربع صفحات أو خمسًا تُنسَخ الآن. لا أظن أنك ستستخدمها كلها، لكنك بالطبع تستطيع أن تُجزِّئها وتُغيِّرها بقدرِ ما تشاء. إذا استُخدِمت أكثر من جملة واحدة، فسأودُّ أن أرى بروفة طباعة؛ لأنني لا أستطيع أبدًا أن أكتب على نحوٍ جيد إلى أن أرى الموضوع مطبوعًا. من المرجَّح جدًّا أن تبدو بعض تعليقاتي تافهةً للغاية، لكني رأيت أنه من الأفضل أن أُفصح عن أفكاري مثلما خَطَرت ببالي؛ لتستخدمها أنت وجينينز بالطريقةِ التي تريانها مناسبة.
سترى أنني قد تجاوزت ما طلبتَه، لكنني، كما قلت في البداية، كنت مستمتعًا بكتابة انطباعي عن شخصيته الرائعة.»]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ٥ يونيو [١٨٦١]
عزيزي
جراي
كنتَ منشغلًا بدرجةٍ أكبرَ من المعتاد؛ لذا توانَيت في الرد على رسالتك المؤرَّخة بتاريخ ٦ مايو. آمُل أن تكون قد تلقَّيت الطبعة الثالثة من كتاب «أصل الأنواع» منذ وقت طويل … لم أسمع شيئًا من دار نشر «تروبنر» عن مبيعات مقالتك؛ لذا أخشى ألَّا تكون كبيرة، وأرسلت إليك لأُخبرك بأنك تستطيع توفيرَ مزيد من النسخ. لقد أرسلت نسخةً إلى السير جيه هيرشل، الذي وضع في طبعته الجديدة من كتابه «الجغرافيا الطبيعية» تعليقًا على كتاب «أصل الأنواع»، وهو يتَّفق إلى حدٍّ ما، لكنه يُدرج تحفُّظًا بشأنِ مسألة التصميم — يشبه تحفُّظك كثيرًا … لقد دُفِعتُ إلى التفكير مليًّا في الموضوع مُؤخَّرًا، ويحزنني القول إنني أصبحت أكثرَ اختلافًا في الرأي عنك. هذا لا يعني أن التباينَ المُصمَّم يجعل القوةَ التي أعزو إليها الربوبيةَ «الانتقاء الطبيعي» غير ضرورية، كما يبدو لي، لكن بِناءً على ما أجريته مُؤخَّرًا من دراسة التباين الحادث تحت تأثير التدجين، ورؤية المجال الهائل جدًّا لإمكانية التباين غير المصمَّمة، والتي يمكن للانتقاء الطبيعي تخصيصُها لأي غرض نافع لكل كائن.
لم أكن أعرف من قبلُ أن الصُّحُف شائقة جدًّا إلى هذا الحد. أمريكا الشمالية لا تُنصف إنجلترا؛ فأنا لم أرَ ولم أسمع بأي أحد ليس منحازًا إلى أمريكا الشمالية. بل إن البعض، وأنا منهم، يتمنَّون من الرب أن تُعلن أمريكا الشمالية حملةً صليبية على العبودية، بالرغم من خسارة ملايين الأرواح. فعلى المدى البعيد، ستُقدِّم هذه الوفَيَات التي تصل إلى الملايين خدمةً جليلة لقضية الإنسانية. ما أروعَ الأوقات التي نعيش فيها! يبدو أن ماساتشوستس تُبدي حماسةً نبيلة. يا إلهي العظيم! كم أرغب في أن أرى أكبرَ لعنة على الأرض؛ أي العبودية، وقد زالت تمامًا!
إلى اللقاء. هوكر منهمك في شئون عزيزي هنزلو المسكين الموقَّر. وداعًا.
من هيو فالكونر إلى تشارلز
داروين
٣١ شارع ساكفيل، ويستمنستر، ٢٣ يونيو
١٨٦١
عزيزي
داروين
زرتُ كهف أديلسبرج، وأحضرت معي فردًا حيًّا من سمندل الكهوف الأوروبي، نويت أن أُخصِّصه لك حالما حصلت عليه، هذا إن كان لديك حوض أسماك وكنت ترغب في الحصول عليه. لم أعُد من أوروبا سوى الليلة الماضية فقط، وعندما سمعتُ من أخيك أنك على وشْك الذهاب إلى توركي، لم أُضيِّع وقتًا في تقديمِ هذا العرض إليك. لا يزال الحيوان العزيز المسكين حيًّا — مع أنه بلا موارد تغذية كافية منذ شهر — وأنا مُتلهِّف بشدة للتخلُّص من مسئولية تجويعه وقتًا أطول. أمَّا بين يديك، فسينمو ويحظى بفرصةٍ عادلة للتطوُّر دون تأخير إلى أن يصير نوعًا ما من الحماميات؛ ربما حمامةً نفاخة أو حمامة بهلوانية على سبيل المثال.
عزيزي داروين، كنت أتجوَّل في أنحاء شمال إيطاليا وألمانيا مُؤخَّرًا. سمعتُ آراءك ومقالتك الرائعة تُناقَش في كل مكان — صحيح أن أغلب الآراء كانت معارضة، وفقًا للتحيُّز الخاص لدى المتكلِّم — لكنَّ الكتاب، وصِدق غايته، وعظمة فكرته، ولباقة إيضاحه، وجرأة شرحه دائمًا ما يُشار إليه بأشد درجات الإعجاب. ومن بين أشد أصدقائك محبةً وودًّا، لم يفرح أحدٌ بذلك التقدير العادل لتشارلز داروين أشدَّ ممَّا فرحتُ لك.
من تشارلز داروين إلى هيو
فالكونر
داون، [٢٤ يونيو ١٨٦١]
عزيزي فالكونر
تلقَّيتُ خطابك للتو، ومن حسنِ الحظ أنه وصل قبل الموعد المحدَّد بيوم، ولم أُضيِّع ثانيةً واحدة وسارعت بالرد عليك، لأشكرك من أعماق قلبي على عرضك هذه العيِّنة القيمة عليَّ، لكن ليس لديَّ حوض أسماك وسأُسافر قريبًا إلى توركي؛ لذا ستكون النتيجة مؤسفةً جدًّا إذا أخذته. ومع ذلك، أرغب جدًّا في رؤيته بالتأكيد، لكن هذا مستحيل مع الأسف. ألن تكون جمعية علم الحيوان أفضلَ مكان؟ ومن ثَمَّ سيُعوِّض الاهتمامَ الذي سيهتمه الكثيرون بهذا الحيوان الاستثنائي عن عنائك.
رغم أن تكبُّدك هذا العناء وعرضك العينةَ عليَّ تصرُّفٌ لطيف منك؛ فالحقيقة أنني أعتبر رسالتك نفسَها أعلى قيمةً من العَيِّنة. سأحتفظ برسالتك بين قلةٍ قليلة من الرسائل القيِّمة. لقد أثَّر لُطفك في وجداني بشدة.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
٢ بنايات «هيسكيث كريسينت»،
توركي،
١٣ يوليو
[١٨٦١]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
٢ بنايات «هيسكيث كريسينت»، توركي،
٢٠ يوليو [١٨٦١]
عزيزي
لايل
إن هذا المكانَ خلَّاب، وأعتقد أنني قد مشيت ميلَين كاملَين ذهابًا وإيابًا بالفعل، وهذا إنجاز رائع.
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ١٧ سبتمبر [١٨٦١؟]
عزيزي
جراي
أشكرك بكل صدق على خطابك الطويل العلمي والسياسي الشائق جدًّا المؤلَّفِ من ثلاثة أجزاء بتاريخ ٢٧ و٢٩ أغسطس و٢ سبتمبر، الذي تلقَّيتُه صباح اليوم. أتَّفق مع الكثير ممَّا تقوله، وأتمنَّى من الرب أن نكون، نحن الإنجليز، مخطئين تمامًا فيما يراودنا من شكوك حيال: (١) ما إذا كان الشمال يستطيع غزو الجنوب، و(٢) ما إذا كان الشمال لديه أصدقاء كثيرون في الجنوب، و(٣) حيال ما إذا كنتم، أنتم يا نبلاء ماساتشوستس، محقِّين في نقل مشاعركم الطيبة الخاصة إلى رجال واشنطن. أقول مرةً أخرى إننا نتمنَّى من الرب أن نكون مخطئين في التشكُّك بشأنِ هذه النقاط. النقطة الثالثة وحدَها هي ما تجعل إنجلترا غير متحمِّسة لكم. لا أعرف ما قد يكون الوضعُ عليه في لانكشير، لكن في جنوب إنجلترا، ليس للقطن أي علاقة بشكوكنا. إذا تحقَّق انتصاركم متبوعًا بإلغاء العبودية، فسيبدو العالمُ كله أكثرَ إشراقًا في عينَي، وعيون الكثيرين. إنَّ وقفَ انتشار العبودية ومنعَ وصولها إلى الأقاليم فحسب سيكون مكسبًا كبيرًا، إذا أمكن ذلك دون الإلغاء، وهذا ما أشك فيه. ينبغي ألَّا تتعجَّب كثيرًا من برود إنجلترا عندما تتذكَّر عددَ المقترحات الكثيرة جدًّا التي طُرِحت في بداية الحرب لإعادةِ الأوضاع إلى حالتها القديمة مع الالتزام بحدود دائرة العرض القديمة، لكن يكفي هذا القدرُ من الحديث بخصوصِ هذه المسألة، كلُّ ما أستطيع قوله إن ماساتشوستس والولايات المجاورة تحظى بالتعاطف الكامل من كل رجلٍ صالح أُقابله، وهذا التعاطف سيتسع ليشمل الولايات الفيدرالية كلها؛ إذا أمكن إقناعنا بأنهم يشاركونكم مشاعركم. ولكن يكفي هذا القدرُ من الحديث بخصوص هذه المسألة. فهي خارج نطاق اختصاصي، مع أنني قرأت كلَّ كلمة من الأخبار، ودَرَست كتابات أولمستيد جيدًا في الماضي …
سؤالك عمَّا قد يُقنعني بمسألةِ التصميم مُحيِّر. إذا رأيتُ ملاكًا تَنزَّل ليُعلمنا الخير، واقتنعت أنني لست مجنونًا عندما ينظر إليه آخرون فيرَونه أيضًا، فسوف أومن بوجود التصميم. إذا أمكن إقناعي إقناعًا تامًّا بأن الحياة والعقل كانا معتمدَين، بكيفية مجهولةٍ ما، على قوًى أخرى خفية، فسوف أقتنع. إذا كان الإنسانُ مصنوعًا من نحاس أو حديد ولم يكن مرتبطًا البتة بأي كائن حي آخر عاش على الإطلاق، فربما سأقتنع. غير أن هذه الطريقةَ في الكتابة طفوليةٌ فحسب.
أتراسَل في الآونة الأخيرة مع لايل الذي، على ما أظن، يتبنَّى فكرتك عن أن تيار التباين موجَّه أو مصمَّم. لقد سألته (وهو يقول إنه سيُفكِّر من هذه اللحظة فصاعدًا ويُجيبني) عمَّا إذا كان يعتقد أن شكلَ أنفي قد صُمِّم. إذا كان يعتقد ذلك، فليس لديَّ شيء آخرُ أقوله. أمَّا إذا لم يكن كذلك؛ فبالنظرِ إلى ما فعله مربُّو الحيوانات بانتقاء فروق فردية في عظام أنوف الحمَام، سوف أرى أن الافتراضَ القائلَ إن التبايناتِ التي يحفظها الانتقاءُ الطبيعيُّ مُخطَّط لها ومقصودة من أجلِ مصلحةِ أي كائن، افتراضٌ غير منطقي. بالرغم من ذلك، فأنا أعلم أني أُعاني حالةَ التشوُّش نفسَها (كما قلتُ من قبل) التي يبدو أن العالَم كلَّه يعانيها بخصوص مسألةَ الإرادة الحرة مقابل افتراض أن كل شيء مُتنبَّأ به ومُحدَّد سلفًا.
إلى اللقاء يا عزيزي جراي، مع جزيل الشكر على خطابك الممتع.
من تشارلز داروين إلى إتش دبليو
بيتس
داون، ٣ ديسمبر [١٨٦١]
سيدي العزيز
لا تشكُ من نقصِ النصائح في أثناء رحلات سفرك؛ فأنا أظن أن جزءًا من الأصالة العظيمة الكامنة في آرائك ربما يكون بسبب اضطرارك إلى التفكير بنفسك دون مساعدة. أتفهَّم أن كيفيةَ استقبالك في المتحف البريطاني ستُثبِّطك، صحيح أنهم جماعة جيدة جدًّا من الرجال، لكنهم ليسوا من النوعية التي تُقدِّر عملك. الحق أنني لطالما ظننتُ أن «الإفراط» في العمل المنهجي [و] الوصف يُضعفان الملكات الفكرية بطريقةٍ ما. فعامة الناس يُقدِّرون جرعةً جيدة من الاستدلال المنطقي أو التعميم، مع تعليقات جديدة وغريبة على العادات والعلل الغائية، إلى آخرِ ذلك، تقديرًا أكبرَ بكثير ممَّا يوليه إياه علماء التاريخ الطبيعي النظاميِّين.
سُررتُ للغاية بسماع أنك بدأت رحلات سفرك … صحيح أنني مشغول جدًّا، لكني سأسعَدُ «حقًّا» بتقديم أي مساعدة أستطيع تقديمَها بقراءة أول فصل أو اثنَين من كتابك. لا أظنني سأكون قادرًا على تصحيحِ الأسلوب؛ لأنني وجدتُ، بعد تجارِبَ مُتكرِّرة، أنني لا أستطيع تصحيحَ أسلوبي أنا شخصيًّا إلا عندما أرى المخطوطة جاهزةً للطباعة. يولَد البعض بمَلَكة إجادة الكتابة، مثل والاس، بينما يُضطر آخرون، مثلي ومثل لايل، إلى كتابة كل جملة بجهدٍ مُضنٍ جدًّا وبطء شديد. عندما لا أستطيع التوصُّل إلى أسلوبٍ يُرضيني لعرض نقاش صعب، أتَّبع خطةً جيدة جدًّا بأن أتخيَّل أن شخصًا ما قد دخل الغرفةَ ويسألني عمَّا أفعل، فأحاول فورًا أن أشرح لهذا الشخص المُتخيَّل مقصدي الرئيسي. لقد فعلت هذا مع نفسي على نطاق فقرة واحدة مرات عديدة، وأحيانًا ما كنت أفعل هذا مع السيدة داروين إلى أن أرى الكيفيةَ التي ينبغي أن يُطرَح بها الموضوع. أظنه شيئًا جيدًا أن يقرأ المرء مخطوطته بصوتٍ عالٍ. لكنَّ الأسلوب يُمثِّل صعوبةً كبيرة لي، وإن كان بعض الحُكَّام البارعين يرَون أنني نجحت، وأنا أقول هذا لأشجِّعك.
ما «أظن» أنني أستطيع فعْله هو إخبارك بالأجزاء التي يُستحسن أن تختصرها. أظن من الأفضل أن تدخل في «صلب الموضوع» سريعًا بلا مقدمات، وأن تضيف أيَّ أوصاف للبلد أو تفاصيلَ تاريخيةٍ ربما تكون ضروريةً لاحقًا. موراي يُحب الكثيرَ من الرسومات التوضيحية، فلتُعطِه بعضَ الرسومات التوضيحية للنمل، بأي طريقةٍ ممكنة. يحمل الجمهور تقديرًا للقردة؛ أبناء عمومتنا المساكين. ما الفروق الجنسية الموجودة لدى القردة؟ هل أبقيتَها خاملة؟ إذا كان الأمر كذلك، فلتتحدَّث عن تعابيرها. يؤسفني القول إنك ستستطيع بالكاد قراءةَ خط يدي البغيض، لكني لا أستطيع الكتابة بخطٍّ أفضل دون تكبُّد عناء قاتل.
سأُخبرك برأيي الصريح في مخطوطتك، ولكن تذكَّر أن الحُكم استنادًا إلى المخطوطة وحدَها صعب، والأجزاء الثقيلة تبدو أثقلَ بكثير. كان أحد الحُكَّام الممتازين يظن أن يومياتي سيئة جدًّا، والآن بعدما صارت مطبوعة، عرفت مصادفة أنها تنال إعجابه. أنا متيقن من أنك ستتفهَّم سببَ غروري الأناني الشديد.
[الفقرة التالية، المقتبَسة من رسالةٍ إلى السيد بيتس عن الموضوعِ نفسه مثيرةٌ للاهتمام؛ لأنها تعطي لمحةً عن الخطة التي اتبعها والدي في كتابة كتابه «رحلة عالم طبيعة حول العالم»:
«بصفتي مُؤلِّفًا قديمًا بَليتُ من كثرة العمل في التأليف، دعني أُسدي إليك نصيحة؛ وهي أن تحذف كل كلمة ليست ضروريةً تمامًا للموضوع الذي تناقشه، ولا يُمكن أن تجذب اهتمامَ رجلٍ لا يعرف شيئًا عن الموضوع. دائمًا ما أسأل نفسي هل يمكن لهذا أن يجذب اهتمام شخص لا يعرف شيئًا عن الموضوع؟ وأختار الجمل التي أحذفها أو أتركها وفقًا لهذا. أظن أنه ينبغي علينا تحمُّل العناء كل العناء في سبيل جعل الأسلوب واضحًا بكل شفافية، ولنترك البلاغة فريسةً للنقَّاد ينشغلون بها.»
نُشر كتاب السيد بيتس، «عالِم التاريخ الطبيعي في الأمازون»، في عام ١٨٦٥، لكن يمكن ذِكر الخطاب التالي هنا وليس في موضعه الزمني المناسب:]
من تشارلز داروين إلى إتش دبليو
بيتس
داون، ١٨ أبريل ١٨٦٣
عزيزي بيتس
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ١١ ديسمبر [١٨٦١]
عزيزي
جراي
… بخصوص مسألة التصميم، أشعر بأن رغبتي في رفعِ الراية البيضاء تفوق رغبتي في إطلاق قذائفي البعيدة المدى كالعادة. أرغب في محاولةِ أن أطرح عليك سؤالًا محيِّرًا، لكنك عندما تردُّ المجاملة بمثلها، تراودني شكوكٌ كبيرة حيالَ ما إذا كانت هذه طريقةً عادلة للمناقشة. إذا كان كل شيء مصمَّمًا، فلا بُد أن الإنسان مُصمَّم؛ «الوعي الداخلي» للمرء (مع أنه دليل إرشادي خاطئ) يُخبره بذلك، لكني مع ذلك لا أستطيع تقبُّل أن الأثداء الأثرية لدى ذكور البشر … كانت مُصمَّمةً لحكمةٍ ما. وإذا حاولت القول إنني آمنت بذلك، ينبغي أن أومن به بتلك الطريقة غير المنطقية التي يُصدِّق بها المتديِّنون الأرثوذكس وحدة الثالوث. تقول إنك تائه وسط ضباب، أنا عالق وسط وحلٍ غليظ، أمَّا المتديِّنون الأرثوذكس فسيقولون إنني عالق وسط وحل نتن بغيض، لكني مع ذلك لا أستطيع تجنُّب الخوض في المسألة. يا عزيزي جراي، لقد كتبتُ قدرًا كبيرًا من الهُراء.
١٨٦٢
[بسبب مرض أحد أولاده جرَّاء إصابته بالحمَّى القرمزية، أخذ منزلًا في بورنموث في الخريف. أرسل خطابًا إلى الدكتور جراي من ساوثهامبتون (٢١ أغسطس ١٨٦٢):
«نحن أسرة بائسة، وينبغي إبادتنا. مكثنا هنا لإراحة ولدنا المسكين في رحلته إلى بورنموث، وزوجتي العزيزة المسكينة مَرضت بالحمَّى القرمزية؛ إذ أُصيبت بها إصابةً حادة جدًّا، لكنها تتعافى جيدًا. لا نهايةَ للعناء في هذا العالم المُنهِك. لن أشعر بالأمان إلى أن نصبح كلنا في ديارنا معًا، ولا أعرف متى سيحدث ذلك. لكني أشكو بدافعٍ من الحماقة فحسب.»
كان الدكتور جراي دائمًا ما يُرسل طوابعَ بريديةً إلى المريض بالحمَّى القرمزية، وقد كتب والدي في خطابٍ بخصوص هذا التصرُّف اللطيف الودود:
«لا بد لي من العودة إلى ذِكر مسألة الطوابع؛ لقد أجرى رجلي الصغير حساباته وتوصَّل إلى أنه سيكون قد حصل حتى الآن على ستة طوابع، وهو رقمٌ لا يملكه أيُّ ولد آخر في المدرسة. هذا انتصار. كان ملصوقًا بخطابك الأخير العديدُ من الطوابع الملوَّنة، وظلَّ الصبي في فراشه يتفحَّص الظرفَ بكثير جدًّا من الرضا والهدوء.»
يتناول العدد الأكبر من خطابات عام ١٨٦٢ الكتابَ المتعلِّق بالسحلبيات، لكنَّ موجة تغيير القناعات القديمة واعتناق فكرة التطوُّر كانت لا تزال مستمرةً في الانتشار، وظلَّت هذه الفترة تشهد الكثيرَ من الخطابات والمقالات النقدية المتعلِّقة بالموضوع. وكمثال على الخطابات الغريبة التي تلقَّاها، يُمكن ذكرُ خطاب وصل في يناير من هذا العام «من طبيب ألماني مُتخصِّص في الطب التجانسي، وهو معجَب مُتحمِّس بكتاب «أصل الأنواع». وكان هذا الطبيب شخصيًّا قد نشر كتابًا من النوعيةِ نفسها تقريبًا، لكنه يتطرَّق إلى تفاصيلَ أعمقَ بكثير. يشرح أصل النباتات والحيوانات استنادًا إلى مبادئ الطب التجانسي في ألمانيا. لذا سأُترجمه وأنشره في إنجلترا.»]
من تشارلز داروين إلى تي إتش
هكسلي
داون، ١٤ [يناير؟] [١٨٦٢]
عزيزي هكسلي
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ٢٥ يناير [١٨٦٢]
عزيزي هوكر
من تشارلز داروين إلى ماكسويل
ماسترز٣٠
داون، ٢٦ فبراير [١٨٦٢]
سيدي العزيز
[في ربيع هذا العام (١٨٦٢)، قرأ والدي المجلَّد الثاني من كتاب باكِل «تاريخ الحضارة». وربما يكون هذا الرأي التالي الذي عبَّر عنه بوضوح وقوة جديرًا بأن نقتبسه هنا:
«هل قرأت المجلَّد الثاني من كتاب باكِل؟ لقد أثار بالغ اهتمامي، لا يهمني ما إذا كانت آراؤه صحيحةً أم خاطئة، لكني أظنها تحوي قدرًا كبيرًا من الحقيقة. يشي الكتاب في جميع أجزائه بحب نبيل للتقدُّم والحقيقة، وباكِل في رأيي هو أفضل كاتب باللغة الإنجليزية على الإطلاق، بصرف النظر عمَّن يُقارَن به.»]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ١٥ مارس [١٨٦٢]
عزيزي
جراي
أشكرك على الصُّحُف (مع أنها كانت تتضمَّن انتقادات موجهةً إلى إنجلترا)، وعلى خطابك المؤرَّخ بتاريخ ١٨ فبراير. أكاد حقًّا أستمتع بتلقِّي الطعنات من خنجرٍ أملس مصقول حاد كقلمك. أتمنَّى من صميم قلبي لو كنت أستطيع أن أتضامن معكم بدرجةٍ أكبر من هذا، بدلًا من أن تقتصر مشاعري على كُره الجنوب. لا نستطيع التعاطف مع مشاعركم؛ إذا أرادت اسكتلندا التمرُّد، فسوف نستشيط غضبًا على ما أظن، لكني أرى أننا يجب ألَّا نكترث إطلاقًا بآراء الأمم الأخرى. لا بُد أن الألفية الجديدة ستأتي قبل أن تُحب كلتا الأمَّتَين الأخرى، ولكن حاوِل ألَّا تكرهني. فلتعتبرني أبلهَ مسكينًا معصوبَ العينَين. أخشى أن يُضعِف الوضعُ الراهن المُروِّع اهتمامَك بالعلوم …
أعتقد أن كُتيبك قدَّم لكتابي نفعًا «كبيرًا»، وأشكرك من قلبي على ما قدَّمته لي شخصيًّا من نفع، ومن مُنطلق اعتقادي أن أغلب الآراء صحيح، أظن أنك أفدتَ العلوم الطبيعية كثيرًا أيضًا. يبدو أن الإيمان بموضوع الانتقاء الطبيعي ينتشر قليلًا في إنجلترا والقارة؛ إذ طُلِبَت طبعةٌ ألمانية جديدة، وظهرت نسخةٌ فرنسية للتو. أحد أفضل الرجال الذين تبنَّوا هذه الآراء، وإن كان غير معروف حاليًّا، هو السيد بيتس، أرجو منك أن تقرأ مُجلدَي كتابه «رحلات في الأمازون» عندما يُنشَران، وأعتقد بِناءً على مخطوطة الفصلَين الأولين أنهما سيكونان جيدَين جدًّا.
… مرةً أخرى أرجو منك ألَّا تكرهني.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
١ شارع كارلتون تيريس، ساوثهامبتون،٣٢
٢٢ أغسطس،
[١٨٦٢]
تتطرَّق ملحوظتك، حسب ما يبدو لي، إلى نقاط شديدة الصعوبة. أنا سعيد برؤية [أنني] في كتاب «أصل الأنواع» لم أقُل سوى إن علماء التاريخ الطبيعي عادةً ما يرَون أن درجة التباين فيما بين الكائنات الحية الأدنى مرتبةً أكبرُ ممَّا هي عليه لدى الكائنات الأعلى مرتبة، وأظن أن هذا هو الرأي العام بالتأكيد. أصوغ الكلامَ بهذه الطريقة لإظهار أنني اعتبرته مُجرَّد رأي من المُرجَّح أن يكون صحيحًا. يجب أن أعترف بأنني لا أثق إطلاقًا حتى في رأي هوكر المُعارِض؛ لأنني على يقينٍ تام من أنه لم يجدول أيَّ نتيجة. لديَّ بعض المواد في المنزل، أظن أنني حاولت أن أفهم هذه النقطة، لكني لا أستطيع تذكُّر النتيجة.
إن القابلية للتباين وحدَها — وإن كنتُ أعتقد أن الأساس الضروري لكل التعديلات موجودٌ بصفة شبه دائمة — كافيةٌ للسماح بحدوث أي قدرٍ من التغيير المُنتقى؛ لذا لا أرى أي تعارض إطلاقًا في أن نَجِد مجموعةً ما، وإن كانت أقلَّ قابليةً للتباين في أي فترة (أو في أثناء كل الفترات المتتالية)، قد خضعت لتعديلاتٍ أكثر ممَّا خضعت لها مجموعة أخرى كانت أكثرَ قابليةً للتباين في العموم.
فالمشيميات، مثلًا، ربما كانت أقلَّ قابليةً للتباين من الجرابيات في جميع الفترات، لكنها مع ذلك قد خضعت لقدرٍ من «التمايز» والتطوُّر أكبرَ ممَّا خضعت له الجرابيات؛ وذلك بسبب ميزةٍ ما، هي تطوُّر الدماغ على الأرجح.
أنا متفاجئ من تصريح هوكر بأن الأنواع العليا والأجناس إلى آخرِ ذلك، محدودةٌ للغاية، لكني لا أدَّعي أنني كوَّنت رأيًا عنه. يبدو لي تصريحًا جريئًا.
بمطالعة كتاب «أصل الأنواع» أجد أنني صرَّحت بأن كائنات البر تبدو أسرعَ تغيُّرًا من كائنات البحر (الفصل العاشر، الصفحة ٣٣٩، الطبعة الثالثة)، وأُضيف أن ثمَّة سببًا وراء اعتقاد أن الكائنات الحية التي تُعَد أعلى في سُلم التصنيف تتغيَّر بوتيرةٍ أسرعَ من الكائنات الأدنى. أتذكَّرُ أنني كتبت هذه الجمل بعد الكثير من التفكير المتروِّي … أتذكَّرُ جيدًا أنني شعرتُ بتردُّدٍ كبير إزاء إدراج حتى الجمل الحذرة التي أدرجتُها. أتذكَّر شكوكي المتعلِّقة بمعدَّل تغيُّر الحيوانات الشعاعية التناظُر في التكوين المُنتمي إلى الحِقبة الجيولوجية الثانية، وتغيُّر المنخربات في أقدم طبقات الحِقبة الثالثة …
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١ أكتوبر [١٨٦٢]
يُضيف فالكونر أنه لا يظن الانتقاء الطبيعي كافيًا. الحق أنني لا أرى قوة حجَّته، ومن الواضح أنه يتغاضى عمَّا أقوله مرارًا وتكرارًا عن أن الانتقاء الطبيعي لا يستطيع فِعل أي شيء من دون القابلية للتباين، وأن القابلية للتباين خاضعة لأشد القوانين الثابتة تعقيدًا …
[توجد في خطاباته إلى السير جيه دي هوكر، قُرب نهاية هذا العام، ملاحظاتٌ مذكورة من حينٍ إلى آخر عمَّا أحرزه من تقدُّم في كتابة كتاب «تباين الحيوانات والنباتات». وكَتَب في ٢٤ نوفمبر، قائلًا: «لا أعرف سببَ شعوري ببعض الأسف، لكنَّ كتابي الحالي يقودني إلى أن أكون أكثرَ إيمانًا بعض الشيء بالتأثير المباشر للظروف الطبيعية. أظنني أشعر بالأسف؛ لأن ذلك يُقلِّل من مجد الانتقاء الطبيعي، ولأنه محل شكٍّ إلى حدٍّ لعين جدًّا. ربما سيتغيَّر رأيي مُجدَّدًا عندما أجمع كلَّ الحقائق التي أعرفها تحت لواء وجهة نظر واحدة، وكم هي مهمة في غاية الصعوبة.»
وكتب مُجدَّدًا في ٢٢ ديسمبر: «بدأت اليوم أُفكِّر في ترتيب فصولي الختامية عن «الوراثة» و«الارتداد» و«الانتقاء»، ومثل هذه الموضوعات، وأنا عاجز بشدةٍ عن معرفةِ ما أبدأ به ممَّا لديَّ من أكوام المواد العلمية وما أنتهي به منها وما أفعله بها.»]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ٦ نوفمبر [١٨٦٢]
عزيزي
جراي
من تشارلز داروين إلى إتش دابليو
بيتس
داون، ٢٠ نوفمبر [١٨٦٢]
عزيزي بيتس
انتهيت للتو من ورقتك البحثية بعدما قرأتها مرارًا. إنها في رأيي إحدى أبرز الأوراق البحثية التي قرأتها في حياتي وأكثرها إثارةً للإعجاب. إن حالات المحاكاة التنكُّرية عجيبةٌ حقًّا، وأرى أنك تربط بطريقةٍ ممتازة بين مجموعة كبيرة من الحقائق المتشابهة. الرسومات التوضيحية جميلة، وتبدو مُنتقاةً بعناية شديدة، لكنها كانت ستجنِّب القارئ قدرًا ليس بالقليل من العناء لو كان اسمُ كلٍّ منها قد نُقِش أسفلَ كل شكل منفصل. من المؤكَّد أن هذا كان سيصيب الناقش بالغضب الشديد؛ لأنه كان سيُشوِّه جمال اللوح. لست متفاجئًا على الإطلاق من أن ورقةً كهذه قد استغرقت الكثير من الوقت. يُسعدني أنني تجاهلت هذا الموضوعَ برُمَّته في كتاب «أصل الأنواع»؛ لأنني كنت سأطرحه بطريقةٍ رديئة للغاية. أمَّا أنت فقد ذكرتَ مشكلةً مُذهلة بوضوح شديد وحلَّلتها. من المؤكَّد أن هذا الجزء سيكون هو الأقيم في الورقة في رأي معظم الناس، لكني لست متيقنًا من أن كل حقائقك واستدلالاتك المنطقية بشأن التباين والتمييز بين الأنواع الكاملة والأنواع شبه الكاملة ليست بأعلى قيمةً منه، أو تضاهيه في القيمة على الأقل. لم أتخيَّل العملية بوضوحٍ يقترب حتى من هذا الوضوح الشديد من قبل؛ فأنا أشعر وكأنني أشهد عمليةَ خلق الأشكال الجديدة بنفسي. بالرغم من ذلك، أتمنَّى لو أنك أسهبت بدرجةٍ أكبرَ قليلًا فحسب بشأن مسألة اقتران الضروب المتشابهة، ويبدو لي أن هذا الجزء يستدعي إدراج المزيد من الحقائق. لكني على هذا معجب بمجموعة الملاحظات المتنوِّعة المثيرة للاهتمام التي تضمُّها الورقة، مثل تلك المتعلِّقة بقابلية التباين الفردية والجنسية ذات الصلة، ستكون هذه الملاحظاتُ كنزًا لي يومًا ما، إذا عشتُ.
بخصوص انتشار التشبُّه التنكُّري بشدة بين الحشرات، ألَا تظن أن هذا ربما يكون مرتبطًا بحجمها الصغير؛ أي إنها لا تستطيع الدفاعَ عن نفسها، ولا تستطيع الهربَ بالطيران، من الطيور على الأقل؛ لذا تهرب بالتحايل والخداع؟
لديَّ انتقاد جاد واحد أود طرْحه، وهو متعلِّق بعنوان الورقة؛ لا يسعني سوى أنه كان ينبغي بك أن تشير في العنوان بوضوحٍ إلى التشبُّهات التنكُّرية. ورقتك أفضل من أن تحظى بتقدير معظم العامة من علماء التاريخ الطبيعي العديمي الأرواح، لكن ثِق في أن قيمتها ستظل «خالدة»، وأنا أُهنِّئك من صميم قلبي على عملك العظيم الأول. أعتقد أنك ستجد أن والاس يُقدِّرها تقديرًا تامًّا. كيف حالُ تقدُّمك في تدوين كتابك؟ حافِظ على معنوياتك عالية. ذلك أن تأليف كتاب ليس بمهمةٍ سهلة. تحسَّنتُ مؤخَّرًا، وأعمل بجِد، لكن حالتي الصحية سيئة جدًّا. كيف حالُ صحتك؟ تقبَّل أصدق تحياتي يا عزيزي بيتس.