انتشار نظرية التطوُّر
١٨٦٣–١٨٦٦
[كان كتاب والدي عن الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين هو شغله الشاغل في عام ١٨٦٣. يُسجِّل دفتر يومياته الوقت الطويل الذي قضاه في تكوين فصوله، ويُوضِّح المُعدَّل الذي كان يُدوِّن به أفكاره تدوينًا تامًّا من أجل الترتيب لطباعة الملاحظات والاستنتاجات التي توصَّل إليها على مرِّ عدة سنوات.
بدأت كتابةَ الفصول الثلاثة المتعلِّقة بالوراثة في الجزء الثاني، والتي تشغل ٨٤ صفحةً مطبوعة، في يناير وانتهت في الأول من أبريل، فيما كُتبَت الفصول الخمسة المتعلِّقة بالتهجين، التي تشغل ١٠٦ صفحات، في ثمانية أسابيع، أمَّا الفصلان المتعلِّقان بالانتقاء، واللذان يُغطِّيان ٥٧ صفحة، فبدأت كتابتهما في ١٦ يونيو وانتهت في ٢٠ يوليو.
قوطِع أبي في العمل أكثرَ من مرة بسبب سوء صحته، واضطُر في شهر سبتمبر بسببِ ما ثَبت لاحقًا أنه بداية مرضٍ استمرَّ ستة أشهر، إلى مغادرة منزله لتلَقِّي العلاج المائي في مولفرن. عاد بعد ذلك في أكتوبر وظلَّ مريضًا ومكتئبًا، مع أن أحد أكثر الأطباء مرحًا وأمهرهم آنذاك قد أبدى رأيًا متفائلًا بشأن صحته. وقد أرسل خطابًا بهذا المفاد إلى السير جيه دي هوكر في نوفمبر، قائلًا:
«كان الدكتور برينتون (الذي رشَّحه لي باسك) هنا؛ إنه يعتقد أن عقلي وقلبي لم يتضرَّرا في العموم، لكن حالتي الصحية تتدهور بلا توقُّف، ولا يمكنني تفادي التشكك حيال ما إن كنت سأستعيد عافيتي مرةً أخرى ولو بدرجةٍ ضئيلة. إذا لم أستطِع استعادتها بما يكفي لقيامي بشيء قليل من العمل، فأرجو أن يكون ما تبقَّى من حياتي قصيرًا جدًّا؛ لأن الاستلقاء على الأريكة طوال اليوم وعدم فعل أيِّ شيء سوى التسبُّب في العناء للزوجة الأفضل والأطيب على الإطلاق وللأطفال الأعزَّاء، شيء بغيض لا يُطاق.»
«الحالة العقلية للوسط العلمي غريبةٌ جدًّا؛ داروين يغزو كل مكان، وينتشر مجتاحًا كالطوفان، بقوة الحقيقة والواقع وحدها.»
كان السيد هكسلي نشطًا كالعادة في توجيه النزعة المتزايدة إلى التسامح مع الآراء المطروحة في كتاب «أصل الأنواع» أو تقبُّلها، وتحفيز هذه النزعة. إذ ألقى سلسلةً من المحاضرات على بعض العلماء في كلية المناجم في نوفمبر ١٨٦٢. وقد طُبِعت هذه المحاضرات، من ملاحظاتٍ مختصرة كان السيد ماي قد دوَّنها، في صورةِ ستة كتب زرقاء صغيرة، سعر كل منها ٤ بنسات، تحت عنوان «معرفتنا بعلل الطبيعة العضوية». وعندما نُشِرت، قرأها والدي باهتمام، ومن ثَمَّ أشار إليها في خطابٍ إلى السير جيه دي هوكر، قائلًا:
«سُررت جدًّا بأن محاضرات هكسلي نالت إعجابك. لقد بُهِرتُ للغاية بها، لا سيما «فلسفة الاستقراء». تجادلت معه جدالًا محتدمًا بسبب مبالغته في الحديث عن العقمِ وتجاهله حالاتٍ من جيرتنير وكولروتير عن الضروب العقيمة. المحتوى الجيولوجي الذي طرحه مبهمٌ، ويراودني بعضُ الشك حيال تناوله لموضوع عقل الإنسان ولغته. لكني أرى أن المحاضرات «مثيرةٌ للإعجاب»، ومثلما تقولون في الإشادة بكتاب «أصل الأنواع» أقول: «ما أروعها!» لا أستطيع تجنُّب الإعجاب بها، وهذا يجعلني خجلان من نفسي بعض الشيء.»
أُعجِب والدي بوضوح الشرح الذي طُرِح في المحاضرات، وفي الخطاب التالي، حثَّ صاحبها على استخدام قدراته في نفع الطلاب:]
من تشارلز داروين إلى تي إتش
هكسلي
٥ نوفمبر
[١٨٦٤]
أريد أن أطرح عليك اقتراحًا، لكنه ربما يكون قد خَطَر ببالك على الأرجح. كانت — تقرأ محاضراتك واختتمت قائلة: «ليته يكتب كتابًا.» فأجبتها: «لقد كتب للتو كتابًا رائعًا عن الجمجمة.» فَرَدَّت: «لا أعتبر ذلك كتابًا»، وأضافت: «أريد شيئًا يستطيع الناس قراءته؛ إنه بارع في الكتابة». الآن، بما أنك تستطيع الكتابة بسلاسة وتتمتَّع بالمعرفة اللازمة، أفلا ترى أنك تستطيع كتابة أطروحة مبسَّطة عن علم الحيوان؟ صحيح أن هذا سيُضيع بعضًا من وقتك، لكني سُئِلت عدة مرات أن أُرشِّح كتابًا يناسب مستوى المبتدئين، ولم يسعني حينئذٍ سوى التفكير في كتابات كاربنتر عن علم الحيوان. أنا مُتيقِّن من أن أُطروحةً باهرة على هذا النمط ستُقدِّم خدمةً جليلة للعلم بتثقيف علماء التاريخ الطبيعي. إذا أبقيت حافظة أوراقك مفتوحةً لمدة عامَين، وألقيت فيها قصاصاتٍ ورقيةً عن الموضوعات التي تخطر بعقلك، فسرعان ما سيكون لديك هيكل عظميٌّ (وهذا هو الجزء الصعب في رأيي) لتكسوه باللحم والألوان بطريقتك التي لا تُضاهَى. أعتقد أن كتابًا كهذا يمكن أن يُحقِّق نجاحًا باهرًا، لكني لم أكن أعتزم الكتابة إليك عنه كثيرًا.
أُرسِل أطيبَ تحياتي إلى السيدة هكسلي، وأخبرها بأنني كنت أُطالع قصيدة «إينوك أردن»، ولأنني أعرف مدى إعجابها الشديد بتينيسون، يجب أن ألفت انتباهها إلى سطرَين عذبَين جميلَين (في الصفحة ١٠٥) …
… قال إنه كان يرجو لكِ الخير، هذا ما قاله،
ربما كان يرجو الخير، أو ربما ما كان يرجوه إلا بمقدار.
جوهرة كهذه كافية لتُعيد إليَّ شبابي، وتجعلني أحب الشعر بحماسة أصلية خالصة.
[في خطابٍ آخر (بتاريخ يناير ١٨٦٥)، عاد إلى الاقتراح المذكور أعلاه، مع أنه عادةً ما كان يعارض بشدة أن يتخلَّى رجالُ العلم عن الوقت الذي من الممكن أن يُخصِّصوه للأبحاث الأصلية المُستقاة من وحي قرائحهم في سبيل كتابة الكتب الدراسية أو التدريس.
«كنت أعرف أن احتمالية أن يُتاح لك وقتٌ لكتابة أطروحة مبسطة عن علم الحيوان ضئيلة جدًّا، لكنك الرجل الوحيد تقريبًا الذي يقدر على ذلك. في الماضي كنت أشعر بأن إقدامك على فِعل ذلك سيكون بمثابة ارتكابك خطيئة؛ لأنه سيأتي بالطبع على حسابِ سَحقِ عملٍ أصليٍّ ما. لكن من ناحيةٍ أخرى، أرى في بعض الأحيان أن الأطروحات العامة المبسَّطة لا تقل أهميةً عن الأعمال الأصلية في تقدُّم العلم.»
ستُكمِل سلسلة الخطابات التالية تاريخ عام ١٨٦٣.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ٣ يناير [١٨٦٣]
عزيزي هوكر
والآن لننتقل إلى مواضيعَ مُبهجة؛ لقد استمتعنا جميعًا بدفاعك عن جمعِ الطوابع وهواية الجمع في العموم … لكني، ويا للعجب، لا أستطيع إطلاقًا هضمَ فكرة أن رجلًا بالغًا يجمع الطوابع. مَن كان سيخطر بباله على الإطلاق أنك ستجمع تُحف ويدجوود، لكن هذا مختلِف تمامًا عن المنقوشات أو الصور. نحن أحفاد مُنحَطون للراحل جوزايا ويدجوود؛ لأننا لا نملك في البيت قطعةً واحدة من التحف الجميلة.
… بالرغم من السبب المبهج جدًّا الذي علَّلتَ به عدم استمتاعنا بالعطلة، ألَا وهو أننا لا نمارس رذائل، فذلك يصيب المرءَ بمللٍ بشع. كنت أُحاول أن أبقى عاطلًا كسولًا من أجل صحتي، لكني لم أنجح في هذا. ما يجب أن أفعله الآن هو أن أُقيم لوحًا تذكاريًّا في كنيسةِ داون مكتوبًا عليه: «مُخصَّص لتخليد ذكرى … إلخ»، وأموت رسميًّا ثم أنشر كتبًا، لتكون «من تأليف الراحل تشارلز داروين»؛ لأنني لا أستطيع أن أعرف ما ألمَّ بي مُؤخَّرًا؛ دائمًا ما كنت أعاني انفعالًا عند التكلُّم، لكنَّ الوضع الآن صار سخيفًا. فمؤخَّرًا تحدَّثتُ مع ابن أختي لمدة ساعة ونصف (قطعتها بنفسي لأحتسي الشاي)، فظَلِلت [مريضًا] طوال نصف تلك الليلة. إنه شرٌّ مخيف على النفس والعائلة.
من تشارلز داروين إلى يوليوس فون
هاست
داون، ٢٢ يناير [١٨٦٣]
سيدي العزيز
من تشارلز داروين إلى كامي دارست٦
داون، ١٦ فبراير [١٨٦٣]
سيدي العزيز المحترم
أبعث إليك بأصدقِ شُكري على خطابك وكُتيبك. كنت قد سمعت عن عملك (في أحد كتب السيد كاتريفاج على ما أظن)، وكنتُ مُتلهِّفًا جدًّا لقراءته، لكني لم أعرف من أين يمكنني الحصولُ عليه. هذه أقيمُ هديةٍ يُمكن أن تمنحني إياها. لم أعُد للمنزل إلا توًّا، ولم أقرأ عملك بعد؛ إذا أردتُ طرح أيِّ أسئلة عندما أقرؤه، فسأتجرَّأ على إزعاجك بها. لقد سُررتُ للغاية باستحسانك كتابي عن الأنواع. لقد أعلن بعضٌ من علماء التاريخ الطبيعي في إنجلترا وأمريكا الشمالية وألمانيا أنَّ آراءهم بشأنِ الموضوع تغيَّرت بعض الشيء، ولكن على حد علمي، لم يُحدِث كتابي أيَّ تأثير إطلاقًا في فرنسا، وهذا يجعلني أشدَّ سعادةً بتعبيرك اللطيف عن استحسانه. لك أصدق تحياتي وفائق احترامي يا سيدي العزيز.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ٢٤ فبراير [١٨٦٣]
عزيزي هوكر
إنني مندهش جدًّا من رسالتك، وأنا لم أرَ عددَ دورية «ذا أثنيام»، لكني أرسلت في طلبه، وربما أحصل عليه غدًا، وسأقول رأيي حينئذٍ.
صباح الأربعاء: اطلعتُ على عدد دورية «ذا أثنيام». لا أظن أن لايل سيكون منزعجًا جدًّا بقدرِ ما تتوقَّع على الإطلاق. من المؤكَّد أن الجملة الختامية لاذعةٌ للغاية. لا أحد يستطيع فكَّ طلاسم خطاب أوين سوى عالِم بارع في التشريح؛ إنه على الأقل يفوق قدرتي على الاستيعاب بكثير.
يا له من شرٍّ لعينٍ أن يوجد كل هذا الشجار المحتدِم داخل ما يُفترَض أنها عوالم العلم المسالمة!
سأتجه إلى العمل على موضوعي الحالي المتعلِّق بالوراثة، وأنسى كل ذلك فترةً من الوقت. إلى اللقاء يا صديقي العزيز القديم.
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ٢٣ فبراير [١٨٦٣]
… إذا كان لديك وقتٌ للقراءة فلتقرأ كتاب لايل عن الإنسان؛ لأن بعض أجزائه ستُثير اهتمامك، لكن يؤسفني القول إن محتوى الجزء الأفضل، المتعلِّق بالفترة الجليدية، ربما يكون مُتخصِّصًا جدًّا إلى حدٍّ يجعله صعبَ الفهم على غير المتخصِّصين في الجيولوجيا. إنه يستشهد بكلامك في النهاية بإعجابٍ شديد. بالمناسبة، أخبرني قبل بضعة أيام بمدى السرور البالغ الذي عبَّر عنه البعض حين سمعوا أنهم يستطيعون شراء كُتَيبك. وكذلك تتحدَّث مجلة «ذا بارثينون» عنه واصفةً إياه بأنه أبرعُ المؤلَّفات عن هذا الموضوع. كم يسعدني أن أرى عملك ينال التقدير!
سيأتي آل لايل إلى هنا بعد أسبوعٍ من اليوم، وسوف أُعرب عن تذمُّري من مبالغته في الحذر … فربما يقول الجمهور إنه إذا لم يجرؤ رجلٌ مثله على التعبير صراحةً عن رأيه أو لا يرغب في التعبير عنه، فأنَّى لنا، نحن الجهلةَ، أن نُكوِّن ولو حتى رأيًا تخمينيًّا عن الموضوع؟ ابتهج لايل عندما أخبرتُه مُؤخَّرًا بأنك تظن أنه يمكن استخدام اللغة كشرح توضيحي ممتاز لمسألة اشتقاق الأنواع؛ سترى أن كتابه يتضمَّن فصلًا «رائعًا» عن هذا …
صحيفة «ذا تايمز» تصبح أبغض (وإن كانت هذه كلمةً أضعف ممَّا ينبغي) من أي وقت مضى. تود زوجتي الطيبة أن نتخلَّى عن قراءتها، لكني أقول لها إن هذا تصرُّف بطولي جدًّا لا تقدر عليه سوى امرأة. فالتخلِّي عن صحيفة «ذا تايمز القديمة اللعينة»، كما اعتاد كوبيت أن يصفها، يشبه التخلِّي عن اللحوم والشراب والهواء. إلى اللقاء يا عزيزي جراي.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٦ مارس، [١٨٦٣]
أعرف أنك ستسامحني على أنني أكتب بحُرِّية تامة؛ لأنك تعرف بالتأكيد مدى احترامي العميق لك بصفتك مُرشدي وأستاذي الموقَّر القديم. أتمنَّى من أعماق قلبي أن يُحقِّق كتابك رواجًا هائلًا ويُجدي نفعًا بطرقٍ كثيرة مثلما ينبغي له، وأنا أتوقَّع ذلك. أنا متعَب؛ لذا سأكتفي بهذا القدر. لقد كتبتُ بإيجازٍ شديد جدًّا إلى حدِّ أنك ستُضطر إلى تخمين قصدي. يؤسفني القول إن تعليقاتي تكاد تكون غيرَ جديرة بالإرسال أصلًا. إلى اللقاء، مع أطيب تحياتي لليدي لايل.
[اقتبس السيد هكسلي (الجزء الثاني، الصفحة ١٩٣) بعضَ الفقرات من خطابات لايل التي تُبيِّن حالته الذهنية آنذاك. وكذلك الفقرة التالية، المقتبَسة من خطابٍ بتاريخ ١١ مارس إلى والدي، ذات أهمية كبيرة:
«ومع ذلك، فمشاعري تُشكِّل عائقًا أكبر ممَّا تُشكِّله أيُّ فكرة عن الحكمة أو النفعية، يمنعني من تشكيل رأي نهائي قاطع بشأنِ مسألة انحدار الإنسان من الكائنات المتوحِّشة؛ فهي مسألة، وإن كنت مستعدًّا لقَبولها، تنتقص الكثيرَ من سحرِ تخميناتي بشأن الماضي المتعلِّق بمثل هذه الأمور … يجدر بك أن تكون راضيًا بالرغم من ذمك لأنني سأجلب إلى صفك المئات الذين، لو كنتُ اعتبرتُ المسألةَ عقيدةً راسخة، كانوا سيتمرَّدون.»]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١٢ [مارس، ١٨٦٣]
عزيزي
لايل
أشكرك على خطابك الساحر الذي يُمكنني القول إنه كان لطيفًا ومثيرًا جدًّا للاهتمام. كنت أخشى أن تغضب مني لبعض الوقت. فأنا أعرف بعضَ الرجال كانوا سيغضبون لو كانوا مكانك. ليست لديَّ تقريبًا أي انتقادات أخرى جديرة بأن أكتبها على أي حال. ولكن يمكنني أن أذكر أنني فوجئت قليلًا بأن بي دو بيرت لم يُذكَر ذِكرًا أكثرَ تكريمًا بعض الشيء. أود أن أقترح أن تحذف بعض الإحالات إلى كتاب «مبادئ الجيولوجيا» إن أمكن ذلك؛ فإحالةٌ واحدة ستكون كافيةً للطالب الجيد كمائة إحالة، وبالنسبة إلى القارئ العادي، فالإكثار من الإحالة إلى كتبٍ أخرى أمرٌ مزعج بعض الشيء ويُعطيه انطباعًا بأن المحتوى ناقص. ونظرًا إلى أنك تقول إنك تحدَّثت عن مسألة الأنواع بصراحة وفقًا للدرجة التي بلغتها في تصديقها، فليس لديَّ ما أقوله؛ لكني أرى في بعض الأحيان بِناءً على المحادثة والتعبيرات والخطابات وما إلى ذلك، أنك مثلي، قد تخلَّيتَ تمامًا عن الإيمان بعدم قابلية الأشكال المعينة للتغيُّر. لم أزل أعتقد بالتأكيد أن تعبيرًا واضحًا منك، «لو أنك صرَّحت به»، كان سيُحدِث تأثيرًا كبيرًا لدى الجمهور، لا سيما أنك كنت تتبنَّى آراءً مضادةً سابقًا. كلما عملت، ازدادت قناعتي بالتباين والانتقاء الطبيعي، لكنِّي أعتبر هذا الجزءَ من القضية أقلَّ أهمية، وإن كان أكثر إثارةً لاهتمامي شخصيًّا. ونظرًا لأنك طلبتَ مني ذِكر انتقاداتي بخصوص هذه النقطة (وصدِّقني ما كنت لأذكرها من دون طلب)، فسأخص بالذكر (صفحتَي ٤١٢ و٤١٣) أن كلمات مثل: «يسعى السيد دي جاهدًا ليُوضِّح» و«يعتقد المؤلِّف أنها تُلقي الضوء»، من شأنها أن تقود القارئ العادي إلى أن يظن أنك شخصيًّا «لا» تتفق إطلاقًا مع رأيي، بل تظن فقط أنه من المنصف أن تعرضه. وأخيرًا، تصفُ رأيي مرارًا بأنه تعديل لعقيدة لامارك المتعلِّقة بالتطوُّر والارتقاء. إذا كان هذا هو رأيك المدروس، فلا شيء يُقال بخصوص ذلك، لكنه لا يبدو كذلك لي. ذلك أن أفلاطون وبوفون وجَدِّي قد طرحوا من قبلِ لامارك وآخرين، الآراءَ «الواضحة» القائلة بأن الأنواع، إذا لم تكن أُنشئت إنشاءً منفصلًا، كلٌّ على حدة، فلا بد أنها انحدرت من أنواعٍ أخرى، ولا أستطيع أن أرى شيئًا مشتركًا آخرَ غير ذلك بين كتاب «أصل الأنواع» ولامارك. أعتقد أنَّ عرض القضية بهذه الطريقة يُلحِق ضررًا جسيمًا بقابلية تقبُّلها؛ لأنه يوحي ضمنيًّا بأن الارتقاء ضروري، ويربط ربطًا وثيقًا بين آرائي وآراء والاس، وبين كتابٍ أعتبره رديئًا جدًّا بعدما قرأته مرتَين بتروٍّ، ولم أستفِد منه شيئًا (وأتذكَّر جيدًا دهشتي من ذلك). لكني أعرف أنك تضعه في مرتبةٍ أعلى، وهذا غريب؛ لأنه لم يُزعزع اعتقادك قيدَ أنملة. لكنَّ هذا يكفي وزيادة. رجاء فلتتذكَّر أنك مَن جلبت هذا كلَّه على رأسك!
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون [١٣ مارس،
١٨٦٣]
كان ينبغي أن أشكرك في وقتٍ أبكرَ من ذلك على عدد دورية «ذا أثنيام» والرسالة السابقة المُبهجة للغاية، لكني كنت مشغولًا، ومصابًا بعدم ارتياح شديد من جرَّاء الشعور المزعج المتكرِّر بالامتلاء، والألم الطفيف في القلب وبعض الوخز الخفيف به. لكن لأنني لا أُعاني أيَّ أعراضٍ أخرى تُشير إلى مرضٍ قلبي، أفترض أنه ليس مُتضرِّرًا … تلقَّيت رسالةً لطيفة جدًّا ومفعمة بالصراحة المبهجة من لايل، الذي يقول إنه عبَّر عن رأيه بصراحة وفقًا لِمَا يعتقده. لا شك عندي في أن اعتقاده قد خانه بينما كان يكتب؛ لأنني مُتيقِّن من أنه في بعض الأحيان لا يؤمن بفرضية الخلق بأكثر من إيماني أو إيمانك بها. أبديتُ قليلًا من التذمُّر في ردِّي عليه بخصوص أنه «دائمًا» ما يُصنِّف عملي على أنه تعديل على عمل لامارك، وهذا ينطبق عليَّ بقدرِ ما ينطبق على أي مُؤلِّف آخر لم يؤمن بعدم قابلية الأنواع للتغيُّر، وآمنَ بانحدارها. يؤسفني بشدة أن أسمع من لايل أن فالكونر سينشر ردًّا رسميًّا يُعلن فيه أحقيته بادعاءاته التي سُلبت منه …
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١٧ مارس [١٨٦٣]
عزيزي
لايل
قرأتُ ما كتبه … لم أجد مشكلةً ملموسة، وهذا يُسعدني جدًّا من ناحية؛ لأنني أكره الجدال، لكنه من ناحية أخرى يُحزنني بشدة لأنني أتوق إلى أن أكون في القاربِ نفسه مع أصدقائي … إنني سعيد من صميم قلبي بأن الكتابَ يُحقِّق نجاحًا على أحسنِ ما يُرام.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون [٢٩ مارس،
١٨٦٣]
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، مساء الجمعة [١٧ أبريل
١٨٦٣]
عزيزي هوكر
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١٨ أبريل [١٨٦٣]
عزيزي
لايل
[ردًّا على خطابِ والدي إلى دورية «ذا أثنيام» المذكور أعلاه، ظهر مقال في تلك الدورية (بتاريخ ٢ مايو ١٨٦٣، الصفحة ٥٨٦)، يتهم والدي بأنه يدَّعي أن آراءه وحدَها هي ما تتسم بالميزة الحصرية المتمثِّلة في أنها «تربط بخيطٍ واضح من الاستدلال المنطقي» عددًا من الحقائق في علم التشكُّل، وغيره. فيقول الكاتب إن «التعميمات المختلفة، التي استشهد بها السيد داروين واصفًا إياها بأنها لا ترتبط بعضها ببعض من خلالِ خيطٍ واضح من الاستدلال المنطقي إلا من خلال محاولته شرحَ تحوُّل مُعيَّن، ترتبط في الواقع بذلك التحوُّل على هذا النحو؛ أنها تُهيِّئ عقولَ علماء التاريخ الطبيعي لاستقبال مثل هذه المحاولات لشرح كيفية انبثاق الأنواع من أنواعٍ أخرى استقبالًا أفضل.»
ردَّ والدي على ذلك في دورية «ذا أثنيام» في ٩ مايو ١٨٦٣:]
داون، ٥ مايو [١٨٦٣]
آمُل أن تمنحوني الفرصةَ لأعترف بأن ناقدكم كان محقًّا تمامًا حين قال إن أيَّ نظرية عن الانحدار ستربط التعميمات المتعدِّدة المُحدَّدة سلفًا «بواسطة خيط واضح من الاستدلال المنطقي». يجب أن أُقرَّ بهذا الاعتراف صراحة، ولكن مع ذكرِ تحفُّظٍ مفادُه أنه لا توجد نظرية، على حد ظني، تستطيع أن تشرح هذه التعميمات المتعدِّدة (لا سيما تكوُّن السلالات الداجنة مقارنةً بالأنواع الطبيعية، ومبادئ التصنيف، والتشابه الجنيني، وما إلى ذلك) أو تربط بينها جيدًا على النحو الذي تُقدِّمه نظريةُ الانتقاء الطبيعي، أو فليُسمِّها الناقد فرضيةً أو تخمينًا، إذا شاء. ولا يوجد أيضًا أيُّ تفسيرٍ آخرَ مقنع لتكيُّف الكائنات الحية شبه التام بعضها مع بعض ومع ظروف حياتها الطبيعية. وسواء أكان عالِم التاريخ الطبيعي يؤمن بالآراء التي طرحها لامارك أو جوفري سانت إيلير أو مؤلِّف كتاب «بقايا» أو والاس، أو التي طرحتها أنا؛ فهذا ليس مهمًّا إطلاقًا مقارنةً بالاعتراف بأن الأنواع انحدرت من أنواعٍ أخرى، ولم تُخلَق غيرَ قابلة للتغيُّر؛ لأن مَن يعترف بهذا على أنه حقيقةٌ عظيمة، فسينفتح أمامه مجالٌ واسع لمزيد من البحث والتحري. ومع ذلك، أعتقد بِناءً على ما أراه من تقدُّم الآراء في القارة، وفي هذا البلد، أن نظرية الانتقاء الطبيعي ستُصبح هي النظرية المتَّبعة في نهاية المطاف، مع إضفاء العديد من التعديلات والتحسينات الثانوية عليها بالتأكيد.
[ترِد الإشارةُ فيما يلي إلى الخطاب المُرسل إلى دورية «ذا أثنيام» المذكور أعلاه:]
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
ليث هيل بليس،
السبت
[١١ مايو ١٨٦٣]
عزيزي
هوكر
أنت مُحق في نصيحتك بعدم الكتابة في الصحف؛ فها أنا ذا أكَزُّ على أسناني غضبًا من حماقتي، وليس هذا بسبب سخرية … التي كانت بارعةً جدًّا إلى حد أنني كدت أستمتع بها. لقد كتبتُ مرةً أخرى لأعترف بأنه محقٌّ فيما يقوله إلى حدٍّ ما، وإذا أقدمتُ على مثلِ هذه الحماقة مرةً أخرى بعدئذٍ على الإطلاق، فلا ترحمني. قرأتُ السخرية اللاذعة الواردة في مجلة «بابليك أوبينيون»؛ إنها ممتازة، إذا كان يوجد المزيد، وكانت لديك نسخة، فلتُعِرني إياها. إنها تُبيِّن بوضوحٍ شديد أنه من الأفضل لرجلِ العلم أن يُداس في التراب على أن يتشاجر. أعكفُ منذ فترةٍ على رسم المخطَّطات البيانية، وتشريح البتيلات، بينما يحَار عقلي إلى حدٍّ ميئوس منه عند التفكير بشأنِ تشعُّب الأوراق، لكني فشلت تمامًا بالطبع. غير أنني أرى أن الموضوع غريبٌ جدًّا ومذهل حقًّا …
[يُشير الخطابُ التالي إلى الخطابِ الرئاسي الذي ألقاه السيد بينثام أمام الجمعية اللينية (٢٥ مايو ١٨٦٣). لا يُذعِن السيد بينثام لنظريةِ التطوُّر الجديدة، و«لا يمكنه الاستسلام تمامًا ما دام العديدُ من الركائز الأساسية المهمة لم يزل محلَّ نزاع». لكنه يُوضِّح أن الجزء الأكبر من الآراء العلمية يتَّجه نحو الإيمان بالنظرية.
إنَّ تطرُّق السيد بينثام إلى ذِكر باستور متعلِّقٌ بالنظرية التي أصدرها ناقد الدكتور كاربنتر عن التولُّد التلقائي في دورية «ذا أثنيام» (٢٨ مارس ١٨٦٣)، «كما لو كان يصدِر فرمانًا إلزاميًّا». إذ يشير السيد بينثام إلى أن الكاتب، بتجاهله دحض باستور لحقائق التولُّد الذاتي المُفترَضة، لا يتصرَّف بتلك «الحيادية التي من المفترض أن يتحلَّى بها كل ناقد».]
من تشارلز داروين إلى جي بينثام
داون، ٢٢ مايو [١٨٦٣]
عزيزي
بينثام
أنا في غاية الامتنان لخطابك اللطيف والمثير للاهتمام. إنني مطمئِن إلى أن أي شيء سيقوله رجلٌ مثلك لن يضايقني إطلاقًا. وعلى الجانب الآخر، سأسعدُ جدًّا بأي استحسان من شخص أحترمُ رأيه ومعرفته بكل صدق منذ سنوات عديدة. إن الاعتراض الذي صغتَه ببراعة، متمثِّلًا في أن بعض الأشكال تظل على حالها دون تغيير عبْر نطاق زمني وحَيِّز مكاني طويلَين، منيع في ظاهره بلا شك، وفي حقيقته أيضًا إلى حدٍّ ما، وفقًا لتقديري. لكن ألَا يستند قدرٌ كبير من الصعوبة على أننا نفترض في صمتٍ أننا نعرف أكثرَ ممَّا نعرفه بالفعل؟ فالحق أنني لم أجدْ ما هو أكثر صعوبةً من محاولة تذكُّر جهلنا دائمًا. إنني لا أمَلُّ أبدًا، عندما أمشي في أي حي مجاور أو منطقة ريفية جديدة، من التفكير في مدى جهلنا التام لسبب عدم وجود بعض النباتات القديمة هناك، ووجود نباتات أخرى جديدة، ونباتات أخرى بنسبٍ مختلفة. إذا أدركنا هذا تمامًا مرةً واحدة، فهل يكون من العجيب جدًّا إذن عند الحكم على نظرية الانتقاء الطبيعي، التي تشير إلى أن الشكل سيبقى على حاله دون تغييرٍ ما لم يوجد تعديلٌ ما يخدم مصلحته، أن تتغيَّر بعضُ الأشكال بدرجةٍ أبطأ وأقل بكثير، وألَّا تتغيَّر بضعةُ أشكال على الإطلاق في ظل ظروفٍ تبدو لنا (نحن الذين لا نعرف ما هي الظروف المهمة إطلاقًا) مختلفةً جدًّا؟ من المؤكَّد أننا ربما كنا نتوقَّع ﺑ «الاستنتاج البديهي» أن كل النباتات التي أُدخلت قديمًا إلى أستراليا قد خضعت لبعض التعديلات؛ لكنَّ حقيقة أنها لم تُعدَّل لا تبدو لي صعوبةً بارزة بما يكفي لزعزعةِ اعتقادٍ قائم على حُججٍ أخرى. لقد عبَّرت عن نفسي على نحوٍ سيئ للغاية، لكني مُتوعِّك اليوم.
تغمرني سعادة بالغة لأنك ستُشير إلى باستور؛ لقد بهرني عمله بإعجابٍ لا متناهٍ. مع خالص الشكر، وأصدق تحياتي يا عزيزي بينثام.
من تشارلز داروين إلى جي بينثام
داون، ١٩ يونيو [١٨٦٣]
عزيزي
بينثام
١٨٦٤
[وَرَد هذا الإدخال في مفكرةِ يوميات والدي ضِمن أحداث عام ١٨٦٤: «مريض طوال يناير وفبراير ومارس.» وفي منتصف أبريل تقريبًا (أي بعد سبعة أشهر من بداية مرضه في الخريف السابق) تحسَّنت صحتُه. وحالما صار قادرًا على تأدية أي عمل، بدأ في كتابة ورقتيه البحثيتين عن جنس الخثري، وعن «النباتات المتسلِّقة»؛ ولذا فالعمل الذي يعنينا الآن لم يبدأ إلا في سبتمبر، عندما شرع مرةً أخرى في العمل على كتابه «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين». ويقدِّم أحدُ الخطابات إلى السير جيه دي هوكر نبذةً عن استئناف العمل؛ إذ يقول والدي فيه: «بدأتُ أتفحَّص مخطوطتي القديمة، وهي تبدو جديدةً عليَّ كما لو أنني لم أكتبها من قبل؛ توجد فيها أجزاءٌ مملَّة إلى حدٍّ مذهل، لكنها تستحق الطباعة، على ما أظن؛ وأجزاء أخرى تبدو لي جيدةً جدًّا. إنني مليونير، بكلِّ معنى الكلمة، وثروتي من الحقائق الصغيرة الغريبة والعجيبة، وقد ذُهلت حقًّا من جَودة العمل عندما كنت أقرأ فصولي عن الوراثة والانتقاء. الرب وحدَه يعلم متى سيكتمل الكتاب — إن اكتمل أصلًا — لأنني أجد أنني واهن جدًّا، وحتى في أفضل أيامي، لا أستطيع العملَ أكثرَ من ساعة أو ساعة ونصف. هذا أصعبُ بكثير من الكتابة عن نباتاتي المتسلِّقة العزيزة.»
حصل في هذا العام على أعظمِ تكريمٍ يُمكن أن يحصل عليه أيُّ عالِم في هذا البلد؛ وسام كوبلي من الجمعية الملكية. يُقدَّم هذا الوسام في اجتماع الذكرى السنوية في عيد القديس أندرو (٣٠ نوفمبر)، وعادةً ما يكون الحاصل عليه حاضرًا لتسلُّمه، لكنَّ حالة والدي الصحية منعته من ذلك. أرسل خطابًا إلى السيد فوكس عن هذا الموضوع قائلًا:
«سُررتُ برؤية خط يدك. يُعَدُّ وسام كوبلي تكريمًا عظيمًا؛ لأنه يُمنَح على الإنجازات في جميع مجالات العلوم وعلى نطاق العالم بأسره، لكنَّ مثل هذه الأشياء، باستثناء عدةِ خطابات لطيفة، لا تُشكِّل لديَّ فارقًا كبيرًا. غير أنه يُوضِّح أن الانتقاءَ الطبيعي يحرز بعضَ التقدُّم في هذا البلد، وهذا يسعدني. بالرغم من هذا، فالموضوع مرحَّب به في أراضٍ أجنبية.»
وكتب إلى السير جيه دي هوكر أيضًا، قائلًا:
«كم كنتَ لطيفًا في ردِّ فعلِك على نَيلي هذا الوسام؛ الحق أنني أنعَم بالكثير من الأصدقاء الطيبين، وقد تلقَّيت أربع رسائل أو خمسًا ملأتني بالسرور. كثيرًا ما أتعجَّب من أنَّ عجوزًا باليًا مثلي لم يُصبح طيَّ النسيان التام. بمناسبة الحديث عن الأوسمة، هل حاز فالكونر الوسامَ الملكي؟ يحق له أن يحصل عليه بالطبع، مثلما يحق لجون لوبوك أن يحصل عليه. وبهذه المناسبة، يُخبرني هذا الثاني بأن بعض أعضاء الجمعية الملكية القُدامى صُدِموا بشدة من حصولي على وسام كوبلي. هل تعرف مَن هم؟»
وأرسل خطابًا إلى السيد هكسلي، قائلًا:
«يجب أن أردَّ عليك وسأرد عليك؛ إذ يسرني حقًّا أن أشكرك من صميم قلبي على رسالتك. ذلك أن رسالةً كرسالتك هذه، وبضع رسائل أخرى، هي الوسام الحقيقي لي، لا تلك القطعة الذهبية. لقد غمَرَتني مثل هذه الرسائل بسعادةٍ ستدوم طويلًا؛ لذا فلتُصدِّق شُكري الخالص النابع من أعماق قلبي على رسالتك.»
تحدَّث السير تشارلز لايل، في خطابٍ أرسله إلى والدي في نوفمبر ١٨٦٤ (كتاب «قصة حياة السير تشارلز لايل وخطاباته ويومياته»، المجلَّد الثاني، الصفحة ٣٨٤)، عن الساخطين المزعومين قائلًا إنهم كانوا خائفين من منح الوسام على عملٍ غير تقليدي جدًّا ككتاب «أصل الأنواع». لكنه يُضيف أنهم، إذا كانوا يحملون هذه المشاعرَ حقًّا، ﺑ «قد تحلَّوا بالحس العقلاني السليم وكبحوها داخلهم». بالرغم من ذلك، يبدو من الخطابِ نفسه أن اقتراح منح والدي وسام كوبلي في العام السابق لم يحظَ بالتأييد لحالةٍ مشابهة تتمثَّل في الافتقار إلى الشجاعة الكافية، وهو ما أغضب لايل بشدة.
في عدد دورية «ذا ريدر»، بتاريخ ٣ ديسمبر ١٨٦٤، نُشر تقرير مطوَّل بعض الشيء عن خطاب الجنرال سابين الرئاسي في اجتماعِ ذكرى التأسيس السنوية. ولقد أشيد على نحوٍ خاص بعمل والدي في الجيولوجيا وعلم الحيوان وعلم النبات، أمَّا الإشادة التي حَظِي بها عن كتاب «أصل الأنواع» فهي أنه يتضمَّن «مجموعةً هائلة من الملاحظات … إلى آخره». ومن الغريب أن تكريمه في هذه الحالة لم يكن على عمل حياته العظيم، بل على عملٍ أقل أهميةً في مجالات خاصة، وحدث ذلك أيضًا في حالة انتخابه في المعهد الفرنسي. جاءت الفقرة التي تُشير إلى كتاب «أصل الأنواع» في خُطبة الجنرال سابين على النحو التالي:
«في أحدث أعماله «عن أصل الأنواع»، وبالرغم من أن الآراء قد تكون منقسمةً بشأن جَدارة الكتاب في بعض النواحي أو لم تتحدَّد بعد، فسيعترف الجميع بأنه يحوي مجموعةً هائلة من الملاحظات المتعلِّقة بعادات الحيوانات وبنيتها وصِلات القرابة بينها وتوزيعها، والتي قد لا يوجد ما يُضاهيها في الفائدة والدقة والصبر على الرصد والملاحظة. ربما يميل البعض منا إلى قَبول النظرية التي يُشير إليها عنوان هذا العمل، بينما قد يميل آخرون إلى رفضها، أو على الأقل إرجاء اتخاذ قرار بشأنها إلى وقتٍ ما في المستقبل لحين اكتساب مزيد من المعرفة يُتيح أسبابًا أقوى لقَبولها التام أو رفضها. ولهذا؛ فقد اتفقنا بصفةٍ عامة وبشكلٍ جماعي على حذف هذا العمل صراحةً من الأُسس التي منحْنا الجائزةَ استنادًا إليها.»
أعتقد أنني محق في القول إنَّ بعض زملاء الجمعية شعروا باستياء شديد من أسلوب الرئيس في الحديث عن كتاب «أصل الأنواع».
هذا، وكان منْح وسام كوبلي مفيدًا بطريقة أخرى أيضًا؛ لأنه دفع السير سي لايل، في خُطبته التي ألقاها بعد العشاء، إلى «الجهر بمدى إيمانه بكتاب «أصل الأنواع»». إذ قال في خطابٍ إلى والدي (كتاب «قصة حياة السير تشارلز لايل وخطاباته ويومياته»، المجلَّد الثاني، الصفحة ٣٨٤): «قلتُ إنني قد اضطُررت إلى التخلِّي عن إيماني القديم دون أن أرى طريقي إلى إيمانٍ جديد بوضوح تام. لكني أظن أنك كنت ستَقنَع بالمدى الذي بلغتُه.»]
من تشارلز داروين إلى تي إتش
هكسلي
داون، ٣ أكتوبر [١٨٦٤]
عزيزي هكسلي
كم أعجب من قدرتك على مقاومةِ التحوُّل إلى ناقدٍ منتظم متفرِّغ! حسنًا، ها أنا ذا قد انفجرت الآن، وقد أراحني ذلك بشدة …
[وفي المقالة نفسِها في دورية «ناتشورال هيستوري ريفيو»، يتحدَّث السيد هكسلي عن كتاب فلورانس، السكرتير الدائم لأكاديمية العلوم الفرنسية، المُشار إليه أعلاه، واصفًا إياه بأنه واحد من «انتقادَين هما الأكثر تفصيلًا واستفاضة» عن كتاب «أصل الأنواع» في ذلك العام. ويقتبس منه الفقرة التالية:
«يواصل السيد داروين قائلًا: «لا يوجد فرقٌ مُطلق بين الأنواع والضروب، ومن المحال أن يوجد مثلُ هذا الفرْق! لقد أخبرتكم بالفعل بأن ذلك خطأ؛ إذ يوجد فرقٌ مُطلق يفصل الأنواعَ عن الضروب.» ويُعلِّق السيد هكسلي على هذا قائلًا: «نظرًا إلى أننا محرومون من بركاتِ وجودِ أكاديمية للعلوم في إنجلترا، فلسنا معتادين أن نرى أبرعَ رجالنا يلقَون مثل هذه المعاملة، حتى ولو من سكرتير دائم.» وبعدما أثبت السيد هكسلي سوءَ فهمِ السيد فلورانس لمسألة الانتقاء الطبيعي، يقول: «أنَّى للمرء أن يعرف كلَّ ذلك عن ظهر قلب، وما أشدَّ ارتياحه وهو يقرأ، في الصفحة ٦٥، جملة «إنني أضع القلم عن السيد داروين»».»
وبخصوص الموضوع نفسِه، كتب والدي في خطاب إلى السيد والاس:
«ثمَّة شخص نافذ مرموق يُدعى فلورانس، ألَّف كتابًا ضعيفًا بعض الشيء ينتقدني فيه، وقد سُررتُ به جدًّا؛ لأنه من الواضح أن عملنا الجيد ينتشر في فرنسا. يتحدَّث كاتبه عن «الافتتان الشديد» بهذا الكتاب، قائلًا إنه «مليء بأفكارٍ فارغة افتراضية».» جاءت الفقرة المشار إليها على النحو التالي:
«ظهر عمل السيد داروين أخيرًا. لا يسَع المرءَ سوى أن يُبهَر بموهبة المؤلِّف. ولكن يا لها من أفكارٍ مبهمة وأفكار خاطئة! فكم يستخدم من المصطلحات الميتافيزيقية ويُقحمها بطريقةٍ غيرِ لائقة في التاريخ الطبيعي، ويتضح أنها محضُ هراء حالما تصطدم بأفكار واضحة؛ أفكار صحيحة! يا لها من لغة طنَّانة فارغة! يا لها من تجسيدات صبيانية عفا عليها الزمن! يا أيها الوضوح، ويا صلابة الروح الفرنسية، ماذا دهاكما؟»]
١٨٦٥
يُشير الخطاب التالي إلى خُطبةِ دوق آرجايل التي ألقاها أمام الجمعية الملكية في إدنبرة في الخامس من ديسمبر عام ١٨٦٤، والتي ينتقد فيها كتاب «أصل الأنواع». ويبدو أن والدي قرأ خُطبة الدوق كما وردت في صحيفة «ذا سكوتسمان» في السادس من ديسمبر عام ١٨٦٥. وقد كتب لايل في خطاب إلى والدي (١٦ يناير ١٨٦٥، كتاب «قصة حياة السير تشارلز لايل وخطاباته ويومياته»، المجلَّد الثاني، الصفحة ٣٨٥): «الخُطبة بمثابةٍ خطوة كبيرة نحو تأييد آرائك، أكبر بكثير، حسب ما أعتقد، ممَّا تبدو عليه عندما تُقرأ بالنظر إلى الانتقادات والاعتراضات فحسب.»]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٢٢ يناير ١٨٦٥
عزيزي
لايل
نبعثُ نحن (المملي والكاتبة) بأشدِّ محبتنا إلى الليدي لايل.
[قال والدي في مُلخَّص سيرته الذاتية إن شعوره بشرفِ اختياره ليكون عضوًا في جمعية إدنبرة الملكية وجمعية إدنبرة الطبية الملكية «فاق شعوره بأي شرف مشابه»؛ وذلك بسببِ ذكريات قديمة مُعيَّنة. تشير الفقرة التالية المقتبسة من خطابٍ إلى السير جوزيف هوكر، إلى اختياره عضوًا في الجمعيتَين السابقتَين. ويُشير الجزء الأخير من الفقرة إلى أكاديمية برلين للعلوم التي اختير عضوًا فيها في عام ١٨٧٨:
«سأخبرك بشيء غريب جدًّا بالنظر إلى أن بروستر هو الرئيس وبَلفور هو السكرتير. لقد وقع عليَّ الاختيار لأكون عضوًا فخريًّا في جمعية إدنبرة الملكية. وهذا يقودني إلى سؤالٍ ثالث. هل تُرسل أكاديمية برلين للعلوم مَحاضرَ اجتماعاتها إلى الأعضاء الفخريين؟ أريد أن أعرف لأتيقَّن ممَّا إذا كنتُ عضوًا أم لا؛ أفترضُ أنني لست كذلك؛ لأنني أعتقد أنني كنت سأتذكَّر ذلك، بالرغم من هذا، أتذكَّر بوضوح أنني تلقَّيتُ شهادةً رسمية ممهورةً بتوقيع إرينبرج. لقد كنت في منتهى الإهمال؛ إذ ضيَّعتُ العديدَ من الشهادات الرسمية، وأُريد الآن أن أعرف الجمعيات التي أنتمي إليها؛ لأنني أُلاحظ أن كل [شخص] يضيف ألقابه إلى اسمه في كتالوج الجمعية الملكية.»]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٢١ فبراير [١٨٦٥]
عزيزي
لايل
لقد تأخَّرتُ كثيرًا في أن أشكرك جزيلَ الشكر على كتاب «عناصر الجيولوجيا» الذي أهديتَني إياه.
أُطالعه كله بإمعان؛ إذ أقرأ كلَّ الأشياء الجديدة، والأشياء التي نسيتها، وهي كثيرة.
إنني شديدُ الانبهار بمقدارِ ما كُثِّف في هذا العمل من جهدٍ ومعرفةٍ وتفكيرٍ واضح. أرى أنه برُمَّته عظيم جدًّا. وما أثار اهتمامي بالأخص هو كلامك عن عمل هير، وحديثك عن قارة أتلانتس. سُررتُ جدًّا بالرأي الذي تتبنَّاه إزاء الموضوع؛ فلطالما رأيت أن فوربس قد أضرَّ به بتشكيل القارات على هواه بكل حرية.
سُررتُ للغاية أيضًا بقراءة حجَّتك المتعلِّقة بتعرية منطقة ويلد، ومُلخَّصك الممتاز عن طبقات بوربيك، وهذه هي النقطة التي وصلتُ إليها حاليًّا في كتابك. لا أستطيع القول إنني مقتنع تمامًا بعدمِ وجود صلةٍ غير تلك التي أشرتَ إليها بين التأثير الجليدي وتكوين أحواض البحيرات؛ لكنك لن تولي رأيي في هذه النقطة قيمةً كبيرة؛ لأنني غيَّرت رأيي بالفعل حوالي ست مرات.
أُريد أن أعرض عليك اقتراحًا. لقد وجدت أن وزن مجلَّدك لا يُحتمل، لا سيما عندما يُمسكه المرء مستلقيًا؛ لذا فلتتحلَّ بجرأة كبيرة وتقسمه إلى جزأَين، وتُخرجه من غلافه؛ ألَا يستطيع أن يُضيف موراي الآن، دون أي تغيير آخر، إلى إعلانه سطرًا يقول فيه «إذا جُلِّد في مجلَّدَين، فسيتكلَّف مبلغًا إضافيًّا قدرُه شلن أو شلن وستة بنسات»؟ وبهذا تكون قد أجريت تغييرًا سيكون بمثابة نعمة لجميع القُرَّاء ذوي الأيادي الضعيفة.
فلتمُنَّ «بنعمة حقيقية» ثانية، وتطلب قطع حواف الأوراق آليًّا، ككتاب مجلَّد.
من تشارلز داروين إلى جون لوبوك
داون، ١١ يونيو [١٨٦٥]
عزيزي
لوبوك
أتمنَّى لك من صميم قلبي كلَّ التوفيق في انتخابك وفي السياسة. وبعدما قرأتُ ذاك الفصل الأخير، يجب أن تدعني أقول: وي! وي! وي!
[يشير الخطاب التالي إلى كتاب فريتز مولر، «من أجل داروين»، الذي ترجمه السيد دالاس لاحقًا بِناءً على اقتراح والدي. وهو مهم لأنه باكورةُ سلسلةٍ طويلة من الخطابات التي كتبها والدي إلى هذا العالِم البارز المتخصِّص في التاريخ الطبيعي. وصحيحٌ أنهما لم يلتقيا قط، لكن مراسلاته مع مولر، التي استمرَّت حتى نهاية حياة والدي، كانت مصدرَ سعادة بالغة له. وأعتقد أن فريتز مولر أكثرُ مَن كان يحظى بتقدير والدي، من بين كل أصدقائه الذين لم يلتقِهم. تجدر الإشارة إلى أنَّ لفريتز مولر شقيقًا آخرَ من البارزين أيضًا، وهو الراحل هيرمان مولر، مؤلِّف كتاب «تلقيح الأزهار»، والعديد من الأعمال القيِّمة الأخرى:]
من تشارلز داروين إلى إف مولر
داون، ١٠ أغسطس [١٨٦٥]
سيدي
العزيز
اسمح لي مرةً أخرى بأن أشكرك من أعماق قلبي على السرور الذي غمرني به كتابك، وأن أُعبِّر عن إعجابي الصادق بأبحاثك القيِّمة.
هل تستطيع أن تعطيني صورةً فوتوغرافية لك؟ أرغب جدًّا في أن تكون لديَّ صورة لك.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، الخميس، ٢٧ [سبتمبر
١٨٦٥]
عزيزي هوكر
[في أكتوبر، كتب في خطاب إلى السير جيه دي هوكر:
«بمناسبة الحديث عن كتاب «أصل الأنواع»، لَفَت رجلٌ أمريكي انتباهي إلى ورقةٍ بحثية مرفقة بالكتاب الشهير «مقالة عن الندى»، الذي ألَّفه الدكتور ويلز، وقُرئ في عام ١٨١٣ أمام الجمعية الملكية، لكنَّه لم يُطبَع [آنذاك]، وهو يُطبِّق فيها مبدأ الانتقاءَ الطبيعي بوضوحٍ شديد على أعراق الإنسان. أي إن باتريك ماثيو العجوز المسكين ليس الأول، ولا يستطيع بعد الآن أن يضع على صفحات عناوين كتاباته جُملة «مكتشف مبدأ الانتقاء الطبيعي»، أو الأحرى أنه لا ينبغي له ذلك!»]
من تشارلز داروين إلى إف دبليو
فارار٣٩
داون، ٢ نوفمبر [١٨٦٥؟]
سيدي العزيز
لقد قرأتُ كتابات ماكس مولر سابقًا، وارتأيتُ أن نظريته (إذا كانت تستحق أن تُسمَّى بالنظرية) مبهمة وضعيفة، والآن، بعدما سمعتُ ما تقوله، صرتُ مُتيقِّنًا من أن هذا صحيح بالفعل، وأن قضيتك ستنتصر في النهاية. لقد ازداد اهتمامي غير المباشر بكتابك بسبب السيد هينزلي ويدجوود، الذي تستشهد بكلامه مرارًا؛ لأنه شقيق زوجتي.
لا يمكن لأحد أن يعارض آرائي عن تعديل الأنواع بطريقة أكثر تأدُّبًا من تلك التي تعارضني بها. بالرغم من ذلك، فبِناءً على الطابع الذي يتسم به عقلك، تراودني قناعةٌ تامة خالية من أي ريب (ولا يمكن زعزعتها) بأن دراساتك إذا دفعتك إلى الاهتمام بالمسائل العامة في التاريخ الطبيعي كثيرًا، فستصل إلى النتيجة نفسها التي توصَّلتُ إليها.
هل سبق لك على الإطلاق أن قرأت كُتَيب محاضرات هكسلي؟ سأرسل إليك نسخةً بكل سرور إذا ارتأيتَ أنك تود قراءته.
بالنظر إلى ما تُعلِّمنا إياه الجيولوجيا، أرى أن الحجة القائمة على افتراض عدم قابلية أنواعٍ معينة للتغيُّر شبيهة جدًّا بأن يقول همجي عجوز حكيم ما، في أمة ليس لديها كتابات قديمة، إن لغته لم تتغيَّر قط؛ لكنَّ استعارتي أطول من أن أستطيع إكمالها.
مع أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي وامتناني يا سيدي العزيز.
١٨٦٦
[دُوِّنت أبرز أحداث عام ١٨٦٦ في دفتر يوميات والدي بالكلمات التالية:
«واصلتُ تصحيح فصول «تباين الحيوانات والنباتات».
١ مارس: بدأتُ في العمل على الطبعة الرابعة من كتاب «أصل الأنواع»، التي تكوَّنت من ١٢٥٠ نسخة (تقاضى مقابلها ٢٣٨ جنيهًا إسترلينيًّا)، ما جعل إجمالي نسخ الكتاب ٧٥٠٠ نسخة.
١٠ مايو: أتممتُ كتاب «أصل الأنواع»، باستثناء التنقيحات، وبدأتُ في مراجعة الفصل الثالث عشر من كتاب «تباين الحيوانات والنباتات».
٢١ نوفمبر: أتممتُ الجزء المتعلِّق بفرضية «شمولية التكوين».
٢١ ديسمبر: أتممتُ إعادةَ مطالعة الفصول كلها، وأرسلتها إلى المطابع.
٢٢ ديسمبر: بدأتُ الفصل الختامي من الكتاب.»
ذهب إلى لندن مرتَين، وظلَّ هناك أسبوعًا في كل مرة حيث مكث مع شقيقه، وأقام بضعة أيام (من ٢٩ مايو إلى ٢ يونيو) في سُري؛ وقضى في داون بقيةَ العام.
ويبدو أن صحته شهدت تحسُّنًا تدريجيًّا؛ فهكذا قال في خطاب إلى السيد والاس (يناير ١٨٦٦): «صحتي في حالةٍ جيدة حتى الآن إلى حد أنني أستطيع العملَ ساعة أو اثنتَين في اليوم.»
كَتَب خطابًا إلى السير جيه دي هوكر بخصوص الطبعة الرابعة، قائلًا:
لا أستطيع أن أصف كم أن هذا كلَّه ضايقني. كلُّ ما قرأته في السنوات الأربع الماضية وجدته باهتًا جدًّا في ذهني.» على حد علمي، لم تُذكَر ورقةُ السيد بيتس في الطبعات اللاحقة من «أصل الأنواع»، ولا يمكنني معرفة السبب.
أعرضُ هنا مقتطفاتٍ من ثلاثة خطابات أرسلها إلى السيد هكسلي بخصوص كتابه «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»، وهي مهمة لأنها تُعطي فكرةً ما عن تطوُّر نظرية «شمولية التكوين»، التي نُشرت في النهاية في ١٨٦٨ في الكتاب محل النقاش:]
من تشارلز داروين إلى تي إتش
هكسلي
داون، ٢٧ مايو
[١٨٦٥؟]
… أكتبُ الآن لأطلب منك صنيعًا، وهو صنيع جليل جدًّا من شخصٍ دءوب مثلك. أطلب منك أن تقرأ ثلاثين صفحةً من مخطوطة منسوخة بجودة ممتازة، ولستُ أطلب منك أن تُقدِّم عليها انتقاداتٍ مُطوَّلة، بل رأيك فيما إذا كان بإمكاني أن أتجرَّأ على نشرها. يمكنك الاحتفاظُ بالمخطوطة شهرًا أو اثنَين. لم أكن سأطلب هذا الصنيع، لكني «صدقًا» لا أعرف أي شخص آخر سيكون حكمه على هذا الموضوع حاسمًا نهائيًّا من وجهة نظري.
الموقف كالتالي: سأنشر في كتابي القادم فصولًا طويلةً عن تباين البراعم والبذور، وعن الوراثة والارتداد، وآثار الاستخدام وعدم الاستخدام، وغير ذلك. وأنا أُفكِّر أيضًا منذ سنوات عديدة بشأن أشكال التكاثر المختلفة. ومن ثَم، صرتُ شغوفًا بمحاولة الربط بين كل هذه الحقائق بفرضيةٍ ما. والمخطوطة التي أود إرسالها إليك تُقدِّم هذه الفرضية؛ صحيح أنها فرضية مُتسرِّعة ومبدئية جدًّا، لكنها منحتني ارتياحًا عقليًّا كبيرًا، وأستطيع أن أبني عليها مجموعاتٍ كثيرةً جدًّا من الحقائق. أعرف جيدًا أن الفرضية عندما تكون فرضيةً بحتة، وهذه لا تعدو كونها ذلك، تكون ضئيلةَ القيمة، لكنَّ هذه الفرضية مفيدة جدًّا لي لأنها تُعَدُّ بمثابة تلخيص لفصولٍ مُعيَّنة. الآن، أرغبُ بشدة في أن تُصدِر حكمك بإيجاز، كأن تقول لي «احرقها»، أو تقول، وهذا هو أفضلُ حُكمٍ مُستحسن يُمكن أن أتمنَّاه، «إنها تربط ربطًا مبدئيًّا بين حقائقَ مُعيَّنة، ولا أظنها ستفارق عقلي على الفور». إذا استطعت أن تقول هذا القدر الكبير، ولم تَرَها سخيفةً تمامًا، فسأنشرها في فصلي الختامي. الآن هل ستسدي إليَّ هذا الصنيع؟ يجب أن ترفض إذا كنت منهكًا من فرط العمل.
يجب أن أقول عن نفسي إنني بطل لأنني أُعرِّض فرضيتي لمصيبة انتقادك الشديدة.
١٢ يوليو [١٨٦٥؟]
عزيزي
هكسلي
أشكرك من صميمِ قلبي على أنك درست مخطوطتي بإمعانٍ شديد جدًّا. لقد كان هذا تصرُّفًا لطيفًا حقًّا. كنتُ سأتضايق للغاية لو أنني أعدتُ نشر آراء بوفون، والتي لم أكن أعرف بها، لكني سأحصل على الكتاب؛ وإذا أسعفتني عافيتي، فسأقرأ ما كتبه بونيه أيضًا. لا أشك في أن حكمك عادلٌ تمامًا، وسأحاول إقناعَ نفسي بعدم النشر. المسألة برُمَّتها أشدُّ اعتمادًا على التخمين ممَّا ينبغي، وإن كنتُ أرى أنه سيتحتَّم تبني مثل هذه الرؤية، عندما أتذكَّر بعضَ الحقائق مثل الآثار الموروثة للاستخدام وعدم الاستخدام، وما إلى ذلك. لكني سأُحاول توخِّي الحذر …
[١٨٦٥؟]
عزيزي
هكسلي
سامحني على كتابتي بالقلم الرصاص؛ فهذا ما أستطيع فِعله وأنا مستلقٍ. قرأتُ ما كتبه بوفون؛ توجد صفحاتٌ كاملة تشبه ما كتبتُه إلى حدٍّ مثير للضحك. من المدهش كَم أن المرء يصبح صادقًا عندما يرى آراءه ممثَّلةً في كلماتِ رجلٍ آخر. إنني خجلان بعضَ الخجل من المسألة برُمَّتها، لكني لم أُصبح غير مؤمن بها. لقد أسديت لي صنيعًا كبيرًا ﺑ «حدة ملاحظتك الثعلبية». ومع ذلك، يوجد فرقٌ جوهري بين آراء بوفون وآرائي. فهو لا يفترض أن كل خلية أو ذرة من الأنسجة تطرح برعمًا صغيرًا، بل يفترض أن النسغ أو الدم يتضمَّن «جزيئاتِه العضوية»، «التي تتشكَّل بالفعل» ملائمةً لتغذية كل عضو، وعندما يكتمل تشكيلُ هذا العضو، تتجمَّع هذه الجزيئات لتُشكِّل البراعمَ والعناصر الجنسية. صحيحٌ أن التكهُّن بالطريقة التي تكهَّنتُ بها محضُ هراء، لكني، إذا أسعفتني عافيتي على الإطلاق لنشر كتابي القادم، أخشى ألَّا أُقاوم إغراءَ فرضية «شمولية التكوين»، لكني أُؤكِّد لك أنني سأُدرجها بتواضعٍ كافٍ. أرى أن المسار العادي لتطوُّر الكائنات التي تتكوَّن فيها أعضاءٌ جديدة في مواضعَ بعيدة جدًّا عن الأجزاء السابقة المشابهة، مثل كائنات شوكيات الجلد، من الصعب للغاية أن يتوافق مع أي رأي ما عدا الرأي القائل بوجود انتشارٍ حر في أصل أجنَّة كل عضو جديد منفصل أو بُريعماته، وكذلك الأمر في حالات الأجيال المتعاقبة. لكني لن أُطيل الثرثرة عن هذا القدر. أشكرك من صميم قلبي يا أفضلَ النقاد وأعلم الرجال …
[تتناول الخطابات التالية تاريخ عام ١٨٦٦.]
من تشارلز داروين إلى إيه آر
والاس
داون، ٥ يوليو [١٨٦٦]
عزيزي والاس
آمُل أنك تستمتع بالريف، وتحظى بصحةٍ جيدة، وتعمل بجدٍّ على كتابك عن أرخبيل الملايو؛ لأنني سأضع هذه الأمنيةَ دائمًا في كل رسالة أكتبها لك، كما يفعل بعض الأشخاص الصالحين؛ إذ يضعون نصًّا مقدَّسًا. لا تزال صحتي كما هي إلى حدٍّ كبير، أو تتحسَّن بعضَ التحسُّن، وأستطيع العمل يوميًّا لبضع ساعات. مع جزيل الشكر على خطابك المثير للاهتمام.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ٣٠ أغسطس [١٨٦٦]
عزيزي هوكر
سُررتُ بأنك ستنشر محاضرتك، وكنت متيقِّنًا من أن هذا سيحدث عاجلًا آم آجلًا، بل إن عدم نشرك لها كان سيُعدُّ خطيئة. وما يسرني بالأخص أنك تُقدِّم الحججَ المؤيِّدة للانتقال العَرَضي بإنصاف تام، ومن ثمَّ فستحظى الآن بنصيبٍ عادل من الاهتمام؛ إذ وردَت من متخصِّص متمرِّس في علم النبات مثلك. أشكرك أيضًا على خُطبة جروف؛ أراها جيدةً وإبداعية جدًّا ككل، لكن الجزء المتعلِّق بالأنواع أصابني بخيبةِ أمل؛ إذ تَنَاول الموضوع بتعميماتٍ جعلته قابلًا للتطبيق على أي رأي أو غير قابل للتطبيق على رأي محدَّد …
والآن، إلى اللقاء. إنني مسرور جدًّا من صميم قلبي بنجاحك، ومسرور لجروف بالنجاح الباهر الذي حقَّقه التجمُّع كله.
[الخطاب التالي مهم لأنه يعرض بدايةَ العلاقة التي نشأت بين والدي والبروفيسور فيكتور كاروس. والترجمة المشار إليها هي الطبعة الألمانية الثالثة التي نُقِلَت عن الطبعةِ الإنجليزية الرابعة. ومنذ ذلك الحين، واصل البروفيسور كاروس ترجمةَ كتب والدي إلى الألمانية. وتجدُر الإشارة إلى أن العناية الدقيقة التي أُنجِزت بها هذه الترجمات قد جاءت بنفعٍ عظيم، وأتذكَّر جيدًا ما كان والدي يُبديه عادةً من إعجاب (وإن كان ممتزجًا بقدرٍ طفيف من الضيق من أخطائه) عند استقبال الملاحظات بشأنِ ما غفَل عنه، وما إلى ذلك، والتي كان البروفيسور كاروس يكتشفها في أثناء الترجمة. لم تكن علاقتهما تقتصر على العمل، بل توطَّدت بمشاعر الاحترام الودية من كلَيهما.]
من تشارلز داروين إلى فيكتور
كاروس
داون، ١٠ نوفمبر ١٨٦٦
سيدي العزيز
… ليتني كنت أعلم عند كتابة مُلخصي التاريخي أنك نشرت في عام ١٨٥٣ آراءك عن الارتباط النَّسَبي بين الأشكال السابقة والحالية.
أفترضُ أن لديك أوراقَ الطبعة الإنجليزية الأخيرة التي وضعتُ فيها علاماتٍ بالقلم الرصاص على كل الإضافات الرئيسية، لكنها تحوي العديد من التصحيحات البسيطة في الأسلوب غير مُعلَّمة.
أرجو أن تُصدِّق أنني ممتن بكلِّ صدق للخدمة الجليلة والشرف الكبير اللذَين منحتني إياهما بالترجمة الحالية.
من تشارلز داروين إلى سي ناجيلي٤٨
داون، ١٢ يونيو [١٨٦٦]
سيدي العزيز
أرجو أن تسامحني على إرسال خطابٍ إليك من تلقاء نفسي دون إذن. لقد قرأت للتو كُتَيبك «أصل ومفهوم، إلخ»، وإن كانت قراءةً غير مُتقَنة، وقد أثار بالغَ اهتمامي إلى حد أنني أرسلته ليُترجَم؛ لأنني ضعيف في اللغة الألمانية. أتممت للتو طبعةً جديدة [رابعة] من كتابي «أصل الأنواع» ستُترجَم إلى الألمانية، وغايتي من إرسال هذا الخطاب هي إخبارك بأنك، إذا طالعت هذه الطبعة، فستظن أنني اقتبست منك مناقشتَين عن جمال الزهور والثمار، دون الاعتراف بذلك، لكني أُؤكِّد لك أن كلَّ كلمة كانت قد طُبِعَت بالفعل قبل أن أفتح كُتَيبك. إذا كنت ترغب في الحصولِ على نسخة من الطبعة الألمانية الجديدة أو الطبعة الإنجليزية الجديدة، فسأفتخر بإرسال نسخة إليك. ربما لي أن أضيف، بخصوص جمال الزهور، أنني قد ألمحت بالفعل في ورقتي البحثية عن جنس الخثري إلى الآراء نفسِها التي تتبنَّاها.
نظرًا إلى أنني أرغب بشدة في الحصول على صورتك الفوتوغرافية، فقد سمحتُ لنفسي من دون إذن بإرفاق صورتي مع هذا الخطاب، مع أصدقِ احترامي يا سيدي العزيز.
[أعرضُ بعض المقتطفات من خطابات ذات تواريخ مختلفة تُظهر اهتمام والدي، المُشار إليه في الخطاب الأخير، بمسألة ترتيب الأوراق على سيقان النباتات. ويمكن القول أيضًا إن البروفيسور شفيندينر من برلين قد تناول المسألةَ بنجاح في كتابه «النظرية الميكانيكية لمواضع الأوراق»، ١٨٧٨.
إلى الدكتور فالكونر
٢٦
أغسطس [١٨٦٣]
«هل تتذكَّر نصيحتك لي بدراسة ترتيب الأوراق؟ حسنًا، كثيرًا ما تمنَّيت أن تهوي إلى قاع البحر؛ لأنني لم أستطِع المقاومة، وأربكت عقلي بالمخطَّطات البيانية، وما إلى ذلك، وبالعينات، ولم أصل إلى أي شيء، كما كان من المفترض أن أتوقَّع. هذه الزوايا مسألةٌ عجيبة للغاية، وأتمنَّى أن أرى شخصًا يُقدِّم تفسيرًا منطقيًّا لها.»
إلى الدكتور آسا جراي
١١
مايو [١٨٦١]
إلى الدكتور آسا جراي
[٣١ مايو ١٨٦٣؟]
«كنت أُطالع عملَ نيجالي عن هذا الموضوع، ودُهِشت إذ رأيت أن الزاوية في البتيلات الحديثة، عندما تصبح براعم الأوراق ملحوظةً لأول مرة، لا تكون مطابقةً دائمًا للزاوية في الفروع المكتملة النمو. أظن أن هذا يُبيِّن وجودَ سبب قوي بالتأكيد لتلك الزوايا؛ أعتقد أن لها تفسيرًا بسيطًا كتفسير زوايا خلايا النحل.»
تراسَل والدي أيضًا مع الدكتور هوبرت إيري وكان مهتمًّا بآرائه عن الموضوع، التي نُشرت في دورية «رويال سوسايتي بروسيدينجز»، عام ١٨٧٣، الصفحة ١٧٦.
نعود الآن إلى أحداث عام ١٨٦٦.
في نوفمبر، عندما كانت مقاضاة الحاكم إير تقسم إنجلترا إلى حزبَين شديدي الخصام، أرسل خطابًا إلى السير جيه هوكر قال فيه:
وبخصوص هذا الموضوع، أقتبس فقرةً من أحد خطابات أخي:
«بخصوص سلوك الحاكم إير في جامايكا، كان مقتنعًا تمامًا بأن جيه إس ميل كان محقًّا في مقاضاته. أتذكَّرُ أننا كُنَّا نتحدَّث عن الموضوع في بيت عمي مساء أحد الأيام، ولأنني كنت أرى أن مقاضاة الحاكم إير بتهمة القتل إجراء أشدُّ قسوةً من اللازم، تفوَّهتُ بقولٍ أحمق عن أن محاميي الادعاء أنفقوا فائض الأموال التي جمعوها في وجبة عشاء. فهاجمني والدي وهو يكاد يستشيط غضبًا، وأخبرني أنه إذا كان هذا هو رأيي، يجدر بي العودة إلى ساوثهامبتون؛ حيث قدَّم السكان عشاءً للحاكم إير عند هبوطه، ولكن لم تكن لي أي علاقة بذلك.» وقد انتهت هذه الواقعة، كما سردها أخي، بتصرُّف من تصرُّفات والدي المعتادة التي كانت تُميِّزه جدًّا إلى حدِّ أنني لا أستطيع مقاومةَ ذِكر هذا التصرُّف، مع أنه ليس مُتعلِّقًا بالمسألة محل النقاش. «في صباح اليوم التالي في الساعة السابعة، أو نحو ذلك، جاء إلى غرفة نومي وقعد على سريري، وقال إنه لم يستطِع النومَ من التفكير فيما أبداه تجاهي من غضب شديد، ثم قال لي بضع كلمات لطيفة أخرى وتركني.»
تجدر الإشارة إلى أن هذه الرغبة المُلحة نفسها في تصحيح انطباع كريه أو خاطئ توصَف على نحوٍ جيد في فقرة مقتطفة أقتبسها من بعض رسائل المبجَّل جيه برودي إنيس:
«كان إمعانه البالغ في الملاحظة مصحوبًا بصدقه اللافت للغاية في كل شيء. ففي إحدى المناسبات، عُقِد اجتماع لأفراد الأبرشية بخصوص موضع خلافٍ غير ذي أهمية كبيرة، وفوجئت ليلتئذٍ بزيارة من السيد داروين. كان قد جاء ليقول إنه، عندما فكَّر في النقاش الذي دار بشأن هذه النقطة، ارتأى أنني ربما توصَّلت إلى استنتاج خاطئ — والحق أن ما قاله كان دقيقًا إلى حدٍّ كبير — وإنه لم يكن لينام حتى يشرحَ لي ذلك. أعتقد أنه، لو عرف في أي يوم بحقيقة مُعيَّنة تتعارض مع أعزِّ نظرياته لديه، لدوَّن هذه الحقيقة قبل أن ينام لكي تُنشَر.»
يتفق هذا مع عادات والدي، كما وصفها بنفسه. فعندما كانت تخطر بباله إحدى الصعوبات أو الاعتراضات كان يرى أن تدوينها على الفور مهمٌّ للغاية؛ لأنه كان يجد الحقائقَ المناهضة لأفكاره تزول بسرعة شديدة من ذاكرته.
يتجسَّد هذا الأمر نفسه في الحادثة التالية، التي أدينُ بها للسيد رومينز:
«دائمًا ما أتذكَّر الحادثةَ الصغيرة التالية كمثال جيد على اهتمام السيد داروين الشديد بمسألة الدقة. في مساء أحد الأيام في داون، دارت محادثةٌ عامة عن صعوبة شرح تطوُّر بعض المشاعر التي يتميَّز بها البشر، لا سيما تلك المشاعر المتعلِّقة بإدراك الجمال في المناظر الطبيعية. اقترحت رأيًا عن الموضوع من وجهة نظري، وكان هذا الرأي، بِناءً على مبدأ الارتباط، يستلزم افتراض أن سلسلةً طويلة من الأجداد قد سكنت مناطقَ تتسم بما يُعَد الآن من المناظر الجميلة. وفي اللحظة التي كنتُ فيها على وشْك الإشارة إلى أن الصعوبة الرئيسية المرتبطة بفرضيتي نشأت من مشاعر الإحساس بالروعة الجليلة (نظرًا إلى أن هذه المشاعر مرتبطة بالرهبة، وبذلك فربما يُتوقَّع ألَّا تكون مُستحسَنة)، توقَّع السيد داروين ما كنت سأقوله، وذلك بأنه سأل عن الكيفية التي تُلائم بها الفرضية حالةَ هذه المشاعر. وفي المحادثة التي أعقبت ذلك، قال إن المرة التي كان فيها أشدَّ تأثُّرًا بمشاعر الإحساس بالجلال في حياته كانت عندما وقف على إحدى قمم السلسلة الجبلية في أمريكا الجنوبية، وتفحَّص الأفق الرائع في كل مكان من حوله. شعر حينئذٍ، حسبما قال بأسلوب جذاب، ويكأن أعصابه قد صارت أوتارًا في آلة كمان، وبدأت كلها تهتز بسرعة. لم يقُل ذلك إلا عَرَضًا، وانتقلت المحادثة إلى فرعٍ آخر. وبعد حوالي ساعة، تركنا السيد داروين ليخلد إلى الراحة، وسهرتُ أنا في غرفة التدخين مع أحد أبنائه. واصلنا التدخين والتحدُّث عدة ساعات، وإذا بالباب يُفتح برفقٍ في حوالي الساعة الواحدة صباحًا وظهر منه السيد داروين مرتديًا خُفَّيه ورداءه المنزلي. وعلى حدِّ ما أتذكَّر، فقد قال:
«منذ أن ذهبت إلى الفراش، كنت أُفكِّر في الحوار الذي دار بيننا في غرفة الجلوس، وخطر ببالي للتو أنني كنت مخطئًا عندما قلت لك إنني كنت أشدَّ إحساسًا بالجلال حين كنتُ على قمة السلاسل الجبلية في أمريكا الجنوبية؛ فأنا متيقن تمامًا من أنني اختبرت ذلك الشعور بدرجةٍ أكبر عندما كنت في غابات البرازيل. ارتأيتُ أنه من الأفضل أن آتي وأُخبرك بهذا فورًا خشيةَ أن يُضلِّلك كلامي. أنا الآن متيقن من أن أقصى ما اختبرته من الإحساس بالجلال كان في غابات البرازيل.»
كان هذا هو كلَّ ما جاء ليقوله، وبدا جليًّا أنه أتى لفعل ذلك؛ لأنه كان يظن أن حقيقةَ أنه كان «أشد إحساسًا بالجلال عندما كان في الغابات» تتسق مع الفرضية التي كُنَّا نناقشها بدرجةٍ أكبر من الحقيقة التي ذكرها سابقًا. ولأنه لا يوجد مَن هو أدرى من السيد داروين بالفرْق بين التخمين والحقيقة، ارتأيتُ أن هذا الموقف البسيط الذي يُظهِر يقظةَ الضمير العلمي جديرٌ بالذكر، لا سيما أن المسألة التي كُنَّا نناقشها فيه ذاتُ طابع تخميني جدًّا. وما كنت سأنبهر بشدة لو أنه ظن أن نسيانه المؤقَّت قد ضلَّلني في أي مسألة واقعية بالفعل، مع أنه، حتى في مثل هذه الحالة، هو الرجل الوحيد بين كلِّ مَن أعرفهم الذي قد يبالي بالنهوض من فراشه في مثل هذا الوقت من الليل ليُصحِّح ما قاله فورًا، بدلًا من الانتظار حتى صباح اليوم التالي. لكن لمَّا كان التصحيح بشأن فرضية هزيلة فحسب، فقد كنت شديد الانبهار بالطبع بهذا الموقف الذي أظهر ذاك الطابع.»]
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ١٠ ديسمبر
[١٨٦٦]
… أشعر بالسعادة «من أعماق قلبي» لأنك تتناول موضوع توزيع النباتات في نيوزيلندا، وأفترض أنه سيكون جزءًا من كتابك الجديد. أرى أن وجهة نظرك القائلة بأن نيوزيلندا هبطت وكوَّنت جزيرتَين صغيرتَين أو أكثر ثم ارتفعت مُجدَّدًا، حسب ما أفهمها، مُرجَّحة جدًّا … عندما اعتصرتُ دماغي مفكِّرًا بإمعان في نيوزيلندا، أتذكَّر أنني وصلت إلى استنتاجٍ مفاده، كما ذكرتُ بالفعل في كتاب «أصل الأنواع»، أن نباتاتها، إضافةً إلى نباتات بعض الأراضي الجنوبية الأخرى، قد تخلَّلها أحد نباتات القطب الجنوبي، الذي من المؤكَّد أنه كان موجودًا قبل الفترة الجليدية. استنتجتُ أن الالتحام الوثيق بين نيوزيلندا وأستراليا لم يكن ممكنًا قط، وإن كنتُ أفترض أن نيوزيلندا كانت قد استقبلت بضعة أشكال أسترالية بوسائل انتقال عَرَضية من حين إلى آخر. هل يوجد أيُّ سبب لافتراض احتمالية أن نيوزيلندا كانت أكثرَ الْتحامًا بجنوب أستراليا في أثناء الفترة الجليدية، بينما يمكن أن تكون نباتات الكافور وغيرها، قد دُفِعَت مسافةً أطول نحو الشمال؟ يبدو أنه لم يتبقَّ هناك إلا خط الجزر الغارقة من نيو كاليدونيا، الذي أظنك قد أشرت إليه. تذكَّر من فضلك أن جنس الإدورادسيا من شقائق البحر قد جُرِف إلى هناك عبر البحر بالتأكيد.
أتذكَّرُ تكهُّناتي في الأيام الخوالي بشأن مقدار الحياة؛ أي التغيُّر الكيميائي العضوي، في الفترات المختلفة. يبدو لي أنه يوجد عُنصر صعب جدًّا في المشكلة؛ ألَا وهو حالة تطوُّر الكائنات الحية في كل فترة؛ لأنني أفترض أن حياةً نباتية وحياة حيوانية مكوَّنة من نباتات خلوية لا زَهرية وحيوانات أولية وحيوانات شعاعية التناظر من شأنها أن تؤدي إلى تغيُّر كيميائي أقلَّ بكثير ممَّا يحدث الآن. لكني أطلتُ الثرثرة بما يكفي.
[الخطاب التالي شكرٌ لتلقِّي ردِّ السيد ريفرز على خطاب سابق كان والدي قد طلب فيه معلومات عن تباين البراعم.
من تشارلز داروين إلى تي ريفرز٥٤
داون، ٢٨ ديسمبر
[١٨٦٦؟]
سيدي
العزيز
اسمح لي أن أشكرك من صميم قلبي على خطابك اللطيف للغاية. منذ سنوات وأنا أقرأ باهتمام كلَّ قصاصةٍ كتبتَها في الدوريات، ولخَّصتَها في مخطوطة كتابك عن الورود، وقد رغبت مرارًا في أن أبعث بخطاب إليك، لكني لم أكن واثقًا ممَّا إذا كنت ستراني أشدَّ تطفُّلًا ممَّا ينبغي. بالتأكيد سأكون ممتنًّا حقًّا لأي معلومات يُمكنك أن تمنحني إياها بخصوص تباين أو طفرات البراعم. عندما تخطرُ ببالي أيُّ نقاط شديدة الصعوبة في موضوعي الحالي (الذي يُعَد مجموعةً هائلة من الصعوبات)، سوف ألجأ إليك طالبًا المساعدة، لكنِّي لن أتجاوز حدودَ المعقول. صحيحٌ تمامًا قَولُك إن مَن يريد دراسة فسيولوجيا حياة النباتات جيدًا، يجب أن يكون لديه العديد من النباتات تحت أنظاره. حاولتُ جاهدًا أن أفعل ما بوسعي بالمقارنة بين ادعاءات العديد من الكُتَّاب ورصدِ ما أستطيع رصدَه بنفسي. مع الأسف، لم يضاهِ أحدٌ طريقتك في الرصد والملاحظة إلا قلة قليلة. ولأنك طيب جدًّا، سأذكر نقطةً واحدة أخرى أجمع عنها الحقائق؛ ألَا وهي التأثير الناتج على الجذع الأصلي بفعل التطعيم؛ إذ «يُقال» إن شجرة البندق ذات الأوراق الأرجوانية تؤثِّر على أوراق شجرة البندق العادية التي تُطعَّم عليها (لقد اشتريت للتو أحدَ هذه النباتات لأُجرِّبه)، و«يُقال» أيضًا إن الياسمين المبرقش يؤثِّر على أصله بالطريقة نفسِها. أحدُ أسباب رغبتي في معرفةِ هذه الحقائق هو إلقاء الضوء على شجرة اللبورنوم المدهشة التي تُعرف باسم لبورنوم آدامي، وأشجار البرتقال الثلاثية الوريقات، وما إلى ذلك. تبدو حالةُ شجرة اللبورنوم هذه واحدةً من أغربِ الحالات في علم وظائف الأعضاء. أعكفُ الآن على إنماء شجر لبورنوم صفراء «خصبة» ممتازة (ذات عذقة طويلة على غرار الشجرة المسمَّاة ووتررز لبورنوم) من بذرة الزهور الصفراء لشجرة لابورنوم آدامي. ليس بقدرٍ هين من الرضا ذلك الذي يشعر به رجل مثلي، مجبر على أن يعيش حياةً منعزلةً ويرى قلةً من الأشخاص، حين أسمع أنني استطعت بأي شكل من الأشكال [أن] أُثير اهتمامَ خبير مُتخصِّص في الرصد والملاحظة مثلك بكتبي.
نظرًا إلى أنني سأنشر عن موضوعي الحالي في غضون عام، أعتقد أن إرسالك بتيلات الخوخ والنكتارين، التي عرضتَ إرسالها إليَّ بكرمٍ بالغ منك، لن يكون مفيدًا؛ فأنا قد دوَّنتُ حقائقك.
اسمح لي مرةً أخرى بأن أشكرك من صميم قلبي؛ لأنني نادرًا ما أتلقَّى في حياتي خطاباتٍ ألطف من خطابك.