متفرقات (تكملة)
١٨٧٦–١٨٨٢
[علينا الآن تناول الأعمال (غير النباتية) التي شغلت السنوات الست الأخيرة من حياة والدي. وثمَّة خطاب إلى صديقه القديم المبجَّل إل بلومفيلد (جينينز)، كُتِب في مارس ١٨٧٧، يُوضِّح توقُّعات والدي بشأن قدرته على العمل آنذاك:
«عزيزي جينينز (أرى أنني نسيت اسمك الحقيقي). لقد غمرني خطابك البالغ اللُّطف بسرور شديد. مع تقدُّم المرء في العمر، تعود أفكاره إلى الماضي بدلًا من أن ترنو إلى المستقبل، وكثيرًا ما أتأمَّل الأوقات السارة، والقيِّمة عندي، التي قضيتها معك على حدود منطقة فينز.
تسألني عن عملي المستقبلي، أشكُّ فيما إذا كنت سأستطيع إنجازَ الكثير من عمل جديد، ودائمًا ما أضع نُصب عينيَّ مثالَ العجوز المسكين — الذي كان لديه هوس بالكتابة في شيخوخته. لكني لا أستطيع تحمُّل القعود دون أن أعمل شيئًا؛ لذا أعتقد أنني سأُواصل العملَ ما دُمت قادرًا على ذلك دون أن أفعل أيَّ شيء يَسِمني بالحماقة. لديَّ قدرٌ هائل من المواد العلمية المتعلِّقة بالتباين تحت تأثير الطبيعة، لكنَّ ما نُشِر منذ ظهورِ كتاب «أصل الأنواع» كثيرٌ جدًّا إلى حدِّ أنني أشكُّ بشدةٍ فيما إذا كنت سأظل محتفظًا بالقوة الذهنية والقدرة اللازمتَين لتقليص هذه الكتلة الهائلة من المادة العلمية إلى كتابٍ كامل مختصر. أحيانًا أظن أنني سأحاول، لكني أخشى المحاولة …»
ثبتت صحةُ توقُّعاته بخصوص مواصلة أي عمل عام متعلِّق بمسألة التطوُّر، ولكن من المؤكَّد أنه استخفَّ في توقُّعاته بقدرته، التي ثبَت فيما بعدُ أنها مكَّنته من معالجة كتاب «قوة الحركة في النباتات»، والعمل المتعلِّق ﺑ «ديدان الأرض».
جاء عام ١٨٧٦، الذي يبدأ به هذا الفصل، حاملًا معه تجدُّد الاهتمام بعملٍ جيولوجي. ذلك أنه كان مشدوهًا، كما سمعتُ من البروفيسور جود، وكما يظهر في خطاباته، عندما عَلِم أن بعض علماء الجيولوجيا لا يزالون يرجعون إلى كتابَيه عن «الجزر البركانية»، ١٨٤٤، وعن «أمريكا الجنوبية»، ١٨٤٦، وفوجئ بأن الكتابَين مطلوب منهما طبعاتٌ جديدة. كانت دار نشر «ميسرز سميث آند إلدر» هي التي نشرت كلا الكتابَين أصلًا، وهي التي أصدرت الطبعةَ الجديدة في عام ١٨٧٦. صدرَت هذه الطبعةُ في مجلَّد واحد بعنوان «ملاحظات جيولوجية عن الجزرِ البركانية، وأجزاء من أمريكا الجنوبية زُرناها في أثناء رحلة إتش إم إس «البيجل».» وقد شرح في مقدِّمة الكتاب الأسبابَ التي جعلته يترك نصَّ الطبعتَين الأصليتَين كما هو دون أن يمسَّه؛ إذ قال: «إنهما متعلِّقتان بأجزاءٍ من العالم لا يزورها العلماء إلا نادرًا جدًّا، إلى حدِّ أنني لا أعلم ما إذا كان هناك الكثير ممَّا يمكن تصحيحه أو إضافته، بِناءً على ملاحظات أُجريت لاحقًا. وبسبب التقدُّم الكبير الذي شهده علم الجيولوجيا في الآونة الأخيرة، ربما تكون آرائي بشأنِ بعض النقاط قديمةً إلى حدٍّ ما، لكني ارتأيت أنه من الأفضل تركُها كما ظهرت في الأصل.»
من تشارلز داروين إلى جيمس جيكي
داون، ١٦ نوفمبر ١٨٧٦
سيدي
العزيز
آمُل أن تسامحني على إزعاجك بخطابٍ طويل جدًّا. بالرغم من ذلك، فلتسمح لي أولًا بأن أصفَ لك السرور البالغ والإعجاب الشديد اللذَين أتممتُ بهما قراءةَ كتابك «العصر الجليدي الكبير» للتو. أرى أنه مكتوب بأسلوب رائع، وواضح للغاية. صحيح أن تاريخ العالم فيه العديدُ من الحِقب المثيرة للاهتمام، لكني لا أظن أن أيًّا منها يرقى ولو إلى مرتبة قريبة من العصر الجليدي أو الفترات الجليدية. ورغم أنني أقرأ الكثيرَ عن الموضوع بانتظام، فإن كتابك يجعل الموضوع كله يبدو وكأنه شبه جديد عليَّ.
سأذكر الآن ملاحظةً رصدية صغيرة، أجريتها قبل عامَين أو ثلاثة أعوام بالقرب من ساوثهامبتون، لكني لم أتحرَّها حتى الوصول إلى استنتاجٍ مُعيَّن لأنني لا أقوى على القيام بالرحلات. لا داعي إلى أن أقول شيئًا عن طابع الترسُّبات المجروفة هناك (التي تتضمَّن فئوسًا حجريةً من العصر القديم)؛ لأنك وصفت سِماته الأساسية في بضع كلمات في الصفحة ٥٠٦. إنه يُغطِّي البلد كله [في] سطح مستوٍ كالسهل، وليس له علاقة تقريبًا بالشكل العام الحالي للأرض.
شهد ترتيب الطبقات ذات الحُبيبات الكبيرة إخلالًا به في بعض الأحيان. أجد أنك تُلمح «إلى أن الحجارة الكبرى غالبًا ما تقف منتصبةً في وضعٍ رأسي»، وهذه هي النقطة التي أثارت اهتمامي بشدة. ليست الحجارةُ الزاوية ذاتُ الحجم المتوسِّط فحسب، بل الحصى البيضاويةُ الصغيرةُ كذلك غالبًا ما تقف منتصبةً في وضعٍ رأسي، بطريقةٍ لم أرَها من قبلُ في طبقات الحصى العادية. تُذكِّرني هذه الحقيقة بما يحدث قُرب منزلي، في الطين الأحمر المتيبِّس المليء بأحجار الصَّوَّان غير المتآكلة فوق الطباشير، الذي من المؤكَّد أنه يمثِّل البقايا التي تركتها مياهُ الأمطار دون أن تذيبها. ففي هذا الطين، غالبًا ما تقف أحجارُ الصوَّان، التي تتسم بأنها طويلة ورفيعة بقدرِ طول ذراعي ونحافتها، في وضعيةٍ رأسية، وقد أخبرني بعضُ عاملي الحفَّارات أن هذه هي «وضعيتها الطبيعية!» أظن أن هذه الوضعية يُمكن أن تُعزى بكل تأكيد إلى الحركة المتفاوتة التي تتحرَّكها أجزاء الطين الأحمر خلال هبوطه ببطء شديد بسبب انحلال الطباشير الواقع تحته، ومن ثمَّ تُرتِّب أحجار الصوَّان أنفسها في الخطوط الأقل مقاومة. إضافةً إلى ذلك، يقودني الترتيب المشابه للأحجار في الترسُّبات المجروفة بالقرب من ساوثهامبتون، وإن كان أقل بروزًا، إلى التفكير بأنه أيضًا قد هبط ببطء بلا شك، وقد خَطَر ببالي أنه في أثناء بداية العصر الجليدي وذروته، تراكمت طبقاتٌ كبيرة من الثلج المتجمِّد فوق جنوب إنجلترا، وأنه في أثناء الصيف، دُفِعَت الحصى والحجارة بالمياه من الأرض العليا إلى السطح، وإلى قنواتٍ سطحية أيضًا. ربما اخترقت المجاري المائية الكبرى الثلجَ المتجمِّد، ورسَّبت الحصى في خطوط في القاع. لكن عندما تضعُف المياهُ الجارية في كل خريف تالٍ، أتخيَّل أن خطوط التصريف ستمتلئ بالثلج المدفوع الذي يتجمَّد بعد ذلك، وأنه بسبب تراكمات الثلج الكبيرة على السطح، يمكن أن تكون المصادفة البحتة فحسب هي المسئولة عمَّا إذا كانت المياه المُصرَّفة، مع الحصى والرمل، ستتبع الخطوط نفسَها في الصيف المقبل أم لا. إذن، حسبما أفهم، فإن طبقاتٍ متناوبة من الثلج المتجمِّد والترسُّبات المجروفة، في صفائح وخطوط، ستُغطِّي البلد في النهاية بطبقةٍ ذات سُمك كبير، ومن المرجَّح أن خطوط الترسُّبات المجروفة قد ترسَّبت في اتجاهاتٍ مختلفة في القاع بفعل المجاري المائية الكبرى. وبينما ارتفعت درجة حرارة المُناخ، ذابت الطبقات السفلية من الثلج المتجمِّد ببطء شديد جدًّا، وستَغرق الطبقات الكثيرة غير المنتظمة من الترسُّبات المجروفة الواقعة بين الطبقات ببطء مماثل، وفي أثناء هذه الحركة، سيُرتِّب الحصى المطوَّل نفسه في وضعٍ شبه رأسي. وسوف تترسَّب الترسُّبات المجروفة على نحوٍ يكاد يكون غير ذي صلة بالشكل العام للأرض الواقعة تحتها. عندما نظرت إلى البلد، لم أستطِع إقناعَ نفسي بأن أيَّ فيضان، مهما كان هائلًا، من الممكن أن يكون قد رسَّب مثل هذا الحصى الكبير الحبيبات فوق المنصات شبهِ المستوية بين الوديان. ويختلف رأيي عن رأي هولست، الصفحة ٤١٥ [«العصر الجليدي الكبير»]، الذي لم أكن قد سمعت به من قبل؛ لأن رأيه متعلِّق بقنواتٍ تقطع الأنهارَ الجليدية، ورأيي متعلِّق بطبقاتٍ من الترسُّبات المجروفة واقعة فيما بين طبقات الثلج المتجمِّد حيث لم توجد أنهارٌ جليدية. المغزى من هذا الخطاب الطويل هو أن أطلب منك أن تُبقي فكرتي نصبَ عينَيك، وأن تبحث عن حصًى رأسيٍّ في أي أرض منخفضة تستطيع فحْصها، حيث لم تكن توجد أنهار جليدية. أو إذا كنت تعتقد أن الفكرة تستحق مزيدًا من التفكير، وفي هذه الحالة فقط، فلك أن تُخبر بها أيَّ أحد يفحص مثل هذه المناطق، وليكُن مثلًا السيد سكيرتشلي. أرجو أن تسامحني على إرسال خطاب طويل جدًّا كهذا، وأُكرِّر شكري على المتعة الكبيرة التي غمرني بها كتابك.
طلبتُ من دار النشر التي أتعامل معها أن تُرسل إليك في غضون يومَين أو ثلاثة أيام نسخةً (الطبعة الثانية) من عملي الجيولوجي في أثناء رحلة «البيجل». ربما تكون النقطة الوحيدة التي ستثير اهتمامك متعلِّقة بسهول باتاجونيا الشبيهة بالسهوب.
كانت تراودني، طوال سنوات عديدة ماضية، هواجس مُروِّعة تُحدِّثني بأن مستوى سطح البحر هو الذي تغيَّر بالتأكيد، وليس مستوى الأرض.
قرأتُ قبل بضعة أشهر قصةَ حياة موركيسون الشائقة جدًّا التي كتبها [أخوك]. (بقلم السيد أرشيبالد جيكي.) ومع أنني دائمًا ما كنت أرى أنه يحتلُّ المرتبةَ التالية بعد دبليو سميث في تصنيف التكوينات الجيولوجية، ومع أنني كنت أعرف مدى طِيبة قلبه، فإن الكتاب قد زاد من احترامي له بشدة، بالرغم من عيوبه وافتقاره إلى آراءٍ فلسفية واسعة.
[تجسَّد العمل الجيولوجي الآخر الوحيد في سنواته الأخيرة في كتابه عن دود الأرض (١٨٨١)؛ ولذا قد يكون من المناسب تناوله في هذا المكان. كان هذا الموضوع يُثير اهتمامه بالفعل قبل هذا التاريخ بسنوات عديدة، وفي عام ١٨٣٨ نُشرت ورقة عن تشكيل العفن في دورية «بروسيدينجز أوف ذا جيولوجيكال سوسايتي» (طالِع الجزء الأول).
أظهر في هذا العمل أن «ما كان متناثرًا بكثافة على سطح عدةِ مروج من شظايا الطين الجيري المحترق والرماد وما إلى ذلك، وُجدت بعد ذلك ببضع سنوات قابعةً تحت العشب على عمقِ بضع بوصات، لكنها كانت لا تزال في شكل طبقة.» وكان مدينًا بتفسير هذه الحقيقة، التي تُشكِّل الفكرةَ المحورية للجزء الجيولوجي من الكتاب، لعمه جوزايا ويدجوود، الذي اقترح أن الديدان إذ تجلِب التربة إلى السطح ضِمن فضلاتها، لا بد أن تُقوِّض أيَّ أشياء قابعة على السطح وتُسبِّب هبوطًا واضحًا.
في عام ١٨٧٧، اكتشف السير توماس فارار بالقرب من حديقته بقايا مبنًى من العصر الروماني البريطاني، ومن ثمَّ أعطى والدي الفرصةَ لأن يرى بنفسه الآثارَ التي أحدثتها أفعالُ ديدان الأرض في الأرضيات والجدران الخرسانية القديمة وما إلى ذلك. وعندما عاد والدي، كتب خطابًا إلى السير توماس فارار، قائلًا:
«لا أستطيع أن أتذكَّر أسبوعًا أشدَّ إبهاجًا من الأسبوع الماضي. أعرف يقينًا أن إي لن تُصدِّقني، لكن الديدان لم تكن هي الشيء الساحر الوحيد بأي حال من الأحوال.»
وفي خريف عام ١٨٨٠، عندما أوشك كتاب «قوة الحركة في النباتات» على الانتهاء، شَرَع في العمل مُجدَّدًا على هذا الموضوع. وورد في خطابٍ له إلى البروفيسور كاروس (بتاريخ ٢١ سبتمبر):
أُرسِلَت المخطوطة إلى المطابع في أبريل ١٨٨١، وفي أثناء وصول بروفات الطباعة، كَتَب خطابًا إلى البروفيسور كاروس قال فيه: «كان الموضوع مُحببًا جدًّا إلى نفسي، وربما أكون قد تناولته بالتفصيل إلى حدٍّ أحمق.»
نُشر الكتاب في ١٠ أكتوبر، وبيع منه ٢٠٠٠ نسخة فور نشره. وقد كتب خطابًا إلى السير جيه دي هوكر قال فيه: «أنا سعيد بأنك تستحسن كتاب «الديدان». عندما كنتُ أخبرك في الأيام الخوالي بكلِّ ما كنت أفعله، إذا كنتَ مهتمًّا أصلًا، فدائمًا ما كنتُ أشعر بما يشعر به معظمُ الرجال عندما تُنشر أعمالهم أخيرًا.»
كَتَب في خطابٍ إلى السيد ميلارد ريد (٨ نوفمبر): «فوجئت للغاية بالعدد الهائل من الأشخاص الذين اهتمُّوا بالموضوع.» وفي خطابٍ إلى السيد داير (في نوفمبر): «استُقبِل كتابي بحماسةٍ تكاد تكون مثيرةً للضحك، وبيع منه ٣٥٠٠ نسخة!» وكتب أيضًا في خطاب إلى صديقه السيد أنتوني ريتش في ٤ فبراير ١٨٨٢: «اجتاحني سيلٌ لا يتوقَّف من الخطابات عن هذا الموضوع، معظمها أحمق ومُتحمِّس جدًّا، لكن بعضها يحتوي على حقائقَ جيدة استخدمتها في تصحيح «الألف السادسة» يوم أمس.» ويمكن تقدير رواج الكتاب تقديرًا تقريبيًّا بأن السنوات الثلاث التي أعقبت نشره شهدت بيع ٨٥٠٠ نسخة منه، وهذه المبيعات أكبرُ نسبيًّا من مبيعات كتاب «أصل الأنواع».
وليس من الصعب تفسيرُ النجاح الذي لاقاه لدى جمهور القراء من غيرِ المتخصِّصين في العلوم. فالاستنتاجات العامة الشاملة جدًّا والجديدة جدًّا، والقابلة للفهم بسهولة شديدة، التي استُمدَّت من دراسة كائنات مألوفة جدًّا، وتناولها المؤلِّف بمنظورٍ جديد حيوي للغاية، ربما اجتذبت العديدَ من القُرَّاء. يُعلِّق أحدُ النقَّاد قائلًا: «في نظر معظم الرجال … ليست دودة الأرض سوى دودة حلقية عمياء بكماء غير قادرة على الإحساس وبها لُزوجة كريهة. يتولَّى السيد داروين مسئولية إعادة تأهيل شخصيتها، وعلى الفور تتقدَّم دودة الأرض على أنها شخصية ذكية ومُحسَّنة، وعاملة تُؤدِّي إلى تغييرات جيولوجية كبيرة؛ فهي مُسوِّية لجوانب الجبال … وصديقة للإنسان … وحليفة لجمعية الحفاظ على الآثار القديمة.» وقد أشارت صحيفة «سانت جيمس جازيت»، في ١٧ أكتوبر ١٨٨١، إلى أن توضيح الأهمية التراكمية للأشياء البالغة البساطة هو المُلتقى بين هذا الكتاب والعمل السابق الذي كتبه المؤلِّف.
يتبقَّى كتاب واحد آخر جدير بالذكر: «حياة إيرازموس داروين».
كانت غايته الأساسية من كتابة مقالة قصيرة عن جَده أن «يُكذِّب بعض افتراءات الآنسة سيوارد تكذيبًا قاطعًا.» ويتجلَّى هذا في خطاب بتاريخ ٢٧ مارس ١٨٧٩ أرسله إلى ابن عمه ريجينالد داروين، طالبًا فيه أيَّ وثائق وخطابات يمكن أن تُسلِّط الضوءَ على شخصية إيرازموس. وهذا جعل السيد ريجينالد داروين يُسلِّم والدي كميةً من المواد القيِّمة، تتضمَّن دفترًا كبيرَ الحجم مثيرًا للاهتمام، كتب عنه: «أثار الكتاب العظيم بالغ اهتمامي … قراءته والنظر إليه أشبهُ بالتواصل مع الموتى … تعلَّمت [منه] الكثيرَ عمَّا كان يهتم به جَدنا وعن تفضيلاته.» ويتحدَّث في خطابٍ لاحق (بتاريخ ٨ أبريل) إلى الشخص نفسِه عن مصدرٍ حصل منه على موادَّ إضافية:
«اكتشفت شيئًا غريبًا منذ خطابي الأخير؛ إذ وجدت أنَّ صندوقًا قديمًا من بين الأغراض التي علَّمها والدي بجُملة «صكوك قديمة»؛ ولذا لم أفتحه من قبل، مليء بالخطابات — منها مئات الخطابات من الدكتور إيرازموس — وخطابات أخرى من بعض أفراد الأسرة القدماء، وفيها بضعة خطابات شائقة جدًّا. هذا إضافةً إلى رسمةٍ لقرية إلستون قبل أن تُغيَّر، في عام ١٧٥٠ تقريبًا، وأظنني سأعرض نسخةً منها.»
شكَّلَت مقالةُ الدكتور كراوزه الجزء الثاني من كتاب «حياة إيرازموس داروين»، فيما قدَّم والدي «مقالة تمهيدية». غير أن هذا الوصف الوارد في صفحة العنوان خادع بعض الشيء؛ فإسهام والدي يبلغ أكثرَ من نصف الكتاب، وكان ينبغي أن يوصَف بأنه سيرة ذاتية. كان هذا النوع من الأعمال جديدًا عليه، وقد أعرب عن شكوكه في خطابٍ إلى السيد ثيسلتون داير بتاريخ ١٨ يونيو، قائلًا: «الرب وحدَه يعلم ما سأصنعه بحياته؛ فهذا النوع من الكتابة جديدٌ عليَّ.» أسهَم اهتمامه الشديد بأجداده في إضفاء حماسة على العمل، الذي صار متعةً له بكل تأكيد. وصحيح أن الكتاب لم يلقَ نجاحًا ملحوظًا بين عموم القُرَّاء، لكنَّ الكثيرين من أصدقائه اعترفوا بجدارته. وكان السير جيه دي هوكر واحدًا من هؤلاء، وقال والدي له في خطاب: «سُررتُ للغاية بإشادتك بكتاب «حياة الدكتور دي»؛ لأنني كنت أحتقر عملي، وكنت أرى نفسي أحمقَ جدًّا لأنني تولَّيت مهمةً كهذه.»
وأرسل خطابًا إلى السيد جالتون أيضًا بتاريخ ١٤ نوفمبر، قائلًا:
«أشعر بسعادةٍ «بالغة» لأنك تستحسن كتاب «حياة» القصير عن جَدنا؛ لأنني كنت نادمًا على أنني تولَّيت هذا العمل أصلًا؛ إذ كان خارج نطاق قدراتي تمامًا.»
يشير الخطاب التالي إلى كتاب «تذكارات حَشَرية» للسيد جيه إتش فابر. وربما يكون من المناسب عرضه هنا؛ لأنه يتضمَّن دفاعًا عن إيرازموس داروين بشأن نقطة صغيرة. والملحوظة الواردة في ذيل الخطاب مثيرةٌ للاهتمام؛ لأنها مثالٌ على إحدى أفكار والدي الجريئة بخصوصِ كلٍّ من التجرِبة والنظرية:]
من تشارلز داروين إلى جيه إتش
فابر
داون، ٣١ يناير ١٨٨٠
سيدي العزيز
أرجو أن تسمح لي بأن أُشبع حاجتي في شكرك من صميمِ قلبي على السعادة البالغة التي نلتها من قراءة كتابك. لم يتمكَّن أحدٌ قط من وصف العادات العجيبة لدى الحشرات بهذا الوضوح الذي وصفتها به؛ فصارت القراءة عنها تكاد تضاهي رؤيتها. أنا متيقِّن من أنك لن تظلم ولو حتى حشرة، فضلًا عن إنسان. والآن قد ضلَّلك مترجِم ما؛ لأن جَدي، إيرازموس داروين، يذكر (في كتابه «قوانين الحياة العضوية»، المجلَّد الأول، الصفحة ١٨٣، عام ١٧٩٤) أن الحشرة التي رآها وهي تقطع جناحَي ذبابة كبيرة كانت زنبارًا. أنا متيقِّن من أنك على صوابٍ في قولك إن الأجنحة عادةً ما تُقطَع بالفطرة الغريزية، لكن في الحالة التي وصفها جَدي، فإن الزنبار، بعدما قطع طرفَي الجسد، طار عاليًا في الهواء، وقَلَبته الرياح، ثم هَبط وقطع الجناحَين. لا بد أن أتفق مع بيير هوبر في أن الحشرات لديها «قدرٌ بسيط من العقل.» أرجو أن تُغيِّر، في الطبعة القادمة من كتابك، «جزءًا» ممَّا تقوله عن جَدي.
[خلال السنوات الأخيرة من حياة والدي، بدا من المجتمع إقبالٌ متزايد على تكريمه. ففي عام ١٨٧٧، نال درجةَ الدكتوراه الفخرية في القانون من جامعة كامبريدج. مُنح هذه الدرجة في ١٧ نوفمبر، في مناسبةٍ شهدت إلقاء الخطيب العام الخُطبة اللاتينية المعتادة، مختتمًا إياها بهذه الكلمات: «لكنك، يا مَن أوضحت قوانين الطبيعة ببراعة شديدة، قد أصبحت دكتورًا في القانون لدينا.»
أسفرت هذه الدرجة الشرفية عن إطلاقِ حملةٍ في الجامعة لإقامة نصبٍ تذكاري دائم لوالدي. فجُمِعَت تبرُّعات قيمتها ٤٠٠ جنيه، وبعد رفض الفكرة القائلة بأن التمثال النصفي سيكون هو الخيارَ الأفضل للنصب التذكاري، تقرَّر تعليق صورة شخصية له. وفي يونيو ١٨٧٩، قعد أمام السيد دبليو ريتشموند ليرسم له تلك الصورةَ الشخصية التي بقيت في حوزة الجامعة، وهي موضوعة الآن في مكتبة الجمعية الفلسفية في كامبريدج. يظهر والدي في الصورة قاعدًا مرتديًا عباءة الدكتوراه، ورأسه مائل نحو الناظر إلى الصورة؛ صحيح أن الصورة نالت إعجابَ الكثيرين، لكنها من وجهة نظري الشخصية لا تُمثِّل وضعيةَ جسد والدي، ولا تعبيراتُ الوجه الظاهرة في الصورة تُمثِّل تعبيرات وجهه.
إضافةً إلى ذلك، أبدت الجمعية اللينية — التي كان والدي على ارتباط وثيق بها — رغبةً مشابهة، ما جعله يقعد، في أغسطس ١٨٨١، أمام السيد جون كوليير ليرسم له الصورة الشخصية، الموجودة الآن في حوزة الجمعية. وكَتب عن الرسام قائلًا: «كان كوليير ألطفَ رسَّام قد يتمنَّاه المرءُ وأكثرهم مراعاةً ودماثة.» يظهر والدي في الصورةِ مواجهًا للناظر إليها، ومرتديًا العباءة الفضفاضة المألوفة جدًّا لمن كانوا يعرفونه، وممسكًا قُبعته ذات الحواف المرنة العريضة. ويرى الكثيرون ممن كانوا يعرفون وجهَ أبي معرفةً شخصية وثيقة أن صورة السيد كوليير هي أفضل الصور الشخصية التي رُسمت له، وكان الشخص المرسوم نفسه (أي داروين) يميل إلى الاتفاق مع هذا الرأي. أمَّا أنا، فأشعر أنها لم تُمثِّله بالبساطة أو القوة التي تجلَّت في الصورة التي رسمها له السيد أوليس. ذلك أن صورة السيد كوليير تنطوي على تعبير مُعيَّن أرى أنه مبالغة للتعبير الأشبه بالتألُّم الذي وصفه البروفيسور كون في وجه والدي، والذي كان قد لاحظه قبل ذلك لدى هومبولت. ورَدَت تعليقاتُ البروفيسور كون في تقريرٍ مكتوب بأسلوبٍ مبهج عن زيارةٍ أجراها إلى داون في عام ١٨٧٦، ومنشور في صحيفة «بريسلاور زايتونج» بتاريخ ٢٣ أبريل ١٨٨٢.
وفضلًا عن الدرجة التي نالها من جامعة كامبريدج، تلقَّى في الوقت نفسه تقريبًا تكريماتٍ ذات طابع أكاديمي من بعض الجمعيات الأجنبية.
«أرى أن كلَينا انتُخب عضوًا بالمراسلة لدى المعهد. من المضحك بعض الشيء أنني انتُخبت في قسم علم النبات؛ لأن نطاقَ معرفتي بالنباتات يكاد لا يتجاوز معرفة أن الأُقحوان نباتٌ من الفصيلة النجمية والبازلاء نبات بقولي.»
وفي أوائل العام نفسه، انتُخِب عضوًا بالمراسلة لدى أكاديمية برلين للعلوم، وقال في خطابٍ (بتاريخ ١٢ مارس) إلى البروفيسور دوبوا ريموند، الذي كان قد اقترح انتخابه:
«أتوجَّه إليك بخالص الشكر على خطابك اللطيف جدًّا، الذي تُعلن فيه الشرفَ العظيم الذي مُنحتُ إياه. الحق أن معرفة أسماء الرجال المشهورين المرموقين الذين أيَّدوا اقتراحَ انتخابي أسعدتني أكثرَ ممَّا أسعدني الشرف نفسه.»
كان المؤيِّدون هم هلمهولتز وبيترز وإيوالد وبرينجشيم وفيرخوف.
وفي عام ١٨٧٩، نال ميداليةَ بالي من الكلية الملكية للأطباء.
ومرةً أخرى في عام ١٨٧٩، نال من أكاديمية تورينو الملكية جائزةَ «بريسا» عن السنوات من ١٨٧٥ إلى ١٨٧٨، التي تُعادل قيمتها مبلغًا قدره ١٢ ألف فرانك. وفي العام التالي، تلقَّى في يوم ذكرى ميلاده، كما حدث في مناسبات سابقة، خطابَ تهنئة لطيفًا من الدكتور دورن من نابولي. وفي الخطاب الذي كتبه والدي (بتاريخ ١٥ فبراير) ليشكره هو وعلماء التاريخ الطبيعي الآخرين في مركز علوم الحيوان، أضاف:
«لعلك رأيتَ في الصحف أن جمعية تورينو قد منحتني شرفًا هائلًا بإعطائي جائزةَ «بريسا». الآن، خطر ببالي أن مركزك إذا أراد بعضَ المعدات والأجهزة، بقيمة نحو ١٠٠ جنيه، فسأرغب جدًّا في أن يُسمَح لي بدفع ثمنها. فهلَّا تتكرَّم بأن تُبقي هذا في حسبانك، وإذا راودتك أيُّ رغبة في ذلك، فسأرسل إليك شيكًا في أي وقت.»
وجدتُ من سجلات حسابات والدي أن ١٠٠ جنيه قد قُدمت لمركز نابولي.
«إنك تغمُرني بإشادة هائلة جدًّا بالفعل، وأتعجَّب من أنك لم تخشَ سماعَ بعض عبارات الاستنكار مثل «أف! أف!» أو ما شابه. فكثيرٌ من الناس يرَون أن ما قدَّمته للعلم لا يستحق كل هذا التقدير، وأنا نفسي غالبًا ما أظن ذلك، لكن عزائي أنني لم أتعمَّد قَط أن أفعل أيَّ شيء ليجلِب لي الاحتفاء. لنكتفِ بهذا القدر من الحديث عن ذاتي العزيزة لأنني أطلته أكثرَ ممَّا ينبغي.»
ومن بين مثل هذه البوادرِ المعبِّرة عن تقديره واحترامه، كان يُكِن تقديرًا بالغًا لألبومَي الصور الفوتوغرافية اللذَين تلقَّاهما من ألمانيا وهولندا في ذكرى ميلاده في عام ١٨٧٧. كان السيد إميل ريد من مدينة مونستر هو صاحب فكرةِ هدية ذكرى الميلاد الألمانية، وقد اتخذ الترتيبات اللازمة لإعدادها. فأرسل والدي إليه خطابًا (بتاريخ ١٦ فبراير ١٨٧٧)، قائلًا:
«أرجو أن تُخبر العلماءَ المائة والأربعة والخمسين، الذين من بينهم بعضٌ من أبرز الأسماء المرموقة في العالم، أنني في غاية الامتنان لِمَا أبدَوه من لطفٍ وتعاطف كريم بإرسال صورهم الفوتوغرافية إليَّ في ذكرى ميلادي.»
وقال في خطابٍ إلى البروفيسور هيكل (بتاريخ ١٦ فبراير ١٨٧٧):
وكتب أيضًا في خطابٍ أرسله إلى البروفيسور إيه فان بيميلن عندما تلقَّى هديةً مشابهة من عددٍ من علماء التاريخ الطبيعي ومُحبِّيه البارزين في هولندا:
سيدي
تلقَّيت يوم أمس هديةَ الألبوم الرائعة مع خطابك. أرجو أن تحاول إيجادَ طريقةٍ ما لتُعبِّر للمائتَين والسبعة عشر من مُلاحظي العلوم الطبيعية ومحبِّيها البارزين، الذين أرسلوا إليَّ صورَهم الفوتوغرافية، عن امتناني للُطفهم البالغ. لقد غمرتني هذه الهدية بسعادةٍ بالغة، ولا أظن أنني كنت سأستطيع تصوُّر أي تزكيةٍ أكثرَ تشريفًا لي منها. أُدرك تمامًا أن كتبي لم تكن لتُكتب أبدًا، ولم تكن لتترك أي بصمة في عقول عامة الناس، لولا القدر الهائل من المادة العلمية التي جمعَتها سلسلةٌ طويلة من الملاحظين الجديرين بالإعجاب، وهُم مَن يستحقُّون هذا الشرف أساسًا. أظن أن كل عالِم يشعر بالإحباط من حينٍ إلى آخر، ويشك فيما إذا كان ما نشره يستحق العناءَ الذي كبَّده إياه، لكني كلما أردتُ جرعةً من التشجيع في السنوات القليلة المتبقية من حياتي، فسأنظر إلى صورِ زملائي البارزين العاملين في مجال العلوم، وسأتذكَّر تعاطفهم الكريم. وعندما أموت، سيكون الألبوم أثمنَ تَرِكة لأطفالي. يجب أيضًا أن أُعبِّر عن امتناني للسردِ التاريخي الشائق جدًّا الذي تضمَّنه خطابك عن تطوُّر الآراء حيال نظرية التطوُّر في هولندا؛ فكلُّ ما جاء فيه جديدٌ عليَّ تمامًا. ويجب أن أُكرِّر شكري، من صميم قلبي، لكل أصدقائي الطيبين على بادرتهم التقديرية التي لن تُنسى أبدًا، وسأظل يا سيدي العزيز خادمك المَدين الممتن.
[وفي يونيو من العام التالي (١٨٧٨)، سُرَّ بمعرفة أن إمبراطور البرازيل كان قد عبَّر عن رغبته في أن يلتقي به. وبسبب عدم وجود والدي في المنزل، لم يستطِع تلبيةَ هذه الرغبة؛ إذ قال في خطابٍ إلى السير جيه دي هوكر:
«ما قدَّمه الإمبراطور للعلمِ كثيرٌ جدًّا إلى حدِّ أن كل عالم صار مُلزمًا بأن يُبدي له أقصى قدرٍ من الاحترام، وأرجو أن تُعبِّر له بأقوى كلمات ممكنة وبكل صدق، عن التشريف البالغ الذي شعرتُ به عندما علمت برغبته في لقائي، وعن ندمي الشديد على عدمِ وجودي في المنزل؛ لأن ذلك حقيقي بالفعل.»
أخيرًا، ينبغي ذِكر أنه تلقَّى في عام ١٨٨٠ خُطبةً سلَّمها له بعضُ أعضاء مجلس جمعية برمنجهام الفلسفية شخصيًّا، وتذكارًا من نقابة يوركشاير لعلماء التاريخ الطبيعي سلَّمه له بعضُ الأعضاء، على رأسهم الدكتور سوربي. وفي العام نفسه زاره بعضُ أعضاء جمعية لويشام وبلاكهيث العلمية، وأظن أن كلًّا من الضيوف والمُضيِّف قد استمتع بهذه الزيارة.]
خطاباتٌ متنوِّعة ١٨٧٦–١٨٨٢
[كان الحدث الشخصي الرئيسي (من الأحداث الشخصية التي لم تُتناوَل سلفًا) في السنوات التي نتناولها الآن هو وفاة شقيقه إيرازموس، الذي تُوفي في بيته بشارع كوين آن، في ٢٦ أغسطس من عام ١٨٨١. وبخصوص ذلك، قال والدي في خطابٍ إلى السير جيه دي هوكر (بتاريخ ٣٠ أغسطس):
لا أستطيع أن أُوافقك الرأي في مسألةِ موت كبار السن وصغار السن. فالموت في الحالة الثانية، عندما يكون في انتظار المرء مستقبلٌ مشرِق، يُسبِّب حزنًا عميقًا لن يُمحى بالكامل أبدًا.»
الخطابات التالية ذات طابع متنوِّع وتُشير في الأساس إلى الكتب التي كان يقرؤها، وإلى كتاباته الثانوية.]
من تشارلز داروين إلى الآنسة باكلي
(السيدة فيشر)
داون، ١١ فبراير
[١٨٧٦]
عزيزتي الآنسة
باكلي
يجب أن تدعيني أحظى بلذةِ إخبارك بأنني أتممت للتو قراءةَ كتابك الجديد («نبذة تاريخية قصيرة عن العلوم الطبيعية.») باهتمامٍ بالغ. أرى الفكرةَ ممتازة، وهي معروضة على نحوٍ جيد جدًّا في رأيي. من المُبهر جدًّا إلقاءُ نظرة شاملة على كل الخطوات الرائدة الكبرى في تقدُّم العلم. في البداية ندِمتُ على أنكِ لم تعرضي كلَّ علمٍ بدرجة أكبرَ من الفصلِ عن بقية العلوم، لكن يُمكنني القول إنك وجدتِ ذلك مستحيلًا. ليست لديَّ أيُّ انتقادات تقريبًا، باستثناء أنني أرى أنكِ كان يجب أن تُقدِّمي موركيسون على أنه مُصنِّف عظيم للتكوينات الجيولوجية، ولا يتفوَّق عليه سوى دبليو سميث. لقد أنصفتِ أستاذنا القديم العزيز لايل إنصافًا تامًّا، ولم تتجاوزي حدودَ الإنصاف. ربما كان ينبغي الاستفاضةُ أكثر بقليل في الحديث عن علم النبات، وإذا راودتك أيُّ رغبة على الإطلاق في إضافة ذلك، فستجدين كتاب «تاريخ»، الذي ألَّفه زاكس ونُشر مُؤخَّرًا، مفيدًا جدًّا لهذا الغرض.
لقد توَّجْتِ والاس وتوَّجتيني بكثيرٍ من التشريف والتمجيد. أُهنِّئك من صميم قلبي على إنتاج عمل جديد وشائق كهذا،
ولك يا عزيزتي الآنسة باكلي بالغُ الإخلاص على الدوام.
من تشارلز داروين إلى إيه آر
والاس
[هوبدين]،١٦ ٥ يونيو ١٨٧٦
عزيزي
والاس
من تشارلز داروين إلى أوجست فايزمان
… أقرأ الألمانية ببطء شديد، واضطُررت مُؤخَّرًا إلى قراءة عدةِ أوراق بحثية أخرى؛ لذا لم أُتمم حتى الآن إلا قراءة نصف مقالتك الأولى وثلثَي مقالتك الثانية. لقد أثارتا بالغَ اهتمامي وإعجابي، وأيًّا كانت التي أتناولها بالتفكير تاليًا، يبدو لي أنها الأقيَم. لم أتوقَّع قَط أن أرى مسألةَ العلامات الملوَّنة على اليساريع مشروحةً جيدًا جدًّا هكذا، وكذلك سرَّني شرحُك لحالة العينات جدًّا …
… يوجد موضوعٌ آخر واحد دائمًا ما رأيت أنَّ شرْحه أصعبُ حتى من شرح ألوان اليساريع، وهو موضوع ألوان بيض الطيور، وأتمنَّى أن تبحث فيه.
من تشارلز داروين إلى ملكيور
نويماير،١٩ فيينا
داون، بيكنهام، كنت، ٩
مارس ١٨٧٧
سيدي
العزيز
أرجو أن تسمح لي بالتعبير عن امتناني للمتعة والمعرفة اللتَين جنيتهما من قراءتها. أرى أنها عملٌ مثير للإعجاب، وهي أفضلُ حالةٍ صادفتها في حياتي في توضيحِ ما لظروف الحياة من تأثير مباشر على الكائن.
يرسل إليَّ السيد هايَت، الذي يعكف على دراسة حالة هيلجندورف، خطاباتٍ بخصوص الاستنتاجات التي توصَّل إليها، وهي تكاد تطابق استنتاجاتك. فهو يُصر على أن الأشكال المتشابهة بشدةٍ يمكن أن تُشتَق من خطوطِ انحدارٍ مختلفة، وهذا ما أطلقتُ عليه سابقًا التباين التناظري. لا يُمكن أن يبقى الآن مجالٌ للشك في أن الأنواع قد تخضع لتعديلاتٍ كبيرة من خلال تأثير بيئي مباشر. لديَّ عذرٌ منعني من أن أُصر سابقًا على هذه النقطة إصرارًا أشدَّ في كتابي «أصل الأنواع»؛ لأن الغالبية العظمى من الحقائق الأفضل قد رُصدت بعد نشره.
مع تَكرار شكري على مقالتك الشائقة جدًّا، ومع بالغ الاحترام، لك مني يا سيدي العزيز.
من تشارلز داروين إلى إي إس مورس
داون، ٢٣ أبريل ١٨٧٧
سيدي
العزيز
اسمح لي أن أشكرك من صميم قلبي على مشاعرك الطيبة التي أبديتها تجاهي خلال خُطبتك، وسأبقى يا سيدي العزيز مخلصًا.
[يشير الخطاب التالي إلى «ملخَّص سيرة ذاتية عن طفل رضيع» كُتِب استنادًا إلى مذكِّرات دُوِّنت قبل ذلك بسبعة وثلاثين عامًا، ونُشرت في عدد يوليو ١٨٧٧ من دورية «مايند». جذبت المقالة اهتمامًا بالغًا، وتُرجمت آنذاك في مجلة «كوزموس» ودورية «ريفيو ساينتيفيك»، ونُشرت مؤخَّرًا في كتاب «مجموعة كتاباتٍ ثانوية بقلم تشارلز داروين» للدكتور كراوزه، ١٨٨٧:]
من تشارلز داروين إلى جي كروم
روبرتسون٢٣
داون، ٢٧ أبريل ١٨٧٧
سيدي العزيز
[يُبيِّن الجزءان المقتطفان التاليان استمرارَ اهتمامه القوي بمجموعةٍ مُتنوِّعة من مجالات البحث. كان البروفيسور كون من مدينة بريسلاو قد ذكر أبحاثَ كوخ عن الحمى الطحالية (أو الجمرة الخبيثة)، في أحدِ الخطابات، فرَدَّ عليه والدي في خطاب بتاريخ ٣ يناير، قائلًا:
«أتذكَّر جيدًا أنني قلت لنفسي، منذ فترةٍ تتراوح بين ٢٠ و٣٠ عامًا، إن إثبات أصلِ أي مَرض مُعدٍ على الإطلاق سيكون أعظمَ انتصار للعلم، وأنا الآن سعيد برؤية هذا الانتصار.»
تلقَّى في الربيع نسخةً من كتاب «شِعاب الدولوميت المرجانية» الذي ألَّفه الدكتور إي فون موشفوسكز ويُعَد خطابه الذي أرسله إلى المؤلِّف (بتاريخ ١ يونيو ١٨٧٨) مهمًّا لأنه متعلِّق بتأثير عمله الذي كتبه بيده عن طُرق الجيولوجيا.
«أخيرًا وجدت متسعًا من الوقت لأقرأ الفصل الأول من كتابك «شِعاب الدولوميت المرجانية»، وقد أثار «بالغ» اهتمامي. إنك تُشير إلى تغيُّر رائع جدًّا في مستقبل التسلسل الزمني الجيولوجي؛ وذلك بافتراضك أن صحةَ نظرية الانحدار قَد ثبتت، ثم باعتبار أن التغيُّرات المتدرِّجة الحادثة في المجموعة نفسِها من الكائنات هي المعيار الحقيقي! لم أكن حتى لأحلُم بأنني سأعيش إلى أن أرى أي أحد يقترح خطوةً كهذه حتى.
وكان من الأبحاث الجيولوجية الأخرى التي نالت إعجاب والدي عملُ السيد دي ماكينتوش عن الكتل الصخرية المنجرفة بفعل الأنهار الجليدية. وبصرف النظر عن جدارة العمل المتأصِّلة فيه بالفعل، فإنه أثار تعاطُف والدي بشدة بسبب الظروف التي أُنجِزَ فيها؛ إذ اضطُر السيد ماكينتوش إلى تكريس وقته كله تقريبًا للتدريس. الفقرة التالية مقتطفةٌ من خطاب إلى السيد ماكينتوش بتاريخ ٩ أكتوبر ١٨٧٩، وتُشير إلى ورقته البحثية في مجلة «جورنال أوف جيولوجيكال سوسايتي»، ١٨٧٨:
من تشارلز داروين إلى سي ريدلي
داون، ٢٨ نوفمبر ١٨٧٨
سيدي
العزيز
انتهيت للتو من قراءةٍ سريعة لخُطبة الدكتور بوسي، كما نُشرت في صحيفة «ذا جارديان»، لكني أرى أنها [لم تكن] جديرةً فيما يبدو بأي اهتمام. ولأنني لا أردُّ أبدًا على أي انتقادات إلا أن تكون صادرةً عن علماء، فلا أرغب في نشر هذا الخطاب، لكني لا أُمانع أن تقول إنك أرسلتَ إليَّ الأسئلة الثلاثة، وإنني أجبتُ بأن الدكتور بوسي كان مخطئًا في تصوُّره أنني كتبت كتاب «أصل الأنواع» وفي نِيَّتي أن تكون له علاقة من أي نوع بعلم اللاهوت. كنت أظن أن ذلك سيبدو واضحًا لأي شخص تكبَّد عناءَ قراءة الكتاب، لا سيما وأنني أذكرُ بالتحديد، في السطور الافتتاحية في المقدِّمة، كيفيةَ نشأة الموضوع في ذهني. تغني هذه الإجابةُ عن الرد على سؤالَيك الآخرَين، ولكن يُمكنني إضافةُ أنني عندما كنت أجمع الحقائقَ لكتاب «أصل الأنواع» منذ سنوات عديدة، كنت مؤمنًا بما يُسمَّى الإله الشخصي إيمانًا راسخًا قدرَ إيمان الدكتور بوسي نفسه، وأمَّا بخصوص أبدية المادة، فلم أُزعج نفسي قَط بالتفكير في مثل هذه الأسئلة التي ليس لها إجابة. سيَعجز هجومُ الدكتور بوسي عن تأخير الإيمان بفكرة التطوُّر ولو يومًا واحدًا، كما عجزَت من قبله الهجماتُ الشرسة التي شنَّها رجالُ الدين منذ ٥٠ عامًا على الجيولوجيا، وكما عجزت الهجماتُ الأقدم التي شنَّتها الكنيسة الكاثوليكية على جاليليو؛ وذلك لأن الناس دائمًا ما يكونون على قدرٍ كافٍ من الحكمة ليتبعوا العلماء عندما يتفقون على أي موضوع، والآن يوجد إجماعٌ شبه تام بين علماء الأحياء على فكرةِ التطوُّر، وإن كانوا لا يزالون مختلفين بشدةٍ بخصوص الوسائل؛ مثل مدى تأثير الانتقاء الطبيعي، أو مدى تأثير الظروف الخارجية، أو ما إذا كان يوجد مَيلٌ فطري غامض إلى القدرة على بلوغ الكمال.
[لم يكن علماء اللاهوت الأعداءَ الوحيدين لحرية العلم. ففي ٢٢ سبتمبر ١٨٧٧، ألقى البروفيسور فيرخوف خطابًا في اجتماع ميونخ لعلماء التاريخ الطبيعي والأطباء الألمان، كانت فحواه العامة تُفيد بأن الاشتراكية مرتبطةٌ بنظرية التطوُّر. وقد تبنَّى بعضُ معارضي فكرة التطوُّر هذا الرأي تبنيًا متطرِّفًا إلى حدِّ أن صحيفة «كروز زايتونج»، وفقًا لِمَا ذكره هيكل، قد ألقت «كل اللوم في محاولات الخيانة التي بذلها الديمقراطيان هودل ونوبيلينج … على نظرية الانحدار مباشرة.» وقد ردَّ البروفيسور هيكل على ذلك بكل قوة وكفاءة في مقالته «الحرية في العلم والتعليم» (ترجمة إنجليزية صَدرت في عام ١٨٧٩)، التي من المؤكَّد أنها حازت تعاطُف كل محبي الحرية.
تُشير الفقرة التالية المقتطفة من خطاب (بتاريخ ٢٦ ديسمبر ١٨٧٩) إلى الدكتور شيرزر، مُؤلِّف كتاب «رحلة نوفارا البحرية»، إلى آراء والدي بشأن هذه المسألة التي كانت مُلحَّةً فيما مضى:
«يا لها من فكرةٍ حمقاء تلك التي يبدو أنها منتشرة في ألمانيا بشأن العلاقة بين الاشتراكية والتطوُّر بفعل الانتقاء الطبيعي!»]
من تشارلز داروين إلى إتش إن
موزلي٢٦
داون، ٢٠ يناير ١٨٧٩
عزيزي موزلي
من تشارلز داروين إلى إتش إن
موزلي
داون، ٤ فبراير ١٨٧٩
عزيزي موزلي
أخيرًا أتممتُ قراءة كتابك كله، وقد أثار في نفسي اهتمامًا أشدَّ ممَّا أثاره لديَّ أيُّ كتاب علمي آخر منذ فترة طويلة. ربما ستتفاجأ بمدى بُطئي الشديد في إتمامه، لكن رأسي يمنعني من القراءة إلا على فترات مُتقطِّعة. وإذا سُئلتُ أيُّ الأجزاء كان أكثر إثارةً لاهتمامي، فسأحار بعض الشيء في الاختيار. أتصوَّر أن القارئ العادي سيُفضِّل كلامك عن اليابان. أمَّا أنا عن نفسي، فمتحيِّر بين ما طرحته من نقاشاتٍ ووصف عن الجليد الجنوبي، الذي أراه مُثيرًا للإعجاب، والفصل الأخير الذي تضمَّن العديد من الحقائق والآراء الجديدة عليَّ، مع أنني قرأت أوراقك البحثية عن الشِّعاب الهدرية الحجرية سابقًا، لكن «مُلخَّصك» جعلني أدرَى ممَّا كنت من قبل بأنها حالةٌ شائقة للغاية.
ثم إنك جمعتَ عددًا مذهلًا من الحقائق القيِّمة المتعلِّقة بانتشار النباتات، أكثرَ بكثير من أي كتاب آخر أعرفه. الحق أن مجلَّدك بمثابة كتلةٍ من الحقائق والمناقشات الشائقة، ولا توجد فيه تقريبًا أيُّ كلمة زائدة عن الحاجة، وأنا أُهنِّئك من صميم قلبي على نشره.
إهداؤك يجعلني أشدَّ فخرًا من أيِّ وقت مضى.
[في نوفمبر ١٨٧٩، أجابَ والدي السيد غالتون عن سلسلةٍ من أسئلة استخدمها في كتابه «تساؤلات عن المَلكَات البشرية»، ١٨٨٣. فقال في خطابٍ إلى السيد جالتون:
«أجبتُ عن الأسئلة قدْر استطاعتي، لكن الإجابات رديئة جدًّا وغير كافية؛ لأنني لم أُحاول قَط أن أستكشف ذهني. إذا لم يُجِب الآخرون إجاباتٍ أفضل من إجاباتي، فلن تجني أيَّ فائدة من استفساراتك. ألَا تظن أنك ينبغي أن تطلب من الشخص المجيب ذِكْر عمره؟ أظن أنه ينبغي عليك ذلك؛ لأنني أستطيع تذكُّر وجوه العديد من تلاميذ مدرستي، الذين لم أرَهم منذ ٦٠ عامًا، «بوضوح شديد»، لكني الآن قد أتحدَّث مع رجلٍ ساعةً كاملة، وأراه مِرارًا وتَكرارًا، وبعد شهر واحد، أعجزُ تمامًا عن تذكُّر أيِّ شيء عن شكله على الإطلاق. تكون الصورة باهتةً تمامًا. العدد الأكبر من الإجابات واردٌ في الجدول المرفق.»]
أسئلة عن مَلَكة التصوُّر الذهني
الأسئلة | الإجابات | |
---|---|---|
١ | السطوع؟ | متوسِّط، لكن فطوري الذي أتناوله وحدي كان في وقتٍ مبكِّر، وكانت سماء الصباح مظلمة. |
٢ | الوضوح؟ | بعض الأشياء تكون واضحةً جدًّا، كشريحة من اللحم البقري البارد وبعض العنب وثمرة كمثرى، وحالة طَبَقي حين أُنهي ما فيه، وبضعة أشياء أخرى، تظهر واضحةً جدًّا كما لو كانت أمامي صورة لها. |
٣ | الاكتمال؟ | متوسِّط جدًّا. |
٤ | الألوان؟ | الأشياء المذكورة أعلاه ملوَّنة تلوينًا مثاليًّا. |
٥ | مدى مجال الرؤية؟ | صغير بعض الشيء. |
أنواع مختلفة من التصوُّر الذهني | ||
٦ | الصفحات المطبوعة. | لا أستطيع تذكُّر جملة بعينها، لكني أتذكَّر موضع الجملة ونوع الخط. |
٧ | الأثاث؟ | لم أنتبه لذلك قَط. |
٨ | الأشخاص؟ | أتذكَّر وجوه الأشخاص الذين أعرفهم معرفةً جيدة سابقة بكل وضوح، وأستطيع أن أجعلهم يفعلون أي شيء أُريده. |
٩ | المناظر الطبيعية؟ | أتذكَّرها بوضوح شديد ويُشعرني تذكُّرها بالبهجة. |
١٠ | الجغرافيا؟ | لا. |
١١ | الحركات العسكرية؟ | لا. |
١٢ | الآلات الميكانيكية؟ | لم أختبرها قَط. |
١٣ | الأشكال الهندسية؟ | أظن أنني لا أملك أيَّ قدرة من هذا النوع. |
١٤ | الأعداد؟ | عندما أُفكِّر في أي عدد، تخطر ببالي أرقامٌ مطبوعة. لا أستطيع تذكُّر أربعة أرقام متتالية طوال ساعة كاملة. |
١٥ | أوراق اللعب؟ | لم ألعبها منذ سنوات عديدة، لكني متيقِّن من أنني لن أتذكَّر. |
١٦ | الشطرنج؟ | لم ألعبه قط. |
في عام ١٨٨٠، نشر ورقةً بحثية قصيرة في دورية «نيتشر» (المجلَّد الحادي والعشرون، الصفحة ٢٠٧) عن «خصوبة الهجائن المولودة من الإوز المحلية العادية والإوز الصينية.» كان قد حصل على الهجائن من المُبجَّل الدكتور جوديكر، وسعِد بنَيله فرصةَ اختبار صحة الادعاء بأن هذه الأنواع خصبة فيما بينها. وكان يعتبر هذه الحقيقة، التي طُرِحت في كتاب «أصل الأنواع» على عُهدة السيد إيتون، هي الأبرز من بين كلِّ ما سُجِّل حتى ذلك الحين من حقائقَ متعلِّقة بخصوبة الهجائن. وتجدُر الإشارة إلى أن الحقيقة (كما أكَّدها هو والدكتور جوديكر) مهمَّة لأنها تُقدِّم دليلًا آخرَ على أن العُقم ليس معيارًا لاختلافٍ مُحدَّد، نظرًا إلى أن نوعَي الإوز اللذَين اتضح الآن أنهما خصبان فيما بينهما، مختلفان جدًّا إلى حدِّ أن بعض الخُبراء قد أدرجوهما ضمن جنسَين أو جنسَين فرعيَّين متمايزين.
من تشارلز داروين إلى تي إتش
هكسلي
أبينجر هول، دوركينج، الأحد، ١١ أبريل
١٨٨٠
عزيزي هكسلي
كنت أتمنَّى بشدة أن أحضر محاضرتك، لكني كنت مصابًا بسعالٍ حاد، وأتينا إلى هنا لنرى ما إذا كان التغيير سيُفيدني، وقد أفادني بالفعل. يا للنجاح الرائع الذي يبدو أن محاضرتك قد حقَّقته، حسبما أستنتجُ من التقارير الواردة في صحيفتَي «ذا ستاندرد» و«ديلي نيوز»، ولا سيما الكلام الذي سَرَده لي ثلاثة من أبنائي! أظن أنك لم تُدوِّن محاضرتك كاملة؛ لذا يؤسفني أنه لا يمكن طباعتُها بالكامل. يبدو أنك تُكدِّس فوق رأسي العجوز أكوامًا عاليةً سميكةً من التشريفات، كدأبك في مناسباتٍ كثيرة جدًّا من قبل. لكني أعي جيدًا حجمَ الدور العظيم الذي أدَّيته في تأسيس الإيمان بنظرية الانحدار، ونشره، منذ ذلك المقال النقدي العظيم في صحيفة «ذا تايمز»، ومعركة الصامد الأخير في أكسفورد حتى يومنا هذا.
[في المحاضرة المذكورة أعلاه، طَرَح السيد هكسلي تراكمَ الأدلة الحفرية التي قدَّمتها لنا السنواتُ ما بين عامي ١٨٥٩ و١٨٨٠ باعتباره حجةً قوية تؤيِّد فكرة التطوُّر. وبخصوص هذا الموضوع، قال والدي في خطاب (بتاريخ ٣١ أغسطس ١٨٨٠):]
عزيزي البروفيسور مارش
[في نوفمبر من عام ١٨٨٠، تلقَّى خبرًا عن فيضان في البرازيل كان صديقه فريتز مولر قد نجا من الموت فيه بأعجوبة. فأرسل والدي على الفور خطابًا إلى هيرمان مولر، متسائلًا في قلقٍ عمَّا إذا كان أخوه قد فقد كتبًا أو معدات، أو ما شابه بسبب هذا الحادث، ومناشدًا إياه، إذا صحَّ ذلك، أن يُسمح له «من أجل العلم» بالإسهام في تعويض الخسارة «لكيلا يتضرَّر العلم». ولكن مِن حُسن الحظ أن الضرر الذي لحِق بمقتنيات فريتز مولر لم يكن جسيمًا قدرَ ما كان متوقعًا، وبقيت الحادثة مجرَّد تذكار للصداقة بين اثنَين من علماء التاريخ الطبيعي، وأنا متيقن من أن الناجي منها لا يسعَد بتذكُّرها إلا عند النظر إليها من هذا المنظور.
ظَهَر في دورية «نيتشر» (عدد ١١ نوفمبر ١٨٨٠) خطابٌ مُرسَل من والدي، وأعتقد أن هذه هي المرة الوحيدة التي كتب فيها علانيةً شيئًا يتسم بأي قدرٍ من الحِدة. فقد كتب الراحل السير وايفيل تومسون، في مقدِّمة كتاب «رحلة «تشالنجر» البحرية»: «طابع حيوانات قاع المحيط يرفض تقديم أيِّ دعم للنظرية التي تشير إلى أن الانتقاء الطبيعي هو العامل الوحيد الذي وجَّه تطوُّر الأنواع وصولًا إلى التباين المتطرِّف.» فوصف والدي هذه التعليقات بأنها «معيار انتقادي ليس من النادر أن يصل إليه علماء اللاهوت والميتافيزيقيون»، ثم واصل مُبديًا اعتراضه على مصطلح «التباين المتطرِّف»، وتحدَّى السير وايفيل أن يذكر له اسم أيِّ شخص «قال إن تطوُّر الأنواع يعتمد على الانتقاء الطبيعي وحده.» ويُختتَم الخطاب بمشهد تخيُّلي بين السير وايفيل وأحد المُربِّين، ينتقد فيه السير وايفيل فكرةَ الانتقاء الاصطناعي بطريقةٍ مشابهة. يظل المُربي صامتًا، لكن عندما يرحل منتقده، يُفترَض أنه يتحدَّث «بلهجة تأكيدية جازمة لكنها غير محترمة عن علماء التاريخ الطبيعي». ينتهي الخطاب، في نُسخته الأصلية، بكلماتٍ مقتبسة من سيجويك عن حصانةِ مَن يكتبون عمَّا لا يفهمونه، لكنها حُذفت بِناءً على نصيحةِ أحد الأصدقاء، والغريب جدًّا أن هذا الصديق كان يتسم بنزعةٍ قتالية في الدفاع عن القضايا الجيدة، ووالدي هو الذي كان يكبحها من حين إلى آخر.»
من تشارلز داروين إلى جي جيه
رومينز
داون، ١٦ أبريل ١٨٨١
عزيزي رومينز
أُرسِلَت مخطوطة كتابي «ديدان» إلى المطابع؛ لذا سأُسلِّي نفسي بكتابة بعض الخواطر السريعة إليك بخصوص بضع نقاط، لكن لا تهدِر وقتك في الرد إطلاقًا على هذه الثرثرة.
أولًا، استفدتُ جدًّا من خطابك عن الذكاء، وقد مزَّقتُ ما أرسلته إليك وأعدتُ كتابته من جديد. صحيح أنني لم أُحاول تعريفَ الذكاء، لكني اقتبستُ تعليقاتك عن الخبرة، وبيَّنت أنها تنطبق على الديدان إلى حدٍّ كبير. أرى أنه يجب القول إنها تمارس أنشطتها ببعض الذكاء، وهي ليست موجَّهةً بغريزة عمياء على أي حال.
وثالثًا، أرسلَ إليَّ الدكتور رو كتابًا نشره للتو: «صراع الأجزاء»، إلخ، ١٨٨١ (يشتمل على ٢٤٠ صفحة).
من الواضح أنه متخصِّصٌ واسعُ الاطلاع في علم وظائف الأعضاء وعلم الأمراض، وخبير جيد في التشريح، بِناءً على منصبه. الكتاب مليء بالتسويغ المنطقي، وهذا صعبٌ جدًّا عليَّ بالألمانية؛ لذا أكتفي بإلقاءِ نظرة سريعة على كل صفحة، مع قراءة بعض الفقرات المتفرِّقة هنا وهناك بمزيدٍ من الاهتمام. من وجهةِ نظري القاصرة، هو أهمُّ كتاب ظَهَر عن التطوُّر منذ فترة. أعتقد أن جي إتش لويس ألمَح إلى الفكرة الأساسية نفسها؛ ألَا وهي أن كل كائن حي يدور بداخله صراع بين الجُزيئات العضوية والخلايا والأعضاء. وأظن أنه يستند في ذلك إلى أن كلَّ خلية تؤدِّي وظيفتها على النحو الأفضل تحصل، بالتبعية، على أفضل تغذية، وتكون هي الأفضل في جَعْل نوعها يتكاثر. صحيح أن الكتاب لا يتطرَّق إلى ظواهرَ عقلية، لكنه يتضمَّن الكثيرَ من النقاش عن موضوعِ الأجزاء الأثرية أو الضامرة، الذي تولَّيتَ دراسته سابقًا. والآن، إذا كنت تود قراءة هذا الكتاب، فسأرسله … أمَّا إذا كنت قد قرأته بالفعل، وبُهرت به (لكني قد أكون مخطئًا «تمامًا» في رأيي بشأن قيمته)، فستُقدِّم خدمةً عامة إذا حلَّلته وانتقدته في دورية «نيتشر».
أظن أن الدكتور رو يرتكب هفوةً جسيمة بعدم تناوله للنباتات مطلقًا؛ إذ إنها ستُبسِّط له المسألة.
رابعًا، لا أدري ما إذا كنتَ ستناقش في كتابك عن عقل الحيوانات أيًّا من الغرائز الأشد تعقيدًا وإثارةً للدهشة. إنه عملٌ غير مُرضٍ؛ بسبب استحالة وجود غرائز متحفِّرة، والخيط الإرشادي الوحيد هو حالتها لدى أفرادٍ آخرين من المرتبة نفسها، و«الاحتمال» فقط.
بالرغم من ذلك، إذا ناقشت أيًّا منها (وربما يكون هذا متوقَّعًا منك)، فأظن أنك لا تستطيع اختيارَ حالةٍ أفضلَ من حالة زنابير الرمل، التي تشل فريستها، كما وصفها فابر سابقًا، في ورقته البحثية الرائعة في دورية «أنالز أوف ساينسز»، وكما عُرِضَت بعدئذٍ بمزيد من التفصيل والإسهاب في كتابه الرائع «تذكارات».
أخشى أن أُتعبك تعبًا شديدًا بثرثرتي وخط يدي السيئ.
ملحوظة سُفلية مُلحقة بخطابٍ إلى البروفيسور إيه أجاسي، بتاريخ ٥ مايو ١٨٨١:
قرأتُ ببالغ الاهتمام خطابَك الذي أُلقي أمام الجمعية الأمريكية. مهما كانت صحةُ تعليقاتك على سلاسل أنساب المجموعات المتعدِّدة، آمُل أن تكون مُبالغًا في تقديرِ شدةِ الصعوبات التي ستُواجَه في المستقبل، وأعتقد ذلك بالفعل، بعدما قرأت خطابك ببضعة أيام، فسَّرت لنفسي تعليقاتك على نقطةٍ مُعيَّنة (وآمُل أن يكون تفسيري صحيحًا بعضَ الشيء) بالطريقة التالية:
أيُّ سمة من سمات شكلٍ قديم أو عام أو وسيط قد تظهر من جديد في أحفاده بعد عددٍ لا يُحصى من الأجيال، وهذا ما يحدث غالبًا؛ ممَّا يشرح علاقاتِ القرابة المعقَّدة للغاية بين المجموعات الحالية. وأرى أن هذه الفكرةَ تُلقي بكمٍّ هائل من الضوء على الخطوط، التي أحيانًا ما تُستخدَم لتمثيل علاقات القرابة، والتي تتشعَّب في كل الاتجاهات، وصولًا في كثيرٍ من الأحيان إلى مجموعاتٍ فرعية متباعدة جدًّا، وتلك مشكلة مستعصية تستحوذ على تفكيري منذ قرن من الزمان. ربما يُمكن، بعد فترات زمنية هائلة، إقامةُ حجة قوية تؤيد تصديق حدوث ارتداد كهذا. ليت هذه الفكرة قد وردت على ذهني في الماضي؛ لأنني لن أكتب مُجدَّدًا أبدًا في موضوعات شائكة؛ وذلك لأنني شهدتُ حالاتٍ كثيرةً جدًّا قد أُصيب فيها رجالٌ مسنون بوهنٍ في عقولهم، دون أن يشعروا بذلك إطلاقًا. إذا كان تفسيري لأفكارك صحيحًا على الإطلاق، فأرجو منك أن تُعيد عَرض حجتك مرةً أخرى، وقتما تجد فرصةً مناسبة. لقد ذكرت ذلك لبضعة أشخاص من أصحاب الحُكم السديد، وبدا جديدًا تمامًا عليهم. أستميحك عذرًا على ثرثرة المُسنين المعروفة.
[يشير الخطاب التالي إلى الخُطبة المتعلِّقة بالجغرافيا التي ألقاها السير جيه دي هوكر في اجتماع الجمعية البريطانية في يورك (عام ١٨٨١):]
من تشارلز داروين إلى جيه دي
هوكر
داون، ٦ أغسطس ١٨٨١
عزيزي هوكر
من أجل الرب لا تقُل أبدًا إنك تصيبني بالملل؛ لأنني سأسعد للغاية بتقديمِ أدنى مساعدة لك، وقد أثار خطابك بالغَ اهتمامي. سأتناول نقاطك تباعًا، لكني لم أهتم كثيرًا قط بتاريخ أيِّ موضوع، وصارت ذاكرتي ضعيفةً للغاية. لذا إذا وجدتَ أيًّا من تعليقاتي مفيدًا، فستكون هذه محض مصادفة.
أرى أن فكرتك، المتمثِّلة في توضيحِ ما فعله المسافرون، ذكية وسديدة، لا سيما بالنظر إلى جمهورك.
-
(١)
لا أعرف شيئًا عن أعمال تورنفور.
-
(٢)
أعتقد أنك مُحق تمامًا في وصفِ هومبولت بأنه أعظمُ رحَّالة علمي عاش على الإطلاق؛ فقد أعدتُ مُؤخَّرًا قراءة مجلَّدَين أو ثلاثة. صحيح أن المحتوى الجيولوجي الذي يعرضه هُراء مُضحك، لكنَّ هذا لا يعني سوى أنه لم يكن سابقًا عصره. يُمكنني القول إنه كان رائعًا، ولا يعود ذلك إلى أصالة أفكاره بقدرِ ما هو يعود إلى اقترابه الشديد من بلوغ المعرفة بكلِّ شيء. وسواءٌ أكانت مكانته العلمية بارزةً كما نظن أم لا، يُمكنك القول بكل صدقٍ إنه أبو ذرية عظيمة من العلماء الرحَّالة، الذين قدَّموا، مجتمعين، الكثيرَ للعلم.
-
(٣)
أرى أنه من المُنصف تمامًا إعطاءُ لايل (ومن ثَمَّ فوربس) مكانةً بارزة جدًّا.
-
(٤)
أعتقد أن دانا كان أولَ مَن ادَّعى ثبات القارات والمحيطات الكبرى … عندما قرأت استنتاج بعثة «تشالنجر» أن الرواسب المترسِّبة من الأرض لا تترسَّب على بُعدٍ يتجاوز ٢٠٠ إلى ٣٠٠ ميل من الأرض، ازدادت قناعتي القديمة رسوخًا. أرى أن والاس حاجج عن القضيةِ على نحوٍ ممتاز. ومع ذلك، لو كنتُ مكانك لتحدَّثتُ بشيءٍ من الحذر؛ لأن تي ميلارد ريد عارضَ هذا الرأي بحججٍ قوية بعض الشيء، لكني لا أستطيع تذكُّر حججه. إذا كنتُ مضطرًّا إلى الإدلاء بحُكم، فسأتمسَّك بالرأي القائل بوجود ثبات تقريبي منذ العصر الكمبري.
-
(٥)
الأهميةُ القصوى لحفريات نباتات القطب الشمالي بديهية. اغتنم فرصةَ التأوُّه تحسُّرًا على جهل [نا] بنباتات طبقات الليجنيت في جزر كيرجلن، أو أي منطقة قطبية جنوبية أخرى. قد يُجدي هذا نفعًا.
-
(٦)
لا أستطيع تجنُّبَ الشعورِ بالتشكُّك حيال مسألة أن النباتات سافرت من الشمال «إلا في أثناء العصر الجيولوجي الثالث». ربما يكون ذلك صحيحًا بالطبع، بل الأرجح أنها كانت تسافر بالفعل من أحدِ القطبَين في أقدم عصر، خلال عصورِ ما قبل العصر الكمبري، لكني لا أرى هذه التكهُّنات علميةً إطلاقًا، بالنظر إلى مدى ضآلةِ ما نعرفه عن النباتات القديمة.
سأُدوِّن الآن بضعةَ تعليقات متنوِّعة بسرعة دون أي ترتيب.
أرى أنك ينبغي أن تشير إلى كتاب ألفونس دي كوندول العظيم؛ لأنني، وإن كان محتوى الكتاب قد تلاشى من ذهني (ككل شيء آخر تقريبًا)، ما زلت أتذكَّر بوضوح شديد أنني كنت أراه عملًا قيِّمًا جدًّا. على أي حال، ينبغي أن تُشير إلى تقريره الممتاز عن تاريخ كل النباتات المزروعة.
كيف ستتمكَّن من الإشارةِ إلى عملك عن نيوزيلاندا وتييرا ديل فويجو؟ إذا لم تُشِر إليهما، فسيكون ذلك ظُلمًا شائنًا منك.
أرى أن كثرةَ النباتات الكاسيات البذور في الطبقات الطباشيرية بالولايات المتحدة (أعتقد أن عُمر هذه الطبقات مُحدَّد بدرجةٍ جيدة جدًّا من الوضوح) حقيقةٌ مهمة للغاية، وكذلك علاقتها بالنباتات الحالية الموجودة في الولايات المتحدة من وجهةِ نظر فكرة التطوُّر. ألم يُعثَر مؤخَّرًا على بعض الأشكال الأسترالية المنقرضة في أستراليا؟ أم أنني حلَمت بذلك؟
أُؤكِّد مُجدَّدًا أن الاكتشافَ الذي عُثِر فيه مؤخَّرًا على نباتات عند عُمقٍ منخفض بعضَ الشيء في طبقاتنا السيلورية مهمٌّ جدًّا.
أرى أنه لا شيءَ أكثر استثنائيةً في تاريخ المملكة النباتية من تطوُّر النباتات الأعلى مرتبةً الذي «يبدو» مفاجئًا أو سريعًا جدًّا. أحيانًا ما كنت أتكهَّن وأقول لنفسي ألم تكن توجد قارةٌ ما معزولة للغاية في مكانٍ ما على مرِّ عصورٍ طويلة، ربما بالقرب من القطب الجنوبي.
لهذا أثار بالغَ اهتمامي رأيٌ عَرَضه عليَّ سابورتا بالتفصيل، منذ بضع سنوات، في مخطوطة، وأتصوَّر أنه نشره بعدئذٍ، مثلما حثثته؛ وكان مفادُ هذا الرأي أنه حالما تطوَّرت الحشرات التي ترتاد الزهور، إبَّان الجزء الثاني من الحِقبة الجيولوجية الثانية، شهِد تطوُّر النباتات الأعلى مرتبةً زيادةً ضخمة بفضل تشكُّل التلقيح المتبادل فجأةً بهذه الطريقة.
بُهرت جدًّا منذ بضع سنوات بمقالة لأكسل بليت يُبيِّن فيها، استنادًا إلى عمليات الرصد والملاحظة، على الطبقات التي تحوي نبات الخث في شبه الجزيرة الاسكندنافية، أن الماضي شهد وجود فتراتٍ طويلة أغزَر أمطارًا وأخرى أقل أمطارًا (ربما يكون ذلك مرتبطًا بالفترات الفلكية الدورية التي اقترحها كرول)، وأن هذه الفترات أسهمت إسهامًا كبيرًا في تحديدِ التوزيع الحالي لنباتات النرويج والسويد. لقد بدا لي أن هذه المقالة مهمة للغاية.
انتهيت للتو من مراجعة تعليقاتي، وأخشى ألَّا تفيدك إطلاقًا.
لا يسعني إلا أن أرى أنك قد اجتزت الجزءَ الأصعب من عملك، أو الجزء الأشد مشقةً على الأقل، بإعدادك مُلخَّصًا جيدًا وباهرًا لِمَا تعتزم قوله، لكني أستطيع أن أتفهَّم تمامًا كيف تتأوَّه بالتأكيد من الجهد المُضني الضروري الهائل.
أُشاطرك السعادة البالغة من صميم قلبي بنجاح ابنَيك بي وآر؛ فمع مرور السنين، يُصبح ما يحدث للمرء نفسه ذا أهمية ضئيلة جدًّا، مقارنةً بما يُحقِّقه أبناؤه.
ابقَ متفائلًا؛ لأنني مقتنعٌ بأنك ستُلقي خُطبةً ممتازة.
[«في سبتمبر، أرسل خطابًا قال فيه:
أتممت للتو قراءة خطبتك وهي رائعة جدًّا، لكنها أقصر ممَّا ينبغي. لا أشكَّ مثقال ذرة في أنها ستحظى بتقدير تام من علماء الجغرافيا في يورك، وإلا فهم حمقى وبلهاء.»]
من تشارلز داروين إلى جون لوبوك
مساء الأحد [١٨٨١]
عزيزي
لوبوك
من خطاب إلى فريتز مولر، بتاريخ ٥ يناير ١٨٨٢:
«غمرني تقديرك لكتاب بَلفور [«عِلم الأجنة المُقارَن»] بسعادة بالغة؛ لأنني، وإن لم أستطِع أن أحكم عليه حكمًا سليمًا، أراه واحدًا من أجدرِ الكتب التي نُشرت منذ فترةٍ طويلة بالاهتمام. ما زال شابًّا جدًّا، وإذا حافظ على صحته، فسيُنجز عملًا رائعًا … لديه ثروةٌ كبيرة بعض الشيء مِلكه شخصيًّا؛ لذا يستطيع أن يُكرِّس وقته كله لعلم الأحياء. إنه متواضع جدًّا وودود جدًّا، وكثيرًا ما يزورنا هنا، ونحبه كثيرًا.»
من خطابٍ إلى الدكتور دورن، ١٣ فبراير ١٨٨٢:
«عندي خبرٌ سيئ جدًّا أريد إخبارك به، وهو أن إف بَلفور مريضٌ جدًّا في كامبريدج بحُمَّى التيفود … آمُل ألَّا تكون حالته خطرةً جدًّا، لكن الحمى شديدة. يا رباه، ما أشدَّ الخسارة التي سيتكبَّدها العلم وأصدقاؤه المحبون الكثيرون بفُقدانه!»]
من تشارلز داروين إلى تي إتش
هكسلي
داون، ١٢ يناير ١٨٨٢
عزيزي هكسلي
[يشير الخطاب التالي إلى ترجمة الدكتور أوجل لكتاب أرسطو «عن أعضاء الحيوانات» (١٨٨٢):]
من تشارلز داروين إلى دبليو أوجل
داون، ٢٢ فبراير ١٨٨٢
عزيزي
أوجل
اسمح لي بأن أشكرك على البهجة التي منحني إياها تقديمُك لكتاب أرسطو. نادرًا ما قرأت أيَّ شيء أكثرَ إثارةً لاهتمامي، مع أنني لم أقرأ منه قراءةً تامة وافية إلا رُبعه.
بِناءً على الاقتباسات التي رأيتُها من قبل، كنت أُكنُّ تقديرًا كبيرًا لجدارة أرسطو، لكني لم أتخيَّل إطلاقًا كم هو رجل رائع. صحيح أن لينيوس وكوفييه هما إلهَيَّ، وإن كانا كذلك بطرقٍ مختلفة، لكنهما تلميذان فحسب بالنسبة إلى أرسطو القديم. ما أغربَ جهله أيضًا ببعض النقاط، مثل تلك المتعلِّقة بالعضلات بصفتها وسيلةَ الحركة. أنا سعيد لأنك شرحت، بطريقةٍ وافية جدًّا، بعضًا من أفدحِ الأخطاء المنسوبة إليه. لم أكن أدرك قَط، قبل قراءة كتابك، مقدارَ الحصيلة الهائلة من المجهودات الشاقة التي نَدين لها بأبسطِ ما نعرفه حتى. ليتَ أرسطو القديم يعرف أنه قد وجد فيك مُدافعًا مستميتًا عن الدِّين.
وفي أبريل تلقَّى خطابًا من الدكتور دبليو فان دايك، المُحاضر المتخصِّص في علم الحيوان في كلية بيروت البروتستانتية. وأظهر الخطاب أن كلاب شوارع بيروت سرعان ما هُجِّنت بالكلاب الأوروبية المُستقدَمة، ولهذه الفئة من الحقائق علاقةٌ شائقة بنظرية الانتقاء الجنسي التي وضعها والدي.]
من تشارلز داروين إلى دبليو تي فان
دايك
داون، ٣ أبريل ١٨٨٢
سيدي العزيز
بعد الكثير من التفكير المتروي، ارتأيت أنه من الأفضل إرسالُ ورقتك البحثية الشائقة جدًّا إلى جمعية علم الحيوان، على أملِ أن تُنشَر في مجلتهم. فهذه المجلة تذهب إلى كل مؤسَّسة علمية في العالم، وتُلخَّص محتوياتها في كل الحوليات المتعلِّقة بعلم الحيوان. لذا أُفضِّلها على دورية «نيتشر»، مع أن هذه الأخيرةَ أكثرُ رواجًا، لكن تأثيرها سريعُ الزوال.
كتبتُ بضعة تعليقات عامة في مُستهلِّ مقالتك، وآمُل ألَّا تعترض عليها.
بالطبع لستُ متيقنًا من أن جمعية علم الحيوان، المولعة جدًّا بالعمل المنهجي فقط، ستنشر مقالتك. إذا نشرَتها، سأُرسل إليك نسخًا من مقالتك، لكن هذه النسخ لن تكون جاهزةً قبل بضعة أشهر. أمَّا إذا لم تنشرها جمعية علم الحيوان، فسأحاول جاهدًا أن أجعل دورية «نيتشر» تنشرها. فأنا حريص جدًّا على أن تُنشَر وتُحفَظ.
[قُرئت الورقة البحثية في اجتماعٍ لجمعية علم الحيوان في ١٨ أبريل — أي قبل وفاة والدي بيوم.
وبذلك فإن التعليقات الافتتاحية التي كُتِبت في مُستهل ورقة الدكتور فان دايك البحثية هي آخرُ ما كتبه والدي.]
يجب الآن أن نعود إلى فترةٍ مبكِّرة من حياته، ونُقدِّم سردًا متصلًا لعمله المتعلِّق بعلم النبات، الذي لم يُذكَر إلى الآن.