نشر كتاب «نشأة الإنسان»
١٨٧١–١٨٧٣
[نُقِّحت آخرُ بروفات الطباعة المُعدَّلة لكتاب «نشأة الإنسان» في ١٥ يناير ١٨٧١، وبذلك فقد انشغل في إنجاز هذا الكتاب نحو ثلاث سنوات. أرسل خطابًا إلى السير جيه هوكر قال فيه: «انتهيتُ من آخر بروفات طباعة كتابي قبل بضعة أيام، لقد أنهكني العمل تمامًا، ولا أعرف إطلاقًا ما إذا كان الكتابُ يستحق النشر، أم لا.»
وأرسل خطابًا كذلك إلى الدكتور جراي، قائلًا:
«أتممتُ كتابي عن «نشأة الإنسان»، إلخ، ولا يؤخِّر نشرَه سوى الفهرس، عندما يُنشَر، سأبعث إليك بنسخة منه، لكني لا أعرف ما إذا كنتَ ستهتم به. أظن أن بعض أجزائه، كالجزء المتعلِّق بمسألة الحس الأخلاقي، ستُغضبك، وإذا تلقَّيتُ خطابًا منك، فمن المرجَّح أنني سأتعرَّض فيه لبضع طعنات من خنجر قلمك المصقول.»
نُشر الكتاب في ٢٤ فبراير ١٨٧١. طُبعت منه ٢٥٠٠ نسخة في البداية، ثم طُبِعَت ٥٠٠٠ نسخة أخرى قبل نهاية العام. ويذكر والدي أنه جَنى ١٤٧٠ جنيهًا من هذه الطبعة. تتناول الخطابات الواردة في هذا الفصل الاستقبالَ الذي لاقاه الكتاب، إضافةً إلى تقدُّم العمل المتعلِّق بكتاب «التعبير عن العواطف». وستُعرَض الخطابات هنا بترتيبٍ زمني نوعًا ما، وصحيح أن هذا الترتيب يفصل بالطبع بين خطاباتٍ ذات موضوعات متشابهة، لكنه ربما يقدِّم صورةً أصدقَ عن الاهتمامات والمجهودات المختلطة في حياة والدي.
«انقضى الزمن تدريجيًّا حتى صارت الفترةُ الزمنية التي تفصل بيننا وبين تاريخِ نشر كتاب «أصل الأنواع» أكثرَ من ١٠ سنوات، ومهما تكن الآراء والأقوال بشأنِ أفكار السيد داروين أو الطريقة التي طرحها بها، فمن المؤكَّد تمامًا أن كتاب «أصل الأنواع» قد أحدَث، في ١٢ عامًا، ثورةً كاملة في علمِ الأحياء كتلك التي أحدثها كتاب «مبادئ» في علم الفلك»، وقد أحدَث هذه الثورة «لأنه، على حد تعبير هلمهولتز، يحوي «فكرًا إبداعيًّا جديدًا في جوهره». ومع مرور الوقت، طرأ تغيير سارٌّ على منتقدي السيد داروين. فذلك المزيج من الجهل والتطاول الوقح، الذي كان يتسم به في البداية جانب كبير من الهجمات التي كان يتعرَّض لها، لم يَعُد السمةَ المُحزِنة التي تميِّز الانتقادات المعارضة للداروينية.»
تُظهِر فقرةٌ في مقدِّمة كتاب «نشأة الإنسان» أن المؤلِّف أدرك بوضوحٍ هذا التحسُّن في وضعِ نظرية التطوُّر. فهو يقول في هذه الفقرة: «عندما يجرؤ عالِم تاريخ طبيعي مثل كارل فوجت على أن يقول في خطابه، بصفته رئيسًا للمعهد الوطني في جنيف (١٨٦٩): «لم يَعُد أحد، في أوروبا على الأقل، يجرؤ على تأييد الفرضية القائلة بأن الأنواع خُلقت خلقًا مستقلًّا كلٌّ على حدة»، فمن الواضح بكل تأكيد أن عددًا كبيرًا على الأقل من علماء التاريخ الطبيعي يعترف بأن الأنواع كائناتٌ معدَّلة منحدرة من أنواع أخرى، وهذا ينطبق بالأخص على علماء التاريخ الطبيعي الصاعدين والأصغر سنًّا … فمن بين العلماء البارزين المرموقين الأكبر سنًّا في العلوم الطبيعية، لا يزال كثيرون، مع الأسف، يعارضون نظريةَ التطور معارضةً تامة.»
وفي مقالةٍ كتبها السيد جيمس هيج بأسلوبٍ لطيف تحت عنوان «قصة من الذاكرة عن السيد داروين» (مجلة «هاربرز ماجازين»، أكتوبر ١٨٨٤)، يتحدَّث عن زيارةٍ أجراها إلى والدي «في أوائل عام ١٨٧١» (لا شكَّ أنها كانت في نهاية فبراير، في غضون أسبوع بعد نشر الكتاب)، بعد وقت قصير من نشر كتاب «نشأة الإنسان». ويصف هيج والدي بأنه «بُهِر جدًّا بالقَبول العام الذي حظيت به آراؤه»، وبأنه قال «الجميع يتحدَّثون عن [الكتاب] دون أن يشعروا بصدمة.»
وبخصوصِ الاستقبال الذي لاقاه كتاب «نشأة الإنسان» لاحقًا، أرسل والدي خطابًا إلى الدكتور دورن في ٣ فبراير ١٨٧٢، قائلًا:
بدأ العملُ على كتاب «التعبير عن العواطف» في ١٧ يناير ١٨٧١، وكانت آخرُ بروفة من بروفات طباعة كتاب «نشأة الإنسان» قد انتهت في ١٥ يناير. أتمَّ النسخةَ المبدئية في ٢٧ أبريل، وبعد مدة وجيزة (في يونيو)، قوطِع العملُ بسبب الانشغال بإعداد طبعة سادسة من كتاب «أصل الأنواع». وفي شهري نوفمبر وديسمبر، شَرَع في العمل على بروفات طباعة كتاب «التعبير عن العواطف»، وظلَّ منشغلًا بذلك حتى العام التالي، عندما نُشر الكتاب.
وَرَدت بعضُ الإشارات إلى العمل على كتاب «التعبير عن العواطف» في خطاباتٍ عُرِضَت سلفًا، ممَّا يوضِّح أن أساسَ الكتاب كان حاضرًا لديه على مدارِ بضع سنوات قبل أن يبدأ فعليًّا في تأليفه. ومن ثمَّ قال في خطابٍ إلى الدكتور آسا جراي في ١٥ أبريل ١٨٦٧:
«أعكف مؤخَّرًا على إخراج ملاحظاتي القديمة عن «التعبير عن العواطف» ومُطالعتها بإمعان، وأخشى ألَّا أستطيع أن أُبرز أهميةَ موضوعي المفضَّل بالقدْر الذي كنت أظن أنني أستطيع إبرازها به، غير أنه يبدو لي موضوعًا شائقًا أُهمِلَ بغرابة.»
بالرغم من ذلك، ينبغي تذكُّر أن الموضوع كان يشغل باله، إلى حدٍّ ما، منذ عام ١٨٣٧ أو ١٨٣٨، وذلك استنادًا إلى الإدخالات الواردة في دفاتره المبكِّرة. ذلك أنه كان قد بدأ إجراء ملاحظات على الأطفال في ديسمبر ١٨٣٩.
تطلَّب هذا العمل الكثيرَ من المراسلات، وليس ذلك مع المُبشِّرين وغيرهم ممن يعيشون بين الهمَج فحسب، والذين كان يُرسِل إليهم استفساراته المطبوعة، بل مع علماء وظائف الأعضاء والأطباء أيضًا. فقد حصل على معلوماتٍ كثيرة من البروفيسور دوندرز، والسير دبليو بومان، والسير جيمس باجيت، والدكتور دبليو أوجل، والدكتور كرايتون براون، وكذلك من متخصِّصين آخرين في الملاحظة.
يشير الخطاب الأول إلى كتاب «نشأة الإنسان».]
من تشارلز داروين إلى إيه آر
والاس
داون، ٣٠ يناير [١٨٧١]
عزيزي والاس
سامحني على إطالة الثرثرة إلى هذا الحد. لقد غمرتني بسعادة بالغة؛ فأشدُّ ما خشيت أن أكون قد عالجت آراءك بلا إنصافٍ عن غيرِ قصد. آمُل بكل صدقٍ أن أتفادى ذلك في المجلَّد الثاني أيضًا. لم أعُد أكترث كثيرًا الآن بما يقوله الآخرون. أمَّا بخصوص أننا لسنا متفقَين تمامًا، ففي مثل هذه الموضوعات المعقَّدة، يكاد يكون من المستحيل أن يتفق رجلان اتفاقًا تامًّا، وكلٌّ منهما قد توصَّل إلى استنتاجاته مستقلًّا عن الآخر، سيكون من غير الطبيعي أن يفعلا ذلك.
[يبدو أن البروفيسور هيكل كان من أوائل الذين راسلوا والدي بخصوص كتاب «نشأة الإنسان». وفيما يلي، أقتبسُ من ردِّ والدي الفقرة التالية:
من تشارلز داروين إلى إيه آر
والاس
داون، ١٦ مارس ١٨٧١
عزيزي والاس
[بخصوص نجاح كتاب «نشأة الإنسان»، أقتبسُ الفقرة التالية من خطابٍ إلى البروفيسور راي لانكستر (بتاريخ ٢٢ مارس ١٨٧١):
«أظن أنك ستفرح بسماعِ أن كتابي حقَّق مبيعاتٍ رائعة، باعتبارِ ذلك دليلًا على التحرُّر المتزايد الذي تشهده إنجلترا … لم أتعرَّض للإساءة حتى الآن بل للازدراء فحسب حتى في دورية «ذا أثنيام» المسكينة» (رغم أنني سوف أتعرَّض لبعض الإساءات القوية، بلا شك).
بخصوص المقالات النقدية التي لفتت انتباهه، أرسل خطابًا إلى السيد والاس (بتاريخ ٢٤ مارس ١٨٧١)، قال فيه:
وفي ٢٠ مارس، قال في خطابٍ إلى السيد موراي:
«ليست لديَّ أيُّ فكرةٍ عن هُوية كاتب مقالة «ذا تايمز». إنه غير مُلِمٍّ بالعلوم، ويبدو لي رجلًا ثرثارًا مليئًا بالأفكار الميتافيزيقية والكلاسيكية؛ لذا لا أكترث كثيرًا بحُجته المعارضة، وإن كنت أعتقد أنها ستُلحِق ضررًا بمبيعات الكتاب.»
وَرَد نقدٌ لكتاب «نشأة الإنسان» في دورية «ذا ساترداي ريفيو» (٤ مارس و١١ مارس من عام ١٨٧١). وقد تحدَّث عنه والدي واصفًا إياه بأنه «ممتاز». ويمكن اقتباس فقرة من المقال النقدي الأول (الذي نُشِر في ٤ مارس) لتوضيح الأساس العريض للقَبول العام الذي تحظى به فكرةُ التطوُّر الآن: «إنه يدَّعي أنه ضَمَّ الإنسانَ نفسه وأصله وتكوينه ضمن هذا الإطار الموحَّد الذي كان يسعى سابقًا إلى تتبُّعه عبْر كل أشكال الحيوانات الأدنى رتبة. وقد أسفر نمو الآراء في تلك الفترة الزمنية، بفضلِ أعماله التي توسَّطتها في المقام الأول، عن وضعِ مناقشةِ هذه المسألة في مكانةٍ أفضلَ بكثير من التي كانت تشغلها قبل ١٥ عامًا. فنادرًا ما كانت مسألة التطوُّر تُعالَج حينذاك على أنها أحدُ المبادئ الأولى، ولم يَعُد السيد داروين مُلزَمًا بخوضِ معركة ليحظى بفرصة أولى يعرِض فيها الحججَ المركزية لفرضيته، التي تحظى كما هي بدعمٍ من كتيبةٍ من الأسماء المميَّزة والواعدة جدًّا في نصفَي الكرة الأرضية كلَيهما.»
يبدو أن نتوء الأذن، الذي اكتشفه السيد وولنر، ووُصف في كتاب «نشأة الإنسان» قد بَهَر المُخيلة الشعبية؛ إذ قال والدي في خطابٍ إلى السيد وولنر:
من تشارلز داروين إلى جون برودي
إنيس١٣
داون، ٢٩ مايو [١٨٧١]
عزيزي إنيس
[تتناول الخطابات التالية المرسلة إلى الدكتور أوجل تقدُّم العمل على كتاب «التعبير عن العواطف».]
داون، ١٢ مارس [١٨٧١]
عزيزي الدكتور أوجل
من تشارلز داروين إلى دبليو أوجل
داون، ٢٥ مارس [١٨٧١]
عزيزي الدكتور
أوجل
من تشارلز داروين إلى الدكتور
أوجل
داون، ٢٩ أبريل [١٨٧١]
عزيزي الدكتور أوجل
إنني ممتن حقًّا لكل العناء البالغ الذي تكرَّمتَ بتحمُّله من أجلي. وأنا متيقن من عدم وجود مبرِّر يجعلك تعتذر لأنك لم تستطِع إعطائي معلومات محدَّدة؛ فما أمددتني به بالفعل أكثرُ بكثير ممَّا توقَّعتُ الحصول عليه إطلاقًا. لا تهمني حركةُ العضلة الجلدية العنقية كثيرًا، لكني أعتقد أنك ستتفهَّم (لأني أتصوَّر دائمًا أن عقلَينا متشابهان جدًّا) رغبتي الشديدة في ألَّا أكون متحيِّرًا تمامًا. صرت أعرف الآن أنها أحيانًا ما تنقبض بسبب الخوف والارتجاف، لكنها، على ما يبدو، لا تنقبض بسبب الإصابة بحالة خوف مطوَّلة كالتي يعانيها المجانين …
[نُشِر كتاب السيد ميفارت «تكوُّن الأنواع» — الذي يُعد إسهامًا في مؤلَّفات التطوُّر، والذي أثار اهتمامًا بالغًا — في عام ١٨٧١، قبل ظهور كتاب «نشأة الإنسان». ويشير الخطاب التالي، المرسَل من الراحل تشونسي رايت إلى والدي (بتاريخ ٢١ يونيو ١٨٧١)، إلى هذا الكتاب]:
بخصوص بروفات الطباعة المرسَلة من السيد رايت، كتب والدي خطابًا إلى السيد والاس قال فيه:]
داون، ٩ يوليو [١٨٧١]
عزيزي والاس
أُرسلُ ضمن هذه الدفعة البريدية مقالةً نقدية كتبها تشونسي رايت؛ لأنني أرغب بشدة في أن يصلني رأيك فيه حالما تستطيع إرساله. فأنا أعتبرك ناقدًا أفضلَ مني بكثير. تبدو لي المقالة مثيرةً للإعجاب، وإن كانت مكتوبةً بأسلوب غير واضح، وسيئةً في بعض أجزائها بسبب نقص المعرفة. لكتاب ميفارت تأثيرٌ بالغ ضد نظرية الانتقاء الطبيعي، وضدي بالأخص. ومن ثَم، إذا رأيتَ أن المقالة جيدة ولو نسبيًّا، فسأُرسل خطابًا للحصول على إذنٍ بنشرها في صورة كُتيب صغير من تلك الكُتيبات التي تُباع بشلن، مع الإضافات الواردة في المخطوطة (مرفقة بهذا الخطاب)، التي لم يتسع المقام لذكرها في نهاية المقالة …
من تشارلز داروين إلى تشونسي
رايت
داون، ١٤ يوليو ١٨٧١
سيدي العزيز
نادرًا ما قرأت في حياتي مقالةً غمرتني ببالغ الرضا كالمقالة النقدية التي تكرَّمت بإرسالها إليَّ. أوافقك في كلِّ ما تقوله تقريبًا. لا بد أن ذاكرتك دقيقةٌ للغاية؛ لأنك تعرف أعمالي جيدًا قدرَ ما أعرفها أنا شخصيًّا، ثم إن قدرتك على فهمِ أفكار الآخرين مذهلةٌ حقًّا، وهذه، على حد خبرتي، صفةٌ نادرة جدًّا. بينما كنت أمضي قُدمًا في القراءة، أدركتُ كيف اكتسبتَ هذه القدرة؛ بتحليل كل كلمة تحليلًا شاملًا.
… الآن سألتمس منك أن تسدي لي صنيعًا. هلَّا تأذن لي مؤقَّتًا بإعادة طبعِ مقالتك في صورة كُتَيب صغير بشلن؟ أطلب ذلك مُؤقَّتًا فقط؛ لأنني لم أحظَ بعدُ بمتسع من الوقت للتفكير في الموضوع. أتصوَّر أن ذلك سيُكلِّفني، نحو ٢٠ أو ٣٠ جنيهًا بما في ذلك تكلفةُ الإعلانات، لكن الأسوأ هو أن الكُتيبات، حسبما أسمع، لا تُحقِّق أيَّ مبيعات. هل ترى أنك ستتكبَّد عناءً شديدًا فوق طاقتك في سبيل أن تُرسل إليَّ عنوانًا «تحسُّبًا لاحتمالية إصدار الكتيب»؟ أظن أن العنوان ينبغي أن يتضمَّن اسم ميفارت.
… إذا منحتني الإذن وأرسلت عنوانًا، فهذا يعني أنك ستتكرَّم وتتفهَّم أنني سأُجري مزيدًا من الاستفسارات أولًا عمَّا إذا كان ثمة أيُّ احتمال أن يُقرأ كُتَيب كهذا.
[نُشر الكُتَيب في الخريف، وفي ٢٣ أكتوبر أرسل والدي خطابًا إلى السيد رايت، قال فيه:
«سُررتُ جدًّا بأنك راضٍ عن ظهور كُتَيبك. أنا متيقن من أنه سيقدِّم خدمةً جليلة لقضيتنا، وهذا هو الرأي نفسه الذي عبَّر لي عنه هكسلي.» («خطابات تشونسي رايت»، الصفحة ٢٣٥).]
من تشارلز داروين إلى إيه آر
والاس
داون، ١٢ يوليو
[١٨٧١]
… أشكُّ بشدة في مدى النجاح الذي سأُحقِّقه في الرد على ميفارت، فمن الصعبِ جدًّا أن أردَّ على اعتراضات على نقاطٍ مشكوك فيها، وأن أجعل النقاشَ واضحًا للقُرَّاء بسلاسة. سأكتفي بانتقاء نقاطٍ معيَّنة فقط. أسوأ ما في الأمر أنني ربما لا أستطيع الاطلاعَ على كل مراجعي بحثًا عن نقاط منفصلة؛ فهذا سيستغرق مني ثلاثة أسابيع من الجهد الشاق للغاية. ليتني كنت أملك قدرتك على الحِجاج بوضوح. أشعر حاليًّا بالسأم من كل شيء، ولو استطعت أن أشغل وقتي وأنسى همومي، أو بالأحرى مآسيَّ اليومية، فلن أنشر كلمةً أخرى أبدًا. ولكن يُمكنني القول إنني سأبتهج قريبًا، بعدما تعافيت للتو من هجومٍ سيئ. إلى اللقاء، لا أعرف إطلاقًا لماذا أُزعجك بشئوني. لا أستطيع أن أقول عن الحلقات المفقودة زيادةً عمَّا قلتُه. ينبغي أن أعتمد بشدة على عصورِ ما قبل السيلوري، لكن السير دبليو تومسون يَظهر حينئذٍ كشبح بغيض. إلى اللقاء.
[كان نقد دورية «ذا كورترلي ريفيو» المذكور أعلاه موضوعَ مقالٍ كتبه السيد هكسلي في عددِ نوفمبر من مجلة «ذا كونتيمبوراري ريفيو». وكذلك نوقِش في هذا المقال مُجلَّد السيد والاس الذي يحمل عنوان «إسهام في نظرية الانتقاء الطبيعي»، والطبعة الثانية من كتاب «تكوُّن الأنواع» للسيد ميفارت. سنعرض فيما يلي مقتطفًا من مقال السيد هكسلي. يعتقد ناقد دورية «ذا كورترلي ريفيو»، وإن كان مؤمنًا بفرضيةِ التطوُّر إلى حدٍّ ما، أن الإنسان «أكثر اختلافًا عن الفيل أو الغوريلا، من اختلاف هؤلاء عن تراب الأرض الذي تطؤه أقدامها.» ويدَّعي الناقد أيضًا أن والدي قد «ازدرى المبادئ الأولى للفلسفة والدِّين كلَيهما بمعارضةٍ لا داعي إليها». وينتقل السيد هكسلي من الادعاء الآخر، الذي يُؤكِّد فيه ناقدُ دورية «ذا كورترلي ريفيو» عدمَ وجود تعارض ضروري بين التطوُّر والدِّين، إلى الموقف الأكثر وضوحًا الذي يتبنَّاه السيد ميفارت، ومفادُه أن المسئولين التقليديين في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية يتفقون بكل وضوح على تأكيد الخلق الاشتقاقي، ومن ثمَّ «تتوافق تعاليمهم مع كلِّ ما قد يتطلَّبه العلم الحديث». وهنا شعر السيد هكسلي بالحاجة إلى «دراسة الفلسفة المسيحية» (بثوبها اليسوعي، علي أية حال)، والذي يتحدَّث به السيد ميفارت، فبدأ العمل على سد هذه الحاجة فورًا. كان يقيم آنذاك في سانت أندروز، وأرسل من هناك خطابًا إلى والدي قائلًا:
ويُركِّز معظمُ الجزء المتبقي من نقدِ السيد هكسلي على تشريحِ نفسية ناقد دورية «ذا كورترلي ريفيو» وآرائه الأخلاقية. ويتناول أيضًا اعتراضات السيد والاس على نظرية التطوُّر من خلال أسبابٍ طبيعية فيما يتعلَّق بالقدرات العقلية للإنسان. وأخيرًا، خصَّص صفحتَين لتبرير وصفه مُعاملة ناقد دورية «ذا كورترلي ريفيو» للسيد داروين بأنها «غير منصفة وغير لائقة على حدٍّ سواء.»
سيتبيَّن أن الخطابَين التاليَين كُتبا قبل نشر مقالة السيد هكسلي.]
من تشارلز داروين إلى تي إتش
هكسلي
داون، ٢١ سبتمبر [١٨٧١]
عزيزي هكسلي
لقد أسعدني خطابك بشدةٍ من نَواحٍ عديدة … يا لك من رجلٍ رائع لأنك تتحمَّل مشقة التعامل مع كتبِ الألوهية الميتافيزيقية القديمة هذه! يسرني جدًّا أنك ستردُّ على ما قاله ميفارت وتهاجمه إلى حدٍّ ما. لقد أحدث كتابه تأثيرًا بالغًا، كما تقول؛ إذ لاحظتُ أصداءه يوم أمس، حتى من إيطاليا. كان هذا هو ما جعلني أطلب من تشونسي رايت أن ينشر، على نفقتي الخاصة، مقالته التي أراها ذكيةً جدًّا، وإن كانت مكتوبةً بأسلوبٍ سيئ. ذلك أنه لا يملك من المعرفة ما يكفي لتناول ما قاله ميفارت بالتفصيل. أظن أنه لا يُمكن أن يوجد أدنى شكٍّ في أنه هو كاتب مقالة دورية «ذا كورترلي ريفيو» … أعمل الآن على إعداد طبعة جديدة من كتاب «أصل الأنواع»، وسوف أُدرج فصلًا جديدًا للرد على اعتراضات متنوِّعة، وسأُخصِّص الجزء الأكبر للرد على ما طرحه ميفارت من الحالات التي تتضمَّن صعوبةً متمثِّلةً في وجود بِنًى أولية ليس لها فائدة، وأجد أنني أستطيع فعلَ ذلك بسهولة. فهو لم يعرض حُجته بإنصاف قط، ويرتكب أخطاءً عجيبة … البساط يُسحب الآن من تحت أقدامنا نحو الجهة الأخرى، لكني واثق من أنه سيعود إلى أسفل أقدامنا قريبًا، وما من إنسان سيفعل نصفَ ما تفعله في سبيل إعطاء ذاك البساط دفعةً نحو الجهة الصحيحة، مثلما فعلتَ في البداية. فليسامحني الرب على كتابةِ مثل هذا الخطاب الطويل المغرور، لكنَّ هذا خطؤك لأنك غمرتني بسرورٍ بالغ؛ فأنا لم أتصوَّر قَط أنك ستحظى بمتَّسع من الوقت لقول كلمة واحدة دفاعًا عن قضيتنا، التي دافعتَ عنها مرارًا. ستكون معركة طويلة بعدما نموت ونفنى … فما أشدَّ قوةَ التحريف …
من تشارلز داروين إلى تي إتش
هكسلي
داون، ٣٠ سبتمبر [١٨٧١]
عزيزي هكسلي
من تشارلز داروين إلى إف مولر
هيردين، ألبري، ٢ أغسطس [١٨٧١]
سيدي
العزيز
لم تُثِر اهتمامي أيُّ حقيقة في خطابك أكثرَ ممَّا أثارته تلك المتعلِّقة بالمحاكاة التنكُّرية. إنها حقيقة ممتازة عن أن الذكور يسعَون وراء الإناث الخاطئة. إنك تطرح صعوبة الخطوات الأولى في المحاكاة التنكُّرية بطريقةٍ لافتة و«مقنعة» جدًّا. لقد أثارت فكرتُك عن أن الانتقاء الجنسي ساعد المحاكاةَ التنكُّرية الوقائية، بالغَ اهتمامي؛ لأن الفكرةَ نفسها خطرت ببالي سلفًا في حالات مختلفة تمامًا، وهي شحوب ألوان كل الحيوانات في أرخبيل جالاباجوس وباتاجونيا، إلخ، وفي بعض الحالات الأخرى أيضًا، لكني خِفتُ حتى من التلميح إلى فكرةٍ كهذه. هل تمانع أن أُدرجَ جملةً ما على النحو التالي: «يظن إف مولر أن الانتقاء الجنسي ربما ظهر لمساعدة المحاكاة التنكُّرية الوقائية، بطريقةٍ غريبة جدًّا سيراها أولئك الذين لا يؤمنون تمامًا بالانتقاء الجنسي مستبعدةً للغاية. وهي أن الإعجاب بلونٍ معيَّن يتطوَّر لدى تلك الأنواع التي كثيرًا ما ترى أنواعًا أخرى مُزيَّنة بهذا اللون.» اسمح لي مرةً أخرى بأن أشكرك من صميم قلبي على خطابك المثير جدًّا للاهتمام …
من تشارلز داروين إلى إي بي
تايلور
داون، [٢٤ سبتمبر ١٨٧١]
سيدي العزيز
آمُل أن تسمح لي بالتعبير عن بالغ سعادتي إذ أخبرك بمدى الاهتمام الشديد الذي أثاره لديَّ كتابك «الثقافة البدائية»، الآن وقد فرغت من قراءته. أرى أنه عملٌ عميق جدًّا، ومن المؤكَّد أنه سيكون قيمًا على الدوام، وسيظل مرجعًا طوال سنوات قادمة. ما أروعَ الطريقةَ التي تَتَّبِع بها الأرواحية لدى الأعراق الأدنى رتبةً إلى الإيمان الديني لدى أعلى الأعراق رتبة. إن هذا الكتاب سيجعلني أنظر إلى الدِّين — الإيمان بالروح، إلخ — من منظور جديد. كم غريبةٌ هي أيضًا بقايا العادات السائدة القديمة أو آثارها … ربما ستُدهش من تأخُّري كل هذه الفترة قبل أن أُرسل خطابًا إليك، لكنَّ الكتاب كان يُتلى عليَّ، وبسبب مرضي الشديد مؤخَّرًا، لم أكن أتحمَّل سوى فترات قصيرة من القراءة بين حينٍ وآخر. من المؤكَّد أنَّ إنجاز هذا العمل قد كبَّدك جهدًا مضنيًا. على أية حال، آمُل بكل صدق أن تتحمَّس لتناول مسألةِ الأخلاق بالأسلوب الموسَّع نفسه، الممزوج بالحذر، الذي تناولتَ به مسألة الأرواحية. يبدو لي من الفصلِ الأخير أنك فكَّرت في هذا. لم يكن لأحد أن يُجيد إنجازَ هذا العمل بقدرِ إجادتك الشديدة، ومن المؤكَّد أن الموضوعَ بالغُ الأهمية ومثير جدًّا للاهتمام. لا شكَّ أن لديك الآن مَراجَع تُرشدك نحو الوصول إلى تقديرٍ سليم لأخلاق الهمج، وشدَّ ما يختلف عدةُ كُتَّاب، مثل والاس، ولوبوك، إلخ، إلخ، في هذه المسألة. عذرًا على إزعاجك، وتقبَّل أصدقَ تحياتي واحترامي الشديد.
١٨٧٢
[في بداية العام، كانت الطبعة السادسة من كتاب أصل الأنواع»، التي بدأت في يونيو من عام ١٨٧١، على مشارف الاكتمال. نُقِّحت بروفة الطباعة الأخيرة في ١٠ يناير ١٨٧٢، ونُشر الكتاب في أثناء ذلك الشهر. يختلف مجلَّد هذه الطبعة عن مجلَّدات الطبعات السابقة في المظهر والحجم؛ فهو يتكوَّن من ٤٥٨ صفحةً بدلًا من ٥٩٦ صفحة، وأخف وزنًا ببضع أوقيات، وطُبِع على ورق رديء، بخط صغير، مع تكديس السطور بالقرب من بعضها إلى حدٍّ مثير للاستياء. غير أنه كان يتفوَّق على الطبعات السابقة بميزة واحدة فقط؛ ألَا وهي أنه طُرِح بسعرٍ أقل. من المؤسف أن هذه الطبعة الأخيرة من «أصل الأنواع» قد ظهرت بشكلٍ قبيح جدًّا كهذا، من المؤكَّد أن هذا أدَّى إلى نفورِ قُراءٍ كثيرين من الكتاب.
ربما كان النقاشُ الذي طرحه كتابُ «تكوُّن الأنواع» أهمَّ إضافة إلى هذه الطبعة. تناول المؤلِّف الاعتراض الذي مفادُه أن البِنى الأولية لا يمكن أن تكون ذات فائدة، ببعض التفصيل؛ لأنه رأى أن هذا الاعتراض كان النقطة التي لفتت انتباهَ معظم القُرَّاء في إنجلترا في كتاب السيد ميفارت.
من الأدلةِ البارزة على اتساع رُقعة قَبول آراء والدي وشيوع هذا القبول أنه وجد ضرورةً في إدراجِ الجملة التالية (الطبعة السادسة، الصفحة ٤٢٤): «على سبيل تدوين الأوضاع السابقة، احتفظت في الفقرات السالفِ ذِكرُها، وفي مواضعَ أخرى أيضًا، بعدةِ جملٍ تشير ضمنيًّا إلى أن علماء التاريخ الطبيعي يؤمنون بأن الأنواع خُلقت خلقًا مستقلًّا كلٌّ على حدة، وقد تعرَّضتُ للكثير من الانتقادات الشديدة لأنني عبَّرت عن أفكاري بتلك الطريقة. لكنَّ المؤكَّد أن هذا كان هو الاعتقاد السائد عند ظهور الطبعة الأولى من هذا الكتاب الحالي … أمَّا الآن، فقد تغيَّر الوضع تمامًا، وصار كل عالِم تاريخ طبيعي تقريبًا يُقر بصحةِ مبدأ التطوُّر العظيم.»
«ولكن، حسبما أستطيع أن أؤكِّد، ليس بِناءً على ملاحظتي الخاصة فقط، بل بِناءً على ملاحظة أزارا الدقيقة أيضًا، فإن [نقار الخشب الأرضي] لا يتسلَّق الشجر أبدًا.» كانت الورقة البحثية المعنية ردًّا على تعليقات السيد هدسون بشأنِ نقار الخشب في عددٍ سابق من الدوريةِ نفسِها. والجملة الأخيرة من ورقةِ والدي البحثية جديرةٌ بالاقتباس بسبب نبرتها المعتدلة؛ إذ قال فيها: «أخيرًا، صِرتُ واثقًا من أن السيد هدسون أخطأ عندما قال إن أيَّ شخص على درايةٍ بعادات هذا الطائر قد يُدفَع إلى اعتقادِ أنني «تعمَّدت تحريفَ الحقيقة» لإثبات نظريتي. وصحيح أنه يبرِّئني من هذه التهمة، لكني لا أرغب في اعتقادِ أن العديد من علماء التاريخ الطبيعي قد يتهمون عالِمًا زميلًا لهم، دون أي دليل، بتعمُّد الكذب لإثبات نظريته.» وردت الفقرة في الطبعة السادسة، الصفحة ١٤٢، على النحو التالي: «في مناطقَ كبيرة مُعيَّنة لا يتسلَّق الأشجار.» ويواصل والدي كلامه ليذكر ادعاء السيد هدسون بأنه، في مناطقَ أخرى، يتردَّد على الأشجار.
كانت إحدى الإضافات في الطبعة السادسة (الصفحة ١٤٩) إشارةً إلى نظرية السيد إيه هايَت والبروفيسور كوب عن «التسارع». وبخصوص هذا، أرسل خطابًا (١٠ أكتوبر ١٨٧٢) إلى السيد هايَت قال فيه تلك الكلمات المميَّزة:
«اسمح لي أن أغتنم هذه الفرصةَ للتعبير عن ندمي الصادق على ارتكابِ خطأَين فادحَين في الطبعة الأخيرة من «أصل الأنواع»، في إشارتي إلى آرائك أنت والبروفيسور كوب بخصوص تسارُعِ التطوُّرِ وتباطئه. كنت أظن أن البروفيسور كوب قد سبقك، لكني الآن أتذكَّر جيدًا أنني قرأتُ من قبلُ باهتمامٍ قوي ورقةً بحثية من تأليفك عن حفريات رأسيات القدم كانت توجد في مكتبتي، وكانت تضم تعليقاتٍ بشأن هذا الموضوع، وحدَّدتُها بعلاماتٍ مميَّزة. ويبدو أيضًا أنني قد أسأت التعبيرَ عن رأيكما المشترك إلى حدٍّ كبير. وهذا ضايقني بشدة. أعترف بأنني لم أتمكَّن قط من فهمِ ما تريدان توضيحه على نحوٍ تام، وأظن أن هذا غباءٌ مني بالتأكيد.»
أخيرًا، يمكن ذكرُ أن هذه الطبعة الرخيصة الثمن، لمَّا كان الهدفُ منها إلى حدٍّ ما أن تكون طبعةً شعبية رائجة، قد صُمِّمَت لتشمل مسردًا للمصطلحات المتخصِّصة، «أضيف لأن العديد من القراء قد اشتكَوا … من أن بعض المصطلحات المستخدمة لم تكن مفهومةً لهم.» تكفَّل السيد دالاس بتجميع المسرد، ولمَّا كان هذا المسرد مجموعةً ممتازة من التعريفات الواضحة الوافية، فمن المؤكَّد أنه كان نافعًا للعديد من القراء.]
من تشارلز داروين إلى جيه إل إيه دي
كاتريفاج
داون، ١٥ يناير ١٨٧٢
سيدي العزيز
إنني في غاية الامتنان لخطابك اللطيف جدًّا ومجهوداتك التي تبذلها لمساعدتي. كنت أظن أن نشْرَ كتابي الأخير [«نشأة الإنسان»] سيقضي على كل تعاطفك معي، ولكن يبدو أنني، وإن كنتُ قد قدَّرت تحرُّرك الفكري العظيم بأنه بالغٌ جدًّا، فإنني لم أقدِّره، رغم ذلك، حقَّ قدره.
من تشارلز داروين إلى أوجست
فايزمان٢٨
داون، ٥ أبريل ١٨٧٢
سيدي العزيز
تقبَّل خالص احترامي.
[بخصوص مقالة موريتز فاجنر الأولى، أرسل والدي خطابًا إلى هذا العالِم المتخصِّص في التاريخ الطبيعي، في عام ١٨٦٨ على ما يبدو، قائلًا:]
سيدي العزيز المحترم
أشكرك بكل صدق على إرسالك ورقة «قانون الهجرة، إلخ» إليَّ، وعلى ما تبذله من عطفٍ في انتباهك المُشرِّف جدًّا الذي تُولِي أعمالي إياه. فأنا أؤكِّد لك أن اتفاق عالِم تاريخٍ طبيعي مثلك، سافرَ إلى عددٍ هائل من المناطق البعيدة ودَرس حيواناتٍ من طوائفَ كثيرة جدًّا معي، يمنحني أقصى ما أستطيع نيله من السعادة … صحيحٌ أنني رأيت تأثيراتِ العزلة في حالة الجزر وسلاسل الجبال، وكنت على دراية ببضع من حالات الأنهار، لكنَّ العدد الأكبر من حقائقك كان جديدًا عليَّ تمامًا. أرى الآن أنني، بسبب قلةِ المعرفة، لم أستفِد استفادة كافيةً إطلاقًا من الآراء التي تناصرها، وأكاد أتمنَّى أن أومن بأهميتها قدرَ إيمانك بها؛ لأنك تُبيِّن جيدًا، بطريقةٍ لم تخطر ببالي قط، أنها تُزيل صعوباتٍ واعتراضاتٍ كثيرة. بالرغم من ذلك لا بد أن أومن بأنه، في العديد من المناطق الكبيرة، قد عُدِّل كل الأفراد المنتمين إلى النوع نفسه ببطء، بالطريقة نفسها التي حُسِّنت بها خيولُ السباق الإنجليزية على سبيل المثال؛ أي بالانتقاء المستمر لأسرع الأفراد، دون أي فَصل أو عزل. لكني أعترف بأن هذه العمليةَ ستجعل وجودَ نوعَين جديدَين أو أكثرَ ضمن المنطقة المحدودة نفسها صعبًا للغاية، وسيكون حدوث قدرٍ من الانفصال مفيدًا جدًّا، إن لم يكن ضروريًّا ولا غنى عنه، وهنا ستكون حقائقك وآراؤك ذات قيمة كبيرة …
[الخطاب التالي متعلِّق بالموضوع نفسه. ويشير إلى مقالة البروفيسور إم فاجنر، التي نُشرت في مجلة «داس أوسلاند»، ٣١ مايو ١٨٧٥:]
من تشارلز داروين إلى موريتس
فاجنر
داون، ١٣ أكتوبر ١٨٧٦
سيدي العزيز
أتممتُ الآن قراءة مقالاتك، التي أثارت بالغ اهتمامي، مع أنني أختلف معك بشدة في عدة نقاط. فعلى سبيل المثال، تدفعني اعتباراتٌ كثيرة إلى التشكُّك فيما إذا كانت الأنواع أكثرَ قابليةً للتباين في فترةٍ ما من قابليتها للتباين في فترةٍ أخرى، إلا أن يكون ذلك بفعل ظروف متغيِّرة. بالرغم من ذلك، فليتني أستطيع الإيمانَ بهذه النظرية؛ لأنها تزيل صعوباتٍ عديدة. لكن اعتراضي الأشد على نظريتك هو أنها لا تُفسِّر أساليبَ التكيُّف البنيوية المتعدِّدة التي تظهر في كل كائن عضوي، مثل تلك التي حدثت في النقار الحقيقي ليتسلَّق الأشجار ويصطاد الحشرات، أو في طائر الخَبَل ليصطاد الحيواناتِ ليلًا، وهلم جرًّا. لن أقتنع إطلاقًا بأي نظريةٍ ما لم تفسِّر هذه التكيُّفات بوضوح. أظن أنك قد أسأت فهْمي بخصوص الانعزال. أعتقد أن كل الأفراد في نوعٍ مُعيَّن يُمكن أن يتغيَّروا ببطء ضمن حدود المنطقة نفسها، وذلك بطريقةٍ تكاد تكون مماثلةً للطريقة التي يؤثِّر بها الإنسان بواسطةِ ما أسميتُه عمليةَ الانتقاء غير المقصود … فأنا لا أعتقد أن أحدَ الأنواع سيلد نوعَين جديدَين أو أكثرَ ما دامت هذه الأنواع تتزاوج معًا ضمن حدودِ المنطقة نفسها. بالرغم من ذلك لا يسعني الشكُّ في أن العديد من الأنواع الجديدة تطوَّرت في آنٍ واحد ضمن حدود المنطقة القارية الكبيرة نفسها، وقد حاولت في كتابي «أصل الأنواع» أن أشرح الكيفية التي ربما تؤدِّي إلى تطوُّر نوعَين جديدَين مع أنهما الْتقيا وتزاوجا على «حدود» نطاقهما. كان سيبدو أمرًا غريبًا لو تجاهلتُ أهميةَ الانعزال، نظرًا إلى أن ما دفعني أساسًا إلى دراسةِ أصلِ الأنواع هو حالات كحالات أرخبيل جالاباجوس. أرى من وجهة نظري أن أفدح خطأ ارتكبتُه هو أنني لم أولِ أهميةً كافيةً للتأثير المباشر للعوامل البيئية؛ أي الغذاء والمُناخ وما إلى ذلك. فالتعديلات التي تنتج عن هذه الطريقة، والتي لا تفيد الكائنَ المعدَّل ولا تضره، ستُفضَّل، كما أرى الآن من ملاحظاتك في الأساس، من خلال الانعزال في منطقة صغيرة، حيث يعيش عدد قليل فقط من الأفراد في ظروفٍ شبه موحَّدة.
[الخطابان التاليان أيضًا مهمَّان لأنهما متعلِّقان بآراء والدي بشأنِ تأثير الانعزال من حيث علاقته بأصل الأنواع الجديدة:]
من تشارلز داروين إلى كيه سيمبر
داون، ٢٦ نوفمبر ١٨٧٨
عزيزي
البروفيسور سيمبر
عندما نشرتُ الطبعة السادسة من «أصل الأنواع»، فكَّرت مليًّا في الموضوع الذي تُشير إليه، وكان الرأي الوارد فيها هو قناعتي التي توصَّلت إليها بدراسةٍ متأنية. لقد ذهبتُ إلى أبعدِ ما يمكنني، وربما أبعدَ ممَّا ينبغي، في الاتفاق مع فاجنر، ومنذ ذلك الوقت، لم أجد سببًا يدفعني لتغيير رأيي، لكن يجب أن أُضيف أن ثمَّة موضوعاتٍ أخرى قد استحوذت على اهتمامي. توجد فئتان مختلفتان من الحالات، كما يبدو لي؛ إحداهما تلك التي يُعدَّل فيها أحدُ الأنواع ببطء في البلد نفسه (لا أشك في وجود حالاتٍ لا حصر لها من هذه الفئة)، وأمَّا الفئة الثانية فهي تضم الحالات التي ينقسم فيها أحدُ الأنواع إلى نوعَين جديدَين أو ثلاثة أو أكثر، وفي هذه الفئة الأخيرة، أظن أن الانفصال شبهُ التام سيساعد بشدةٍ في «انتواعها»، إن أردنا التعبيرَ عن الأمر بمصطلح جديد.
إنني سعيد جدًّا بأنك تتولَّى هذا الموضوع؛ لأنك ستحرص على كشفِ الكثير من جوانبه. أتذكَّر جيدًا تردُّدي الشديد بشأنِ هذه القضية قبل فترةٍ طويلة؛ فعندما كنتُ أفكِّر في الحيوانات والنباتات الموجودة في جزر جالاباجوس، كنت أقتنع تمامًا بفكرةِ الانعزال، وعندما كنت أُفكِّر في أمريكا الجنوبية، كنت أشكُّ فيها بشدة. أرجو أن تتقبَّل أصدقَ تحياتي
من تشارلز داروين إلى كيه سيمبر
داون، ٣٠ نوفمبر ١٨٧٨
عزيزي
البروفيسور سيمبر
بعد الكتابة إليك، تذكَّرت بعضَ الأفكار والاستنتاجات التي كانت قد خطرت ببالي في السنوات الأخيرة. في أمريكا الشمالية، يبدو من الواضح، عند الانتقال من الشمال إلى الجنوب أو من الشرق إلى الغرب، أن ظروفَ الحياة المتغيِّرة قد عدَّلت الكائناتِ الحية في المناطق المختلفة؛ لذا صارت الآن تُشكِّل سلالات مختلفةً أو حتى أنواعًا مختلفة. والأوضح من ذلك أن الكائنات التي تعيش في المناطق المعزولة، مهما كانت هذه المناطق صغيرة، دائمًا ما تخضع لتعديلاتٍ طفيفة، لكني لا أستطيع أن أُكوِّن رأيًا مُحدَّدًا بشأنِ مدى ارتباط ذلك بطبيعة الظروف المختلفة قليلًا التي تتعرَّض لها هذه الكائنات، ومدى ارتباطه بالتهجين، على النحو الذي شرحه فايزمان. لقد خطرت ببالي هذه الصعوبةُ نفسها (كما هو مُوضَّح في كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين») فيما يتعلَّق بالسلالات الأصلية من الماشية والأغنام وما إلى ذلك، في المناطق المنفصلة في بريطانيا العظمى، بل في أنحاء أوروبا كلها. ومع تحسُّن معرفتنا، لا ننفك نكتشف أن الاختلافاتِ الطفيفةَ جدًّا، التي يعتبرها خبراء التصنيف اختلافاتٍ بنيويةً غيرَ مهمة، ذاتُ أهمية وظيفية، وقد بهرتني هذه الحقيقة خصوصًا في حالة النباتات التي اقتصرت عليها ملاحظاتي في السنوات الأخيرة. لذا أرى أنه من التسرُّع بعض الشيء اعتبارُ أن الاختلافات الطفيفة بين الأنواع النموذجية، ولتكن مثلًا تلك الأنواع التي تعيش في جزرٍ مختلفة من الأرخبيل نفسه، لا تُشكِّل أهميةً وظيفية، وأنها لا ترجع بأي شكلٍ من الأشكال إلى الانتقاء الطبيعي. بخصوص كل البِنَى المتكيِّفة، وهي لا تُحصى، فلا أستطيع أن أرى كيف أن رؤيةَ إم فاجنر تُوضِّح أيَّ شيء فيما يتعلَّق بالكيفية والعلة، اللتَين تؤديان إلى أن تصبح الأشكال المنعزلة لفترة طويلة مُعدلةً بقدرٍ طفيف على الدوام تقريبًا، بل إن الحالات العديدة التي طرحها لا تُضيف إلى فهْمي الذي اكتسبته من قبلُ أيَّ شيء جديد. لا أعرف ما إذا كنت ستهتم بسماعِ رأيي الإضافي في هذه النقطة المعنية؛ لأنني، كما قلتُ من قبل، لم أعُدْ أهتم كثيرًا بمثل هذه المسائل في السنوات الأخيرة، معتقدًا أنه من الحكمة، الآن في ظل تقدُّمي في السن، أن أعمل على مواضيعَ أسهل.
آمُل أن تُلقي ضوءًا على هذه النقاط، وأثق في أنك ستفعل ذلك.
[تستأنف الخطابات التالية تاريخ عام ١٨٧٢، الذي قوطِع بسبب الاستطراد عن موضوع الانعزال.]
من تشارلز داروين إلى الماركيز دو
سابورتا
داون، ٨ أبريل ١٨٧٢
سيدي العزيز
أشكرك بكل صدق وقد تشرَّفتُ جدًّا لِمَا بذلته من جهدٍ في سبيل إعطائي أفكارك عن أصل الإنسان. يُسعدني بشدة أن بعض أجزاء عملي قد أثارت اهتمامك، وأننا نتفق في الاستنتاج الرئيسي المتمثِّل في أن الإنسان اشتُقَّ من شكلٍ أدنى رتبة.
يُسعدني سماعُ أنك تعمل على نباتاتك المتحجِّرة، التي اتضح في السنوات الأخيرة أنها مجالٌ غني جدًّا جدير بالاكتشاف. مع جزيل الشكر على لطفك الشديد.
[في أبريل ١٨٧٢، انتُخِب عضوًا في الجمعية الملكية الهولندية، وأرسل خطابًا إلى البروفيسور دوندرس، قائلًا:
«شكرًا جزيلًا على خطابك. لقد سُررتُ جدًّا بنيل شرف انتخابي عضوًا أجنبيًّا في جمعيتكم الملكية. فدائمًا ما كنت أرى أن نيل المرء لتعاطف زملائه من العلماء هو أسمى مكافأة على الإطلاق يُمكن أن يتطلَّع إليها أيُّ عالِم. وقد زادت سعادتي كثيرًا لأنك أول مَن أخبرتني بنيل هذا الشرف.»]
من تشارلز داروين إلى تشونسي
رايت
داون، ٣ يونيو ١٨٧٢
سيدي العزيز
نظرًا إلى أن ذهنك صافٍ جدًّا، وأنك تُفكِّر بإمعانٍ شديد في معنى الكلمات، أتمنَّى أن تتحيَّن أيَّ فرصة عابرة لتتأمَّل ما هي المواضع الصحيحة التي يُمكن أن يُقال فيها إن شيئًا ما قد تأثَّر بإرادة الإنسان. ما دفعني إلى هذه الرغبةِ هو قراءة مقال «ضد» شلايخر بقلم أستاذك ويتني. فهو يُحاجج بأنه لَمَّا كانت كل خطوة من خطوات التغيير في اللغة تُتخذ بإرادة الإنسان، فإن اللغة كلها تتغيَّر بهذه الطريقة، لكني لا أعتقد أن هذا صحيح؛ فما للإنسان نيةٌ لتغيير اللغة أو رغبة في ذلك. إنها حالةٌ مشابِهة لِمَا أسميته «الانتقاء غير المقصود»، الذي يعتمد على أن الرجال يتعمَّدون الحفاظَ على أفضل الأفراد، ونتيجةً لذلك يُغيِّرون السلالة كلها دون قصد.
من تشارلز داروين إلى هربرت
سبنسر
باسِت، ساوثهامبتون، ١٠ يونيو
[١٨٧٢]
عزيزي
سبنسر
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ١٢ يوليو [١٨٧٢]
عزيزي هوكر
يجب أن أُعبِّر عن سعادتي بالطريقةِ التي تناولَت بها الصحفُ قضيتك. لقد رأيتُ صُحُف «ذا تايمز»، و«ديلي نيوز»، و«بول مول جازيت»، وسمعتُ أن صحفًا أخرى تناولت القضية.
عادت المذكِّرة بنفعٍ كبير من هذا الجانب، مهما تكن النتيجة في إجراءات حكومتنا السيئة. بروحي أن هذا يكفي ليجعل المرءَ مناصرًا قديمًا مخلصًا لحزب المحافظين …
إذا أرسلت ردًّا على هذا الخطاب، فسأشعر بالندم على أنني نفَّست عن مشاعري بإرساله إليك.
[كانت المذكِّرة المشارُ إليها هنا موجَّهةً إلى السيد جلادستون، وكانت تحمل توقيعاتِ عدد من الرجال البارزين، منهم السير تشارلز لايل، والسيد بينثام، والسيد هكسلي، والسير جيمس باجيت. وهي تعرض سردًا كاملًا للمعاملة التعسُّفية الجائرة التي كان السير جيه دي هوكر يلقاها من رئيسه الحكومي، المفوَّض الأول للأشغال. نُشرت الوثيقة كاملةً في دورية «نيتشر» (١١ يوليو ١٨٧٢)، وهي جديرة جدًّا بالدراسة باعتبارها مثالًا للمعاملة التي يُمكن أن يلقاها العِلم من البيروقراطية. وكما تذكُر دورية «نيتشر»، فهي ورقة من المؤكَّد أن رجالَ العلم في كل أنحاء العالم يقرءونها بأشدِّ سخطٍ في نفوسهم، وأن كل الرجال الإنجليز يقرءونها بمنتهى الخزي. ويختتم الموقِّعون على المذكِّرة توقيعَهم بالاحتجاج على العواقبِ المتوقَّعة لاضطهاد السير جوزيف هوكر؛ أي استقالته، وخسارة «رجل مُبجَّل لنزاهته، ومحبوب للُطفه وحنان قلبه، وقضى في الخدمة العامة حياةً لا تشوبها أيُّ شائبة؛ فهي ناصعة تمامًا.»
من حسن الحظ أن هذه المصيبةَ قد مُنِعَت، ولم يَعُد السير جوزيف يتعرَّض لمزيد من المضايقة.]
من تشارلز داروين إلى إيه آر
والاس
داون، ٣ أغسطس [١٨٧٢]
عزيزي والاس
من تشارلز داروين إلى إيه آر
والاس
داون، ٢٨ أغسطس ١٨٧٢
عزيزي والاس
يبدو لي رجلًا بارعًا للغاية، كما ارتأيتُ بالفعل عندما قرأت مقالته الأولى. فحُجته العامة التي يُؤيِّد بها النشوءَ التلقائي قويةٌ على نحوٍ رائع، وإن كنت لا أستحسن القليلَ من حُججه. والنتيجة هي أن ادعاءاته حيَّرتني وأذهلتني، لكني لست مقتنعًا بصحَّتها، وإن كنت أرى، في العموم، أن فرضية النشوء التلقائي صحيحةٌ على الأرجح. وأحدُ أسباب عدم اقتناعي هو الطابع الاستنباطي الذي يكسو جزءًا كبيرًا من استدلاله، ولا أعرف، لكني لا أقتنع بالاستنباط أبدًا، حتى في حالة كتابات إتش سبنسر. لو كان ترتيبُ محتوى كتاب الدكتور باستيان معكوسًا، وكان قد بدأ بالحالات المتنوِّعة للنشوء الحيوي المتغاير، ثم انتقل إلى المواد العضوية، ثم إلى المحاليل الملحية، وبعدها طَرَح حُججه العامة، لكان أكثر إقناعًا لي، على ما أعتقد. بالرغم من ذلك، أظن أن الصعوبة الرئيسية التي أُواجهها هي أن تأثير المعتقدات القديمة قد ترسَّخ في ذهني. يجب أن يتوفَّر لي مزيدٌ من الأدلة على أن الجراثيم، أو أدقَّ أجزاء الأشكال دائمًا ما تُقتَل بتعرُّضها لدرجة حرارة مقدارها ٢١٢ درجة فهرنهايت. ربما سيكون تكرار ادعاءات الدكتور باستيان [بأقلام] رجال آخرين، ممَّن أحترم حُكمهم وممَّن عملوا فترةً طويلة على دراسة الكائنات الحية الأدنى رتبة، كافيًا لإقناعي. ها هو ذا اعترافٌ جيد بالضَّعف الفكري، لكن المعتقد إطار فكري يتعذر تفسيره!
أختلف تمامًا مع الدكتور باستيان في نقاطٍ عديدة وَرَدت في فصوله الأخيرة. ولذا أرى بوضوح أن تكرار وجود أشكال عامة في الطبقات الأقدم يشير إلى أن الأشكال الأحدث تشعَّبت من أصلٍ مشترك. بالرغم من كلِّ تعليقاته الساخرة، لم أستسلم بعدُ ولم أتخلَّ عن موقفي بخصوصِ فرضية «شمولية التكوين». أودُّ أن أعيش إلى أن أرى ثبوت صحة فرضية «النشوء التلقائي»؛ لأنها ستكون اكتشافًا ذا أهمية فائقة، أو أعيش إلى أن أشهد دحضها إذا كانت خاطئة، ومن ثمَّ أرى طريقةً أخرى لتفسير الحقائق، لكني لن أعيش إلى أن أرى كل هذا. لو ثبتت صحةُ فرضية الدكتور باستيان على الإطلاق، فسيكون قد أسهَم إسهامًا بارزًا في المجال. ما أعظمَ السرعة التي يتقدَّم بها العلم؛ إنها تكفي لتهوِّن علينا الأخطاء العديدة التي ارتكبناها، وتعوِّضنا عن جهودنا التي تتوارى وتُنسى في خِضم الحقائق الجديدة والآراء الجديدة التي تظهر يوميًّا.
هذه كل الأشياء التي وددتُ قولها عن كتاب الدكتور باستيان، وبالتأكيد لم تكن على قدرٍ كبير من الأهمية كي أذكرها …
من تشارلز داروين إلى إيه دي
كوندول
داون، ١١ ديسمبر ١٨٧٢
سيدي العزيز
وأخيرًا، هلَّا تسمح لي بأن أسألك سؤالًا: هل لاحظت بنفسك، أو لاحَظ شخصٌ ما يُمكن الوثوق به تمامًا، أن الفراشات الموجودة على جبال الألب مُروَّضةٌ بدرجةٍ أكبرَ من تلك الموجودة على السهول المنخفضة؟ هل تنتمي إلى النوع نفسه؟ وهل لوحِظَت هذه الحقيقةُ لدى أكثر من نوع واحد؟ وهل هي أصناف زاهية الألوان؟ إنني مُتلهِّف جدًّا لمعرفة السبب الذي يجعلها تحط على الأجزاء الزاهية الألوان من فساتين السيدات، لا سيما أنني أكَّدتُ أكثرَ من مرة أن الفراشات تُحب الألوان الزاهية، كألوان أوراق نبات بنت القنصل في الهند مثلًا.
اسمح لي مرةً أخرى بأن أشكرك على إرسالِ كتابك إليَّ، وعلى السعادة الهائلة الاستثنائية التي انتابتني وأنا أقرؤه.
[أُتمَّ التنقيحُ الأخير لكتاب «التعبير عن العواطف» في ٢٢ أغسطس ١٨٧٢، وقد كَتَب عن ذلك في دفترِ مُذكِّراته: «استغرق مني نحو ١٢ شهرًا.» وكالعادة لم يكن يعتقد أن الكتابَ من الممكن أن يكون ناجحًا في العموم. تُعطي الفقرةُ التالية المقتطفة من خطابٍ إلى هيكل انطباعًا بأن تأليفَ هذا الكتاب قد أصابه بإجهادٍ شديد بعض الشيء:
«فرغت من تأليف كتابي الصغير، «التعبير عن العواطف»، وعندما يُنشَر في نوفمبر، سأُرسل إليك نسخةً بالطبع، في حالِ إن كنت تودُّ قراءته للتسلية. استأنفتُ كتابًا قديمًا مُتعلِّقًا بعلم النبات، وربما لن أُحاول مُجدَّدًا أبدًا أن أُناقش آراءً نظرية.
فأنا أكبَر في السن وأزدادُ وَهنًا، ولا أحدَ يستطيع أن يعرف متى ستبدأ قواه الفكرية تنهار. أتمنَّى لك طول العمر والسعادة من أجلك، ومن أجل العلم.»
نُشِر الكتاب في الخريف. كانت الطبعة مُكوَّنةً من ٧٠٠٠ نسخة، بِيع منها ٥٢٦٧ نسخةً في فعاليةِ طرحِ الكتاب للبيع التي أقامها السيد موراي في نوفمبر. ثم طُبِعَ ٢٠٠٠ نسخة في نهاية العام، وقد تبيَّن أن ذلك من سوء الحظ؛ لأن تلك النسخ لم تُبَع بسرعة كبيرة بعد ذلك؛ ولذا تُرِكَت مجموعةٌ هائلة من ملاحظاتٍ جمعها المؤلِّف دون أن تُستخدَم قَط لإصدار طبعة ثانية في حياته.
من بين المقالات النقدية التي كُتِبَت عن كتاب «التعبير عن العواطف»، ربما يُمكن ذكرُ المقالَتين القصيرَتين المُعارِضَتين اللتين وردتا في دورية «ذا أثنيام»، بتاريخ ٩ نوفمبر ١٨٧٢، وصحيفة «ذا تايمز» بتاريخ ١٣ ديسمبر ١٨٧٢. وقد نُشِرت مقالةٌ نقدية جيدة بقلم السيد والاس في دورية «ذا كورترلي جورنال أوف ساينس» في يناير ١٨٧٣. وفيها يقول السيد والاس، وهو محقٌّ في ذلك، إن الكتاب يعرض بعضَ «خصائص عقل المؤلِّف بدرجةٍ بارزة»؛ ألَا وهي «الشوق النهم لاكتشاف أسباب الظواهر المتباينة المعقَّدة التي تتسم بها الكائنات الحية.» ويُضيف أنه يبدو في حالة المؤلِّف أن «ما يتسم به الأطفال من فضول لا يهدأ لمعرفة «سبب» كل شيء و«عِلَّته» و«كيفيته»» «لم يضعف أبدًا.»
فيما وصف كاتبٌ آخر، في إحدى المقالات النقدية اللاهوتية، الكتاب بأنه «الأقوى تأثيرًا والأخبث ضررًا» بين أعمال المؤلِّف كلها.
وقدَّم البروفيسور ألكسندر بين نقدًا للكتاب قد ورد في حاشيةٍ مضافة إلى كتابه «الحواس والفِكر»؛ ويشير الخطاب التالي إلى هذه المقالة:]
من تشارلز داروين إلى ألكسندر
بين
داون، ٩ أكتوبر ١٨٧٣
سيدي العزيز
إنني في غاية الامتنان لك لأنك أرسلت إليَّ مقالتك. انتقاداتُك كلها مكتوبة بروحٍ مُنصفة تمامًا، ولا يُمكن بالطبع لأي شخص يعرفك أو يعرف أعمالك أن يتوقَّع منك أيَّ شيء آخر غير ذلك. إن ما تقولُه عن غموضِ ما أسميتُه التأثير المباشر للجهاز العصبي منصفٌ تمامًا. شعرت بأنه كذلك آنذاك، بل ازداد شعوري بذلك مُؤخَّرًا. أعترف بأني لم أستطِع قَط أن أفهم مبدأ العَفْوية الذي طرحتَه، وكذلك بعض نقاطك الأخرى، فهمًا تامًّا؛ لكي أُطبِّقها على حالات خاصة. ولكن لأننا ننظر إلى كل شيء من منظورَين مختلفَين، فمن المستبعد أن نتفق بدرجة كبيرة.
فرحتُ جدًّا بما تقوله عن تعبير البكاء وعن التورد خجلًا. هل قرأتَ مقالةً نقدية في عدد حديث من دورية «ذي إدنبرة»؟ لقد كان مفعمًا بازدراءٍ رائع تجاهي وتجاه آخرين كثيرين.
أحتفظُ بذكرى سارة جدًّا عن إقامتنا معًا في ذاك المكان المُبهِج، مور بارك.
من تشارلز داروين إلى السيدة
هاليبرتون٣٩
داون، ١ نوفمبر [١٨٧٢]
سيدتي العزيزة هاليبرتون
يُمكنني القول إنك ستُفاجئين بتلقي خطابٍ منِّي. غايتي من إرسال خطاب الآن هي أن أقول إنني نشرتُ للتو كتابًا بعنوان «التعبير عن العواطف لدى الإنسان والحيوان»، وخَطَر ببالي أنكِ ربما تريدين قراءةَ بعض الأجزاء منه، ولا أظن إطلاقًا أن هذا كان سينطبق على أيٍّ من الكتب التي نشرتها سلفًا. لذا أرسل كتابي الحالي ضِمن هذه الدُّفعة البريدية. وبالرغم من أنني لم أتواصل معكِ أو مع أفراد أسرتك الآخرين منذ فترةٍ طويلة جدًّا؛ فما من ذكريات تراود عقلي بتلك الوتيرة والوضوح الشديد الذي تخطر به على عقلي ذكريات الأيام الخوالي السعيدة التي قضيتها في وودهاوس. أرغب جدًّا في أن أسمع ولو القليل من الأخبار عنك وعن أفراد أسرتك الآخرين، إذا كنتِ مستعدةً لتكبُّد عناء إرسال خطاب إليَّ. فقد كنتُ أعرف قبل ذلك بعض أخبارك من أخواتي.
صحتي سيئة منذ سنوات عديدة، ولا أستطيع زيارةَ أي مكان منذ فترة، وأشعر الآن بأنني طاعن جدًّا في السن. ما دام نمطُ حياتي ثابتًا تمامًا، أستطيع إنجازَ بعض العمل اليومي في التاريخ الطبيعي، الذي لا يزال شغفي، كما كان في الأيام الخوالي، عندما كنتِ معتادةً أن تضحكي عليَّ لأنني كنت أجمع الخنافس بحماسة شديدة في وودهاوس. باستثناء مرضي المستمر، الذي عزلني عن المجتمع، فحياتي سعيدة جدًّا، لكنَّ أكبرَ عيب يشوبها هو أن العديد من أطفالي قد ورث مني الصحة الواهنة. أرجو من كل قلبي أن تكوني محتفظة، ولو إلى حدٍّ كبير على الأقل، ﺑ «صحة آل أوين» الشهيرة. بخالص مشاعر الامتنان والمودَّة لكلِّ مَن يحمل اسم أوين، أجرؤ على التوقيع على هذا الخطاب.
من تشارلز داروين إلى السيدة
هاليبرتون
داون، ٦ نوفمبر [١٨٧٢]
عزيزتي سارة
سُررت جدًّا بخطابك، الذي يجب أن أصفه بأنه فاتن. لم أجرؤ إطلاقًا على تخيُّل أنكِ ستحتفظين بذكرى طيبة عنِّي طوال هذه السنوات العديدة. لكني مع ذلك كنت متيقنًا بكل تأكيد من أنك ستظلين طيبةَ القلب ومخلصةً كما كنتِ دائمًا منذ أقدم ذكرياتي عنك. أعرف جيدًا كمَّ الأحزان المؤلمة التي مررتِ بها، لكني حزنت بشدةٍ عند سماع أن صحتك ليست على ما يرام. إذا استطعتِ استجماعَ بعض القوة لتزورينا هنا في الربيع أو الصيف، عندما يتحسَّن الطقس، فنسعد حقًّا أنا وزوجتي، كما تريدني أن أقول، برؤيتك، وأعرف أنك لن تبالي بأن تشعري ببعض الملل هنا. سوف أبتهج حقًّا برؤيتك. شكرًا جزيلًا على إخباري بأحوال أسرتك، وقد كان الكثير ممَّا ذكرتِه عنهم جديدًا عليَّ. كم كنتم كلكم لطفاء معي في صباي، وأنتِ بالأخص، وما أكثرَ السعادة التي أَدين لكم بها! مع أصدق التحيات من صديقك المُحِب والممتن
١٨٧٣
[كان العمل الوحيد في هذا العام (بخلاف العمل المتعلِّق بعلم النبات) هو إعدادَ طبعة ثانية من كتاب «نشأة الإنسان»، الذي يُشار إلى عملية نشره في الفصل التالي. كان أداء هذا العمل ثقيلًا جدًّا على نفسه؛ لأنه كان منهمكًا حينها بعمقٍ في مخطوطة كتاب «النباتات الآكلة للحشرات». ولذا قال في خطابٍ إلى السيد والاس (بتاريخ ١٩ نوفمبر): «لم أندم في حياتي كلِّها على أي شيء قاطَعَني بقدرِ ما أندم على هذه الطبعة الجديدة من «نشأة الإنسان». وفي وقتٍ لاحق (في ديسمبر)، قال في خطاب إلى السيد هكسلي: «لقد اتضح أن الطبعة الجديدة من «نشأة الإنسان» مهمةٌ بشعة. لقد استغرق الأمر منِّي ١٠ أيام بأكملها لإلقاء نظرةٍ سريعة فحسب على الخطابات والمقالات النقدية التي تتضمَّن انتقاداتٍ وحقائقَ جديدة. إنها مهمة صعبة للغاية.»
استمرَّ العمل حتى ١ أبريل ١٨٧٤، عندما استطاع العودة إلى نباتات جنس الندية المفضلة بشدة لديه. قال في خطاب إلى السيد موراي:
«انتهيتُ أخيرًا، بعد أكثرَ من ثلاثة أشهر من أصعب عمل أدَّيته في حياتي، وهو إتمام إصدارٍ مُنقَّح من كتاب «نشأة الإنسان»، وأودُّ بشدة أن يُطبَع في أقربِ وقت ممكن. ونظرًا إلى أنه سيُطبع باستخدام القوالب، فلن ألمسه مُجدَّدًا أبدًا.»
يشير أول خطابات عام ١٨٧٣ المتنوِّعة إلى زيارةٍ لطيفة تلقَّاها من الكولونيل هيجينسون من مدينة نيوبورت الأمريكية.]
من تشارلز داروين إلى توماس وينتوورث
هيجينسون
داون، ٢٧ فبراير [١٨٧٣]
سيدي العزيز
فرغت زوجتي للتو من تلاوةِ كتاب «الحياة مع فوجٍ أسوَد» عليَّ، ائذن لي بأن أشكرك من صميم قلبي على السعادة البالغة التي منحنا إياها من نواحٍ كثيرة. دائمًا ما كنتُ أستحسن الزنوج، بِناءً على اللقاءات القليلة التي جمعتني ببعضهم، وسُررتُ بأن انطباعاتي غيرَ المؤكَّدة قد تأكَّدت، وأن شخصيتهم وقدراتهم العقلية قد نوقشت ببراعة شديدة. عندما كنتَ هنا، لم أكن أعرف بالمنصب النبيل الذي قد شغلتَه. كنتُ قد قرأت من قبلُ عن الأفواج السوداء، لكني عجزتُ عن ربط اسمِك بمهمتك الباهرة. صحيح أننا استمتعنا جدًّا بزيارتك إلى داون، لكننا، أنا وزوجتي، ندِمنا مرارًا وتكرارًا على أننا لم نكن نعرف بأمرِ الفوج الأسود؛ لأننا كُنَّا سنرغب بشدة في أن نسمع شيئًا عن الجنوب من شفتَيك شخصيًّا.
لقد أثارت أوصافك في عقلي ذكرياتٍ واضحةً جدًّا عن الجولات التي كنت أخوضها سيرًا على الأقدام قبل ٤٠ عامًا في البرازيل. لدينا مقالاتك المُجمَّعة، التي تفضَّل السيد [مونكيور] كونواي بإرسالها إلينا، ولكن لم يسنح لنا وقتٌ حتى الآن لقراءتها. أعرف بعضَ أخبارك في بعض الأحيان من صحيفة «ذي إندكس»، وقرأت في الساعة الماضية مقالةً شائقة من كتابتك عن تقدُّم الفِكر الحر.
[في ٢٨ مايو، أرسل الإجابات التالية ردًّا على الأسئلة التي كان السيد جالتون يُوجِّهها آنذاك إلى عدةِ علماء، في سياق الاستقصاء الذي طُرِح في كتابه «رجال العلم الإنجليز: طبيعتهم وتنشئتهم» ١٨٧٤. وبخصوص الأسئلة، كتب والدي: «ملأتُ الإجابات قدرَ ما استطعت، ولكن من المستحيل تمامًا عليَّ أن أُحدِّد الدرجات.» ومن أجل التسهيل، وُضِعت الأسئلة والإجابات المتعلِّقة ﺑ «التنشئة» قبل تلك المتعلِّقة ﺑ «الطبيعة»:
التعليم | كيف تعلَّمت؟ | أعتبرُ أن أي شيء ذي قيمة قد تعلَّمته ذاتيًّا. |
هل أسهم في تحسين عادات الملاحظة أم حجَّمها؟ | حجَّمها؛ لأنه كان تعليمًا تقليديًّا تمامًا في الجزء الأكبر منه. | |
هل أسهم في تحسين الحالة الصحية أم لا؟ | نعم. | |
هل توجد له مزايا خاصة؟ | لا، إطلاقًا. | |
ما أبرز الأشياء التي لم يشملها؟ | لا رياضيات، ولا لغات عصرية، ولا أي من عادات الملاحظة أو الاستدلال. | |
هل كان للعقيدة الدينية التي دُرِّستَ إياها في شبابك أيُّ تأثير رادع في حرية أبحاثك؟ | لا. | |
هل تبدو تفضيلاتك العلمية فطرية؟ | فطرية بالتأكيد. | |
هل حدَّدتها أي أحداث معيَّنة، وما هي تلك الأحداث؟ | نزعتي الفطرية للتاريخ الطبيعي قد أكَّدتها ووجَّهتها رحلة «البيجل». |
السؤال | أنت | والدك | |||
---|---|---|---|---|---|
اذكر أي اهتمامات كانت تُمارَس بانتظام شديد. | العلوم وبعض الرياضات الميدانية بشغف في أيام الشباب. | ||||
الدِّين؟ | تابعٌ لكنيسة إنجلترا اسميًّا. | تابع لكنيسة إنجلترا اسميًّا. | |||
السياسة؟ | ليبرالي أو جذري. | ليبرالي. | |||
الصحة؟ | جيدة في أيام الشباب، سيئة في الأعوام الثلاثة والثلاثين الأخيرة. | جيدة طوال حياته باستثناء النِّقرِس. | |||
القامة وما إلى ذلك؟ | الطول؟ | الهيئة الجسدية، وما إلى ذلك؟ | محيط الرأس. | الطول؟ | الهيئة الجسدية، وما إلى ذلك؟ |
٦ أقدام. | نحيلة وإن كانت سمينةً بعض الشيء في الشباب. | ٢٢ بوصة ورُبع. | ٦ أقدام وبوصتان. | عريضة وبدينة جدًّا. | |
لون الشعر؟ | لون البشرة؟ | لون الشعر؟ | لون البشرة؟ | ||
بُني. | شاحبة بعض الشيء. | بُني | متورِّدة. | ||
الطبع المزاجي؟ | عصبي بعض الشيء. | متفائل مَرِح. | |||
الطاقة الجسدية وما إلى ذلك؟ | تتجلَّى الطاقة في النشاط الكثير، وفي القدرة على مقاومة التعب وقتما كانت صحتي بخير. كنا نستطيع أنا ورجل آخر وحدنا إحضار الماء إلى مجموعة كبيرة من الضباط والبحَّارة المنهكين تمامًا. كانت بعض رحلاتي الاستكشافية في أمريكا الجنوبية ذات طابع مُغامِر. أنهض في الصباح الباكر. | قدرة هائلة على التحمُّل، مع أنه كان يشعر بتعب شديد، سواءٌ بعد المشاورات أو الرحلات الطويلة، وكان نشطًا جدًّا دونما إفراط، وكان ينهض في وقت باكر جدًّا، ولم يكن يسافر. قال والدي إن والده كان يعاني بشدةٍ الشعورَ بالإرهاق؛ لأنه كان دءوبًا جدًّا في عمله. | |||
الطاقة الذهنية وما إلى ذلك؟ | تتجلَّى في العمل الدقيق المستمر فترة طويلة على موضوع واحد، مثل العمل طيلة ٢٠ عامًا على «أصل الأنواع»، وتسعة أعوام على «هدابيات الأرجل». | عادةً ما كان ذهنه نشطًا جدًّا، وكان ذلك يتجلَّى في محادثاته مع مجموعات متوالية من الأشخاص طوال اليوم. | |||
الذاكرة؟ | ذاكرة ضعيفة جدًّا في تذكُّر التواريخ والتعلُّم عن ظهر قلب، لكنها جيدة في تذكُّر العديد من الحقائق تذكُّرًا عامًّا أو تقريبيًّا. | ذاكرة قوية جدًّا في تذكُّر التواريخ. ففي سنٍّ كبيرة، وبينما كان شخصٌ ما يتلو عليه كتابًا لم يقرأه إلا في شبابه، استطاع أن يسردَ له الفقرات التالية في الكتاب، كان يعرف تواريخ ميلاد كل الأصدقاء والمعارف وتواريخ وفاتهم وما إلى ذلك. | |||
الاجتهاد في الدراسة والمطالعة؟ | مجتهد جدًّا، ولكن دون تحصيل كبير. | لم يكن مجتهدًا جدًّا، ولا منفتح الذهن للغاية، باستثناء الحقائق التي كانت تُذكَر في المحادثات، وكان بارعًا جدًّا في جمع النوادر والحكايات. | |||
استقلالية الرأي؟ | مستقل إلى حدٍّ كبير، على ما أظن، لكني لا أستطيع ذِكرَ أمثلة. لقد تخلَّيت عن المُعتقَد الديني التقليدي بقناعةٍ شبه مستقلة منِّي، بناءً على تأمُّلاتي الخاصة. | كان يُفكِّر باستقلالية في المسائل الدينية. ليبرالي لديه شيء من النزعة نحو الفلسفة المحافِظة. | |||
الأصالة أو الشذوذ عن المألوف؟ | يظن … أن هذا ينطبق عليَّ، أما أنا فلا أظن ذلك؛ أقصد نقطة الشذوذ عن المألوف. أظن أنني أبديتُ أصالةً في العلم؛ لأنني اكتشفتُ اكتشافاتٍ تتعلَّق بأشياءَ شائعة. | شخصية تتسم بالأصالة، وكان له تأثير شخصي بالغ وقدرة على جعل الآخرين يهابونه. كان يحفظ حساباته بعناية بالغة بطريقة غريبة في عددٍ من الكتب الصغيرة المنفصلة دون استخدام أي دفتر عام. | |||
المواهب الخاصة؟ | لا يوجد، باستثناء تولِّي شئون المال والأعمال، كما يتجلى في حفظ الحسابات، والرد على المراسلات وإجادة استثمار المال. منضبط جدًّا في عاداتي كلها. | إتقان الجانب العملي من شئون المال والأعمال؛ إذ جنى ثروةً كبيرة ولم يتكبَّد أي خسائر. | |||
خصائص ذهنية ملحوظة بشدة، متعلِّقة بالنجاح العلمي، ولم تُذكَر أعلاه؟ | الاتزان الذهني والفضول الشديد لمعرفة الحقائق ومعناها. وبعض الحب تجاه ما هو جديد وعجيب. | عاطفة اجتماعية قوية وتعاطف مع الآخرين في أفراحهم. متشكِّك تجاه الأشياء الجديدة. فضولي تجاه الحقائق. بصيرة ثاقبة. لم يكن اجتماعيًّا جدًّا، وكان كريمًا جدًّا في منحِ المال والمساعدة. |
يشير الخطاب التالي إلى أشياءَ كثيرة، من بينها خطابٌ ظَهَر في دورية «نيتشر» (بتاريخ ٢٥ سبتمبر ١٨٧٣) «عن ذكور بعض هدابيات الأرجل وذكورها المكملة، وعن الأعضاء الأثرية.»:]