كتابة السحر
تمثل قوة الكلمة أحد الحدود المتنازع عليها بين السحر والدين. وقد أوردت معظم النصوص المقدسة الموجودة في العالم ذكر السحر؛ فقد أشار القرآن إلى «السحر» ما يقرب من ستين مرة في سياقات — وفقًا لأحد الكتيبات الإرشادية الإسلامية المصرية — «تتراوح من الغريب والشاذ إلى جذب الانتباه وإحداث الذهول». وهناك ٤٨ إشارة إلى التمائم حُددت في التلمود البابلي، الذي يشكِّل إحدى مجموعتَي القوانين والأعراف اليهودية القديمة. ويحوي العهدان القديم والجديد إشارات عديدة إلى ممارسات سحرية، أثارت تفسيراتها جدلًا في الديانة اليهودية ومنذ بدايات الديانة المسيحية. وفي هذه الأديان، يعتمد السند اعتمادًا كليًّا على الكلمة المكتوبة، أي السجل المدون لأحاديث الأنبياء وتابعيهم. وحيازة هذه الأقوال وتجميعها يعد شكلًا من أشكال العبادة في حد ذاته. لكن خلال معظم تاريخ هذه الديانات، قلة من الأشخاص فقط هم من امتلكوا نسخًا من النصوص المقدسة، ناهيك عن العلم الذي يؤهلهم لقراءتها؛ ومن ثَمَّ كان الوصول لهذه النسخ محدودًا، وذلك عن عمد في أغلب الأحيان؛ فقد كان يُعتقد أن النصوص المقدسة في «الأيدي الخطأ» يمكن أن تتعرض لسوء التأويل والترجمة، ويمكن أن تُستخدم لمساندة السحر والسَّحَرة، ويمكن أيضًا أن تُستخدم لعمل السحر.
استخدام النصوص الدينية
متى تتحول تلاوة الآيات القرآنية من عبادة مباحة إلى «شرك» أو «سحر»؟ وكيف يمكن الحيلولة دون استخدام القرآن بطرق سحرية؟ هذا هو الاتهام الذي توجهه الحركة الوهابية للصوفية بفعله من خلال تكرارهم تلاوة آيات من القرآن. وقد جرى إنتاج العديد من الإرشادات التي تهدي عامة الناس لكيفية الاستخدام «الصحيح» للقرآن في درء الجن والاستشفاء والحماية. وكتاب الشيخ وحيد بن عبد السلام بالي «الصارم البتار في التصدي للسَّحَرة الأشرار» أحد هذه الإرشادات المعاصرة الذي انتشر من خلال العديد من الإصدارات عبر العالم العربي، ونُشر أيضًا في طبعات فرنسية وإنجليزية زهيدة الثمن بهدف نشر تعاليمه على نطاق أوسع. وبالي عالم دين يعتنق المذهب الوهابي، وضع مؤلفات متعددة تتعلق بمكافحة السحر والجن. ويقدم كتابه «الصارم البتار» النصح بشأن التعامل مع العين الحاسدة، فضلًا عن المشكلات الجنسية والجنون والمرض والكوابيس الناجمة عن السحر. وبالي مقتنع تمامًا بأن السحر قائم على الفعل الشيطاني، ويريد أن يبرهن على أن السحر لا سبيل لمكافحته إلا من خلال القرآن، وليس من خلال اللجوء للسحر المضاد أو للسَّحَرة. ويقول إن من المقبول بوجه عام أن يعاقَب ممارسو السحر بالموت. وهناك نوعان من «النُّشرة»، أي علاج الفرد المصاب بالسحر؛ فعلاج السحر بالسحر من خلال الاستعانة بالجن مثلًا من عمل الشيطان، أما علاج السحر بالقرآن فهو مباح.
ويمكن أن يُستخدم القرآن أيضًا لأغراض سحرية أخرى بخلاف العلاج والوقاية؛ إذ يتطلب اكتشاف الكنز المدفون مثلًا كتابة الآية التاسعة من السورة الثالثة من سور القرآن، وكل آيات السورة الخامسة والتسعين، على ورقة تُعلق في رقبة ديك أبيض صغير مزدوج العرف، ثم يطلق الديك، فإذا وقف عند موضع معين ثم مات في اليوم التالي، فهذا يعني أن الكنز مدفون في ذلك الموضع.
دعني أمضِ أيها الشر؛ رحمتك بنا أيها القوي! لا تمسني أيها الشر بأذًى، في عالم السعادة!
وإذا لم ترحل عنا أيها الشر، فسنرحل عنك في مفترق الطريق. عسى أن يتعقب الشر (إنسانًا) آخر!
عسى أن يبعد عنا (الشر) الخالد ذو الألف عين! عسى أن يصيب بأذاه من نكره، فإنك بالتأكيد تضرب بسحرك من نكره!
لكن كتاب «آثارفافيدا» لا يتمتع بأهمية محورية بالنسبة للنصوص الفيدية، على عكس وضع الكتاب المقدس المسيحي أو القرآن الإسلامي؛ ومن ثَمَّ يمكن رفضه أو حتى تجاهله دون أن يعنيَ ذلك بالضرورة التقويض من أهمية كتب «الفيدا» الثلاثة الأخرى. ويعتبر أولئك الذين يشنون حملات لإضفاء طابع عقلاني على العقيدة الهندوسية «آثارفافيدا» مصدرًا خبيثًا للسحر. ويوضح أحد الكتب الحديثة عن تاريخ الهند الثقافي: «إن آثارفافيدا يحوي عقيدة سحرية تحل — باعتمادها الأحمق على السحر والشعوذة — محل العقيدة الفيدية النقية.»
وتجدر في هذا الصدد الإشارة أيضًا إلى نصوص «داراني سوترا» البوذية، التي أُلِّفت في الصين في العصور الوسطى في القرنين الرابع والخامس الميلاديين. وعلى غرار «آثارفافيدا»، لطالما كانت كتب التعاويذ هذه محل شك بالنسبة للنصوص البوذية التقليدية. من هذه الكتب مثلًا «كوان تينج تشينج» أو «كتاب التكريس» الذي يحوي اثنتي عشرة «سوترا» — أي وصفة سحرية — تحت عناوين مثل: «تعاويذ اﻟ ٧٢ ألفًا من ملوك الأرواح» و«تعاويذ وقائية من ملوك الأرواح ذات المائة عقدة»، وتُستخدم هذه التعاويذ في قراءة الطالع وطرد الجان المسبب للأمراض، وحماية المقابر والمنازل، ولعمل الأعمال السحرية أيضًا. وقد جاء في هذا الكتاب أن أناسًا دعَوْا آلهة القمر والشمس والجبال وشياطين الأشجار إلى «عقد ميثاق معهم من أجل تحقيق جميع أنواع الأسحار؛ فاستخدموا أسماء الأشخاص، وصنعوا دمًى تمثلهم، وصاغوا الأحجبة والتعاويذ التي تهدف إلى مسهم بالسحر.» بل وقد كان من المعتقد أن النص نفسه له قوًى وقائية طبيعية.
هذه هي الصلاة الحادية والعشرون (التي) تلتها مريم العذراء (في) يوم أن راحت في النوم. إنها تخمد كل قوى العدو، وتلعن كل مرض وكل علة، بسلام، آمين.
ويمكن العثور على أمثلة كثيرة تعود للقرون الميلادية الأولى في مقاطع من التوراة/العهد القديم تُتلى للاستشفاء أو لأغراض وقائية؛ فالمزمور الحادي والتسعون — على سبيل المثال — لطالما كان يُستخدم للاستعاذة من الشيطان، وتحوي مخطوطة تعود للقرن الرابع عشر، «سفر الجيماتريا»، قائمة طويلة من الاستخدامات السحرية لآيات من الكتاب المقدس؛ فهي توصي للحماية في الليل بقراءة الآية ٤٩ : ١٨ من سفر التكوين، وقراءة الآية ١٩ : ١١ من السفر نفسه للتحوُّل إلى حالة غير مرئية. وكذلك هي الحال بالنسبة للقرآن؛ حيث تنتشر أدلة تتعلق بما تحويه هذه الكلمات المقدسة من قوة خفية. ولعل أحد أكثر النصوص اليهودية شعبية وعراقة هو سفر «شيموش طحيلم»، الذي ربما يعود إلى أواخر الألفية الأولى. يقدم هذا السفر تعليمات بشأن القوة الفاعلة للمزامير، ويدَّعي أن «التوراة كلها مؤلفة من أسماء الرب؛ وبالتالي، من شأنها خلاص الإنسان ووقايته.»
كان الكتاب المقدس المسيحي أيضًا ذا قوة في شكله المادي؛ ففي أوروبا، يمكن أن نرى ذلك في الاحتفاظ به تحت الوسائد طلبًا للحماية ليلًا، أو تناول صفحات منه لعلاج الأمراض، علاوةً على استخدامه في مختلِف طقوس التنبؤ. وقد كان الدور الذي لعبته الأساطير والأبوكريفا المسيحية في توليد السحر دورًا رئيسيًّا يفوق أهمية الأساطير في أيٍّ من الأديان الأخرى التي تقوم على كتب مقدسة؛ فقد شكلت الأبوكريفا — وهي نصوص وقصص مسيحية لا تحظى باعتراف الكنائس لكنها تَعرض بالتفصيل حياة شخصيات الكتاب المقدس وأقوالهم — أساسًا للتعاويذ الواقية التي انتشرت على نطاق واسع في جميع أنحاء أوروبا بدءًا من العصور الوسطى وحتى القرن العشرين. وتتضمن — على سبيل المثال — أقوال الحكماء الثلاثة — الذين تسميهم المسيحية الغربية: كاسبار وملكيور وبالتازار — الذين يرد ذكرهم في الأبوكريفا لا في الكتاب المقدس. غالبًا ما يرد ذكر أسماء هؤلاء الحكماء في كتابات التعاويذ والرُّقى، وفي بوهيميا كان الناس يكتبون الحروف الأولى من أسمائهم بالطباشير على الأبواب طلبًا للحماية. ولعل أكثر الأمثلة المثيرة على السحر الأبوكريفي يتمثل في الرسائل السماوية أو المقدسة التي يُزعم أنها من يسوع إلى الملك أبجر الخامس (الذي تُوفِّي عام ٥٠م) ملك الرها الواقعة جنوب تركيا. ويعود تاريخ هذه الرسائل للقرن الرابع الميلادي، ولكنها ظلت بعد مرور ألف وخمسمائة عام تُلصق فوق جدران أكواخ العمال الإنجليز وتُحفظ في جيوب الجنود في خنادق الحرب العالمية الأولى طلبًا للحماية.
التمائم والأحجبة
مردوخ يا أحكم الآلهة، إيرا يا أشد الآلهة بأسًا، إيزوم يا من بيده الطرقات، أيتها الآلهة السبعة، أيها الأبطال الذين لا يُضاهون، رحمتكم بي، أنا (اسم الشخص) ابن (إلهه الخاص)، عبدكم الخاضع، من هذا الوباء، في هذه الكارثة، هذه البلية، من غضب إيرا، من طاعون … إيرا الجبار، ولسوف أتغنى بتسبيحكم وحمدكم لأبناء البشرية طوال الوقت في المستقبل.
وقد سُجلت من الحضارات القديمة لمصر واليونان وروما أمثلة مماثلة من التمائم الأدبية على ورق البردي والأواني والصلصال والرصاص والجلد والأحجار.
لم تكن فعالية التمائم تتوقف فقط على القوة المقدسة للكلمات، وإنما على الأسطح التي كانت تُكتب عليها أيضًا؛ فقد كانت الآيات القرآنية تُكتب على ورق البرشمان، فضلًا عن الفضة والنحاس والحديد والحجارة والموسلين الأبيض وعظام الإبل والخبز غير المخمر وأكتاف الأغنام. وكان لنوع أداة الكتابة المستخدمة أهمية سحرية أيضًا؛ فقد كانت هناك خواص مميزة لسوائل مثل: عصير النعناع والعسل والزعفران والمسك وماء الورد. وكان القرآن — ولا يزال — يُستخدم كأحجبة في حد ذاته، شأنه في ذلك شأن الكتاب المقدس؛ إذ كان يوضع تحت الوسادة ليدرأ شر أذى السَّحَرة عن النساء أثناء المخاض، وكانت تُحفظ طبعات بالغة الصغر منه في صندوق ذهبي أو فضي يُعلق حول الرقبة طلبًا للحماية. واليوم، يمكن العثور على طبعات بالغة الصغر من القرآن موضوعة فوق لوحات عدادات السيارات أو نوافذها الخلفية للحماية من الحوادث.
على من يريد النصر في الحرب أن يكتب ما يلي ثم يغسله في وعاء، وينبغي وضع بعض الذهب والفضة فيه، ثم يُغسل الجسم به بعد ذلك. اكتب آية الكرسي اثني عشر ألف مرة، واكتب أيضًا سورة الكوثر ثلاثمائة مرة، وافعل كل هذا في سرية دون أن يطَّلع الناس على نواياك.
لا شك أن كميات كبيرة من الذهب جرى تبادلها بين شعب «الأشانتي» وبائعي التمائم القرآنية، التي كانت تشكل مكملًا لرصيد السكان الأصليين من الممارسات السحرية وليست بديلًا عنه.
والآن، تشكل نيجيريا — التي يعيش فيها عدد كبير من السكان المسلمين والمسيحيين — مثالًا جيدًا على كيفية استخدام القرآن والكتاب المقدس للأغراض السحرية نفسها؛ ففي ثلاثينيات القرن العشرين، حدث أن صادف أحد زوار سوق بلدة «مايدوجوري» الواقعة شمال نيجيريا بائع تمائم كان يبيع مقاطع من القرآن مكتوبة على قطع من الورق، ومحفوظة في أكياس جلدية كي يرتديَها المرء للحماية من العقارب أو الثعابين، أو رمح أي عدو. وهناك دراسة استقصائية حديثة عن مداواة الماشية في المناطق الشمالية من نيجيريا تُظهر أن ٣٥٪ من الرعاة الذين طُرحت عليهم أسئلة الاستقصاء أفادوا بأنهم يستخدمون القرآن للحماية، إما بقراءة آيات منه على حيواناتهم أو بتعليق آيات مكتوبة منه عليها. وإذا انتقلنا إلى الجنوب، فسنرى أن دراسة أجريت في مطلع ثمانينيات القرن العشرين على سكان قبيلة «إبيبيو» التي تعيش في جنوب نيجيريا أظهرت كيف عزز التبشير الغربي المسيحي استخدام الكتاب المقدس في التمائم والأحجبة. وقد نشرت مجلة «فيث» الشهرية التي تصدرها منظمة «زمالة دراسة الحياة» الأمريكية — وهي منظمة تأسست عام ١٩٣٩ ومقرها ولاية كونيتيكت — قوائم بمقاطع الكتاب المقدس الفعالة التي يستخدمها أفراد قبيلة «إبيبيو» للحماية من السحر، عن طريق كتابتها على ورق البرشمان المصنع من جلود حيوانات مقدسة. وقد جرى شراء تمائم مماثلة ذات أصول من الكتاب المقدس أو شبه عبرية من شركة شيكاجو لبيع المؤن السحرية بالبريد، التي أسسها في أوائل القرن العشرين رجل الأعمال المتخصص في مجال الغيبيات ويليام لوران دلورانس. وقد كان لهذه الشركة وكلاء في عدة بلدات في غرب نيجيريا.
ولعل تمائم الباب «المزوزا» هي أشهر التمائم اليهودية وأكثرها استخدامًا. بالطبع، ليس الغرض منها أن تُستخدَم أو تُفسَّر على أنها سحر وقائي. وهي تتألف من علبة من الخشب أو المعدن أو السيراميك، محفوظة بداخلها لفافة من ورق البرشمان تحوي مقطعين من سفر التثنية على أحد وجهيها، وعلى الوجه الآخر كلمة «شدَّاي» (أحد أسماء الرب، ومعناه القدير)، وتُعلق على عِضادة باب المدخل الرئيسي للمنزل (كلمة «مزوزا» تعني بالأساس: عِضادة الباب). من وجهة النظر اللاهوتية، يمثل هذا عملًا من أعمال الوحدة المجتمعية، ويساعد على تذكير اليهود بالتزاماتهم في كل مرة يغادرون فيها منازلهم أو يدخلونها. أما في الممارسة العملية، فقد استخدمها عدد كبير من اليهود — بما فيهم بعض حاخامات العصور الوسطى — على أنها تميمة واقية تدرأ الأرواح الشريرة والأشخاص غير المرغوب فيهم بعيدًا عن المنزل. وفي بعض الأحيان، كانت تضاف علامات غامضة وأسماء ملائكة إلى المزوزا بغرض تعزيز خواصها السحرية. وهناك أدلة تشير إلى أن هناك مسيحيين كانوا يلتمسون اقتناء «المزوزا»، خلال فترة القرون الوسطى وبداية العصر الحديث، باعتبارها تمائم قوية.
كما كان البعض يحملون أجزاءً من التوراة ومن المزامير بغرض درء الأمراض. وتحظر «الهالاكا» (أي القوانين اليهودية) استخدام كلمات من التوراة لمداواة المرضى، إلا إذا كان استخدامها سينقذ حياة، لكنها تسمح باستخدامها بغرض «منع» المرض والشر. لكن الحاخامات أجازوا استخدام الأحرف الأولى من كلمات وعبارات من التوراة في مداواة المرضى؛ أدَّى هذا إلى ظهور استخدام التمائم التي تحمل اختصارات من الحروف الأولى لكلمات عبرية مقدسة. أحد الأمثلة القوية على ذلك «إيبكا يازي باماي» من المزمور ٦٩، ٧. في مطلع تسعينيات القرن العشرين، أفاد طبيب إسرائيلي بأن عددًا من مرضاه كانوا يرتدون مثل هذه التمائم التي يصنعها بائعو تمائم محترفون.
كان يُعتقد أيضًا أن الكلمات المكتوبة في شكل مربعات، والكلمات المتناظرة التي تُقرأ طردًا وعكسًا، وأشكال الجناس التصحيفي التي يكون قوامها كلمات مقدسة مثل «باتر نوستر» (أبانا الذي في السموات) لها فعالية هي الأخرى. وكانت زيادة الكلمة أو إنقاصها مظهرًا قديمًا وشائعًا من الأحجبة التي عُثر عليها في العديد من الثقافات السحرية ولم تكن تعتمد على نصوص مقدسة. أشهر الأمثلة على ذلك هو التعويذة القائمة على إنقاص كلمة «أبراكادابرا»، التي عادةً ما تُخط في شكلٍ مثلثي ينتهي بالحرف «أ».
كان الرومان يستخدمون هذه التعويذة في تميمة، وكان الناس يحملونها على قصاصات من الورق إبَّان فترة اجتياح الطاعون مدينة لندن عام ١٦٦٥، ثم ظلت تُستخدم في السحر الشعبي الأوروبي في القرن العشرين، قبل أن تخسر قوتها لتتحول إلى كلمة عادية تُستخدم على سبيل الفكاهة والمزاح.
لكن أصل الكلمة لا يزال غامضًا، مع أن هناك اقتراحًا يذهب إلى أنها مشتقة من العبارة العبرية «ها براكا دابارا» (اسم المبارك). وقد صيغ على مرِّ القرون عدد كبير من الطلاسم الأخرى التي يجري فيها إنقاص الحروف تدريجيًّا؛ فقد حوت بعض كتب السحر الدنماركية في القرن التاسع عشر مثلثًا متناقصًا من الكلمة الغامضة «كاليماريس». واليوم، يستخدم أتباع الحاخام الأوكراني الغامض ناشمان (١٧٧٢–١٨١٠) — الذي صار ضريحه في مدينة أومان بأوكرانيا وجهة حج تحظى بشعبية كبيرة — تمائم واقية تعتمد على اسمه (كلمة «نا» تعني يسافر) وعلى مكان مرقده. وتكون التعويذة على النحو التالي: «نا» ثم «ناش»، ثم «ناشما»، ثم «ناشمان»، ثم «مي-أومان». ويمكن رؤية هذه الصيغة تزين سيارات ومبانيَ في إسرائيل لضمان السلامة وحسن الطالع بوجه عام.
وهذا يقودنا إلى السحر الحرفي؛ إذ يُعتقد أن ثَمَّةَ حروفًا عبرية أو عربية بعينها مشبعة بالطاقة أو أنها تجذب الطاقة. وفي العبادة الرسمية، تُدرس التوراة وتُقرأ بالعبرية، وكذلك يُدرس القرآن ويقرأ باللغة العربية؛ وبالتالي، فإنهما لغتان مقدستان. وتزداد قوة هذا المفهوم لدى المسلمين الذين لا تكون اللغة العربية لغتهم الأم، ولا يتفاعلون معها إلا من خلال القرآن؛ ومن ثَمَّ، من غير المستغرب أن يُعتقد أن الحروف تحظى بخصائص سحرية. وقد تناول العالِم العربي المسلم ابن خلدون — الذي عاش في القرن الرابع عشر — موضوع السحر الحرفي، الذي كان مرتبطًا ارتباطًا خاصًّا بالصوفية، باعتباره شكلًا من أشكال السحر الطبيعي، أو «السيمياء». إن لكل حرف من الأحرف الثمانية والعشرين قوة روحية «تشمل الأسرار الموجودة في العالم.» وكل حرف منها كان يُنسب إلى واحد من العناصر الأربعة؛ ومن ثم، كانت الحروف المنسوبة إلى الماء تُستخدم في علاج الحمى. واليوم، يستخدم المرابطون الأفارقة الحروف العربية في تعاويذهم، فيخلطونها بعلامات السحر، ويكتبونها معكوسة أو مقلوبة.
تُشتهَر قوة الحرف في «الكابالا» اليهودية بشكل أكبر في التراث السحري الغربي، بعد أن خضعت للتطوير على يد علماء اليهود في إسبانيا وجنوب فرنسا في العصور الوسطى. وكانت تقاليد «الكابالا» في القرون الوسطى — التي كانت تعتمد على مفاهيم باطنية بارزة في العقيدة اليهودية قبل ذلك بألف عام — مستوحاة من نص يُزعم أنه أعيدَ اكتشافه (وهذا موضوع مألوف في السحر الباطني) اسمه سفر «زوهار»، أو «كتاب سطوع النور»، والذي دوِّن باللغة الآرامية والعبرية في إسبانيا القرن الثالث عشر. وقد ادَّعى مروج هذا الكتاب موشيه (موسى) دي ليون أنه من تأليف أحد حاخامات القرن الثاني الميلادي الذين عاشوا في فلسطين الرومانية، وهو ادِّعاء محاط بالشكوك. ويقدم «زوهار» تفسيرًا باطنيًّا للتوراة ويلهم استخدامًا ساميًا للعبادة. أما «الكابالا» فهي معقدة، لكن أهم ما يميزها باعتبارها «ممارسة» هو استخدام الاثنين والعشرين حرفًا من حروف الأبجدية العبرية (كل الحروف ساكنة). فلكل حرف منها معنًى خفي وتمثيل عددي؛ ومعًا فإنها تمثل قوة الرب الخلاقة ولبنات بناء العالم. وبمجرد فهمهما، يمكن استخدامهما في تراكيب وتراتيب شتى لبلوغ الحكمة والانسجام الروحي. ويرى البعض أن من الممكن استخدامهما في الطلاسم السحرية، من أجل تسخير الانبعاثات الربانية وعالم الأرواح لإحراز نتائج عملية. وقد تسربت ممارسات «الكابالا» أيضًا إلى الفلسفة الغيبية المسيحية والسحر الأفلاطوني المحدث خلال القرن السادس عشر؛ ونتيجة لذلك، يمكن أن نرى حروفًا عبرية حقيقية وزائفة مبعثرة في صفحات عدد كبير من مخطوطات السحر وكتبه المطبوعة، التي بدأت تنتشر منذ عصر النهضة وما بعده.
كتب السحر
استكشفنا حتى الآن أهمية النصوص الدينية بالنسبة للمفهوم الذي يرى الكلمات باعتبارها سحرية والكتابة باعتبارها عملًا سحريًّا. لكن منذ العصور القديمة وما بعدها، انتشرت تجميعات للطقوس والتعاويذ والتمائم والأسرار السحرية التي كانت تعمل خارج حدود العقيدة الرسمية، ومن هذه التجميعات ما يمكن تصنيفها على أنها «مخطوطات» لأنها اشتملت على تعاويذ وابتهالات للآلهة أو الملائكة أو الشياطين أو الأرواح الأخرى. لكن وصف «مخطوطة» لم يدخل مجال الاستخدام الدارج لوصف مثل هذه الكتب إلا في فرنسا في القرن الثامن عشر؛ ومن ثَمَّ اعتُمد على نطاق واسع في الأدب الإنجليزي. وهناك أيضًا كتب السحر التي سعت لكشف كيفية استخدام أساطير العالم الطبيعي الغيبية. غالبًا ما كانت «المخطوطات» تحوي كلا شكلي السحر الطبيعي والروحاني.
ويعود أصل كتيبات أو أدلة السحر هذه إلى فترة مبكرة من العصور القديمة؛ فقد عُثر على مجموعات من الطلاسم والتعاويذ مدونة على ألواح الصلصال في المواقع الأثرية في الشرق الأوسط، التي يعود تاريخها للقرون الأولى من الألفية الأولى قبل الميلاد. وكان ما شهدته هذه الكتيبات من تطور لاحق يعتمد على إضافة تقنيات أدبية جديدة. وفي الوقت نفسه، صارت التقنيات الجديدة مشبعة بخواص سحرية، الأمر الذي شكل مزيجًا قويًّا. وهكذا أتاح استخدام ورق البردي في الكتابة إمكانية لف أمتار من النصوص المكتوبة وتحويلها إلى سجل معلومات متنقل؛ وهذا أتاح حفظ كتيبات سحر إرشادية متماسكة ومتسلسلة وإيضاحية، فضلًا عن نقلها للأجيال التالية. وبات بمقدور شخص واحد فقط ترميز متن كامل من المعرفة السحرية المتراكمة ونقله. وقد أتاح البردي أيضًا استخدام مختلِف أنواع الحبر ذي الخواص المختلفة من أجل تحقيق التأثير السحري.
كان الجلد قد استُخدم هو الآخر في الكتابة منذ وقت مبكر يعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد في مصر، لكن تصنيع ورق البرشمان من جلود الحيوانات — والذي كان يتطلب إجراءً أكثر تعقيدًا لتحويل الجلد إلى سطح كتابة أفضل بكثير — لم يتطور إلا خلال القرن الثالث قبل الميلاد. وفي حين كان ورق البردي يُصنع من نبات ينبت في دلتا النيل ويحمل الاسم نفسه — نبات البردي — لم تكن هناك أي عوائق بيئية أو جغرافية تَحُول دون إنتاج البرشمان. فتح هذا آفاقًا جديدة أمام ممارسة السحر؛ فمن الناحية العملية، تسنت الكتابة على كلا جانبي ورق البرشمان، وخياطة الصفحات الفردية ببعضها؛ ومن ثَمَّ أمكن تخزين قدر أكبر من المعلومات في وحدات محمولة أصغر حجمًا؛ ففنيت تقنية اللف ووُلدت كتب السحر. ولقد كان لهذا الأمر تأثير ثوري على الدين وعلى السحر أيضًا؛ فقد اعتمد نجاح انتشار الديانتين المسيحية والإسلامية — اللتين تعتمدان على التبشير — على الكتب المصنوعة من ورق البرشمان. وكما رأينا، صار انتشار الكتاب المقدس والقرآن جزءًا أصيلًا من الممارسات السحرية حيثما كان لهاتين الديانتين أتباع.
إذا تردد كلب باستمرار على منزل المرء ليلًا، وكان يسيطر على الزوج ويلهو مع الزوجة ولا يتسنى الإمساك به، فهو كلب مقدس متنكر في شكل شبح. ائت بلحاء شجرة توت … ثم اشوه وتناوله؛ فهذا سيُنهي هذا الأمر.
منذ القرن الثاني عشر وما بعده، توسعت المخطوطات في عددها ونطاقها وتأثيرها الثقافي عبر أنحاء أوروبا وعالم البحر الأبيض المتوسط. كانت الأديرة في الممالك المسيحية تشكل مراكز الإنتاج والنسخ، وكان رجال الدين أكبر سوق لها. نحو نهاية العصور الوسطى، في القرن الخامس عشر، أدَّى اتساع نطاق مهنتَي القانون والطب إلى زيادة اتساع قاعدة قراء المخطوطات التي كانت جميعها تقريبًا باللغة اللاتينية، مع استخدام محدود للعبرية واليونانية. وكان من بين كتب السحر كتب تحمل عناوين مثل: «كتاب ملائكة الكواكب ومداراتها وحروفها وصورها»، و«الفن البارز» المنسوب لسليمان، و«الكتاب المحلَّف لهونوريوس ملك طيبة». يلاحظ أنَّ نَسَبَ كتب السحر إلى أسماء زائفة طالما كان سمة مميزة لها؛ فقد نالت شخصيات علمية كبيرة في العصور الوسطى، مثل: روجر بيكون الإنجليزي، ومعاصره الألماني ألبرت ماجنوس من كولونيا؛ شرفًا مشبوهًا تمثَّل في نَسَبِ كتب عن السحر الشيطاني والطبيعي لاسميهما. أما في أدب السحر العربي، فقد كان أكثر النصوص تأثيرًا هو «غاية الحكيم»، الذي تضمن طقوس استحضار الأرواح وسحر النجوم، فضلًا عن مؤلفات اثنين ممن يمكن أن يوصفا بأنهما عالمين حقيقيين بالفعل: «شمس المعارف» لأحمد بن علي البوني الذي عاش في القرن الثالث عشر، ومؤلفات الساحر المنجم العراقي أبو يوسف الكندي الذي عاش في القرن التاسع، الذي كانت مؤلفاته بالنسبة للدارسين والسحرة الأوروبيين مخزونًا هائل القيمة من الفكر اليوناني الغيبي القديم.
أدت طباعة المعرفة السحرية إلى طمس ملامح مهمة لتراث أدب السحر؛ فقد زال الطابع المميز الذي كان سمة العملية الخلابة الغامضة للنسخ بخط اليد ثم التجميع، وبات استخدام أقلام وسوائل كتابة خاصة وذات قدسية يعد مبالغة لا حاجة لها. وعلى الرغم من أن الطباعة على البرشمان عالي الجودة كانت ممكنة منذ الأيام الأولى لظهور الطباعة في أواخر القرن الخامس عشر، فإن ذلك كان يعد مكلفًا ومستهلكًا لقدر كبير من الوقت؛ فقد كان الورق في الكتب المطبوعة في ذلك الزمن لا يكاد يُصنع إلا من قطع النسيج الكتاني والقطني. لكن الطباعة لم تقتل تأثير وقوة التراث الأدبي للسحر، وإن كان لها من تأثير، فيمكن القول بأنها أحدثت ثورة في هذا التراث من خلال تمكين عدد أكبر من القُرَّاء من دخول عالم السحر الذي كان يومًا ما حكرًا على قلة منتقاة. وصار السحر فرصة تجارية كما لم يكن من قبل؛ إذ كانت كتب السحر الطبيعي — كذاك المنسوب إلى ألبرت ماجنوس — من بين أفضل الكتب بيعًا منذ وقت مبكر. ثم بدأت تخرج للنور أعمال فلاسفة الغيبيات الألمان في عصر النهضة، مثل كورنيليوس أجريبا. لكن القرن الثامن عشر — أو قلب ما يطلق عليه «عصر التنوير» — هو الذي شهد ثورة جماهيرية في تاريخ السحر الأدبي. وفي فرنسا، تدفقت آلاف الكتب المحظورة زهيدة الثمن عن السحر الطبيعي والطقسي من المطابع، ووجدت طريقها لأول مرة إلى أيدي الفقراء. ومن الجدير بالذكر أن إحدى أسوأ المخطوطات سمعة، «المخطوطة الكبرى»، تقدم تعليمات توضح كيفية استحضار الشيطان. وقُدِّرَ لهذه الطبعات الفرنسية أن تجد فيما بعد طريقها إلى إسبانيا وإيطاليا والأراضي الألمانية والمستعمرات الفرنسية في المحيط الهندي ومنطقة الكاريبي.
في أماكن أخرى، ظهر سفر «شيموش طحيلم» مرات عديدة في طبعات رخيصة منذ أواخر القرن الثامن عشر، وحقق استخدامه انتشارًا أوسع في أمريكا بسبب إدراجه في ترجمة ألمانية لما كان يُطلَق عليه «كتابا موسى السادس والسابع». في شمال أفريقيا، حقق كتاب «طب النبي» للسيوطي — الذي انتشر على نطاق واسع لعدة قرون في شكل مخطوطة — انتشارًا أوسع بكثير في القرن التاسع عشر من خلال إصداره في طبعات رخيصة؛ وهكذا وصلت وصاياه القرآنية بشأن التداوي وصنع التمائم — مثل: تناول سبع تمرات من العجوة (الثمار المفضلة لدى النبي) في الإفطار لدرء السحر والأذى طوال اليوم — إلى جمهور أوسع من الناس؛ إذ نُشرت عدة طبعات منه في القاهرة وطهران وبومباي في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر. وكذلك كانت الإصدارات المطبوعة الشعبية من كتاب «شمس المعارف الكبرى» للبوني تُباع في الأكشاك الموجودة في الشوارع من المغرب إلى مصر واليمن. لكن على الرغم من اتساع إمكانية الحصول على مثل هذه المؤلفات زهيدة الثمن عن السحر، ظل يُعتقد أن القدرة على استخدام كتب السحر بنجاح حكر بالأساس على بعض الأفراد الموهوبين دون غيرهم.