متفرقات، تتضمَّن طبعاتٍ ثانيةً من كتاب «الشِّعاب المرجانية» وكتاب «نشأة الإنسان» وكتاب «تباين الحيوانات والنباتات»
١٨٧٤-١٨٧٥
[خُصِّص عام ١٨٧٤ للعمل على كتاب «النباتات الآكلة للحشرات»، باستثناء الأشهُر التي كُرِّست للطبعة الثانية من كتاب «نشأة الإنسان»، وكذلك باستثناء الوقت الذي خُصص للطبعة الثانية من كتابه «الشِّعاب المرجانية» (١٨٧٤). يرِد في مقدمة تلك الطبعة الثانية أن حقائقَ جديدةً قد أُضيفت، وأن الكتاب برُمَّته قد نُقِّح، وأن «الفصول الأخيرة قد كُتِبَت من جديد تقريبًا.» وورَد في الملحق سردٌ لاعتراضات البروفيسور سيمبر، وكان ذلك سبب التراسُل بين هذا العالِم المتخصِّص في التاريخ الطبيعي ووالدي. في مجلَّد البروفيسور سيمبر، «حياة الحيوان» (أحد مجلَّدات السلسلة الدولية)، يلفت المؤلِّف الانتباه إلى هذا الموضوع في الفقرة التالية التي أطرحها باللغة الألمانية؛ لأنني أرى الترجمة الإنجليزية المنشورة غيرَ صحيحة: «يبدو لي أنه في الطبعة الثانية من كتابه الشهير عن الشِّعاب المرجانية قد وقع ضحيةً لخطأ يتعلَّق بملاحظاتي؛ إذ أخطأ تمامًا في التعبير عن المعلومات التي كنت قد اكتفيتُ حتى ذاك الوقت بإبقائها موجزةً جدًّا.»
أرسل البروفيسور سيمبر بروفاتِ الطباعة التي تتضمَّن هذه الفقرةَ إلى والدي قبل نشرِ كتاب «حياة الحيوان»، وكانت تلك هي مناسبة الخطاب التالي، الذي نُشِر بعد ذلك في كتاب البروفيسور سيمبر.]
من تشارلز داروين إلى كيه سيمبر
داون، ٢ أكتوبر ١٨٧٩
عزيزي
البروفيسور سيمبر
أشكرك على خطابك اللطيف جدًّا المؤرَّخ بتاريخ يوم التاسع عشر، وعلى بروفات الطباعة. أعتقد أنني أفهم كلَّ ما فيها، باستثناء جملة أو اثنتَين؛ حيث منعني قصورُ معرفتي باللغة الألمانية من فهمهما كما ينبغي. هذا هو عذري الوحيد الواهي للخطأ الذي ارتكبته في الطبعة الثانية من كتابي، «الشِّعاب المرجانية». إن تقريرك الذي أوردته عن جُزُر بيليو يُعَد إضافةً قيِّمة إلى معلوماتنا عن الشِّعاب المرجانية. ليس لديَّ شيء تقريبًا لأقوله عن الموضوع، حتى وإن كنتُ قد قرأت تقريرك ورأيت خرائطك سلفًا، لكني لم أكن أعرف أيَّ شيء عن أدلةِ الارتفاع الأخير، وعن اعتقادك أن الجزرَ لم تهبط منذ ذلك الحين. بالتأكيد كان ينبغي لي أن أنظر إليها على أنها قد تكوَّنت في أثناء الهبوط. غير أنني كنت سأواجه مشكلةً في أن البحر ليس عميقًا جدًّا قدرَ ما يكون عادةً حول الجزر المرجانية، وأن الشِّعاب على أحد الجانبَين تميل ميلًا شديدَ التدرُّج تحت البحر؛ وذلك لأن تلك الحقيقة الثانية، على حَدِّ ما تسعفني ذاكرتي، حالة غير عادية تمامًا وليس لها مثيل تقريبًا. دائمًا ما كنت أتوقَّع أن وجود جزء مرتفع من القاع على عمقٍ مناسبٍ تحت السطح سيؤدِّي إلى نشوء سلسلة من الشِّعاب لا يُمكن تمييزها عن جزيرة مرجانية تكوَّنت إبَّان الهبوط. لم أزَل بالطبع متمسِّكًا برأيي المتمثِّل في أن الجزر المرجانية وحواجز الشِّعاب في وسط المحيطَين الهادئ والهندي تشير إلى حدوث هبوط، لكني أتفق معك تمامًا في أن مثل هذه الحالات المشابهة لحالة جزر بيليو، إذا تبيَّن أنها متكرِّرة الحدوث، فستجعل قيمةَ استنتاجاتي العامة تافهةً جدًّا. سيفصل بيننا الملاحظون المستقبليون بالتأكيد. ستكون حقيقةً غريبة إذا تبيَّن أن طبقات المحيطات الكبرى لم تهبط، وإذا تبيَّن أن هذا لم يؤثِّر في أشكال الشِّعاب المرجانية.
سُررتُ للغاية عندما رأيت في الصفحات الثلاث الأخيرة من آخر ورقات بروفات الطباعة التي أرسلتَها أنك ستتناول موضوع انتشار الحيوانات. أرى تعليقاتك الأولية ممتازةً جدًّا. لا يوجد شيء عن إم فاجنر، كما كنت أتوقَّع أن أجد. أظن أنك قد رأيت كتاب موزلي الأخير، الذي تضمَّن بعضَ الملاحظات الجيدة عن الانتشار.
إنني سعيد لأن كتابك سيصدر باللغة الإنجليزية؛ لأنني سأستطيع حينئذٍ قراءته بسهولة.
من تشارلز داروين إلى إيه أجاسي
داون، ٥ مايو ١٨٨١
… ستكون قد رأيت آراء السيد موراي عن تكوُّن الجُزر المرجانية وحواجز الشِّعاب. فكَّرت مليًّا في الرأي نفسه قبل أن أنشر كتابي، لكنَّ تفكيري اقتصر على ما يتعلَّق بالكائنات البحرية العادية؛ إذ لم يكن يتوفَّر حينها سوى قدرٍ ضئيل من المعلومات عن العدد الكبير من الكائنات المحيطية الدقيقة. رفضتُ هذا الرأي؛ لأنني، بِناءً على عمليات الجرف القليلة التي أُجريت خلال رحلة «البيجل» في المناطق المعتدلة الجنوبية، استنتجتُ أن الأصداف، والشِّعاب المرجانية الأصغر حجمًا، إلخ، قد تحلَّلت وذابت، عندما لم تكن محميةً بترسُّب الرواسب، ولم يتسنَّ للرواسب أن تتراكم في المحيط المفتوح. صحيح أن الأصداف، وما إلى ذلك، كانت في بعض الحالات متعفِّنة تمامًا، وانهارت إلى وحلٍ بين أصابعي، لكنك ستعرف جيدًا ما إذا كان هذا شائعًا بدرجةٍ ما أو بأخرى. لقد قلتُ بوضوحٍ إن وجود جزء مرتفع من القاع على العمق المناسب سيؤدِّي إلى نشوء جزيرة مرجانية لا يُمكن تمييزها عن جزيرةٍ أخرى تشكَّلت في أثناء الهبوط. لكني مع ذلك لا أستطيع إطلاقًا تصديقَ أنه كان يوجد في السابق الكثيرُ من الأجزاء المرتفعة من القاع (نظرًا إلى عدم حدوث هبوط) بمقدارِ ما يوجد من الجزر المرجانية في المحيطات الكبرى ضمن عمقٍ معقول، ويمكن أن تكون الكائنات المحيطية الدقيقة قد تراكمت عليها إلى أن أصبح سُمكها عدةَ مئات من الأقدام … أرجو منك أن تسامحني على الإطالة في إزعاجك إلى هذا الحد، ولكن خَطَر [ببالي] أنك قد ترغب في الإدلاء بحُكمك، بعد خبرتك الواسعة. إذا كنتُ مخطئًا، فكلما اقترب وقتُ نهايتي وفَنائي، كان ذلك أفضلَ بكثير. ما زلت أعتقد أن عدمَ حدوث هبوط كبير في طبقات المحيطات الكبرى واستمراره فترةً طويلة أمرٌ عجيب جدًّا. أتمنَّى أن يُقرِّر مليونير فاحش الثراء فجأةً أن يُحدث تجاويفَ في بعض الجزر المرجانية بالمحيطَين الهادئ والهندي ويُحضر معه إلى الوطن عيناتٍ جوفيةً مأخوذة من عمق ٥٠٠ أو ٦٠٠ قدم لتشريحها …
ربما يُمكن الإشارة هنا إلى بعض الانتقادات الأخرى التي ظهرت لاحقًا. ففي دورية «ذا أكاديمي»، ١٨٧٦ (الصفحتان ٥٦٢، ٥٨٧)، ظهر مقالٌ نقدي بقلم السيد والاس لكتاب السيد ميفارت، «دروس من الطبيعة». يقول السيد والاس إننا، عند النظر إلى الجزء المتعلق بالانتقاء الطبيعي والانتقاء الجنسي في كتاب السيد ميفارت، نجد أنَّ «مؤلِّفنا يستخدم في هجومه العنيف على نظريات السيد داروين لغةً قاسية جدًّا إلى حدٍّ غير عادي. ولا يكتفي بمجرَّد الجدل، بل يُعرب عن «استنكار آراء السيد داروين»، ويُشدِّد على أنه (أي السيد داروين) قد أُجبِر، تقريبًا، على التخلي عن نظريته، لكن الداروينيين ما زالوا يؤيِّدونها بشيء من «الوقاحة المجرَّدة من الضمير»، وقد أُخفي بطلانها الفعلي بواسطة «اتفاق تآمري على الصمت».» ويواصل السيد والاس قائلًا إن هذه الاتهامات لا أساس لها، ويشير إلى أنه إذا كان «السيد داروين يمتاز عن العلماء والأدباء المعاصرين بشيء واحد دونًا عن غيره، فإنما يمتاز بأمانته الأدبية التامة، ونكرانه لذاته في الاعتراف بأنه مخطئ، والسرعة المتلهِّفة التي يعلن بها الأخطاء البسيطة في أعماله، التي يكتشفها بنفسه في الغالب، بل ويُضخِّمها.»
تشير الفقرة التالية المقتطفة من خطابٍ إلى السيد والاس (بتاريخ ١٧ يونيو) إلى ادعاء السيد ميفارت (في كتاب «دروس من الطبيعة»، الصفحة ١٤٤) بأن السيد داروين تعمَّد في البداية إخفاء آرائه بشأن «وحشية الإنسان»:
«لقد سمعت للتو عن مقاليَك في دورية «ذا أكاديمي»، وحصلت عليهما. أشكرك من صميم قلبي على دفاعك الكريم عني ضد ادعاءات السيد ميفارت. لم أناقش في كتاب «أصل الأنواع» اشتقاقَ أي نوع واحد، لكن لكيلا أُتَّهم بإخفاء رأيي، تكلَّفت العناءَ وأدرجت جملةً بدت (وما زالت تبدو لي) أنها تكشف بوضوحٍ عن قناعتي. وقد اقتبست ذلك في كتابي «نشأة الإنسان». لذا فمن الظلم الشديد … أن يتهمني السيد ميفارت بالإخفاء المُخادع الوضيع.»
الخطاب التالي مهم فيما يتعلَّق بمناقشةِ أصل الحس الموسيقي لدى الإنسان في كتاب «نشأة الإنسان»:]
من تشارلز داروين إلى إي جرني (مؤلِّف
كتاب «قوة الصوت»)
داون، ٨ يوليو
١٨٧٦
عزيزي السيد
جرني
[تفيد الخطابات التالية في الإشارة إلى جوانبَ متنوِّعة. يُشير الاقتباس الأول (من خطاب بتاريخ ١٨ يناير ١٨٧٤) إلى جلسة استحضار أرواح روحانية، عُقِدت في منزل إيرازموس داروين، ٦ شارع كوين آن، برعاية وسيط روحاني معروف:]
«… استمتعنا جدًّا؛ إذ استعان جورج في عصرِ أحد الأيام بوسيط روحاني أعدَّ الكراسي ومزمارًا وجرسًا وشمعدانًا، وشُعَلًا من النيران، وجعل ذلك كله يتطاير في أنحاء غرفة طعام أخي، بطريقة أذهلت الجميع وأبهرتهم. كان ذلك في ظلام دامس، لكن جورج وهينزلي ويدجوود كانا ممُسكين بيدَي الوسيط الروحاني وقدمَيه على كلا الجانبَين طوال الوقت. أصابني الموقف بالتوتر والإرهاق الشديدين إلى حدِّ أنني غادرت قبل أن تحدث كلُّ هذه المعجزات المذهلة، أو حِيَل الشعوذة. لا أفهم إطلاقًا كيف تأتَّى للرجلِ أن يفعل ما فُعِل. لقد نزلت إلى الطابق السفلي، ورأيت كلَّ الكراسي، وما إلى ذلك، على الطاولة، التي كانت مرفوعةً فوق رءوس كل أولئك الذين كانوا جلوسًا حولها.
فلتتنزَّل رحمةُ الرب علينا كلنا إذا كان علينا أن نؤمن بمثل هذا الهُراء. كان إف جالتون حاضرًا هناك، ويقول إنها كانت جلسة استحضار جيدة …»
أسفرَت تلك الجلسة المشار إليها عن جلسةٍ أخرى أصغرَ ومنظَّمة بعنايةٍ أكبر، وقد حضر السيد هكسلي هذه الجلسة الأخرى، وأبلغ والدي بما جرى فيها:]
من تشارلز داروين إلى البروفيسور تي إتش
هكسلي
داون، ٢٩ يناير [١٨٧٤]
عزيزي هكسلي
كانت لفتةً طيبة جدًّا منك أن تسرُد لي مثل هذا القدر الكبير. ومع أن جلسة الاستحضار أرهقتك بشدة، فإنني أعتقد أنها استحقَّت ما بذلتَه من جهد حقًّا؛ لأن هذا النوع نفسه من الأشياء يحدث في كل جلسات الاستحضار، حتى في جلسات … والآن صرت أرى أنه من الضروري أن يتوفَّر قدرٌ هائل من الأدلة لكي يصدِّق المرء أن شيئًا ما ليس مجرد خدعة … يسعدني أنني صرَّحت لأفراد أسرتي كلهم، أول أمس، بأنني كلما فكَّرت في كلِّ ما سمعت بحدوثه في شارع كوين آن، ازداد اقتناعي بأن الأمر كلَّه محض خدعة … كانت نظريتي أن [الوسيط] جعل كلا الرجلَين اللذَين كانا على جانبَيه يُمسك أحدهما بيد الآخر، بدلًا من يده هو، فاستطاع بذلك أداء حِيَله بحُرِّية تامة. أنا سعيد جدًّا لأنني أصدرت مرسومًا لك بالحضور.
[في ربيع هذا العام (١٨٧٤)، قرأ كتابًا أمتعه جدًّا، وكثيرًا ما كان يتحدَّث عنه بكل إعجاب؛ ألَا وهو «عالِم تاريخ طبيعي في نيكاراجوا»، الذي ألَّفه الراحل توماس بيلت. كان السيد بيلت، الذي يجدُر بعلماء التاريخ الطبيعي أن يأسفوا بشدة على وفاته المبكِّرة، يمتهن الهندسةَ في الأساس؛ لذا كانت كل ملاحظاته الرائعة في التاريخ الطبيعي في نيكاراجوا وأماكنَ أخرى حصيلةَ أوقات فراغه. الكتاب ذو أسلوب واضح يثير في الذهن صورًا واضحةً جدًّا، وغنيٌّ بالأوصاف والمناقشات المُلهِمة. وقد قال والدي عنه في خطاب إلى السير جيه دي هوكر:
«قرأت كتاب بيلت، وأنا مسرور جدًّا لأنه أعجبك كثيرًا، أرى أنه أفضلُ ما نُشِر على الإطلاق بين كل اليوميات المتعلِّقة بالتاريخ الطبيعي.»]
من تشارلز داروين إلى الماركيز دو
سابورتا
داون، ٣٠ مايو ١٨٧٤
سيدي العزيز
إنني مهمل جدًّا إذ تأخَّرت حتى الآن في شكرك على لُطفك الذي تحلَّيتَ به في إرسال كتابك «دراسات عن نباتات»، إلخ، وغيره من المذكِّرات. قرأتُ العديد منها باهتمام بالغ جدًّا، وأرى أن النقطة الأهم على الإطلاق هي دليلك على الوتيرة البطيئة والتدريجية جدًّا التي تتغيَّر بها أشكالٌ مُعيَّنة. أُلاحظ أن السيد إم إيه دي كوندول قد استشهد مؤخَّرًا بكلامك عن هذه النقطة في معارضة هير. آمُل أن تستطيع توضيحَ بعضٍ من غموض مسألةِ ما إذا كانت الأشكال الكثيرة التغيُّر أو التي توجد منها أشكالٌ متعدِّدة، كأشكال العليق وحشيشة الغراب، وما إلى ذلك، في الوقت الحاضر هي تلك التي تُولِّد أنواعًا جديدة، أنا عن نفسي، دائمًا ما راودني بعضُ الشك حيال هذه النقطة. أثق في أنك ستجعل العديدَ من أبناء بلدك يؤمنون بنظرية التطوُّر قريبًا، وربما سينتهي حينئذٍ ازدراء اسمي. بخالص الاحترام، سأظل وفيًّا لك يا سيدي العزيز.
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ٥ يونيو [١٨٧٤]
عزيزي
جراي
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٢٣ سبتمبر ١٨٧٤
عزيزي
لايل
مرَّت سنوات منذ أن قرأتُ ورقةً بحثية جيولوجية بحتة أثارت بالغَ اهتمامي. وما زاد اهتمامي بها هو أنني، عندما كنتُ في سلاسل جبال أمريكا الجنوبية، غالبًا ما كنت أُفكِّر في مصادرِ فيضانات الحُمَم البورفيريتية تحت سطح الماء، والتي بُنِيَت هذه الجبال منها، وكما ذكرت، فقد رأيتُ، إلى حدٍّ ما، أسبابَ طمس نقاط الثوران. وكذلك سُررتُ جدًّا حين رأيت الاستشهادَ بكتابي عن البراكين؛ لأنني كنت أحسَبه قد أصبح شيئًا من الماضي ونُسيَ تمامًا. يا له من عملٍ رائع ذاك الذي سيؤدِّيه السيد جود بالتأكيد! … الآن قد ارتاح بالي؛ ولذا فإلى اللقاء، مع أطيب تحيات إيما داروين وتشارلز داروين إلى السيدة لايل.
[لا بد أنَّ ردَّ السير تشارلز لايل على الخطاب الوارد أعلاه كان واحدًا من آخرِ الردود التي تلقَّاها والدي من صديقه القديم، وبهذه الرسالة تُختَتَم مجلَّدات مراسلاته المنشورة.]
من تشارلز داروين إلى أوج فوريل
داون، ١٥ أكتوبر ١٨٧٤
سيدي
العزيز
أودُّ إخبارك بملاحظةٍ بسيطة توصَّلت إليها منذ سنوات عديدة بعد رصدٍ دقيق، وهي أنني رأيت نملًا (من نمل الخشب الأحمر) يحمل شرانقَ من عشٍّ كان أكبرَ عشٍّ رأيته على الإطلاق، وكان معروفًا لكل سُكَّان الريف القريبين، وأخبرني رجلٌ عجوز، عمره حوالي ٨٠ عامًا حسبَ ما بدا، بأنه كان يعرفه منذ كان صبيًّا. لم يبدُ أن النمل الحامل للشرانق كان مهاجرًا؛ فعندما تَبِعتُ طابوره، رأيت الكثيرَ منه يصعد شجرة تنُّوب طويلةً وهو لا يزال حاملًا شرانقه. لكن عندما دقَّقت النظرَ عن كثَب، وجدت أن كل الشرانق كانت أغشيةً فارغة. أذهلني ذلك، وفي اليوم التالي، جعلت رجلًا يلاحظ معي، ورأينا مجدَّدًا بعضَ النمل يُخرِج شرانقَ فارغةً من العش، فثبَّتَ كلٌّ مِنا عينَيه على نملة، وتابعها ببطء، وكرَّرنا الملاحظةَ على كثير من النمل. ومن ثمَّ وجدنا أن بعض النمل سرعان ما أسقط شرانقه، فيما حمل البعضُ الآخر شرانقَه لمسافة عدة ياردات، تصل إلى ٣٠ خطوة، وظلَّ البعض الآخر يحملها إلى أنْ تسلَّق بها شجرةَ التنوب وغاب عن أعيننا. أظن أن هذه الحالة تُمثِّل وجودَ غريزة تتنافس مع غريزة أخرى غير صائبة. أما الغريزة الأولى فهي حمْل الشرانق الفارغة خارج العش، وكان سيكفي أن توضَع على كومة من القُمامة؛ إذ كانت أُولى نسمات الرياح ستذروها بعيدًا. يأتي بعد ذلك التنافسُ مع الغريزة الأخرى القوية جدًّا والمتمثِّلة في الحفاظ على الشرانق وحمْلها أطولَ فترة ممكنة، وهذا ما لم تستطِع النملات أن تمنع أنفسها من فعله، مع أن الشرانق كانت فارغة. ووفقًا لقوة كلٍّ من الغريزتَين لدى كل نملة على حدة، حَمَلت هذه النملة الشرنقةَ الفارغة مسافةً أطول أو أقصر. إذا تبيَّن في أيِّ وقت أن هذه الملاحظة تحمل أيَّ فائدة لك، فلَك مُطلق الحرية في الاستفادة منها. وبتكرار الشكر من صميم قلبي على السعادة البالغة التي منحني إياها كتابك، أبقى مخلصًا لك على الدوام.
من تشارلز داروين إلى جيه فيسك
داون، ٨ ديسمبر ١٨٧٤
سيدي
العزيز
١٨٧٥
بخصوص هذا الموضوع، ينبغي ذِكر خطاب والدي إلى دورية «نيتشر» (٢٧ أبريل ١٨٧١). فقد قُرئت ورقةٌ بحثية من تأليف السيد جالتون أمام الجمعية الملكية (بتاريخ ٣٠ مارس ١٨٧١) تتضمَّن ذِكر تجارِب، أُجريت على نقل الدم؛ من أجل اختبار صحة فرضية شمولية التكوين. ومع أن والدي يمنح السيد جالتون كلَّ التقدير المستحَق على تجاربه النابغة، فهو لا يُسلِّم بأن فرضية شمولية التكوين «قد تلقَّت الضربة القاضية بعدُ، مع أن حياتها مُهدَّدة بالخطر دائمًا بسبب العديد من النقاط الضعيفة فيها.»
ويبدو أنه وجد مهمةَ التصحيح منهِكةً جدًّا؛ لأنه كَتَب:
«ليست لديَّ أيُّ أخبار عن نفسي؛ لأنني أقضي وقتي كلَّه في العمل الشاق لإنجاز المهمة المثيرة للإعياء والمتمثِّلة في إعداد طبعات جديدة. ليتني كنت أحمل ولو القليلَ من أحاسيس لايل المسكين الذي يشعر بالمتعة عند تحسين جملةٍ ما، كرسَّام يُحسِّن لوحة.»
ويتضح الشعور بالجهد الشاق أو الإجهاد بسبب هذه المهمة في خطابٍ إلى البروفيسور هيكل:
«الرب وحدَه يعلم ما سأفعله في المستقبل إذا عشتُ، لكني ربما يجدُر بي أن أتجنَّب الموضوعاتِ العامةَ والكبيرة؛ لأن صعوبتها تفوق طاقتي مع تقدُّمي في السن، وضَعْف عقلي، حسبما أظن.»
في نهاية شهر مارس من هذا العام، انتهت اللوحةُ التي كان يقعد أمام السيد أوليس من أجل رسمها. كان يشعر بأن هذه الجلسات تصيبه بإرهاق شديد، مع أن السيد أوليس كان يراعي ذلك، وكان مستعدًّا على الدوام لأن يُعفيه من هذا العناء متى أمكن. كتب في خطاب إلى السير جيه دي هوكر: «أبدو رجلًا عجوزًا مبجَّلًا وفطنًا وحزينًا جدًّا، لا أعرف ما إذا كنت أبدو هكذا حقًّا أم لا.» الصورة بحوزة العائلة، وهي معروفة للكثيرين من خلال نَقشِ السيد راجون لها. أرى أن صورة السيد أوليس هي أدقُّ صورة مثَّلت والدي على الإطلاق.»
يشير الخطابُ التالي إلى وفاة السير تشارلز لايل، التي وقعت في ٢٢ فبراير ١٨٧٥ عن عمرٍ يناهز ٧٨ عامًا.]
من تشارلز داروين إلى الآنسة باكلي (صارت
السيدة فيشر الآن)١٣
داون، ٢٣ فبراير ١٨٧٥
عزيزتي الآنسة باكلي
ينتابني حزنٌ عميق لسماع خبرِ وفاة صديقي الطيب القديم، مع أنني كنت أعرف أنها لا يُمكن أن تتأخَّر طويلًا، وأن عدم استمرارَ حياته فترةً أطول كان من حُسن الحظ؛ لأنني أظن أن عقله كان سيعاني حتمًا حينذاك. أنا سعيد لأن الليدي لايل قد أُنقِذَت من عيشِ هذه الصدمة المروِّعة (تُوفِّيت الليدي لايل في عام ١٨٧٣). تجعلني وفاته أتذكَّر المرةَ الأولى التي رأيته فيها، وكم كان مفعمًا بالتعاطف والاهتمام تجاه ما كنت أقوله له عن الشِّعاب المرجانية وأمريكا الجنوبية! أظن أن هذا التعاطف مع عملِ كلِّ عالِم آخر من علماء التاريخ الطبيعي كان إحدى أجمل سمات شخصيته. يا لها من ثورة تامة تلك التي أحدثها في الجيولوجيا؛ لأنني أستطيع تذكُّر بعض ملامح حِقبة ما قبل لايل!
لا أنسى أبدًا أنني مَدين بكلِّ ما أنجزته في العلوم تقريبًا لدراسة أعماله العظيمة. حسنًا، لقد كانت مسيرته المهنية عظيمةً وسعيدة، ولم يعمل أحدٌ قَط في سبيل قضية نبيلة بحماسةٍ أصدق من حماسته. كم غريب أنني لن أستطيع مجدَّدًا أبدًا أن أقعد معه هو والليدي لايل على فطورهما! إنني في غاية الامتنان لك على تفضُّلك البالغ بإرسال خطاب إليَّ.
أرجو أن تبعثي بأطيبِ تحياتي إلى الآنسة لايل، وآمُل ألَّا تكون صحَّتها قد ساءت كثيرًا، من الإرهاق والقلق.
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ٢٥ فبراير [١٨٧٥]
عزيزي هوكر
أثار خطابك المفعم بالإحساس بالغَ اهتمامي. لا أستطيع القول إنني صُدمت جدًّا بوفاته [لايل]؛ لأنني كنت أتوقَّعها تمامًا، واعتبرتُ منذ وقتٍ قريب أن حياته العملية قد انتهت.
[في عام ١٨٨١، قال في خطاب إلى السيدة فيشر بخصوص مقالها عن السير تشارلز لايل في «الموسوعة البريطانية»:
أظن أنك لا تريدين التحدُّث كثيرًا عن شخصيته الخاصة في هذا المقال، وإلا فربما أمكن أن تُضيفي حسَّه الفكاهي القوي، وحبه القوي للمجتمع. وكذلك اهتمامه البالغ بتقدُّم العالم، وبسعادة البشرية. إضافةً إلى تحرُّره من كل التعصُّب الديني، غير أن هذه السمات ربما كانت ستصبح زائدةً عن الحاجة.»
يُشير الخطاب التالي إلى موضوعِ مركز علوم الحيوان في نابولي، الذي كان والدي مهتمًّا به بكل حماسة:]
من تشارلز داروين إلى أنتون دورن
داون، [١٨٧٥؟]
عزيزي الدكتور
دورن
شكرًا جزيلًا لك على خطابك اللطيف جدًّا، سُررت من أعماق قلبي بتحسُّن صحتك ونجاح مشروعك العظيم، الذي سيكون له بالغُ الأثر في تقدُّم علم الحيوان في أوروبا كلها.
إذا نظرنا إلى إنجلترا وحدَها، فيا له من عمل ممتاز ذلك الذي أنجزه بَلفور وراي لانكستر في المركز بالفعل … أظن أنك ستُحضر السيدة دورن معك عندما تأتي إلى إنجلترا، وسوف نَسعد بلقائكما أنتما الاثنَين هنا. فكثيرًا ما أتباهى باستضافة فارسٍ بروسيٍّ حيٍّ في منزلي! ستكون قراءة آرائك الجديدة بشأنِ سلالة الفقاريات شائقةً جدًّا لي. سأحزن على الافتراق عن الكيسيات، التي أُكنُّ امتنانًا عميقًا لها، لكن الشيء العظيم، حسبما يبدو لي، هو أنه ينبغي إيجاد أيِّ صلة على الإطلاق بين التقسيمات الأساسية لمملكة الحيوان …
من تشارلز داروين إلى أوجست
فايزمان
داون، ٦ ديسمبر ١٨٧٥
سيدي العزيز
لقد ألمحت إلى هذا التفسير في حالة الطاووس الأسود الكتفَين، أو ما يُدعى بافو نيجريبينيس، الشاذة التي أوردتُها في كتابي «التباين تحت تأثير التدجين»؛ وربما كان من الممكن أن أكون أجرأ؛ إذ يمكن أن يُعَد الضَرب وسيطًا بين النوعَين المعروفَين، من عدة جوانب.
مسألة تشريح الحيوانات الحية
[في نوفمبر ١٨٧٥، أدلى والدي بشهادته أمام المفوَّضية الملكية عن تشريح الحيوانات الحية. (طالِع الجزء الأول.) لذا جمعتُ هنا المادةَ المتعلِّقة بهذا الموضوع، بِغض النظر عن التاريخ. وقد ذكرتُ سلفًا بضع كلمات عن شعور والدي القوي تجاه معاناة كلٍّ من الإنسان والحيوان. كان بالفعل أحدَ أقوى المشاعر الراسخة في طبيعته، وتَجسَّد في أمورٍ صغيرة وكبيرة على حدٍّ سواء؛ في تعاطفه مع المآسي التي تمرُّ بها الكلابُ الراقصة في التدريب، أو في هلعه من معاناة العبيد.
ظلَّت ذكرى الصرخات، أو الأصوات الأخرى التي سمِعها في البرازيل، عندما كان عاجزًا عن التدخُّل فيما كان يعتقد أنه تعذيبُ أحد العبيد، تطارده طوال سنوات لا سيما في الليل. وأمَّا في الأمور الأبسط، التي كان يستطيع التدخُّل فيها، فكان يفعل ذلك بكل قوة. عاد ذات يوم من مشيه شاحبًا وواهنًا مصابًا بالدُّوار من رؤية حصانٍ يتعرَّض لمعاملة سيئة ومن شدة انفعاله في الاعتراض بعنف على صاحب الحصان.
ويمكن ذِكر حادثة صغيرة أخرى تُبيِّن أن إنسانيته تجاه الحيوانات كانت معروفةً جيدًا في حيِّه. ففي إحدى المرات، طلب زائر كان يستقل عربةً من أوربينجتون إلى داون من السائق أن يقود بسرعةٍ أكبر، فقال السائق: «ويحي، لو كنتُ جلدتُ الحصان «بهذه» القوة وأنا أُقِلُّ السيد داروين، لنَزَل من العربة وعنَّفني بشدة.»
بخصوص النقطة المحدَّدة التي نتحدَّث عنها؛ أي معاناة الحيوانات التي كانت تخضع للتجارب، فلا شيء يمكن أن يُظهر إحساسًا أقوى من ذاك الذي يُظهره المقتطف التالي من خطاب إلى البروفيسور راي لانكستر (بتاريخ ٢٢ مارس ١٨٧١):
«تسألني عن رأيي في تشريح الحيوانات الحية. أوافق تمامًا على أنه مُبرَّرٌ في سبيل إجراء دراساتٍ حقيقية فعلية عن وظائف الأعضاء، لكنه غير مبرَّر لإشباع فضول بغيض لَعين فحسب. إنه موضوع يُصيبني بالرعب؛ لذا لن أقول كلمةً أخرى عنه وإلا فلن أنام الليلة.»
ويُظهِر هذا المقتطف التالي من مذكِّرات السير توماس فارار مدى القوة البالغة التي كان يُعبِّر بها عن مشاعره بطريقةٍ مشابهة في المحادثات:
«كانت آخر محادثة دارت بيننا في منزلي الواقع في ساحة «بريانستون»، قُبَيل إحدى نوباته المَرَضية الأخيرة مباشرة. وكان شديدَ الاهتمام آنذاك بمسألة تشريح الحيوانات الحية، وقد ترك ما قاله أثرًا عميقًا في نفسي. كان رجلًا مغرمًا جدًّا بالحيوانات وعطوفًا جدًّا عليها؛ فما كان ليتعمَّد إيلام أيِّ كائن حي، لكنه كان يحمل قناعةً راسخة بأن حظر إجراء التجارِب على الكائنات الحية سيعني وضْعَ حدٍّ لمعرفة الآلام والأمراض وعلاجاتهما.»
ويبدو أن هِياج الحراك المناهض لتشريح الحيوانات الحية، الذي تشير إليه الخطابات التالية، قد نَشط في عام ١٨٧٤ بالأخص، وهذا ما قد يتضح، على سبيل المثال، في فهرس دورية «نيتشر» في ذلك العام، حيث برز مصطلح «تشريح الحيوانات الحية» فجأة. ولكن قبل ذلك التاريخ، كان الموضوع يحظى ببالغِ اهتمام علماء الأحياء بالفعل. ومن ثمَّ ففي اجتماع الجمعية البريطانية في ليفربول في عام ١٨٧٠، عُيِّنت لجنةٌ أوردت بيانًا يُحدِّد الملابسات والظروف التي تُبرِّر إجراءَ التجارب على الحيوانات الحية، من وجهةِ نظر الموقِّعين على البيان.» وفي ربيع عام ١٨٧٥، قدَّم اللورد هارتيسمير مشروعَ قانون إلى مجلس اللوردات لتنظيم مسار إجراء الأبحاث الفسيولوجية. وبعد ذلك بوقت قصير، قَدَّم السادة ليون بلايفير ووالبول وأشلي مشروعَ قانون ذي أحكامٍ أكثرَ إنصافًا تجاه العلم إلى مجلس العموم. بالرغم من ذلك، فقد سُحِب عند تعيين مفوَّضية مَلَكية للتحقيق في المسألة برُمَّتها. كان المفوَّضون هم اللورد كاردويل واللورد وينمرلي والسيد دبليو فورستر والسير جيه بي كارسليك والسيد هكسلي والبروفيسور إريكسن والسيد آر إتش هوتون، وقد بدءوا التحقيق في يوليو ١٨٧٥، ونُشِر التقرير في وقتٍ مبكِّر من العام التالي.
وفي أوائل صيف عام ١٨٧٦، قُدِّم مشروعُ قانون اللورد كارنارفون، الذي كان بعنوان «قانون تشريعي لتعديل القانون المتعلِّق بمعاملة الحيوانات بوحشية». ولا يمكن إنكارُ أن مَن صاغوا هذا القانون المقترح قد تجاوزوا توصيات المفوَّضية الملكية بكثير، تحت تأثير رضوخهم لصخب الجمهور غير العقلاني. وكما قال أحد المراسلين في دورية «نيتشر» (١٨٧٦، الصفحة ٢٤٨)، فإن «الدليل الذي أُوصِيَ بالتشريع على أساس قوَّته قد تجاوز الحقائق، والتقرير تجاوز الدليل، والتوصيات تجاوزت التقرير، ولا يُمكن القول إن مشروع القانون تجاوَز التوصيات فحسب، بل تناقض معها.»
وكان التشريع الذي عمل والدي من أجل إصداره، حسبما وُصِف في الخطابات التالية، مشابهًا جدًّا لِمَا قُدِّم على أنه مشروع قانون الدكتور ليون بلايفير.]
من تشارلز داروين إلى السيدة
ليتشفيلد
٤ يناير ١٨٧٥
عزيزتي ليتشفيلد
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ١٤ أبريل [١٨٧٥]
عزيزي هوكر
[يُمكن القول إن الجمعية المعنية بعلم وظائف الأعضاء، التي تأسَّست عام ١٨٧٦، كانت إلى حدٍّ ما ثَمرةً لحركةِ مناهضةِ تشريح الحيوانات الحية؛ فهذه الحالة من الهِياج العام هي التي جعلت علماء وظائف الأعضاء يُدركون الحاجةَ إلى وجودِ مقرٍّ لأولئك العاملين في هذا المجال العلمي. وبخصوص هذه الجمعية، قال والدي في خطاب إلى السيد رومينز (بتاريخ ٢٩ مايو ١٨٧٦):
«سُررتُ للغاية بتشريفي المفاجئ بانتخابي عضوًا ضمن الأعضاء الفخريين. فهذه اللفتة التعاطفية قد أسعدتني جدًّا.»
ظَهَر الخطاب التالي في صحيفة «ذا تايمز»، في ١٨ أبريل ١٨٨١:]
من تشارلز داروين إلى فريتيوف
هولمجرين١٨
داون، ١٤ أبريل ١٨٨١
سيدي العزيز
ردًّا على خطابك اللطيف المؤرَّخ بتاريخ ٧ أبريل، ليس لديَّ أيُّ اعتراض على التعبير عن رأيي بخصوص الحق في إجراء التجارب على الحيوانات الحية. وأنا أستخدمُ هذا المصطلح الأخير باعتباره أصحَّ وأشمل من مصطلح تشريح الحيوانات الحية. لك مطلق الحرية في استخدام هذا الخطاب على أي نحوٍ قد تراه مناسبًا، لكن إذا نشرته، فأنا أود أن يُنشَر كله. عشتُ طوال حياتي مُناصرًا قويًّا لمعاملة الحيوانات بإنسانية، وبذلتُ كلَّ ما بوسعي في كتاباتي لفرض هذا الواجب. وعندما بدأ الهياج العام ضد علماء وظائف الأعضاء في إنجلترا قبل عدة سنوات، جرى التأكيد على أن الحيوانات كانت تُعامَل بلا إنسانية في هذا المجال، وأنها كانت تتعرَّض لمعاناةٍ لا فائدة منها، وقد جعلني ذلك أرى أنه من المستحسن إصدارُ قانون برلماني بخصوص ذاك الموضوع. ومن ثم، أدَّيت دورًا نشطًا في محاولة تمرير مشروع قانون من شأنه أن يزيل كلَّ أسباب الشكوى القائمة على أُسس صائبة عادلة، وفي الوقت نفسه يترك لعلماء وظائف الأعضاء حريةَ مواصلة أبحاثهم، وذلك مشروع قانون مختلف تمامًا عن القانون الفعلي الذي مُرِّر بعدئذٍ. وينبغي أن أُضيف أن التحقيق الذي أجرته المفوَّضية المَلَكية في المسألة أثبت أن الاتهامات الموجَّهة إلى علمائنا الإنجليز في تخصُّص وظائف الأعضاء باطلة. بالرغم من ذلك، يؤسفني بِناءً على كلِّ ما سمعته، أنَّ بعض أجزاء أوروبا لا تهتم كثيرًا بمعاناة الحيوانات، وإذا صحَّ ذلك، فسيسرني أن أعرف بإصدار قوانين تُجرِّم المعاملة الوحشية في أي بلدٍ كهذا. على الجانب الآخر، أعرف أن علم وظائف الأعضاء لا يمكن أن يتقدَّم إلا بإجراء تجارب على حيوانات حية، ولديَّ قناعةٌ راسخة بأن مَن يُعيق تقدُّم علم وظائف الأعضاء يرتكب جريمةً في حق البشرية. وأي شخص يتذكَّر حالة هذا العلم قبل نصف قرن، كما أتذكَّرها، لا بُد أن يعترف بأنه شهد تقدُّمًا هائلًا، ويتقدَّم الآن بمعدَّل متزايد باستمرار. صحيح أن ممارسي الطب وعلماء وظائف الأعضاء الذين درسوا تاريخ موضوعاتهم هم وحدهم مَن يستطيعون طرْح مناقشة صائبة دقيقة عمَّا شهدته الممارسة الطبية من تحسينات يُمكن أن تُعزى مباشرةً إلى الأبحاث المتعلِّقة بعلم وظائف الأعضاء، لكني أستطيع القول، على حد علمي، إن الفوائد كثيرةٌ بالفعل. وعلى أي حال، فلا يمكن لأحد، إلا إذا كان جاهلًا تمامًا بما قدَّمه العلم للبشرية، أن يتشكَّك في الفوائد الكثيرة جدًّا التي ستُعود لاحقًا من علم وظائف الأعضاء، ليس على الإنسان فحسب، بل على الحيوانات الأدنى رتبةً أيضًا. فلننظر مثلًا إلى نتائج باستور في تعديل الجراثيم المسبِّبة لأخبث الأمراض، التي يتصادَف أنها ستنفع الحيوانات في المقام الأول أكثر ممَّا تنفع البشر. دعنا نتذكَّر عددَ الأرواح الكثيرة التي أُنقِذَت وقَدر المعاناة الهائل الذي أمكن تجنُّبه بفضلِ ما جنَيناه من معرفةٍ بشأن الديدان الطفيلية، وذلك عبْر التجارب التي أجراها فيرخوف وآخرون على الحيوانات الحية. في المستقبل، سيُذهَل الجميع من الجحود الذي يلقاه أولئك الذين نفعوا البشرية، وإن كان ذلك في إنجلترا على الأقل. أمَّا أنا عن نفسي، فدَعني أُؤكِّد لك أنني أُكِن، وسأظل أُكِن، احترامًا بالِغًا لكلِّ من يُسهِم في تقدُّم علم وظائف الأعضاء النبيل.
[ظهر في عدد اليوم التالي من صحيفة «ذا تايمز» خطابٌ بعنوان «السيد داروين وتشريح الحيوانات الحية» يحمل توقيعَ الآنسة فرانسيس باور كوب. وردَّ والدي عليه في عدد ٢٢ أبريل ١٨٨١ من صحيفة «ذا تايمز». وفي اليوم نفسه، قال في خطاب إلى السيد رومينز:
«نظرًا إلى أنني أحظى بفرصةٍ عادلة، أرسلت خطابًا إلى صحيفة «ذا تايمز» بشأن تشريح الحيوانات الحية يُطبَع اليوم. فقد ارتأيتُ أنه من العدل أن أتحمَّل نصيبي من الإساءة التي تنهال بطريقة بشعة جدًّا على كل علماء وظائف الأعضاء.]
من تشارلز داروين إلى مُحرِّر «ذا
تايمز»
السيد
المحترم
لا أرغب في مناقشةِ الآراء التي عبَّرت عنها الآنسةُ كوب في الخطاب الذي ظهر في صحيفة «ذا تايمز» في التاسع عشر من الشهر الجاري، لكن لأنها تُؤكِّد أنني «ضلَّلت» مراسلي في السويد بقولي إن «التحقيق الذي أجرته المفوَّضية المَلَكية في المسألة أثبت أن الاتهامات الموجَّهة إلى علمائنا الإنجليز في تخصُّص وظائف الأعضاء باطلة»، فسأكتفي بطلب إذنٍ بالإشارة إلى بعض الجمل الأخرى من تقرير المفوَّضية.
(١) نجد أن هذه الجملة — «لا شكَّ في أن بعضَ الأشخاص البارزي المكانة مثل علماء وظائف الأعضاء، قد يَتَّسمون بالوحشية» التي تقتبسها الآنسة كوب من الصفحة ١٧ من التقرير، والتي ترى أنها «تختص حتمًا بعلماء وظائف الأعضاء الإنجليز وحدَهم دونًا عن الأجانب» — تُتبَع مباشرةً بهذه العبارة: «رأينا أن ذلك انطبق على ماجندي». وقد كان ماجندي عالِمَ وظائف أعضاء فرنسيًّا اشتهر منذ نحو نصف قرن بسمعته السيئة في إجراء تجاربه القاسية على حيوانات حية.
(٢) يقول المفوَّضون، بعد حديثهم عن «الشعور العام بالإنسانية» السائد في هذا البلد (الصفحة ١٠):
«يلقى هذا المبدأ قَبولًا عامًّا لدى الرجال المثقَّفين جدًّا الذين كرَّسوا حياتهم إمَّا للبحث العلمي والتعليم وإمَّا للتخفيف من معاناة رفقائهم من المخلوقات الحية وإمَّا إنهاء تلك المعاناة، وإن كانت الاختلافات في درجة تطبيقه العملي فستكون ملحوظةً بسهولةٍ لأولئك الذين يدرُسون الأقوال والشهادات كيفما عُرِضت علينا.»
وورَدَ أيضًا في تقرير المفوَّضين (الصفحة ١٠):
«عندما سُئل أمين الجمعية الملكية لمنع القسوة على الحيوانات عمَّا إذا كان التوجُّه العام للوَسَط العلمي في هذا البلد يتعارض مع الإنسانية، قال إنه يعتقد أنه مختلف تمامًا بالفعل عن توجُّه علماء وظائف الأعضاء الأجانب، ورغم أنه أدلى برأي الجمعية الذي كان مفادُه أن التجارب التي تُجرى تقع بطبيعتها خارجَ النطاق الشرعي للعلم، وأن الألم الذي تُسبِّبه ألمٌ غير مُبرَّر حتى ولو كان من أجل الغاية العلمية المقصودة؛ فهو يعترف دون تردُّد بأنه لا يعرف أيَّ حالة شهدت استخدام قسوة غاشمة، وأن علماء وظائف الأعضاء الإنجليز في العموم يستخدمون موادَّ مُخدِّرةً في الحالات التي يرَون فيها أنهم يستطيعون فِعل ذلك دون الإضرار بالتجرِبة.»
٢١ أبريل
[ظَهر في صحيفة «ذا تايمز» يوم السبت، ٢٣ أبريل ١٨٨١، خطابٌ من الآنسة كوب ردًّا على ذلك:
من تشارلز داروين إلى جي جيه
رومينز
داون، ٢٥ أبريل ١٨٨١
عزيزي رومينز
[يشير الخطاب التالي إلى مقالةٍ مشتركة مُقترَحة عن تشريح الحيوانات الحية أراد السيد رومينز من والدي أن يُسهم فيها:]
من تشارلز داروين إلى جي جيه
رومينز
داون، ٢ سبتمبر ١٨٨١
عزيزي رومينز
لقد حيَّرني خطابك للغاية. أُدركُ تمامًا أن مِن واجب كل شخص له رأيٌّ ذو قيمة أن يُعبِّر عن رأيه بشأن تشريح الحيوانات الحية علنًا، وهذا ما جعلني أُرسل خطابي إلى صحيفة «ذا تايمز». ظَلِلت طيلةَ الصباح أُفكِّر بين الحين والآخر فيما يمكنني قوله، والحقيقة الواضحة المجرَّدة أنه ليس لديَّ ما يستحق قوله. لا تستطيع أنت وأمثالك من الرجال، الذين تتدفَّق أفكارهم بانسيابية، والذين يستطيعون التعبيرَ عنها بسهولة، فهْمَ حالةِ الشلل العقلي التي أجد نفسي مُصابًا بها. إن أكثرَ ما يُنشَد بشدة هو محاولةٌ حَذِرة دقيقة لإظهار كلِّ ما حقَّقه علم وظائف الأعضاء للبشرية بالفعل، والأهم من ذلك بكثير هو ذكرُ جميع الأسباب التي تدفعنا إلى الإيمان بأنه سيعود عليها بالنفع لاحقًا. وأنا الآن عاجز تمامًا عن فعلِ ذلك، أو مناقشة النقاط الأخرى التي اقترحتَها.
إذا كنت ترغب في إدراج اسمي (وسأكون سعيدًا بظهوره مع أسماءِ آخرين في سبيل القضية نفسِها)، أفلا يمكنك اقتباسُ بعض الجُمل من خطابي المنشور في صحيفة «ذا تايمز» الذي أُرفقُه مع هذا الخطاب، لكني أرجو منك إعادته. إذا كنت ترى ذلك مناسبًا، يمكنك القول إنك اقتبسته بموافقتي، وإنني بعدَ مزيدٍ من التفكير لم أزَل شديدَ التمسُّك بقناعتي التي أفصحت عنها.
فكِّر في هذا من أجل الرب. إنني لا أبخلُ بالجهد والفِكر، لكني لا أستطيع كتابةَ شيء جدير بأن يقرأه أيُّ شخص.
[قال والدي في خطابٍ إلى الدكتور لودر برونتون في فبراير ١٨٨٢: