العمل على كتاب «نشأة الإنسان»
١٨٦٤-١٨٧٠
[في فصل السيرة الذاتية في الجزء الأول، يعرِض والدي الظروفَ التي دفعته إلى تأليف كتاب «نشأة الإنسان». وهو يذكر أنَّ عمله على تجميع الحقائق، الذي بدأ في عام ١٨٣٧ أو ١٨٣٨، استمرَّ سنواتٍ عديدةً دون أن تكون لديه أيُّ نية واضحة لنشر كتاب عن هذا الموضوع. يوضِّح الخطاب التالي المُرسَل إلى السيد والاس أنه، إبَّان فترةَ مرضه واكتئابه في عام ١٨٦٤ تقريبًا، كان يائسًا من أنه قد يتمكَّن على الإطلاق من فعل ذلك:]
من تشارلز داروين إلى إيه آر
والاس
داون، ٢٨ [مايو؟] [١٨٦٤]
عزيزي والاس
أود أن أكتب أكثرَ من ذلك بكثير، لكني لا أتمتَّع بالقوة التي تُمكِّنني من ذلك.
[في فبراير ١٨٦٧، عندما أُرسلت مخطوطة «تباين الحيوانات والنباتات» إلى دار نشر «ميسرز كلوز» لطباعتها، وقبل أن يبدأ في تلقي بروفات الطباعة، كان لديه فترةٌ من الفراغ، وبدأ كتابة «فصل عن الإنسان»، لكنه سرعان ما وجده يكبُر تحت يديه، وقرَّر أن ينشره على حدةٍ في شكل «مجلَّد صغير جدًّا».
قُوطِع هذا العمل بسبب الحاجة المُلِحة إلى تصحيح بروفات طباعة كتاب «تباين الحيوانات والنباتات»، وبعض الأعمال المتعلِّقة بعلم النبات، لكنه استؤنف في العام التالي، ١٨٦٨، حالما استطاع أن يُكرِّس نفسه له.
أدرك والدي، وهو مفعمٌ بالأسف، ما طرأ على عقله من التغيير التدريجي الذي جعل العملَ المتواصل أشدَّ ضرورةً له شيئًا فشيئًا مع تقدُّمه في السن. وقد عبَّر عن هذا في خطابٍ إلى السير جيه دي هوكر بتاريخ ١٧ يونيو ١٨٦٨، مُكرِّرًا فيه بعضًا ممَّا عُبِّر عنه في فصل السيرة الذاتية:
«سُررتُ بأنك حضرت عرض «المسيح»، هذا العرض هو الشيء الوحيد الذي أود سماعه مُجدَّدًا، لكني أظن أنني سأجد روحي شديدةَ الجفاف إلى حدٍّ سيعجزني عن الإعجاب به كما كنتُ أعجَبُ به في الأيام الخوالي؛ وعندئذٍ سأشعر بأنني فاترٌ جدًّا؛ لأنَّني أشعر على الدوام بمللٍ بشعٍ إلى حدٍّ يجعلني فاقدَ الاهتمام والشغف، كورقة ذابلة فقدت نضارتها، تجاه كل الموضوعات باستثناء العلم. وهذا أحيانًا ما يجعلني أكره العلم، مع أن الرب يعلم أنني يجب أن أكون شاكرًا لوجود مثل هذا الاهتمام الدائم، الذي يجعلني أنسى معدتي اللعينة بضع ساعات كل يوم.»
توقَّف العمل على كتاب «نشأة الإنسان» بسبب المرض في أوائل صيف عام ١٨٦٨، وغادر المنزل في ١٦ يوليو متجهًا إلى قرية فريشووتر، في جزيرة وايت، حيث مكث مع أسرته حتى ٢١ أغسطس. وهناك تعرَّف على السيدة كاميرون. وقد استقبلتْ أفرادَ الأسرة كلَّهم بلُطف ودود وحُسن ضيافة صادق، ودائمًا ما كان والدي يُكِن لها شعورًا حارًّا بالصداقة. وقد التَقَطَت له صورةً فوتوغرافية ممتازة نُشِرت مكتوبًا عليها: «هذه الصورة أَحبُّ إليَّ بكثير من أي صورة أخرى التُقِطَت لي.» شهد الخريف توقُّفًا آخر؛ وبذلك لم يبدأ العمل المتواصل على كتاب «نشأة الإنسان» إلا في عام ١٨٦٩. تُقدِّم الخطابات التالية فكرةً عن العمل الذي سبق ذلك في عام ١٨٦٧:]
من تشارلز داروين إلى إيه آر
والاس
داون، ٢٢ فبراير [١٨٦٧؟]
عزيزي والاس
أعملُ بجدٍّ على مسألة الانتقاء الجنسي، وأكاد أُجَن من عدد النقاط الجانبية التي تحتاج إلى بحث، مثل العدد النسبي لكلا الجنسَين، لا سيما النقاط المتعلِّقة بتعدُّد الزيجات. هل تستطيع مساعدتي فيما يتعلَّق بالطيور التي تتسم بسماتٍ جنسية ثانوية بارزة، مثل طيور الجنة، أو الطيور الطنانة، أو طيور الروبيكولا، أو أي حالات أخرى كهذه؟ من المؤكَّد أن العديد من الطيور الدجاجية متعددةُ الزوجات. أظن أن الطيور قد تُعرَف بأنها ليست مُتعدِّدة الزوجات إذا شوهدت طوال موسم التكاثر متصاحبةً في أزواج، أو إذا كان الذَّكَر يحتضن البَيض ليفقس أو يساعد في إطعام الصغار. فهلَّا تتكرَّم ببحث هذه المسألة؟ لكنه عارٌ عليَّ أن أزعجك الآن وأنت، حسبما سمعتُ وسُررتُ «من أعماق قلبي» بذلك، منهمكٌ في العمل على كتابك المتعلِّق برحلاتك إلى أرخبيل الملايو. إنني مُتحيِّر للغاية ولا أعرف إلى أي مدًى يُمكن توسيعُ النطاق الذي يمكن أن تشمله آراؤك الوقائية بخصوص الإناث في مختلِف الطوائف. فكلما عملت، يبدو جليًّا أن الانتقاء الجنسي يحمل أهميةً أكبر.
هل يمكن للفراشات أن تكون مُتعدِّدة الزوجات! أي هل يُمكن لذَكَرٍ واحد أن يُخصِّب أكثرَ من أنثى؟ سامحني على إزعاجك، وأظن أنني سأُضطر إلى طلب السماح مُجدَّدًا …
من تشارلز داروين إلى إيه آر
والاس
داون، ٢٣ فبراير [١٨٦٧]
عزيزي والاس
انتابني أسفٌ شديد على أنني لم أستطِع زيارتك، لكني من بعد يوم الإثنين لم أستطِع حتى مغادرةَ المنزل. زُرت بيتس مساء الإثنين، وطرحتُ عليه مشكلةً ما، لكنه لم يستطِع حلَّها، وكان أول شيء اقترحه عليَّ، كما حدث في مناسبة شبيهة سابقة، قوله «من الأفضل أن تسأل والاس.» المشكلة التي أُواجهها هي: لماذا تكتسي اليساريع أحيانًا بألوانٍ جميلة جدًّا وإبداعية؟ فنظرًا إلى أن العديد منها ملوَّن من أجل الهروب من الخطر، لا أستطيع إطلاقًا أن أعزوَ لونها الزاهي في حالاتٍ أخرى إلى ظروف طبيعية فقط. يقول بيتس إن اليسروع الأشد بهرجةً بين كل اليساريع التي رآها على الإطلاق في منطقة الأمازون (وكان من يساريع عُثَّة أبي الهول) كان بارزًا بوضوح من مسافة ياردات، بسبب ألوانه السوداء والحمراء، بينما كان يتغذَّى على أوراقٍ نباتية خضراء كبيرة. إذا اعترض أيُّ أحد على أن السبب في جمال ذكور الفراشات يعود إلى الانتقاء الجنسي، وسأل قائلًا لماذا إذن لا يحدث الأمر نفسه مع يساريعها، فبِمَ ستُجيب؟ لم أستطِع الإجابة، لكني يجب أن أتمسَّك بموقفي. فهلَّا تُفكِّر مليًّا في هذا، وتُخبرني برأيك لاحقًا في أي وقت، سواء بخطابٍ أو عندما نلتقي؟ أريد أيضًا أن أعرف ما إذا كانت فراشتك المُحاكية «الأنثى» أجمل من الذكر وأزهى ألوانًا منه. في المرة القادمة التي سآتي فيها إلى لندن، لا بُد أن أجعلك تُريني رفرافياتك. حالتي الصحية مصيبة بغيضة على رأسي؛ إذ لم أستطِع الوفاء بنصف التزاماتي في أثناء هذه الزيارة الأخيرة إلى لندن.
من تشارلز داروين إلى إيه آر
والاس
داون، ٢٦ فبراير [١٨٦٧]
عزيزي والاس
السبب الذي يجعلني مهتمًّا جدًّا بالانتقاء الطبيعي الآن بالذات هو أنني عقدت العزمَ تقريبًا على نشر مقالة صغيرة عن أصل الجنس البشري، وما زلت أعتقد بشدة (مع أنني فشلت في إقناعك، وتلك في رأيي، أشدُّ صدمة مُحبطة ممكنة) أن الانتقاء الجنسي كان العامل الرئيسي في تكوين أعراق الإنسان.
بالمناسبة، سأُقدِّم في مقالتي موضوعًا آخر، ألَا وهو التعبيرات عن العواطف. والآن، هل منحتك الصدفة بأي حال من الأحوال فرصةَ التعرُّف على ملاحظٍ يتمتع بقدرٍ كبير من حُسن الخُلُق وحدَّة الملاحظة في أرخبيل الملايو، وتعتقد أنه يستطيع أن يُجري لي بضع ملاحظات سهلة عن تعبيرات وجوه شعب الملايو عندما يتأثَّرون بانفعالات مختلفة؟ لأنني، في هذه الحالة، سأرسل إلى هذا الشخص قائمةً من الاستفسارات. أشكرك على خطابك الشائق جدًّا، وسأظل المخلص لك دائمًا.
من تشارلز داروين إلى إيه آر
والاس
داون، مارس [١٨٦٧]
عزيزي والاس
… الناسختان اللتان أتعامل معهما مشغولتان مع بعض الأصدقاء، وأخشى أن تجد عناءً كبيرًا في قراءة هذا الخط الرديء. مع جزيل الشكر.
[ربما قد يكون الخطاب التالي جديرًا بأن أعرضه، باعتباره مثالًا لمصادر معلوماته، وماهية الأفكار التي كانت تشغله آنذاك:]
من تشارلز داروين إلى إف مولر
داون، ٣ فبراير [١٨٦٧]
… شكرًا جزيلًا على كل الحقائق الشائقة المتعلِّقة بعدد الجنسَين غير المتكافئ في القشريات، لكني كلما أمعنت البحث في هذا الموضوع، غرقت في أعماق الشك والصعوبات المحيِّرة. وشكرًا كذلك على تأكيدِ مسألةٍ تنافُس الزيزيات. كثيرًا ما فكَّرت وأنا مفعمٌ بالدهشة في تنوُّع وسائل إنتاج الموسيقى لدى الحشرات، وكانت دهشتي تزيد عند التفكير في تلك الوسائل لدى الطيور. يشير هذا إلى الأهمية الكبيرة التي يتخذها الغناء في مملكة الحيوانات. أرجو منك أن تُخبرني بأي مكان أستطيع أن أجد فيه أيَّ وصف للأعضاء السمعية لدى مستقيمات الأجنحة. الحقائق التي ذكرتَها جديدة تمامًا عليَّ. لقد وصف سكادر حشرةً في طبقات العصر الديفوني لديها جهاز يُحدث صريرًا. أعتقد أنه محلُّ ثقة، وإذا صحَّ ذلك، فهذا الجهاز قديم إلى حدٍّ مذهل. بعدما قرأت ورقةَ لاندوا البحثية، عكفت على العمل على العضو الذي يُحدِث صريرًا لدى خنافس الجعال، مُتوقِّعًا أن أجده جنسيًّا، لكني حتى الآن لم أجده إلا في حالتَين، وكان في الحالتَين مُتطوِّرًا بالقدرِ نفسه لدى الجنسَين. أتمنَّى أن تنظر إلى أيٍّ من خنافس الجعال الشائعة الموجودة لديك، وتُمسك كلًّا من الذكور والإناث، وتُلاحظ ما إذا كانا يُصدِران الصرير أو الضوضاء المُزعِجة بالقدر نفسه. إذا لم يكونا كذلك، فهلَّا تُرسل إليَّ ذكرًا وأنثى في صندوق صغير خفيف. ما أغربَ أن يوجد عضو خاص من أجل هدفٍ يبدو غير مهم كإصدار الصرير. ثمَّة نقطة أخرى أيضًا، هل لديك أيٌّ من طيور الطوقان؟ إذا كان لديك، فاسأل أي صياد جدير بالثقة عمَّا إذا كانت مناقير الذكور، أو كلا الجنسَين، تكون زاهية الألوان في أثناء موسم التكاثر بدرجةٍ أكبرَ ممَّا تكون عليه في أوقاتٍ أخرى من العام … الرب وحدَه يعلم ما إذا كنتُ سأعيش أصلًا إلى اليومِ الذي أستفيد فيه من نصفِ الحقائقِ القيِّمة التي أرسلتَها إليَّ! لقد ظهرت ورقتك البحثية عن البرنقيل من نوع بالانوس آرماتوس، مُترجَمةً بقلم السيد دالاس، للتو في مجلتنا «أنالز آند ماجازين أوف ناتشورال هيستوري»، وقرأتُها بأشدِّ اهتمام. لم يخطر ببالي قط أنني سأعيش إلى اليومِ الذي أسمع فيه عن نوعٍ هجين من البرنقيل! إنني سعيد جدًّا بأنك رأيت الأنابيب اللاصقة، أرى أنها غريبة للغاية، وعلى حدِّ علمي، فأنت أول رجل يُؤكِّد صحةَ ملاحظاتي بخصوص هذه النقطة.
أشكرك من صميم قلبي على كل لُطفك يا سيدي العزيز.
من تشارلز داروين إلى إيه دي
كوندول
داون، ٦ يوليو ١٨٦٨
سيدي العزيز
أرسل إليك «أصدقَ» مشاعرِ الامتنان في ردي هذا على خطابك الطويل، الذي أعتبره إطراءً كبيرًا، وأراه ممتلئًا عن آخره بحقائقَ وآراءٍ شائقة للغاية. سوف تُجدي مراجعك وتعليقاتك نفعًا كبيرًا لو طُلِبَت طبعةٌ جديدة من كتابي («تباين الحيوانات والنباتات»)، لكن ذلك غير مُرجَّح إطلاقًا؛ لأن الطبعة كلها بيعت في الأسبوع الأول، وأعيد على الفور إصدار طبعة أخرى مكوَّنة من نُسخٍ كثيرة جدًّا أظنها ستُوفِّر الكميةَ المطلوب شراؤها إلى الأبد. تسألني متى سأنشر عن موضوع «تباين الأنواع في الطبيعة». لقد أعددتُ مخطوطةَ كتابٍ آخرَ على مرِّ عدة أشهر وصارت شبهَ جاهزة، لكن كتابي الأخير أنهكني جدًّا إلى حدِّ أنني قرَّرت أن أُسلِّي نفسي بنشر مقالة قصيرة عن «نشأة الإنسان». أحدُ الأسباب التي دفعتني إلى ذلك هو تعرُّضي للسخرية من أنني أخفيت آرائي، لكن السبب الرئيسي هو الاهتمام البالغ الذي أحمله تجاه هذا الموضوع منذ فترة طويلة. لقد تشعَّبت هذه المقالة الآن إلى بعض الموضوعات الجانبية، وأظن أن إكمالها سيستغرق مني أكثرَ من عام. سأبدأ بعدئذٍ في العمل على موضوع «الأنواع»، لكن حالتي الصحية تجعل وتيرةَ عملي بطيئةً جدًّا. آمُل أن تسامحني على هذه التفاصيل التي ذكرتَها لأُبيِّن لك أنك ستحظى بمتَّسع كبير من الوقت لنشر آرائك أولًا، وهذا سيفيدني كثيرًا. من بين كل الحقائق الغريبة التي ذكرتَها في خطابك، أعتقد أن حقيقةَ وجود نزعة قوية لتوارث عضلات فروة الرأس هي الأكثر إثارةً لاهتمامي. أظن أنك لن تعترض على أن أطرح من جانبي هذه الحالة الغريبة جدًّا على عُهدتك. ولأنني أعتقد أن علماء التشريح كلَّهم يعتبرون عضلات فروة الرأس جزءًا متبقيًا من السبلة الشحمية الشائعة لدى ذوات الأربع الأدنى رُتبة، ينبغي أن أنظر إلى التطوُّر غير العادي لهذه العضلات وتوارُثها الاستثنائي على أنهما يُمثِّلان إحدى حالات الارتداد على الأرجح. أرى أن ملاحظتك التي قلتَ فيها إن عددًا هائلًا من رجالِ العائلات النبيلة قد وُلِد بزواج غير شرعي غريبةٌ للغاية، وإذا التقيتُ أيَّ أحد يستطيع كتابة مقال عن هذا الموضوع على الإطلاق، فسأذكر له تعليقاتك باعتبارها اقتراحًا وجيهًا. قال لي الدكتور هوكر مرارًا إن مسألتَي الأخلاق والسياسة ستكونان شائقتَين جدًّا إذا نُوقشتا كأي فرع من فروع التاريخ الطبيعي، وهذا يحمل نفس مغزى تعليقاتك تقريبًا …
من تشارلز داروين إلى إل أجاسي
داون، ١٩ أغسطس ١٨٦٨
سيدي
العزيز
أشكرك من صميم قلبي على خطابك اللطيف جدًّا. لقد ظننتُ بالطبع أنك قد ارتأيت سلفًا أن جهدي العلمي متواضعٌ جدًّا إلى حدِّ أنني ربما كنت سأبدو فظًّا لو أقدمت على طلب معلومات منك، لكن لم يخطر ببالي قَط أن خطابي قد عُرِض عليك. لم أشكَّ قَط ولو لحظةً واحدة في لُطفك وكرمك، وآمُل ألَّا تراني وقحًا إذا قلتُ إنني، عندما التقينا منذ سنوات عديدة في الجمعية البريطانية في ساوثهامبتون، شعرتُ تجاهك بأشدِّ مشاعر الإعجاب.
لقد أثارت معلوماتُك عن أسماك الأمازون «بالغَ» اهتمامي، وأخبَرَتني بما كنت أريد معرفته بالضبط. كنت أعرِف، من ملاحظاتٍ أعطاني إياها الدكتور جونتر، أن أسماكًا كثيرة تختلف فيما بين جنسَيها في اللون وسمات أخرى، لكني كنت مُتلهِّفًا جدًّا لمعرفة إلى أي مدًى ينطبق ذلك على تلك الأسماك التي يأخذ فيها الذَّكَر، على عكس ما يحدث لدى معظم الطيور، النصيب الأكبر في رعاية البَيض والصغار. لم يُثر خطابك بالغَ اهتمامي فحسب، بل أسعدني جدًّا أيضًا، وأردُّ بخالص شكري على لُطفك. مع أصدقِ تحياتي يا سيدي العزيز.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، الأحد ٢٣ أغسطس [١٨٦٨]
صديقي القديم العزيز
ماذا عن الصور الفوتوغرافية؟ أيمكنك أن تُدبِّر وقتًا لتبعثَ برسالة قصيرة إلى عزيزتنا السيدة كاميرون؟ لقد جاءت لتُودِّعنا، وأهدتنا صورًا فوتوغرافية كثيرة جدًّا، وناداها إيرازموس قائلًا: «أيتها السيدة كاميرون، يوجد ستة أشخاص في هذا المنزل كلهم يحبُّونك.» عندما دفعتُ لها المال، صاحت قائلة: «يا له من مال كثير!» وركضت لتتباهى أمام زوجها.
يجب ألَّا أُطيل الكتابة عن هذا القدْر، مع أنني في حالة معنوية رائعة بفضل نجاحك الباهر.
[في دورية «ذا أثنيام» في ٢٩ نوفمبر ١٨٦٨، ظهر مقالٌ كان في الواقع ردًّا على ما قاله السير جوزيف هوكر في اجتماع نورويتش. ويبدو أنه استشار والدي بخصوص حكمة الرد على هذا المقال. فكتب والدي في خطابٍ إليه بتاريخ ١ سبتمبر:
«في رأيي، لا يحتاج الدكتور جوزيف دالتون هوكر إلى أن يُلقي بالًا للهجوم الوارد في دورية «ذا أثنيام» بخصوص السيد تشارلز داروين. يا له من حمارٍ ذاك الرجل الذي يظن أنه يُلحق جرحًا بليغًا بكبرياء المرء بذكرِ اسمه الأول كاملًا. كم سافِر هو خطأ الادعاء القائل بأن أساس عملي الوحيد قائم على الحمَام؛ لأنني أقول إنني فهمت الحمَام فهمًا أكمَل من فهمي للكائنات الأخرى! إنه يخلِط بين كتابَين من كتب فلورانس.
من تشارلز داروين إلى جون دي
كاتون
داون، ١٨ سبتمبر ١٨٦٨
سيدي العزيز
اسمح لي بأن أشكرك بكل صدقٍ على لفتتك اللطيفة في إرسال ورقتك الرائعة عن الغزال الأمريكي إليَّ، عن طريق السيد والش.
إنها غنية جدًّا بملاحظات شائقة للغاية تطرحها بمنتهى الوضوح. نادرًا ما قرأت ورقةً بحثية باهتمام أشدَّ من ذاك الذي قرأتُ به هذه الورقة؛ لأنها زاخرة بحقائقَ ذات نفعٍ مباشر لعملي. ثم إن الكثير من هذه الحقائق يتكوَّن من نقاطٍ بسيطة لم يلاحظها أيُّ أحد ولم يدرك أهميةَ تدوينها غيرك تقريبًا. سأضرب مثالًا على ذلك بذكرك للعصر الذي تطوَّرت فيه القرون (وقد كنت أبحث مُؤخَّرًا عن معلوماتٍ بشأن هذه النقطة لكن من دون جدوى)، والأجزاء الأثرية للقرون لدى إناث الإلكة، ولا سيما الطبيعة المختلفة للنباتات التي تلتهمها الغزلان وحيوانات الإلكة وعدة نقاط أخرى. مع خالص الشكر على ما منحتني إياه من بهجة وتوجيه، ومع بالغ احترامي لقدرتك على الملاحظة، أرجو أن تسمح لي بأن أبقى، يا سيدي العزيز، صديقك المخلص والممتن لك دائمًا.
«نظرًا إلى أنني سَبَق وقرأتُ العديدَ من أوراقك البحثية عن النباتات المتحفرة ببالغ الاهتمام، فربما تُصدِّق كم أنني غُمرت بالرضا عندما سمِعت أنك مؤمن بالتطوُّر التدريجي للأنواع. ذلك أنني كنت أظن أن كتابي عن «أصل الأنواع» لم يترك في فرنسا سوى انطباعٍ ضئيل جدًّا؛ ولذا سُررتُ بسماعِ عكس ذلك منك. يبدو أن مسئولي المعهد الكبار جميعهم مُصمِّمون بكل ثبات على عدم قابلية الأنواع للتغيُّر، ودائمًا ما كان هذا يدهشني … الاستثناء الوحيد تقريبًا، على حدِّ علمي، هو السيد جودري، وأظنه سيصبح عمَّا قريب أحدَ كِبار الرواد في علم الحفريات الحيوانية في أوروبا، والآن يسعدني سماعُ أنكم في قسم علم النبات التابع للمعهد تتبنَّون الرأي نفسه تقريبًا.»]
من سي داروين إلى إي هيكل
داون، ١٩ نوفمبر [١٨٦٨]
عزيزي
هيكل
يجب أن أكتب إليك مرةً أخرى لسببَين. أولًا، لأشكرك على خطابك الذي بعثته بخصوص رضيعك، والذي فتنني أنا وزوجتي، أُهنِّئك من صميم قلبي على ولادته. أتذكَّر أنني فوجئت، عندما عايشت هذا بنفسي، بمدى سرعة تطوُّر الغرائز الأبوية، التي تبدو قويةً بدرجةٍ استثنائية لديك … آمُل أن تجعل العينان الزرقاوان الكبيرتان ومبادئُ الوراثة طفلَك عالِمَ تاريخ طبيعي بارعًا مثلك. ولكن، من واقع تجرِبتي الشخصية، ستُدهش عندما ترى كيفية تغيُّر كل الطباع الذهنية لأطفالك مع تقدُّم السنين. فالطفل الصغير — وشِبه البالغ أيضًا — أحيانًا ما يختلف قدْرَ ما يختلف اليسروع والفراشة تقريبًا.
أُكرِّر التعبيرَ عن مدى سعادتي الشديدة باحتمالية الترجمة؛ لأنني أومن تمامًا بأن هذا العمل وأعمالك كلها ستُحدث تأثيرًا كبيرًا في تقدُّم العلم.
مع أصدقِ التحيات، يا عزيزي هيكل، من صديقك المخلص.
[في نوفمبر من هذا العام، كان يقعد أمام السيد وولنر لينحت تمثالًا نصفيًّا له، فكتب بخصوص ذلك قائلًا:
«كان ينبغي أن أُرسل إليك منذ وقت طويل، لكني كنت منزعجًا بسبب خطاباتٍ غبية، وأُعاني عذابًا يضاهي عذاب التطهير من الخطايا بجلوسي طوال ساعات أمام وولنر، الذي أرى مع ذلك أنه لطيف للغاية، ويُخفِّف عني تلك الكفارة بأقصى ما يقدِر عليه إنسان، وأعتقد أن عمله سيُسفر عن تمثال نصفي ممتاز حسبما أرى.»
إذا كان لي أن أنتقد عمل نحَّات بارز كالسيد وولنر، فأرى أن ذاك التمثال النصفي قد شابه بعضُ القصور باعتباره صورةً فنية للوجه، وهي أنه يعكس طابعًا معينًا قريبًا للغاية من الغطرسة، وهو يبدو لي غريبًا عن تعبير وجه والدي.]
١٨٦٩
[في بداية العام، كان يعمل على إعداد الطبعة الخامسة من كتاب «أصل الأنواع». بدأ هذا العمل في اليوم التالي لأعياد الميلاد، في عام ١٨٦٨، واستمرَّ «٤٦ يومًا»، كما يذكرُ في مفكِّرته اليومية؛ أي حتى ١٠ فبراير ١٨٦٩. ثم عاد بعد ذلك، في ١١ فبراير، إلى موضوع الانتقاء الجنسي، واستمرَّ في العمل على هذا الموضوع (باستثناء ١٠ أيام خصَّصها لموضوع السحلبيات، وأسبوع في لندن)، حتى ١٠ يونيو، عندما ذهب مع عائلته إلى شمال ويلز، حيث مكث حوالي ٧ أسابيع، وعاد إلى داون في ٣١ يوليو.
كان المنزل الذي مكث فيه، والذي يحمل اسم كارديون، مَشيدًا على الشاطئ الشمالي لمصب بارماوث الجميل في موضع مُبهِج، على مقربة من التل الريفي البري الواقع خلفه، وكذلك من «الروابي» المشجَّرة الخلَّابة، بين التلال الأشد انحدارًا والنهر. وكان والدي مريضًا ومكتئبًا بعضَ الشيء طوال هذه الزيارة، وأظنه كان حزينًا لأنه كان حبيسَ قلةِ العافية، وعاجزًا حتى عن الوصول إلى التلال التي كان يجوبها أيامًا متواصلةً في الماضي.
أرسل خطابًا من كارديون إلى السير جيه دي هوكر (بتاريخ ٢٢ يونيو) قال فيه:
«نحن هنا منذ ١٠ أيام، كم أتمنَّى أن تزورنا هنا؛ فلدينا منزلٌ جميل ذو حديقة مدرَّجة، وإطلالة رائعة حقًّا على جبل «كادِر» الذي يقع قبالتنا مباشرة. كادِر العجوز رجلٌ ضخم مهيب، ويتباهى بنفسه بروعة وفقًا لتغيُّر الضوء. سنبقى هنا حتى نهاية يوليو، وحينها سيُقيم آل إتش ويدجوود في المنزل. لا تزال صحَّتي واهنةً جدًّا؛ إذ يبدو أن عافيتي كلها تنهار حالما يتوقَّف حافزُ العمل الذهني. فأنا لم أتمكَّن من الابتعاد عن المنزل إلا لنصف ميلٍ أقطعه ببطء شديد، ثم يُصيبني إنهاك شديد. هذا كافٍ ليجعل المرء يتمنَّى أن يرقد ساكنًا في قبرٍ مريح.»
بخصوص الطبعة الخامسة من كتاب «أصل الأنواع»، كتب في خطاب إلى السيد والاس (بتاريخ ٢٢ يناير ١٨٦٩):
«قوطِعتُ في أثناء عملي المنتظِم على إعداد طبعة جديدة من كتاب «أصل الأنواع» كبَّدتني الكثيرَ من الجهد المضني، وآمُل أن أكون قد أضفتُ فيها تحسينًا كبيرًا على نقطتَين مهمتَين أو ثلاث. دائمًا ما كنت أظن أن الاختلافات الفردية أهمُّ من التباينات المُفرَدة، لكني الآن توصَّلت إلى استنتاجٍ مفادُه أنها ذات أهمية قصوى، وأعتقد أنني أتفق معك في هذا. لقد أقنعتني حججُ فليمنج جِنكِن.»
شُرِحَت هذه الجملة الغامضة بعض الشيء، في ٢ فبراير، في خطابٍ آخر إلى السيد والاس:
«لا بد أنني عبَّرت عن نفسي بطريقةٍ بشعة؛ فما قصدتُ قوله هو بالتحديد عكسُ ما فهمتَه تمامًا. لقد طرَح إف جِنكن في دورية «نورث بريتش ريفيو» حججًا معارِضةً لفكرة أن التباينات المفردة تدوم إلى الأبد أصلًا، وأقنعني بذلك، ولكن بطريقةٍ واضحة تفصيلية لا على النحو الذي أوردته هنا. دائمًا ما كنت أظن أن الاختلافات الفردية أهمُّ، لكني كنت أعمى، وكنت أتوهَّم أن التباينات المفردة ربما تُحفَظ بتواترٍ أكبرَ بكثير ممَّا أراه الآن ممكنًا أو مُرجَّحًا. وإنما ذكرتُ هذا في رسالتي السابقة لأنني اعتقدت أنك توصَّلت إلى استنتاجٍ مشابه، وأنا أحبُّ كثيرًا أن أوافقك الرأي. أعتقد أن العامل الرئيسي الذي جعلني أنخدع هو أن التباينات المفردة تُقدِّم أمثلةً بسيطة، كما في حالة قيام الإنسان بالانتقاء.»
نُشرت المقالة النقدية التي كتبها الراحل السيد فليمنج جِنكِن، عن كتاب «أصل الأنواع»، في عدد يونيو ١٨٦٧ من دورية «نورث بريتش ريفيو». ومن اللافت جدًّا للنظر أن الانتقادات التي شعر والدي، على ما أعتقد، بأنها أقيمُ انتقادات طُرِحَت عن آرائه على الإطلاق لم تصدر عن عالِم تاريخ طبيعي متمرِّس، بل أستاذ في مجال الهندسة.
لا يمكن سردُ وصفٍ وافٍ لحجة فليمنج جنكن في حيزٍ صغير. ذلك أن نسخة والدي من الورقة البحثية (وهي مقطوعة من المجلَّد كالمعتاد ومربوطة بقطعة من الخيط) تحمل ملحوظاتٍ توضيحيةً بالقلم الرصاص في مواضعَ كثيرة. ربما يمكنني أن أقتبس فقرةً واحدةً كَتَب والدي قبالتها كلمتَي «سخرية وجيهة»، ولكن ينبغي تذكُّر أنه استخدم كلمة «سخرية» بمعنًى خاص بعض الشيء؛ إذ لا تُشير بالضرورة إلى اللذوعة الحادة في النقد، بل هي مُستخدمة على الأرجح بمعنى «المزاح». قال فليمنج جنكن مُتحدِّثًا عن «المؤمن الحقيقي»، في الصفحة ٢٩٣:
«يستطيع أن يبتدع تسلسلاتٍ من أسلافٍ لا دليل على وجودهم، ويستطيع أيضًا حشدَ مجموعاتٍ من أعداءٍ مُتخيَّلين، واستحضار قارات وفيضانات وأجواء غريبة، ويستطيع تجفيفَ المحيطات، وتقسيم الجزر، وتقسيم الأبدية وفق هواه، ومن المؤكَّد أنه، في ظل وجود هذه المزايا، لا بد أن يكون رجلًا غبيًّا إذا لم يستطِع رسمَ تصوُّر لتسلسلٍ ما من الحيوانات والظروف يشرح الصعوبةَ المفترض وجودُها في فرضيتنا شرحًا طبيعيًّا تمامًا. وفي ظل الشعور بصعوبة التعامل مع الخصوم الذين لديهم مخيلة واسعة جدًّا، فسنترك هذه الحجج، ونعتمد على تلك التي على الأقل لا يمكن الهجوم عليها بمجرَّد محاولات التخيُّل.»
في الطبعة الخامسة من كتاب «أصل الأنواع»، غيَّر والدي فقرةً في فصل الملخَّص التاريخي (الصفحة الثامنة عشرة في الطبعة الرابعة). وبذلك يكاد يكون قد تخلَّى تقريبًا عن المهمة الصعبة المتمثِّلة في محاولةِ فهمِ ما إذا كان السير آر أوين يَدَّعي أنه مكتشف مبدأ الانتقاء الطبيعي أم لا. وأضاف قائلًا: «بخصوص مصطلح مبدأ الانتقاء الطبيعي فحسب، من غير المهم إطلاقًا ما إذا كان البروفيسور أوين قد سبقني إليه أم لا؛ لأن … الدكتور ويلز والسيد ماثيو قد سبقانا منذ زمن بعيد.»
وَرَد نقدٌ شديد بعض الشِّدة للطبعة الخامسة، بقلم السيد جون روبرتسون، في دورية «ذا أثنيام»، في ١٤ أغسطس ١٨٦٩. يُعلِّق الكاتب بشيء من الحدة اللاذعة على نجاح كتاب «أصل الأنواع»، قائلًا: «ليس الانتباه مرادفًا للقَبول. وكثرة الطبعات لا تعني نجاحًا حقيقيًّا. يُحقِّق الكتاب مبيعاتٍ جيدة، بينما تجري مناقشةُ الفرضية التخمينية، والرواج والمناقشة يشيران إلى أهمية الطبعات.» ويذكر السيد روبرتسون هذا الادعاء الصحيح، لكنه مُضلِّل، قائلًا: «يستهل السيد داروين طبعته الإنجليزية الخامسة بمقالة يُسمِّيها «مُلخَّص تاريخي»، إلخ.» وقد صدر هذا الملخَّص بالفعل في الطبعة الثالثة في عام ١٨٦١.
ويواصل السيد روبرتسون كلامه قائلًا إن الملخَّص كان ينبغي أن يُسمَّى مجموعة مقتطفات تتنبَّأ بفرضية الانتقاء الطبيعي أو تُؤيِّدها. «لأنه لم يتضمَّن أيَّ سرد لأي آراء معارضة. ولهذه الحقيقة دلالةٌ مهمة جدًّا. ذلك أنها تجعل هذا الملخَّص التاريخي أشبهَ بالسجلات التاريخية لعهد لويس الثامن عشر، التي نُشرت بعد فترة «الاستعادة»، والتي حُذفت منها الجمهورية والإمبراطورية، وروبسبيار وبونابرت.»
يعطي الخطاب التالي المُرسَل إلى البروفيسور فيكتور كاروس، فكرةً عن الطابع العام للطبعة الجديدة من كتاب «أصل الأنواع»:]
من تشارلز داروين إلى فيكتور
كاروس
داون، ٤ مايو
١٨٦٩
… تفحَّصتُ الكتاب كلَّه بعناية في محاولة لتوضيح بعض الأجزاء، وإضافة بضعٍ من المناقشات والحقائق المهمة. الطبعة الجديدة أطولُ من القديمة بصفحتَين فقط إجمالًا، بالرغم من إضافة تسع صفحات إلى جزء واحد مقدَّمًا؛ وذلك لأنني اختصرت عدةَ أجزاء وحذفت بعض الفقرات. أخشى أن تُكبِّدك الترجمة عناءً شديدًا؛ إذ استغرقت التعديلاتُ ستة أسابيع إلى جانب تصحيح الكتاب وتهيئته للطباعة، ينبغي أن تبرم اتفاقًا خاصًّا مع السيد كوخ [الناشر]. العديد من التصحيحات مجرَّد بضع كلمات، لكنها أُجرِيت استنادًا إلى أن الأدلة المتعلِّقة بنقاط مختلفة يبدو أنها أصبحت أقوى أو أضعف قليلًا.
وهكذا هُديتُ إلى أنْ أرى أن التأثيرَ المحدَّد المباشر للظروف الخارجية ذو قيمة أكبر، وإلى أن أرتئي أن الفترة الزمنية، كما هي مَقيسة بالسنوات، ليست طويلةً جدًّا بالقدر الذي يظنه معظمُ الجيولوجيين، وأن أستنتج أنَّ التباينات المفردة أقلُّ أهميةً بكثير ممَّا كنت أظن سابقًا، مقارنةً بالاختلافات الفردية. أذكر هذه النقاط لأن هذا قادني إلى تعديل «بضع كلمات» في مواضعَ عديدة، وإذا لم تطالع الطبعةَ الجديدة كلها، فلن تتفق الأجزاء بعضها مع بعض، وهذا سيكون عيبًا جسيمًا …
[دائمًا ما كان والدي يرغب بشدة في أن تنتشر آراؤه في فرنسا؛ ولذا تضايق عن وجهِ حق عندما اكتشف أن محرِّرة الطبعة الفرنسية الأولى أصدرت في عام ١٨٦٩ طبعةً ثالثة دون استشارة المؤلِّف. ومن ثَم، فَرِح بإبرام اتفاق لإصدار نسخةٍ مترجمة إلى الفرنسية من الطبعة الخامسة، وكان مَن تولَّى ذلك هو السيد رينفالد، الذي ظلَّت تجمعه به علاقةٌ طيبة بصفته ناشرًا للعديد من كتبه باللغة الفرنسية.
قال في خطابٍ إلى السير جيه دي هوكر:
«يجب أن أُنفِّس عمَّا بداخلي وأحدِّثك عن الآنسة سي روييه، التي ترجمت كتابَ «أصل الأنواع» إلى الفرنسية، والتي كبَّدتني عناءً لا حصر له من أجل طبعتها الثانية. لقد أصدرَت للتو طبعةً فرنسية ثالثة دون إعلامي، وبذلك فكلُّ ما ورد من تصحيحات وما إلى ذلك في الطبعتَين الإنجليزيتَين الرابعة والخامسة ليس موجودًا في طبعتها الثالثة هذه. وإلى جانب مقدِّمتها الطويلة للغاية التي استهلَّت بها الطبعة الأولى، أضافت مقدِّمةً ثانية تُسيء إليَّ بتشبيهي بأنني نشَّال سَرَق فرضيةَ «شمولية التكوين»، وليس لهذا بالطبع أيةُ علاقة بكتاب «أصل الأنواع». لذا أرسلت خطابًا إلى باريس، ووافق رينفالد على إصدارِ نسخة مترجمة جديدة من الطبعة الخامسة فورًا؛ لتنافس طبعتها الثالثة وتتفوَّق عليها … تُظهِر هذه الحقيقة أن فكرة «تطوُّر الأنواع» تنتشر في فرنسا أخيرًا بكل تأكيد.»
يحمل الخطابُ التالي بعضَ الأهمية فيما يتعلَّق بانتشار فكرة التطوُّر بين المتدينين التقليديين. إذ تلقَّى والدي في مارس، من المؤلِّف، نسخةً من محاضرةٍ كتبها المبجَّل تي آر آر ستِبينج وأُلقيت أمام جمعية التاريخ الطبيعي في توركي، في ١ فبراير ١٨٦٩، حاملةً عنوان «الداروينية». فأرسل والدي خطابًا إلى السيد ستبينج قال فيه:]
داون، ٣ مارس [١٨٦٩]
سيدي العزيز
إنني في غاية الامتنان لك على لفتتك اللطيفة في إرسال محاضرتك الشائقة والمفعمة بالجرأة؛ فلو أن شخصًا عاديًّا قد ألقى الخطاب نفسَه، لقدَّم بذلك نفعًا كبيرًا في نشرِ الفكرة التي آمُل أن تحمل قدْرًا كبيرًا من الحقيقة وأعتقد ذلك، ولكن عندما يُلقي رجلُ دين خطابًا كهذا، فأرى أنه يُقدِّم نفعًا أكبرَ بكثير بقدرته على زعزعة الأحكام المسبقة الجاهلة، وبضربِ مثالٍ باهر على التحرُّر، إذا جاز لي قول ذلك.
مع خالص احترامي، وأستأذنك يا سيدي العزيز أن أظل صديقك المخلص لك والممتن دائمًا.
[يعود السببُ في الإشارة إلى موضوع تعبيرات الوجه في الخطاب التالي إلى أن نيةَ والدي الأصلية تمثَّلت في طرح مقالته عن هذه الموضوع كفصلٍ في كتاب «نشأة الإنسان»، وهذا الفصل بدوره قد نشأ ونما، كما رأينا، من فصلٍ مقترَح في كتاب «تباين الحيوانات والنباتات»:]
من تشارلز داروين إلى إف مولر
داون، ٢٢ فبراير [١٨٦٩؟]
… صحيح أنك قدَّمت لي عونًا جمًّا بطُرق عديدة، لكني سألتمس منك أيَّ معلومات عن موضوعَين آخرَين. أُعدُّ الآن مناقشةً بشأنِ موضوع «الانتقاء الجنسي»، وأرغب بشدة في أن أعرف إلى أي مرتبةٍ دُنيا في الهرم الحيواني يمتد نوعٌ مُعيَّن من الانتقاء الجنسي. فهل تعرِف أيَّ حيوانات بسيطة البنية تتسم بانفصال الجنسَين، ويختلف فيها الذكر عن الأنثى في أسلحة الهجوم، مثل القرون والأنياب لدى ذكور الثدييات، أو في الريش المبهرج ومظاهر التزيُّن، كما هي الحال في الطيور والفراشات؟ لا أقصد السمات الجنسية الثانوية، التي يستطيع الذَّكر اكتشاف الأنثى بها، مثل قرون الاستشعار المكسوَّة بالريش لدى حشرات العُث، أو التي يتمكَّن بها الذَّكر من إمساك الأنثى، مثل الكمَّاشة الغريبة التي وصفتَها في بعض القشريات الأدنى رتبة. إنما ما أريد معرفته هو إلى أيِّ مرتبة دُنيا في الهرم الحيواني توجد الاختلافاتُ الجنسية التي تتطلَّب قدرًا ما من الوعي الذاتي لدى الذكور، كالأسلحة التي يُقاتلون بها من أجل الإناث، أو مظاهر التزيُّن التي تجذب الجنسَ الآخر. يجب استبعاد أي اختلافات بين الذكور والإناث تنشأ من عاداتٍ حياتية مختلفة. أظن أنك ستفهم بسهولةٍ ما أُريد معرفته. وفقًا للاستدلال البديهي، ما كان سيُتوقَّع أبدًا أن تنجذب الحشرات إلى الألوان الجميلة لدى الجنس الآخر، أو إلى الأصوات الصادرة من البِنى الموسيقية المختلفة لدى ذكور مستقيمات الأجنحة. لا أعرف أحدًا قد يجيبني عن هذا السؤال مثلك، وسأكون ممتنًّا لأي معلومات، مهما كانت بسيطة.
أمَّا موضوعي الثاني، فهو متعلِّق بمسألةِ تعبيرات الوجه، التي أدرُسها منذ فترة طويلة، وهي مثيرة لاهتمامي للغاية، لكني مع الأسف لم أهتمَّ بالبحث في أمرها عندما كانت لديَّ الفرصةُ لملاحظة أعراقٍ مختلِفة من البشر. لقد خطر ببالي أنك قد تستطيع، دون عناءٍ كبير، أن تُجري لي «بضع» ملاحظات، في غضونِ بضعة أشهر، على الزنوج، أو ربما على سكان أمريكا الجنوبية الأصليين، مع أنني أكثرُ اهتمامًا بالزنوج، ومن ثَم، أُرفق بعضَ الأسئلة كدليلٍ استرشادي، وإذا استطعتَ أن تُجيبني عن سؤال واحد أو سؤالَين، فسأكون ممتنًّا حقًّا. أُفكِّر في كتابةِ مقالٍ صغير عن أصل الجنس البشري؛ لأنني أتعرَّض للسخرية من إخفاء آرائي بخصوص هذا الموضوع، وسأفعل ذلك فورَ إتمام كتابي الحالي. في هذه الحالة، سوف أُضيف فصلًا عن سبب تعبيرات الوجه أو معناها …
[يتناول جُلُّ الخطابات المتبقية من خطابات هذا العام ما أثار اهتمامَه من كتب ومقالات نقدية، وما إلى ذلك.]
من تشارلز داروين إلى إتش ثييل
داون، ٢٥ فبراير ١٨٦٩
سيدي
العزيز
من تشارلز داروين إلى تي إتش
هكسلي
داون، ١٩ مارس [١٨٦٩]
عزيزي هكسلي
أرى أن الجمل القليلة التي أرسلتُها إلى المطبعة لتُدرَج في كتاب «أصل الأنواع» عن عمرِ العالَم ستجدي نفعًا كبيرًا …
من تشارلز داروين إلى إيه آر
والاس
داون، ٢٢ مارس [١٨٦٩]
عزيزي والاس
من تشارلز داروين إلى إيه آر
والاس
داون، ١٤ أبريل ١٨٦٩
عزيزي والاس
آمُل أن يُحقِّق كتابك عن أرخبيل الملايو مبيعاتٍ كبيرة، لقد سُررت للغاية بالمقالة المنشورة في دورية «ذا كورترلي جورنال أوف ساينس»؛ لأنها تولي عملك قدره، يا للأسف! فمن المرجَّح أنك ستتفق مع ما يقوله كاتبُ المقال عن استخدامات الخيزران.
سمعتُ بوجود مقال جيد في دورية «ساترداي ريفيو» أيضًا، لكني لم أسمع عنه أكثرَ من ذلك. مع أصدق تحياتي يا عزيزي والاس.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٤ مايو [١٨٦٩]
عزيزي
لايل
لقد بُعِث إليَّ بطلبٍ من أجلِ نسخِ بعض الصور الشخصية الفوتوغرافية (بحجم بطاقات زيارة) لتُزيِّن شهادات الأعضاء الفخريين في جمعيةٍ جديدة في صربيا! فهلَّا تعطيني واحدةً من أجل هذا الغرض؟ ذلك أنه لا يوجد في ألبومي الخاص سوى صورة لجسدك كله، والوجه فيها صغيرٌ جدًّا إلى حدٍّ يجعله غيرَ قابل للنسخ، على ما أظن.
آمُل أنك تُبلي بلاءً حسنًا في إنجازِ عملك، وأن تكون قد وصلت إلى نتيجةٍ مُقنعة لك بخصوص النقطة الصعبة المُتعلِّقة بالبحيرات الجليدية. لقد أتممت تصحيحَ الطبعة الجديدة من كتاب «أصل الأنواع»، والشكر للرب على ذلك، وأعمل الآن على إكمال عملي القديم المتعلِّق بالانتقاء الجنسي.
أرى مقال والاس «مثيرًا للإعجاب»؛ فما أفضلَ الطريقة التي عَرَض بها الثورة التي أحدثتَها منذ حوالي ٣٠ عامًا! كنت أظن أنني أدركت قيمةَ الثورة تمامًا، لكن المقتطفات المقتبَسة من كوفييه قد أبهرتني. وكم هو مُلخَّص جيد لموضوع الانتقاء الطبيعي! لكن الجزء المتعلِّق بالإنسان أصابني بإحباط شديد؛ إذ يبدو لي غريبًا إلى حدٍّ لا يُصدَّق … ولولا أنني أعلم أن هذا لم يحدث، لأقسمت أن يدًا أخرى هي التي كتبته. لكنني أعتقد أنك لن تتفق تمامًا معي في كل هذا.
من تشارلز داروين إلى جيه إل إيه دي
كاتريفاج
داون، ٢٨ مايو [١٨٦٩ أو
١٨٧٠]
سيدي
العزيز
تتحدَّث مِرارًا عن حُسن نيتي، ولا يمكن لأي إطراء أن يكون أكثرَ إبهاجًا لي من ذلك، لكن لي أن أردَّ إليك الإطراء مُضاعَفًا؛ لأن كل كلمة تكتبها تحمل طابعَ حبِّك الصادق العميق للحقيقة. لك أصدق تحياتي وخالص احترامي يا سيدي العزيز.
من تشارلز داروين إلى تي إتش
هكسلي
داون، ١٤ أكتوبر [١٨٦٩]
عزيزي هكسلي
عام ١٨٧٠ وبداية عام ١٨٧١
[كتب والدي في دفتر يومياته: «قُضي هذا العام [١٨٧٠] كله في العمل على كتاب «نشأة الإنسان» … أُرسل إلى المطبعة في ٣٠ أغسطس ١٨٧٠.»
تجدُر الإشارة مُجدَّدًا إلى أن الخطابات التالي ذكرها ذاتُ فوائد مُتنوِّعة؛ فهي لا تتناول عمله فحسب، بل تُفيد كذلك في توضيح منوال قراءته.]
من تشارلز داروين إلى إي راي
لانكستر
داون، ١٥ مارس [١٨٧٠]
سيدي العزيز
[يشير الخطاب التالي إلى مجلَّد «الانتقاء الطبيعي» للسيد والاس (١٨٧٠)، الذي يضم مجموعةً من المقالات أُعيدت طباعتها مع تعديلات مُعيَّنة وَرَدت في قائمةٍ بالمجلَّد:]
من تشارلز داروين إلى إيه آر
والاس
داون، ٢٠ أبريل [١٨٧٠]
عزيزي والاس
تلقَّيت كتابك للتو، وقرأت المقدِّمة. لم أحظَ من قبل، أو بالأحرى لم يحظَ أيُّ أحد، بإطراءٍ أشدَّ من هذا الذي منحتني إياه. أتمنَّى أن أكون جديرًا به تمامًا. تواضعك وإنصافك ليسا جديدَين عليَّ إطلاقًا. آمُل أنك تشعر بالرضا عندما تُفكِّر في أن كلَينا لم يشعر قَط بأي غَيرة تجاه الآخر، مع أننا شخصَين متنافسَين من منظورٍ ما، والحق أنه لا يوجد في حياتي سوى قلةٍ قليلة من الأمور التي تشعرني برضًا أكبر من ذلك الذي أشعر به عندما أُفكِّر في هذا. أعتقد أنني أستطيع قول ذلك عن نفسي بكل صدق، وأنا متيقن تمامًا من أنه ينطبق عليك.
يا لك من رجلٍ مسيحي صالح لأنك أعطيتني قائمةً بإضافاتك؛ فأنا أرغب بشدة في قراءتها، وما كنتُ سأحظى بمتَّسع من الوقت، حاليًّا بالذات، لمطالعة مقالاتك كلها. لا شك أنني سأبدأ فورًا في قراءة تلك المقالات الجديدة أو التي أجري عليها تعديلات كثيرة، وسأحاول أن أكون نزيهًا بأقصى درجة يُمكن توقُّعها في حدود المعقول. إن كتابك يبدو على درجة لافتة للنظر من الإعداد.
سأظل يا عزيزي والاس، صديقك المخلص المحب لك دائمًا.
[فيما يلي خطاب أو اثنان يشيران إلى تقدُّم العمل في كتاب «نشأة الإنسان»؛ فالصور التوضيحية المطبوعة من القوالب الخشبية المُشار إليها فيهما، قد أُعِدت لهذا العمل:]
من تشارلز داروين إلى إيه جونتر٢٨
٢٣ مارس، [١٨٧٠؟]
عزيزي جونتر
نظرًا إلى أنني لا أعرف عنوانَ السيد فورد، فهلَّا تُسلِّم إليه هذه الرسالةَ التي كتبتها فقط للتعبير عن إعجابي التام بالصور التوضيحية المطبوعة من القوالب الخشبية. إنني سعيد جدًّا بها. الضرر الوحيد أنها ستجعل كل الصور التوضيحية الأخرى من هذا النوع تبدو رديئةً جدًّا! كلها ممتازة، وأُقرُّ بكل صراحة أنني أرى تلك المتعلِّقة بالريش أروعَ صورة توضيحية على الإطلاق؛ إذ لا أستطيع منع نفسي من لمسها للتيقُّن من أنها ملساء. كم أتمنَّى أن أرى الاثنتَين الأخريَين، والأهم من ذلك، الصور الخاصة بالريش، والصور الأربع الخاصة بالزواحف، إلخ. ومُجدَّدًا، أرجو أن تتقبَّل خالص شكري على كل لطفك. إنني مَدين جدًّا للسيد فورد. فمثل هذه الصور المطبوعة من قوالبَ خشبية دائمًا ما كانت أشدَّ مُسبِّبات شقائي إيلامًا من قبل، وصارت الآن مصدرَ بهجة حقيقية لي.
من تشارلز داروين إلى إيه جونتر
١٥ مايو [١٨٧٠]
عزيزي الدكتور
جونتر
[الخطاب التالي مهم؛ لأنه يُظهر ما أولاه والدي من عنايةٍ هائلة وما تحمَّله من آلام بالغة في سبيل تكوين رأيه بشأن نقطة صعبة:]
من تشارلز داروين إلى إيه آر
والاس
داون، ٢٣ سبتمبر [غير مؤرَّخ]
عزيزي والاس
إنني في غاية الامتنان لكل العناء الذي تكبَّدتَه في أن تُرسل إليَّ خطابك الطويل جدًّا، الذي سأُبقيه بجانبي وأُفكِّر فيه مليًّا. إن الرد عليه سيستلزم ٢٠٠ ورقة مطوية بصفحتَيها على الأقل! لو كان بالإمكان أن ترى عددَ المرات الكثيرة التي أعدتُ فيها كتابة بعض الصفحات، فستعرف مدى حرصي الشديد على الوصول إلى أقربِ ما يُمكن من الحقيقة. أُركِّز بشدة على ما أعرف أنه يحدث تحت تأثير التدجين، أظن أننا نبدأ بمفاهيمَ أساسية مختلفة بشأن الوراثة. أجد أنه من الصعب جدًّا في رأيي لكن ليس مستحيلًا، أن نفهم كيف يُمكن، على سبيل المثال، أن ينتهي المطافُ ببضع ريشات حمراوات على رأس طائر ذكر، إلى أن تُنقل إلى الذكور فقط، بعد أن كانت «تُنقل في البداية إلى كلا الجنسَين». فلا يكفي أن الإناث، التي يُفترض أن تكون خاليةً من الريش الأحمر، ستُنتَج من الذكور التي لديها ريش أحمر، بل لا بد أن يكون لدى تلك الإناث «نزعة كامنة» إلى إنتاج مثل هذا الريش، وإلا فقد تتسبَّب في تدهورِ ريش الرأس الأحمر لدى نسلها من الذكور. وتَظهَر هذه النزعةُ الكامنة بأن تُنتِج الإناث الريش الأحمر عندما تصبح كبيرةً في السن، أو تُصاب بمرض في مبيضها. لكني لا أجد صعوبةً في أن يكون الرأس كلُّه أحمرَ إذا كانت الأرياش الحمراوات القليلة الموجودة لدى الذكر من البداية تنتقل غالبًا بالاتصال الجنسي. إنني على أتم استعداد للاعتراف باحتمالية أن تكون الأنثى قد عُدِّلت، إمَّا في الوقت نفسه أو لاحقًا، من أجل الحماية؛ وذلك بتراكم تباينات محدودة في انتقالها إلى الجنس الأنثوي. أَدينُ لكتاباتك بالتفكير في هذه النقطة الأخيرة. لكني لا أستطيع حتى الآن إقناعَ نفسي بأن الإناث «وحدَها» عُدِّلَت في معظمِ الأحيان من أجل الحماية. فهلَّا تتكبَّد العناء وقتًا قصيرًا ولو على مضضٍ، لتخبرني بما إذا كنت تعتقد أن الرأس الأبسط مظهرًا والأقل ألوانًا لدى أنثى طائر الحسون الظالم وألوانها الأقل زهوًا، والحُمرة الأقل على رأس أنثى طائر الحسون وألوانها الأقل نقاءً، والحُمرة الأقل بكثير على صدر أنثى الدغناش، واللون الأبهَت لعُرف طائر النمنمة ذي العُرف الذهبي، إلى آخرِ ذلك، قد اكتسبتها هذه الإناث من أجل الحماية. لا أستطيع أن أرى ذلك صحيحًا بقدرِ ما أنني لا أستطيع أن أرى أن الاختلافات الكبيرة بين أنثى طائر الدوري الشائع وذَكَر هذا الطائر، أو زهو ألوان ذَكَر القرقف الأزرق (وكلاهما يبني عشَّه في مكانٍ مستتر) بدرجةٍ أكبرَ من ألوان أنثى القرقف، متعلِّقة بالحماية. إنني أشكُّ حتى فيما إذا كان السواد الأقل لدى أنثى الشحرور من أجل الحماية.
أسألك مُجدَّدًا هل تستطيع أن تعطيني أسبابًا لاعتقاد أن الاختلافات المتوسِّطة بين أنثى طائر الدراج، وأنثى دجاج الأدغال الأحمر، وأنثى الطيهوج الأسود، وأنثى الطاووس، وأنثى الحجل [وذكور كلٍّ من هذه الإناث على الترتيب]، كلها لها صلات خاصة بالحماية في ظروفٍ تختلف اختلافًا طفيفًا؟ بالطبع أعترف بأنها كلها محمية بألوان باهتة، مستمدَّة، على ما أظن، من سَلَفٍ ما أرضيٍّ باهتٍ، وأرى أن جزءًا من اختلافها يرجع إلى انتقالِ الألوان الجزئي من الذكور، وإلى وسائلَ أخرى أطول من أن أستطيع ذكرها، لكني أتمنَّى بصدقٍ أن أرى سببًا لاعتقاد أن كلًّا منها مهيأ خصوصًا لإخفائه في بيئته.
يُحزنني أن أختلف معك، بل يرعبني، ويُفقدني الثقةَ بنفسي على الدوام. أخشى ألَّا يفهم كلانا الآخرَ تمامًا أبدًا. أرى أن حالات الأسماك الذكور التي تحتضن البيض ليفقس وتتسم بألوانٍ ساطعة، والفراشات الأنثوية الزاهية، مهمة فقط لأنها تُبيِّن أن أحد الجنسَين قد يُجعَل زاهي الألوان دون أي ضرورة تُحتِّم انتقالَ الجمال إلى الجنس الآخر؛ لأنني في هذه الحالات لا أستطيع افتراضَ أن الجمال في الجنس الآخر كُبِح بالانتقاء.
أخشى أن تُكبِّدك قراءة هذا الخطاب عناءً. ستكفيني إجابةٌ قصيرة جدًّا بخصوصِ ما تعتقده بشأن إناث طيور الحسون والدجاجيات.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ٢٥ مايو
[١٨٧٠]
… ذهبنا كلنا يوم الجمعة الماضي إلى فندق بول في كامبريدج لرؤية الفتيان والحصول على قليلٍ من الراحة والاستمتاع. الأجزاء الخلفية من الكليات أشبهُ بقطعة من الجنة. ويوم الإثنين التقيتُ سيجويك، الذي كان ودودًا ولطيفًا، في الصباح ظننتُ أن عقله قد وهن، وفي المساء كان ذكيًّا وفي حالته الطبيعية تمامًا كما عهدته دائمًا. سُحرنا كلنا بمودَّته ولطفه. كانت زيارتي إليه مؤسفةً من ناحيةٍ ما؛ لأنه بعدما قعدنا معًا وقتًا طويلًا اقترح أن يأخذني إلى المتحف، ولم أستطِع الرفض، ونتيجةً لذلك أنهكني تمامًا؛ لذا غادرنا كامبريدج صباح اليوم التالي، ولم أتعافَ من الإنهاك بعد. أليس مُخزيًا أن يُقتَل المرء هكذا بأيدي رجلٍ عمره ٨٦ عامًا، ومن الواضح أنه لم يتصوَّر قَط أنه كان يقتلني؟ ذلك أنه قال لي: «حسنًا أعتبر أنك محضُ طفل بالنسبة إليَّ!» التقيتُ نيوتن مرارًا، والعديد من أصدقاء إف اللطفاء، لكن كامبريدج من دون عزيزي هنزلو ليست كامبريدج التي عهدتها دائمًا، حاولت الوصول إلى المنزلَين القديمَين، غير أن المسافة كانت أبعدَ من أن أستطيع ذلك …
من تشارلز داروين إلى بي جيه
سوليفان٣٠
داون، ٣٠ يونيو [١٨٧٠]
عزيزي سوليفان
من تشارلز داروين إلى جون لوبوك
داون، ١٧ يوليو ١٨٧٠
عزيزي
لوبوك
سمعتُ أن موضوع إحصاء السكَّان سيُعرَض على البرلمان غدًا؛ لذا أُرسلُ هذا الخطاب لأقول إنني آمُل بشدة أن تُعبِّر عن رأيك وتقول إنه من المستحسن إدراج الاستفسارات المتعلِّقة بزواجِ الأقرباء. فمثلما تعلم، أجريت تجاربَ على هذا الموضوع على مدارِ عدة سنوات، «وعندي قناعة واضحة بأنه توجد الآن أدلةٌ وافرة على وجودِ قانون فسيولوجي مهم وجدير بالاعتبار؛ ممَّا يجعل إدراجَ استفسار يتعلَّق بالبشرية أمرًا شديدَ الأهمية. ففي إنجلترا وأجزاءٍ كثيرة من أوروبا، يُعارَض الزواج بين أبناء الأعمام والأخوال المنحدرين من جدٍّ واحد استنادًا إلى ما له من عواقبَ ضارةٍ مفترضة، لكنَّ هذا الاعتقاد لا يستند إلى دليلٍ مباشر. ولهذا فثمة حاجة واضحة إلى حسمِ مدى صحة هذا الاعتقاد، إمَّا بإثبات خطئه أو تأكيد صحته»، لربما يتسنَّى في هذه الحالة الثانية منعُ الزواج بين أبناء الأعمام والأخوال المنحدرين من جدٍّ واحد. إذا أُدرِجَت الاستفساراتُ المناسبة، فسوف تُبيِّن الإجاباتُ الواردة في تقارير الإحصاء السكاني الرسمية ما إذا كان أبناءُ الأعمام والأخوال المتزوِّجون بعضهم من بعض لديهم من الأطفال ما يساوي ما لدى الآباء والأمهات الذين لا تجمعهم صلة قرابة، وإذا ثبت أن العدد أقلُّ، فقد نستنتج بكل تأكيد إمَّا وجود انخفاض في الخصوبة لدى الوالدَين، أو انخفاض في قدرة ذريتهم على البقاءِ أحياءً، وهذا الاحتمال الثاني أرجَح.
وعِلاوةً على ذلك، من المنشود بشدة أن يجري التحقُّق من صحة الادعاء المتكرِّر مرارًا الذي يُفيد بأن زواج الأقرباء يؤدِّي إلى الصمم، والبكم، والعمى، وما إلى ذلك، ويمكن اختبارُ صحةِ كل هذه الادعاءات بسهولةٍ عن طريق الإجابات المذكورة في التقارير الرسمية الواردة من عملية إحصاء سكاني واحدة.
[عندما كان قانون الإحصاء السكاني يُمرَّر عبْر مجلس العموم، حاول السير جون لوبوك والدكتور بلايفير وضْعَ هذا الاقتراح حيزَ التنفيذ. وطُرح للتصويت، لكن النتيجة لم تأتِ في صالحه، وإن لم يكن الفارق في الأصوات كبيرًا.
«ورقتي البحثية بعيدةٌ كل البعد عن تقديم أي شيء قد يكون بمثابة إجابة مُقنعة عن السؤال المتعلِّق بآثار زواج الأقرباء، لكنها تُظهر، على ما أظن، أن الادعاء بأن إجابةَ هذا السؤال قد حُسمت بالفعل لا يمكن إثباته.»]