نشر كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»
يناير ١٨٦٧ إلى يونيو ١٨٦٨
[في بداية عام ١٨٦٧، كان يعمل على الفصل الأخير «تعليقات ختامية» من كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»، الذي كان قد شرع فيه بعد إرسال بقية المخطوطة إلى المطبعة في ديسمبر السابق. وفي الثالث من يناير، أرسل خطابًا إلى موراي بخصوصِ نشر الكتاب، قائلًا:
إذا كنت تخشى نشره، فأرجو منك أن تخبرني بذلك فورًا بلا تردُّد، وسأعتبر رسالتك كأنها لم تكن. أمَّا إذا كنت تراه صالحًا للنشر، فاطلب من أيِّ شخص تثق في حُكمه الاطلاعَ على بعض الفصول الأسهل في القراءة، وهي المقدمة والفصول المتعلِّقة بالكلاب والنباتات؛ لأنني أرى الفصول الأخيرة هي الأشد إثارةً للملل في الكتاب كله … ذلك أن قائمةَ الفصول، ومُطالعة بضعة أجزاء متفرِّقة هنا وهناك من شأنهما أن تُعطيا أيَّ حَكَمٍ بارع فكرةً معقولة عن الكتاب كله. أرجو منك ألَّا تتهوَّر وتنشره بلا دراسة متروية؛ لأنني سأظل متضايقًا طوال حياتي إذا كبَّدك خسارةً فادحة.»
أحال السيد موراي المخطوطةَ إلى أحد أصدقائه من رجال الأدب، ورغم أن ذاك الرجل أبدى رأيًا معارضًا بعض الشيء، وافق موراي عن طيب خاطر على نشر الكتاب. أرسل إليه والدي خطابًا بخصوص ذلك قائلًا:
«غمرتني رسالتك بارتياحٍ بالغ. إنني منزعجٌ بعض الانزعاج من حُكم صديقك؛ لأنه ليس من رجال العلم. أظن أنك لو كنت قد أرسلتَ كتاب «أصل الأنواع» إلى رجلٍ غير مُتخصِّص في العلم، لاستنكره للغاية. لكني مع ذلك «سعيد جدًّا» بأنك استشرتَ أحدًا ما تستطيع الوثوق به.
يجب أن أُضيف أن رجلًا بارزًا ليس بغريب تمامًا على مجال العلوم كان قد رأى كتابي «يوميات الأبحاث» وهو لا يزال مخطوطة، وصرَّح بأنه لا يصلح للنشر.»
بدأت بروفات الطباعة في مارس، وانتهت المراجعة الأخيرة في ١٥ نوفمبر، ولم تتخلَّل هذه المدة أي فترات راحة من العمل سوى زيارتَين إلى منزل شقيقه إيرازموس في شارع كوين آن، وقد امتدَّت كلٌّ منهما لأسبوع. وعن ذلك كتب في دفتر يومياته:
«بدأتُ هذا الكتاب [في] بداية عام ١٨٦٠ (ثم ألَّفت له مخطوطة)، لكن بسبب انقطاعي عن العمل فيه بسبب مرضي ومرض الأطفال، وانشغالي بإصدار عدة طبعات من كتاب «أصل الأنواع» وأوراق بحثية، لا سيما كتاب السحلبيات وأبحاث المحالق، أمضيت أربع سنوات وشهرَين في العمل عليه.»
كانت طبعة كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين» مكونةً من ١٥٠٠ نسخة، بيعت منها ١٢٦٠ في المعرض الخريفي الذي أقامه السيد موراي، لكنه لم يُنشَر حتى ٣٠ يناير ١٨٦٨. وفي فبراير من العام نفسِه طُبعت طبعةٌ جديدة مُكوَّنة من ١٢٥٠ نسخة.
في عام ١٨٦٧، نال رتبةَ الفروسية مع وسام «الاستحقاق» البروسي. ويبدو أنه لم يكن يعرف مدى عظمة هذا الشرف؛ لأنه أرسل خطابًا في يونيو ١٨٦٨ إلى السير جيه دي هوكر، قائلًا:
«ما أعظم تعاطفك! لقد مُنحتُ رتبة «فارس» منذ بضعة أشهر، لكني لم أُفكِّر كثيرًا في هذا الأمر. والآن، يا إلهي، كلنا نُفكِّر فيه؛ لكنَّك في الحقيقة مَن جعلني فارسًا.»
والآن سنترك الخطابات لتسرد القصة.]
من تشارلز داروين إلى جي دي هوكر
داون، ٨ فبراير [١٨٦٧]
عزيزي
هوكر
أختتمُ كتابي «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين» بفقرة واحدة ترد، بقدرِ ما يسمح به الحيز الصغير، على فكرة آسا جراي القائلة بأن كل تباين قد رُتِّب أو سُيِّر خصوصًا وفق المنفعة، بل الأحرى أنها تلقي بظلال من الشك عليها. من الحماقة أن أتطرَّق إلى مثل هذه الموضوعات، ولكن كان يوجد كمٌّ هائل من التلميحات إلى رأيي بشأن الدور الذي يُؤدِّيه الإله في تكوين الكائنات الحية، فرأيت أن التهرُّب من المسألة سيكون تصرُّفًا وضيعًا … إنني تلقَّيت أيضًا خطابات بشأن هذا الموضوع … لقد أغفلتُ جملتك عن العناية الإلهية، ولتفترض أنني عاملتها كما عامَل بكلاند نظريته اللاهوتية الخاصة عندما تُلِيَت عليه أطروحة بريدجووتر ليُصحِّحها …
[الخطاب التالي، من السيدة بول، هو أحد الخطابات المشار إليها في الخطاب الأخير إلى السير جيه دي هوكر:]
سيدي العزيز هل ستسامحني على تجرئي على أن أسألك سؤالًا لن يرضيني أن أتلقَّى الإجابةَ عنه من أحد سواك؟
هل تعتبر أن تبنِّي نظريتك عن الانتقاء الطبيعي، بمعناها الأتم والأكمل بلا أي تحفُّظات، متضارب — لا أقول مع أي مُخطَّط معيَّن للعقيدة اللاهوتية — بل مع المعتقد التالي؛ ألَا وهو:
أن الإنسان إنما يتلقَّى المعرفة بالوحي المباشر من روح الإله.
أن الإله كيان شخصي وخيِّر بلا حدود.
أن تأثير أفعال روح الإله على عقل الإنسان تأثير أخلاقي على وجه التحديد.
أن كل إنسان لديه القدرة، ضِمن حدود مُعيَّنة، على أن يختار مدى خضوعه لدوافعه الحيوانية الموروثة، ومدى امتثاله لإرشادات الروح الإلهية التي تُوجِّهه إلى القدرة على مقاومة هذه الدوافع امتثالًا لدوافع أخلاقية؟
ما دفعني إلى أن أسألك هذا السؤال هو أنني دائمًا ما كنت أرى أن نظريتك «متوافقة» تمامًا مع العقيدة التي حاولتُ التعبير عنها للتو، بل إن كتبك أمدَّتني بتلميحات تُرشدني في تطبيق هذه العقيدة إلى حل بعض المشكلات النفسية المُعقَّدة التي كان حلُّها يحمل أهميةً عَمَلية لي بصفتي أُمًّا. شعرتُ بأنك قد أتحتَ إحدى الحلقات المفقودة — بل ربما الحلقة المفقودة «الوحيدة» — بين حقائق العلم ووعود الدين. ثم إن تجربتي الحياتية في كل عام تميل إلى تعميق هذا الانطباع داخلي.
بالرغم من ذلك، قرأت مؤخَّرًا تعليقاتٍ بشأن التأثير المُرجَّح لنظريتك على مسائلَ دينية وأخلاقية، وهذه التعليقات حيَّرتني وآلمتني بشدة. أعرف أن مَن يُدلون بهذه التعليقات لا بد أنهم أذكى مني وأحكمُ. لا أستطيع التيقُّن من أنهم مخطئون، إلا إذا أخبرتَني بذلك. وأظن — لا أستطيع أن أعرف يقينًا، وإنما أظن — أنني، إذا كنت كاتبة، كنت سأُفضِّل أن تلجأ إليَّ مباشرةً أشدُّ المهتمات بأعمالي تواضعًا عندما تواجهها صعوبةٌ ما، على أن تُطيل التفكير والحيرة، في انتقادات معارضة، ومن المرجَّح أن تكون خاطئةً أو هوجاء.
في الوقت نفسه، أرى أنه من حقك تمامًا أن ترفض الإجابةَ عن مثل هذه الأسئلة التي طرحتها عليك. لا بد أن يأخذ العلم مجراه، ويأخذ اللاهوت مجراه، وسيلتقيان عندما يشاء الإله وأينما يشاء وكيفما يشاء، وإذا كان ملتقاهما لا يزال بعيدًا جدًّا، فلستَ مسئولًا عن ذلك بأي حال من الأحوال. إذا لم أتلقَّ ردًّا على هذا الخطاب، فلن أستنتج شيئًا من صمتك سوى أنك ترى أن طرح مثل هذه الاستفسارات على شخص غريب ليس من حقي.
[جاء رد والدي كالتالي:]
داون، ١٤ ديسمبر [١٨٦٦]
سيدتي العزيزة
كنتُ سأسعد جدًّا لو كان بإمكاني إرسال إجابات مقنعة على أسئلتك، بل أي إجابات من أي نوع أصلًا. لكني لا أستطيع أن أرى كيف يمكن أن يكون للاعتقاد بأن جميع الكائنات الحية، بما فيها الإنسان، قد اشتُقَّت وراثيًّا من كائنٍ ما بسيطٍ ولم يُخلَق كلٌّ منها خلقًا مستقلًّا على حدة، أية علاقة بالصعوبات التي تواجهك. ويبدو لي أن الإجابة عن أسئلتك غير ممكنة إلا بدليل مختلف جدًّا عن الأدلة العلمية، أو عن طريقِ ما يُسمَّى «الإدراك الداخلي». رأيي ليس أقيم من رأي أي شخص آخر فكَّر في مثل هذه الموضوعات، وسيكون من الحماقة أن أُدلي به. بالرغم من ذلك، يمكنني القول إنني دائمًا ما كنت أرى أن الأكثر إقناعًا لي أن أنظر إلى الكم الهائل من الألم والمعاناة في هذا العالم على أنه نتيجة حتمية لتسلسل الأحداث الطبيعي؛ أي القوانين العامة، وليس بسبب التدخُّل المباشر من الإله، مع أنني أُدرك أن هذا غير منطقي إذا كُنَّا نتحدَّث عن إلهٍ عالِمٍ بكل شيء. يبدو أن سؤالك الأخير يتحوَّل تدريجيًّا إلى معضلة حرية الاختيار والحتمية، التي وجدها معظمُ الأشخاص غيرَ قابلة للحل. كنت أتمنَّى من صميم قلبي ألَّا تكون هذه الرسالة بلا أي قيمة كما هي الآن. فأنا كنت سأُرسل إجابات كاملة، وإن كنت لا أملك ما يكفي من الوقت والجهد لذلك، لو كان ذلك في إمكاني. يُشرِّفني يا سيدتي العزيزة أن أحمل لكِ بالغ احترامي.
[يناقش الخطاب التالي كتابَ «سيادة القانون» المشار إليه سلفًا قبل بضع صفحات:]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١ يونيو [١٨٦٧]
… أقرأ كتاب الدوق حاليًّا، وهو يثير «بالغ» اهتمامي، لكن لا يسعني سوى أنْ أرى بعضَ أجزائه رديئة، رغم أن الكتاب في مجمله جيدٌ جدًّا، من أمثلة هذه الأجزاء، ذلك الذي يعرِب فيه عن شكوكه فيما إذا كان كل انحناء في منقار الطيور الطنَّانة نافعًا لكل نوع. إنه يقر، وربما بدرجةٍ مُبالغ فيها، بأنني أظهرتُ فائدةَ كل نتوء طولي صغير وشكلَ كل بتلة في السحلبيات، وما أغرب أنه لا يمدُّ ذاك الرأي على استقامته ليشمل الطيور الطنَّانة! بل ويبدو لي الأغرب من ذلك بكثير كل ما يقوله عن الجمال، الذي كنت أحسبه ليس موجودًا إلا في عقلِ كائنٍ واعٍ. ربما كان يُمكنه أن يقول أيضًا إن الحب كان موجودًا في حِقبة الحياة القديمة أو حِقبة الحياة الوسطى. آمُل أن يكون حالُ ما تُحرزه من تقدُّم في إنجاز كتابك أفضلَ ممَّا أحرزه في إنجاز كتابي، الذي يقتلني بجهد التصحيح وأراه مملًّا إلى حدٍّ لا يُطاق، مع أنني لم أكن أظن ذلك عندما كنت أكتبه. ستكون حياةُ عالِم التاريخ الطبيعي سعيدةً لو أنه اكتفى بالرصد والملاحظة فقط ولم يكتب قط.
سنكون في لندن لمدة أسبوع بعد حوالي أسبوعَين من الآن، وسأستمتع بحوارٍ معك على الفَطور.
[يشير الخطاب التالي إلى ترجمةِ كتاب «أصل الأنواع» الجديدة والمُحسَّنة، التي أنجزها البروفيسور كاروس:]
من تشارلز داروين إلى جيه فيكتور
كاروس
داون، ١٧ فبراير [١٨٦٧]
سيدي العزيز
[كُتِب أقدمُ خطاب رأيته من خطابات والدي إلى البروفيسور هيكل في عام ١٨٦٥، ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا، ظلَّا يتراسلان (وإن كان تراسلًا غيرَ منتظم على الإطلاق، حسبما أظن) حتى نهاية حياة والدي. لم تكن صداقته مع هيكل محضَ نتاجٍ لتطوُّر مراسلاتهما، مثلما كان الحال مع البعض الآخر، كفريتز مولر مثلًا. أجرى هيكل أكثرَ من زيارة إلى داون، وقد استمتع والدي للغاية بهذه الزيارات. تكمُن فائدة الخطاب التالي في توضيحِ شعور الاحترام القوي الذي كان يُكِنه لمراسله، وهو شعور كنتُ أسمع التعبيرَ عنه بتشديدٍ قاطع مرارًا، وكان مراسله يبادله إياه بحرارة. الكتاب المشار إليه هو كتاب «علم التشكُّل العام» الذي ألَّفه هيكل، ونُشر عام ١٨٦٦، وتلقَّى والدي نسخةً منه أهداها إليه المؤلِّف في يناير ١٨٦٧.
وأثنى السيد هكسلي، في خطابٍ كتبه في عام ١٨٦٩، ثناءً بالغًا على البروفيسور هيكل، واصفًا إياه بأنه قائد الحركة الداروينية في ألمانيا. وقال عن كتابه «علم التشكُّل العام»، «الذي يُعَد محاولةً لاستنباط التطبيق العَمَلي» لفكرةِ التطوُّر على نتائجهم النهائية، إنه يتسم «بقوة أوكِن وقدرته على تحفيز التفكير … إضافةً إلى قوة التنظيم دون مغالاته». يشهد البروفيسور هكسلي أيضًا بقيمة كتاب هيكل «تاريخ الخَلق»، واصفًا إياه بأنه شرحٌ لكتاب «علم التشكُّل العام» «لجمهور مثقَّف».
«مهما كان التردُّد الذي قد يراود — في حالاتٍ ليست بالقليلة — عقولًا أقلَّ جُرأة حيالَ اتِّباع هيكل في العديد من تكهُّناته؛ فمحاولته الرامية إلى مَنهَجة فكرة التطوُّر، وإظهار تأثيرها باعتبارها الفكرةَ المركزية لعلم الأحياء الحديث، لا يمكن أن تفشل في تركِ تأثيرٍ واسع النطاق على تقدُّم العلم.»
في الخطابِ التالي يُلمِح والدي إلى الضراوة الشرسة بعض الشيء التي خاض بها البروفيسور هيكل معركةَ الدفاع عن «الداروينية»، وقد أدلى الدكتور كراوزه ببعض التعليقات الجيدة (الصفحة ١٦٢) بخصوص هذا الموضوع. فهو يتساءل عمَّا إذا كان الكثير ممَّا حدث في أوج احتدام الصراعِ ربما ما كان سيحدث لولا ذلك، ويضيف أن هيكل نفسه هو آخرُ رجل قد يُنكر هذا. بالرغم من ذلك، يرى كراوزه أن حتى هذه الأشياء ربما تكون قد نفعت قضيةَ التطوُّر؛ لأن هيكل «سلَّط على نفسه، بكتابه «أصل العِرق البشري»، وكتابه «علم التشكُّل العام» وكتابه «تاريخ الخلق»، كلَّ الكره والاستياء اللذَين أثارهما التطوُّر في أوساطٍ معيَّنة»، ومن ثَمَّ، «ففي وقتٍ قصير جدًّا إلى حدٍّ مُدهش، صار الرائجُ في ألمانيا أن يُساء إلى هيكل وحدَه، بينما قُدِّم داروين على أنه نموذج مثالي للتروِّي والاعتدال.»]
من تشارلز داروين إلى إي هيكل
داون، ٢١ مايو ١٨٦٧
عزيزي
هيكل
سيُترجمه فيكتور كاروس، لكنِّي أشكُّ فيما إذا كان يستحق الترجمة. سُررتُ جدًّا بسماع أنك من المحتمل أن تزور إنجلترا هذا الخريف، وسوف يَسعد كلُّ مَن في هذا المنزل برؤيتك هنا.
من تشارلز داروين إلى إف مولر
داون، ٣١ يوليو [١٨٦٧]
سيدي
العزيز
لا تنسَ مساعدتي، إن استطعتَ، بإجابات عن «أيٍّ» من أسئلتي بخصوص مسألة التعبير عن العواطف؛ لأن الموضوع يُثير اهتمامي بشدة. مع خالص الشكر من أعماق قلبي على لطفك الذي لا ينضب.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١٨ يوليو [١٨٦٧]
عزيزي
لايل
أشعر بالسعادة من أعماقِ قلبي لأنك ستُعبِّر بصراحة عن رأيك بشأنِ مسألة الأنواع. سيكون كتابي عن مسألة تطوُّر الإنسان قصيرًا، إذا نُشر، وسيُكرَّس جزءٌ كبير منه لموضوع الانتقاء الجنسي، الذي أشرتُ إليه في كتاب «أصل الأنواع»، بوصفه وثيقَ الصلة بمسألة تطوُّر الإنسان …
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٢٢ أغسطس [١٨٦٧]
عزيزي
لايل
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ١٦ أكتوبر [١٨٦٧]
عزيزي
جراي
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ١٧ نوفمبر [١٨٦٧]
عزيزي هوكر
… سأُسدي إليك نصيحةً بشأن كتابي. فلتتخطَّ المجلَّدَ الأول «كله»، باستثناء الفصل الأخير (وهذا لا يحتاج إلا إلى تصفُّح سريع)، ولتتخطَّ جزءًا كبيرًا في المجلَّد الثاني؛ وحينئذٍ ستقول إنه كتاب جيد جدًّا.
١٨٦٨
[نُشر كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»، كما ذُكرنا سلفًا، في ٣٠ يناير ١٨٦٨، وفي ذاك اليوم، أرسل نسخةً إلى فريتز مولر، وكتب إليه خطابًا قال فيه:
«أُرسلُ إليك ضِمن هذه الدفعة البريدية، بقاربٍ بريدي فرنسي، كتابي الجديد الذي تأخَّر نشره كثيرًا. كما سترى، ليس الغرض من الجزء الأكبر أن يُقرأ، لكني أرغب بشدة في معرفة رأيك في فرضية «شمولية التكوين»، وإن كنت أخشى أن تبدو «للجميع» تخمينيةً بدرجة مبالغ فيها.»]
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
٣ فبراير
[١٨٦٨]
… إنني في غاية السعادة بما تقوله عن مقدِّمة كتابي؛ إذ كنتُ قاب قوسَين أو أدنى من إلغائها كلها بعدما صارت جاهزةً للطباعة بالفعل. أشعر منذ فترةٍ بيأس من كتابي، وإذا حاولت قراءةَ بضع صفحات، أشعر بغثيانٍ شديد، ولكن لا تدَع هذا يدفعك إلى الثناء عليه؛ لأنني قرَّرت أنه لا يساوي خُمس الجهد المضني الهائل الذي كبَّدني إياه. أؤكِّد لك أن كلَّ ما يستحق أن تفعله (إن كان لديك وقتٌ كافٍ لهذا القدر) هو إلقاء نظرة سريعة على الفصل السادس، وقراءة أجزاءٍ من الفصول اللاحقة. أرى أن الحقائق المتعلِّقة بالنباتات العاجزة عن التلقيح الذاتي شائقة، وقد استنبطت استنتاجًا مُرضيًا مفادُه أن النتائج الجيدة تأتي من التهجين بين أنواعٍ بعضها بعيد الصلة عن بعض، وأن النتائج السيئة تأتي من التهجين بين أنواعٍ بعضها قريب الصلة من بعض. قرأتُ فرضية شمولية التكوين قبل بضعة أيام، لكن حتى هذه، موضوعي المُحبَّب كما كنت أحسبها، أثارت اشمئزازي بشدة. اللعنة على الكتابِ كلِّه، ومع ذلك، فأنا الآن أعمل مُجدَّدًا بجدٍّ قدرَ ما أستطيع. إنها حقًّا لمصيبة جسيمة أنني، بحُكم العادة، لم أعُد أستمتع بأي شيء تقريبًا ما عدا التاريخَ الطبيعي؛ فلا شيء آخر يجعلني أنسى أحاسيسي المُزعجة التي تراودني كثيرًا. ولكن عليَّ أن أتوقَّف عن الشكوى الآن، وليقُل النقَّاد ما يشاءون؛ فأنا قد بذلت كلَّ ما في وسعي، ولا يوجد إنسان يستطيع أن يفعل أكثرَ من ذلك. كم كانت ممارسة تخصُّص التاريخ الطبيعي ستُصبح رائعةً لو أنها كانت مقتصرةً على الرصد والملاحظة دون الكتابة! …
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ١٠ فبراير [١٨٦٨]
عزيزي هوكر
ما جدوى أن يكون للمرء صديق إن لم يستطِع التباهي أمامه؟ سمعتُ يوم أمس أن موراي باع كل نسخِ طبعة كتابي البالغة ١٥٠٠ نسخة، وأن طلبات الشراء مُلحَّة جدًّا إلى حدِّ أنه اتفق مع دارِ نشر كلوز على إصدار طبعة أخرى في غضون أربعة عشر يومًا! لقد عاد هذا عليَّ بنفعٍ كبير؛ لأنني كنت قد بدأت أشعر بنوعٍ من الكراهية الشديدة تجاه كتابي. والآن قد نُشر عنه في صحيفة «بول مول جازيت» مقالٌ نقدي غمرني بسعادة هائلة، وربما حتى يكون مُبالغًا فيها. إنني قانع تمامًا، ولا أكترثُ بمقدار الانتقادات اللاذعة التي قد أتعرَّض لها. إذا قادتك أيُّ مصادفة إلى معرفة هُوية كاتب المقال النقدي في صحيفة «بول مول جازيت»، فلتُخبرني بها من فضلك؛ فهو يُجيد الكتابة على نحوٍ ممتاز ويعرف الموضوع. لقد ذهبتُ في يوم الأحد إلى مأدُبة غداء في بيت لوبوك، وكان أحد أسباب ذهابي هو أملي في أن ألقاك، لكنك، أيها الملعون، لم تكن هناك.
[بعيدًا عن طابع الاستحسان العام الذي اكتست به سلسلةُ المقالات القصيرة النقدية البارعة في صحيفة «بول مول جازيت» (أيام ١٠، و١٥ و١٧ فبراير، عام ١٨٦٨)، ربما ابتهج والدي بالفقرات التالية:
«علينا أن نَلفت الانتباه إلى الهدوء النادر النبيل الذي يشرح به آراءه، دونما اضطراب من حدةِ الاهتياج العِدائي الذي تُثيره هذه الآراء، مع التمسُّك على الدوام برفض الرد على خصومه بسخرية أو غضب أو ازدراء. وبالنظر إلى كَمِّ التوبيخ اللاذع والذَّم الضمني الذي يصدر عن الطرف الآخر، فهذا الصبر جدير بالتبجيل الشديد.»
ومرة أخرى في المقال القصير الثالث الذي نُشر في ١٧ فبراير:
«لا يذكر المؤلِّف على الإطلاق أيَّ كلمة قد تجرح أشدَّ مشاعر حب الذات حساسيةً لدى أيٍّ من خصومه، ولا يفضح على الإطلاق، في أي نص أو ملحوظة، مغالطاتِ إخوته من الباحثين وأخطاءهم … لكنه بينما يمتنع عن التوبيخ الوقح، يُسرف في اعترافه بأصغر الديون التي قد يَدين بها، وسوف يُسعِد كتابه رجالًا كثيرين.»
إنني مَدين لدار نشر «سميث آند إلدر» على إعلامي بأن كاتب هذه المقالات هو السيد جي إتش لويس.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ٢٣ فبراير [١٨٦٨]
عزيزي هوكر
وجب عليَّ مُؤخَّرًا أن أكتب عددًا كبيرًا من الخطابات يكاد يساوي عددَ ما تستطيع كتابته؛ أي يتراوح من ثمانية خطابات إلى عشرة يوميًّا، وكانت غايتي الأساسية من ذلك هي الحصول على حقائقَ عن الانتقاء الجنسي؛ لذا لم تراودني أيُّ رغبة في كتابة خطابات إليك، والآن أعتزم أن أكتب عن كتابي فقط، على النحو الذي يرضيني وليس الذي يرضيك على الإطلاق. كانت الطبعة الأولى مكوَّنةً من ١٥٠٠ نسخة، والآن قد طُبعت الطبعة الثانية؛ هذا إنجاز رائع. هل طالعتَ المقالَ النقدي المنشور في دورية «ذا أثنيام»، الذي يُظهِر ازدراءً عميقًا لي؟ … من العار أن كاتبه يقول إنني اقتبست الكثيرَ من بوشيه، دون أن أعترف بذلك؛ لأنني حرفيًّا لم أقتبس شيئًا؛ إذ لم يكن يوجد شيء أقتبسه. يوجد في دورية «ذا جاردنرز كرونيكل» مقالٌ نقدي ممتاز سيُسهم في الترويج لبيع الكتاب، إذا كان لأي شيء أن يسهم في ذلك. ليس من الواضح لي تمامًا ما إذا كنتُ أنا المشوَّش بشأنِ مسألةِ «تسبُّب» الإنسان في القابلية للتباين، أم كاتب المقال. فإذا وضع رجلٌ قليلًا من الحديد في حمض الكبريتيك، فإنه لا يُسبِّب إحداثَ الأُلفة الكيميائية، ومع ذلك يُمكن القول إنه يصنع مركَّب كبريتات الحديد. لا أعرف كيف أتجنَّب الالتباس.
بعد ما قالته صحيفة «بول مول جازيت» ودورية «ذا جاردنرز كرونيكل»، لا أكترث إطلاقًا.
أخشى أن يكون محكومًا على فرضية شمولية التكوين بأن تُولَد ميتة؛ فبيتس يقول إنه قرأها مرتَين، وليس مُتيقِّنًا من أنه يفهمها. ويقول إتش سبنسر إن هذا الرأي مختلِف عن رأيه إلى حدٍّ كبير (وهذا أشعرني بارتياح شديد؛ إذ كنت أخشى أن أُتَّهم بالسرقة الأدبية، لكني عجزت تمامًا عن التيقُّن ممَّا كان يقصده؛ لذا ارتأيتُ أنَّ أسلَم شيء هو أن أطرح رأيي على أنه شبه مطابِق لرأيه)، وهو يقول إنه ليس مُتيقِّنًا من أنه يفهمها … ألستُ شخصًا مسكينًا؟ لكنِّي مع ذلك تحمَّلت هذه الآلام؛ فأنا أعتقد أنني عبَّرت عن فكرتي بوضوح. يقول السير إتش هولاند العجوز إنه قرأها مرتَين، ويراها شديدةَ الصعوبة، لكنه يعتقد أنه، عاجلًا أم آجلًا، سيُقبَل بصحة «رأيٍ ما مشابه لها».
ستظنني مغرورًا جدًّا عندما أقول إنني «متيقن» من أن فرضية «شمولية التكوين»، إذا كانت قد وُلِدَت الآن ميتة، فإنها، والحمد للرب على ذلك، ستُولد في وقتٍ ما في المستقبل من صُلب رجل آخر، وستُعمَّد باسم آخر.
هل صادفتَ من قبلُ أي رأيٍ ملموس واضح بشأنِ ما يحدث في التوالُد، سواء بالبذور أو البراعم، أو بشأن الكيفية التي يمكن بها لطابعٍ مفقود منذ زمن طويل أن يظهر مُجدَّدًا، أو بشأنِ كيفية تأثير العنصر الذَّكَري على النبتة الأم أو الحيوانة الأم، ممَّا يُؤثِّر في نسلها المستقبلي؟ كل هذه النقاط والعديد من النقاط الأخرى بعضها يرتبط ببعض من خلال فرضيةِ شمولية التكوين، أمَّا بخصوص ما إذا كان هذا الربط صحيحًا أم خاطئًا، فتلك مسألة أخرى. أنا عنيد كما ترى، وأدافع باستماتة عن طفلي المسكين.
هذا الخطاب مكتوب لإرضاء نفسي وليس لإرضائك. لذا فلتتحمَّله.
من تشارلز داروين إلى إيه نيوتن١٤
داون، ٩ فبراير [١٨٧٠]
عزيزي نيوتن
من تشارلز داروين إلى إيه آر
والاس
داون، ٢٧ فبراير [١٨٦٨]
عزيزي والاس
لا يمكنك أن تتخيَّل مدى سعادتي بما تقوله عن فرضية «شمولية التكوين». لن يُصرِّح أيٌّ من أصدقائي برأيه علانية … يبدو أن هوكر، على حدِّ ما أفهمه، وإن كنتُ لا أفهمه الآن إلا قليلًا، يظن أن الفرضية ليست أكثرَ من القول بأن الكائنات الحية لديها كذا وكذا من الإمكانيات. ما تقوله يُعبِّر حرفيًّا وتمامًا عن شعوري؛ ألَا وهو أنه من المريح للمرء أن يحصل على تفسيرٍ ما معقولٍ للحقائق المتنوِّعة، مع إمكانية التخلي عن ذاك التفسير فور العثور على أي فرضية أفضل. وقد أراح هذا التفسير عقلي للغاية بالتأكيد؛ لأنني ظَلِلت أتخبَّط طوال سنوات من الحيرة بشأن هذا الموضوع وأنا أرى طيفًا خافتًا لعلاقةٍ ما بين المجموعات المتنوِّعة من الحقائق. سمعتُ الآن من إتش سبنسر أن آراءه التي اقتبستُها في حاشيتي السفلية تشير إلى شيء مختلف تمامًا، مثلما أدركتَ على ما يبدو.
سأسعدُ جدًّا بسماع انتقاداتك بشأن «أسباب القابلية للتباين» يومًا ما. أنا متيقنٌ بالطبع من أنني محقٌّ فيما يتعلَّق بالعقم والانتقاء الطبيعي … لا أفهم الحالة التي ذكرتها تمامًا، ونظن أن ثمَّة كلمةً أو اثنتَين في غير موضعهما. أرجو أن تُفكِّر، وقتما يتسنَّى لك هذا، في هذه الحالة من وجهة النظر التالية؛ لو أن العقم ناتج عن الانتقاء الطبيعي أو متراكم بواسطته، فنظرًا إلى وجود كل درجة وصولًا إلى العقم التام، لا بد أن يكون الانتقاء الطبيعي قادرًا على زيادة درجة العقم. لنفترض الآن مثلًا أن لدينا نوعَين هما «أ» و«ب»، ولتفترض أنهما (بطريقةٍ ما) نصف عقيمَين؛ أي يُنتجان نصفَ عدد الذرية الكامل. الآن حاول أن تجعل «أ» و«ب» عقيمَين تمامًا (بالانتقاء الطبيعي) عند التهجين بينهما بالتلقيح المتبادَل، وستكتشف مدى صعوبة ذلك. صحيح أنني أعترف بأن درجة عُقم أفراد النوعَين «أ» و«ب» ستتباين بالتأكيد، لكنَّ الأفراد الأشد عقمًا من بين أفراد النوع «أ» مثلًا، إذا تزاوجوا لاحقًا مع أفرادٍ آخرين من النوع «أ»، فلن يُورِّثوا لذريتهم أيَّ أفضلية تُرجِّح أن تزداد هذه العائلات بأعدادٍ أكبر من أعداد عائلات النوع «أ» الأخرى، التي لا تكون أشدَّ عقمًا عند تهجينها مع النوع «ب». لكني لستُ متيقنًا من أنني جعلت هذه النقطة أوضحَ بأي قدرٍ ممَّا ورد في الفصل الموجود في كتابي. إنها جزء صعب للغاية من الاستدلال المنطقي، وقد راجعتها مرارًا وتكرارًا على الورق باستخدام المخطَّطات.
… أشكرك من أعماقِ قلبي على خطابك. لقد أسعدتني حقًّا؛ لأنني كنت قد تخلَّيت عن الإله العظيم «شمولية التكوين» معتبرًا إياه إلهًا وُلد ميتًا. أتمنَّى أن تتشجَّع لتوضيح المسألة، باستخدام قدراتك الباهرة على الشرح، في إحدى المجلات العلمية …
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ٢٨ فبراير [١٨٦٨]
عزيزي هوكر
لقد أثار خطابك بالغَ اهتمامي، ووجدنا تسليةً كبيرة في تعليق هكسلي، الذي كان حاذقًا جدًّا إلى حدِّ أنك لم تستطِع تذكُّره. لا أستطيع أن أفهم تسلسلَ أفكارك تمامًا؛ لأنك في الصفحة الأخيرة تُقِر بصحة كلِّ ما أريده، بعدما بدا أنك أنكرته كله في الصفحات السابقة من رسالتك، أو ارتأيتَه كله محض كلمات، لكن ربما يكون هذا خطئي بسبب تشوُّشي. أرى بوضوحٍ أن أي اقتناع قد تُحدِثه فرضية «شمولية التكوين» يعتمد على تركيبةِ عقلِ كل رجل. إذا كنتَ قد توصَّلت سلفًا إلى أي استنتاج مماثل، فالمسألة كلها ستبدو لك قديمةً بالطبع. تلقَّيت خطابًا يوم أمس من والاس، الذي يقول (معذرةً على الخيلاء الفظيع): «لا أستطيع إطلاقًا أن أصف لك مدى إعجابي الشديد بالفصل المتعلِّق بفرضية «شمولية التكوين». يا لها من «راحة تامة» لي أن يصبح لديَّ أيُّ تفسير وجيه للصعوبة التي دائمًا ما كانت تستحوذ على تفكيري، ولن أستطيع التخلي عن هذا التفسير أبدًا إلى أن يحل محله تفسيرٌ أفضل، وأظن هذا شبهَ مستحيل، إلى آخره!» تُعبِّر كلمتاه السابقتان [المذكورتان بين علامتَي تنصيص] عن مشاعري بدقة بالغة، وإن كان من المحتمل أيضًا أنني أشعر بالراحة بدرجةٍ أكبر لأنني ظَلِلت طوال سنوات عديدة أحاول تشكيلَ فرضيةٍ ما دون جدوى. عندما تقول أنت أو هكسلي إن خليةً نباتية مفردة، أو جَدَعة طرف مبتور، لديها «إمكانية» إعادة إنتاج النبتة كلها أو الطرف كله، أو «نشرِ تأثير ما»؛ فهذه الكلمات لا تعطيني أيَّ فكرة واضحة، لكن عندما يُقال إن خلايا أحدِ النباتات، أو جَدَعةً ما، تحوي ذراتٍ مستمدةً من كل خلية أخرى من هذا الكائن الحي كله وقادرة على التطوُّر، تصبح لدي فكرة جلية. بالرغم من ذلك، فلن يكون لهذه الفكرة أي قيمة إذا كانت تنطبق على حالة واحدة فقط، ولكن يبدو لي أنها تنطبق على كل أشكال التوالد، والوراثة، والتحوُّل، وعلى الاستبدال الشاذ للأعضاء، وعلى التأثير المباشر الذي يُحدثه العنصر الذكري في النبات الأم، وما إلى ذلك؛ لذا أومن تمامًا بأن كل خلية تنتج «بالفعل» بذرةً أو بُريعمًا من محتوياتها، لكن بخصوصِ ما إذا كانت هذه الفرضية تُعَد بمثابةِ حلقة وصل مفيدة بين عدة مجموعات كبيرة من الحقائق الفسيولوجية، فتلك مسألة منفصلة تمامًا في الوقت الحالي.
لقد تطرَّقتُ إلى النقطة المشكوك فيها (التي أشار إليها هكسلي) المتعلِّقة بالمدى الذي يُمكن أن تبلغه الذرات المشتقة من الخليةِ نفسها في تطوُّرها إلى بنيةٍ مختلفة وفقًا لذلك؛ لأنها تتغذَّى تغذيةً مختلفة؛ إذ عرضتُ حويصلاتٍ مراريةً وزوائد سليليةً في شكل رسومات توضيحية. …
إنه لمن دواعي سروري حقًّا أن أُرسل إليك خطابًا بخصوص هذا الموضوع، وسأسعدُ إذا استطاع كلانا أن يفهم الآخر، ولكن عليك ألَّا تدَع طبيعتك الطيبة هي التي ترشدك. فلتتذكَّر أننا دائمًا ما نقاتل باستماتة ونبذل كلَّ ما بوسعنا لننال مبتغانا. سنذهب يوم الثلاثاء إلى لندن، حيث سنمكث أسبوعًا في شارع كوين آن أولًا، ثم سنذهب إلى بيت الآنسة ويدجوود، في ريجنتس بارك، ونمكث هناك طوال الشهر، وسيكون لهذا «عظيم الأثر» على تجاربي، كما يقول البستاني الذي يعمل لديَّ، وهو محقٌّ في ذلك.
من تشارلز داروين إلى دبليو أوجل١٦
داون، ٦ مارس [١٨٦٨]
سيدي العزيز
أشكرك بكل صدق على خطابك الذي أثار بالغ اهتمامي. ليتني عَلِمتُ بآراءِ أبقراط هذه قبل أن أنشر كتابي؛ لأنها تبدو شبهَ متطابقة مع آرائي؛ فهي لا تختلف إلا في المصطلحات وفي تطبيقها على مجموعات من الحقائق كان الفيلسوف القديم يجهلها بالطبع. الحالة كلها مثالٌ ممتاز على مدى نُدرة وجود أي شيء جديد.
لقد زعزع أبقراط ثقتي بنفسي وثبَّط حماستي، لكني لا أهتم كثيرًا بأن أحدًا آخرَ قد سبقني. فأنا أطرح الآراء على أنها محض فرضية مؤقَّتة، غير أنني أتوقَّع في قرارة نفسي أن الناس سيُسلِّمون بصحةِ مثل هذا الرأي عاجلًا أم آجلًا.
… أتوقَّع أن النقاد لن يكونوا على قدرٍ كبير من المعرفة والاطلاع مثلك، وإلا فمن المؤكَّد أنني سأُتَّهم بالسرقة العمد لفرضية «شمولية التكوين» من أبقراط؛ لأن هذه هي العقلية التي يَسعد بعض النقاد بإظهارها.
من تشارلز داروين إلى فيكتور
كاروس
داون، ٢١ مارس
[١٨٦٨]
… إنني في غايةِ الامتنان لك على أنك أرسلت إليَّ رأيك بشأنِ فرضية «شمولية التكوين» بكل صراحة، وأشعر بالحزن على أنه مُعارِض، لكني لا أستطيع أن أفهم تمامًا تعليقَك على أن فرضية «شمولية التكوين»، ومسألة الانتقاء ومسألة الصراع من أجل البقاء، يجب أن تكون أكثرَ منهجية. لست متفاجئًا على الإطلاق من رأيك المُعارِض؛ فأنا أعلم أن الكثيرين، بل معظم الأشخاص على الأرجح، سيصلون إلى النتيجة نفسها. إذ يقول أحدُ المقالات النقدية الإنجليزية إنها مُعقَّدة للغاية … بعض أصدقائي مُتحمِّسون لهذه الفرضية … فالسير سي لايل يقول للجميع: «ربما تكونون غير مؤمنين بفرضية «شمولية التكوين»، لكنكم لن تتوقَّفوا عن التفكير فيها أبدًا حالما تفهمونها.» وأنا قانع تمامًا بهذا النقد. لقد صارت كل حالات الوراثة والارتداد والتطوُّر تظهر لي الآن تحت ضوء جديد …
[ربما يُمكن أن أعرض هنا جزءًا مقتطفًا من خطابٍ إلى فريتز مولر، وإن كان بتاريخٍ لاحق (يونيو):
«لقد أثار خطابك المؤرَّخ بتاريخ ٢٢ أبريل بالغَ اهتمامي. يُسعدني أنك تستحسن كتابي؛ لأنني أعتبر رأيك أقيَم من رأي أي شخص آخر تقريبًا. لم أزَل آمُل أنك سوف تستحسن فرضية «شمولية التكوين». فأنا متيقن من أن عقلَينا متشابهان بعضَ التشابه، وأجد راحةً كبيرة في أن يكون لديَّ وجهةُ نظر مُحدَّدة، وإن كانت افتراضية، عندما أُفكِّر في التحوُّلات العجيبة التي تحدث للحيوانات، ونمو بعض الأجزاء من جديد، ولا سيما التأثير المباشر الذي تُحدثه حبوب اللقاح في الشكل الأم، إلخ. كثيرًا ما يبدو لي من شبه المؤكَّد أن طِباع الوالدَين «تُنسَخ نسخةً طِبق الأصل» عند الطفل، من خلال اشتقاق ذرات مادية من كل خلية في كلا الوالدَين، ثم نموها في جسد الطفل.»]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ٨ مايو [١٨٦٨]
عزيزي
جراي
كنتُ في غاية الجحود والفظاظة لأنني لم أرسل إليك خطابًا قبل الآن بزمنٍ طويل لأشكرك من صميم قلبي على صحيفة «ذا نيشن»، وعلى كل مساعدتك الكريمة للغاية بخصوص الطبعة الأمريكية [من كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»]. لكني كنت مشغولًا في الآونة الأخيرة بأكوام من الخطابات، التي كنت مضطرًّا إلى الرد عليها؛ ولذا أجَّلت إرسالَ خطاب إليك. تلقَّيت صباح اليوم الطبعة الأمريكية (التي تبدو ممتازة)، مع مقدِّمتك اللطيفة، التي أشكرك عليها من أعماق قلبي. أتمنَّى أن يُحقِّق الكتاب نجاحًا كافيًا لئلا تندم على مساعدتك. إن وصول هذه الطبعة قد وجَّه الضربةَ القاضية إلى ضميري، الذي لن يتحمَّل أخطاءه بعد الآن.
من تشارلز داروين إلى جي بينثام
داون، ٢٣ يونيو ١٨٦٨
عزيزي السيد
بينثام
[ربما قد تفيد سلسلةُ الخطابات الواردة أعلاه في إظهار الاستقبال الذي لاقاه الكتاب الجديد، إلى حدٍّ ما. قبل الانتقال (في الفصل التالي) إلى كتاب «نشأة الإنسان»، أعرضُ خطابًا يشير إلى ترجمة كتاب فريتز مولر، «من أجل داروين». لقد نُشر هذا الكتاب في عام ١٨٦٤، لكنَّ الترجمة الإنجليزية، التي ترجمها السيد دالاس، والتي حملت عنوان «حقائق وحجج مؤيدة لداروين»، الذي اقترحه السير سي لايل، لم تظهر قبل عام ١٨٦٩:]
من تشارلز داروين إلى إف مولر
داون، ١٦ مارس [١٨٦٨]
سيدي
العزيز
[ربما يُمكن أن أعرض هنا خطابَين متعلقَين بانتشار الأفكار المؤيدة للتطوُّر في فرنسا وألمانيا:]
من تشارلز داروين إلى إيه جودري
داون، ٢١ يناير [١٨٦٨]
سيدي
العزيز
سيُنشَر كتابي «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين» مترجَمًا بالفرنسية في غضونِ بضعة أشهر، وسوف أسعد وأتشرَّف بأن أطلب من الناشر إرسالَ نسخةٍ إليك على نفس عنوان هذا الخطاب.
[يحمل الخطاب التالي أهميةً خاصة؛ لأنه يُوضِّح ما كان يوليه والدي من قيمةٍ كبيرة لدعم علماء التاريخ الطبيعي الألمان الأصغر سنًّا:]
من تشارلز داروين إلى دبليو
براير٢١
٣١ مارس
١٨٦٨
… سُررتُ بسماعِ أنك تُؤيِّد نظرية «تعديل الأنواع» وتُدافع عن آرائي. فالدعم الذي أناله من ألمانيا هو السبب الرئيسي الذي يعطيني أملًا في أن آراءنا ستسود في نهاية المطاف. صحيح أنني حتى يومنا هذا أتعرَّض باستمرار لإساءات وازدراء من كُتَّاب من أبناء وطني، لكنَّ علماء التاريخ الطبيعي الأصغر سنًّا كلهم تقريبًا يقِفون في صفي، وعاجلًا أم آجلًا، لا بد أن عموم الناس سيتبعون أولئك الأشخاص الذين يخصُّون هذا الموضوع بالدراسة. ما أتعرَّض له من إساءة واحتقار من الكُتَّاب الجهلة لا يكاد يؤلمني إطلاقًا …