ممارسة السحر
من وجهة نظر شعبية يعتبر السحر عملًا، ولكي يكون له وجود، لا بد أن يؤديَه أشخاص، في بعض الأحيان يكون ذلك دون قصد (كما في حالة العين الحاسدة)، ولكن بوجه عام يكون عمدًا. وبعض السحر يمكن أن يؤديَه أي شخص، وهذا السحر الذي في متناول الجميع منتشر انتشارًا ملموسًا لكونه لا يعتمد على الدين أو السَّحَرة أو المعرفة؛ إذ تمرر المعرفة المتعلقة به من شخص لآخر شفهيًّا داخل الأسر والجماعات. لكنني لم أسمع عن أي حضارة في أي مكان في العالم — في الماضي أو في الحاضر — لم تكن بحاجة لوجود متخصصين. وكما ألمحت في نهاية الفصل السابق، لم يكن مجرد التمتع بالمعرفة السحرية هو الصفة الوحيدة اللازمة للنجاح في ممارسة السحر.
مقارنات عالمية
يمكنني أن أكتب مئات الصفحات أقدم أمثلة على ممارسات سحرية متشابهة من حضارات من شتى أنحاء العالم على مدى الزمن؛ إذ يمكن العثور على الكثير من الأمثلة. ولعل من الأمثلة الجيدة على هذا التشابه إنشاء تماثيل لأشخاص ثم التمثيل بها بغرض إلحاق الأذى بهم؛ إذ عثر علماء الآثار على أمثلة لذلك في آثار حضارات العالم القديم، وقد ورد ذكره في نص صيني قروسطي كما رأينا في الفصل السابق، كما جاء وصفه في سجلات محاكمات الساحرات في أوروبا، ودُوِّن الكثير عنه أيضًا في أفريقيا وآسيا والأمريكتين. واليوم، تبوأت هذه الممارسة مكانة رمزية مثل دمية «فودو» التي تُباع باعتبارها منتجًا تجاريًّا ثم تُغرَز فيها الدبابيس. ثَمَّةَ مثال آخر أكثر غموضًا يتعلق بطقس يُمارَس للكشف عن اللصوص؛ فثَمَّةَ طريقة يستخدمها المسلمون في الهند تتضمن أن يكتب الساحر أسماء الأشخاص المشتبه فيهم على قصاصات من الورق، بعد ذلك تُبرم هذه القصاصات وتُحوَّل إلى كرات أو كبسولات عن طريق خلطها مع عجينة من الطحين. وعند إسقاطها في وعاء به ماء، تكون أول كرة تطفو على سطح الماء قبل نظيراتها هي التي تحوي بداخلها اسم اللص. ونجد أخبارًا عن طريقة مماثلة كانت تُمارَس في إنجلترا في القرون الوسطى، وكانت الأسماء تغطى بكرات من الصلصال.
لا شك أن هذه التشابهات العالمية رائعة، لكن ماذا تعني؟ هل تشير إلى أن هناك مجموعة أساسية من الممارسات والطقوس تعود إلى فترة تكوينية في الثقافة والممارسات الدينية البشرية في حقبة ما قبل التاريخ؟ هذا تحديدًا هو ما خلص إليه أمثال تايلور وفريزر، وهذه هي المقارنات التي شيدوا على أساسها نظرياتهم عن الثقافة البدائية. وبالمثل، حدد آخرون طقوسًا وعادات مماثلة في جميع أنحاء العالم، ومنها أعادوا بناء ما اعتبروه المفهوم الأساسي وراء أول ديانة، مثل: عبادة الشمس أو الأرض الأم. لكن كما رأينا، جرى تقويض هذه النظريات الأولى في مجال العلوم الاجتماعية، فضلًا عما دعمها من استدلالات. لكن مفاهيم قيمة أخرى نشأت من الرصيد الهائل من المعلومات الإثنوغرافية المقارنة التي جمعها الباحثون. أحد هذه المفاهيم تَمثَّل فيما توصل إليه فريزر من أن قانون التجانس يشكل عنصرًا أساسيًّا من عناصر السحر.
انتقد مارسيل موس فريزر لتعصبه المفرط لما ذهب إليه من أن قانون التجانس سمة مميزة للسحر وليس الدين. ففي نهاية المطاف، ماذا يمكن أن يكون ارتداء الصليب المسيحي أو رشم الصليب إن لم يكن تصرفًا يعبر عن ارتباط متجانس؟ كان موس محقًّا أيضًا في ملاحظته أن التجانس لا يقدم تفسيرًا لكل الطقوس السحرية. ومع ذلك، الأمثلة التي تعبِّر عن التجانس سواء من الماضي أو من الحاضر لا تُعَد ولا تُحصَى؛ فتفسير الأحلام مثلًا يعتمد في قدر كبير منه على ارتباط التجانس. وإذا ألقينا نظرة خاطفة على مرجع «تفسير الأحلام» الذي يعود تاريخه لأواخر حقبة العصور القديمة، فسنجده يخبرنا بأنه: «إذا كنت تحلم بأشخاص موتى، فسوف تشهد زوال تجارتك أو مهنتك»، «ورؤية الدبابير، تعبر عن إصابات سيتسبب بها الأعداء»، وإذا حلمت بأنك تجلس عاريًا «فسوف تُنتزع منك أملاكك.»
ويمكن أن نرى أمثلة على السحر المتجانس لدى السكان الأصليين لوادي «بيلا كولا» الواقع على الساحل الكندي المطل على المحيط الهادي؛ فقد كان السكان يُلقُون فرو دب على الرُّضَّع من الذكور كي يصيروا أقوياء، بينما كانت توضع على الرضيعة الأنثى أطراف دافئة لقندس مات لتوه — وهو أكثر الحيوانات كدحًا — كي تكبر وهي تتمتع بالسمة نفسها. أما في الثقافات العربية في الماضي والحاضر، فكان العقرب مرتبطًا بالشر بوجه عام، لكن لكونه قاتلًا كان يُستخدم أيضًا باعتباره قوة لاستجلاب الوقاية عن طريق التجانس؛ ومن ثَمَّ كان الناس يعلقون التمائم، التي تُصنع على شكل عقارب وتُصنع من الخرز، على الجسم وفوق مداخل البيوت لإبعاد العقارب الأخرى والعين الحاسدة أيضًا. وكان طبيب القرن الثالث عشر الأندلسي ابن البيطار يوصي باستخدام كمادة من بذور نبات معين — تشبه أوراقه وبذوره ذيل العقرب — لعلاج لدغات العقارب.
هناك أيضًا نهج «العلامات» الذي اعتمد عليه العلاج بالأعشاب إلى حدٍّ كبير منذ العصور القديمة وما بعدها، ويذهب هذا النهج إلى أن المظهر الخارجي لأي نبات يتسم بخاصية مميزة — في شكله أو لونه — تشير إلى ما له من خصائص علاجية. وقد ظل هذا النهج جزءًا أصيلًا من الطب الأوروبي حتى القرن الثامن عشر، وذلك بفضل ما حظي به من تأييد من جانب الأبوين المؤسسين للنظرية الطبية: الطبيبين الرومانيين ديسقوريدوس (حوالي ٤٠–٩٠م) وجالينوس (١٢٩–٢٠٠م). وهكذا، كان يُعتقد أن حشيشة الكبد الطحلبية الرمادية — كما يوحي اسمها — مفيدة لأمراض الكبد بسبب تشابهها مع الكبد في اللون والشكل، وكان يُعتقد أن النباتات ذات الزهور الصفراء كبقلة الخطاطيف (عروق الصباغين) مضادة للحالة التي يُطلَق عليها اليرقان، التي تُضفي على الجلد مسحة اصفرار. ويمكن اعتبار مذهب العلامات أحد جوانب السحر الطبيعي لأنه يستكشف الخصائص الخفية في الطبيعة، لكنه له أيضًا جانب غير سحري باعتباره ينتمي لطب المعالجة المثلية.
استُخدم مفهوم السحر المتجانس لتفسير معنى فن مرحلة ما قبل التاريخ أيضًا. هل كان فنًّا من أجل الفن؟ التشابهات الموجودة لا تشير إلى ذلك؛ فقد ذكر فريزر — مثلًا — كيف كان السكان الأستراليون الأصليون من قبيلة «الوارامونجا» يحاولون زيادة عدد طيور الإمو عن طريق رسم يمثلها على أرض الواقع، يعرض دهونها وبيضها باعتبارهما من أعلى أجزائها ثمنًا. وكان الرجال يجلسون حول الرسم ويتغنَّوْن ثم يعتمر البعض منهم غطاءً للرأس كي يحاكوا ما يتسم به هذا الطائر من رقبة طويلة ورأس صغير. حينئذٍ بدا من المعقول أن تُقارن هذه الممارسات بفن الكهوف الأوروبي الذي يعود للعصر الحجري وما يعبِّر عنه من مشاهد صيد؛ فقد بدا أن الغرض من وراء رسم الخيول والغزلان وأفيال الماموث — التي ربما تصوَّر في حالة حمل — هو زيادة عدد هذه الحيوانات التي يُقبل عليها الصيادون وجامعو الثمار، أو تعزيز النجاح في عمليات الصيد. وكان الغرض من تصوير الحيوانات الخطيرة هو تقليل ما تمثله من تهديد، لكن هذه التفسيرات جرى تقويضها في العقود الأخيرة؛ إذ أشار النقاد — على سبيل المثال — إلى أنه لو كانت نية الفنانين تشير إلى سحر متجانس يخدم غرض الصيد، فمن المؤكد أنهم كانوا سيرسمون الحيوانات مصابة بالسهام أو الرماح، ولكانوا صوروا خصوبة الحيوانات على نحوٍ أكثر وضوحًا ومباشرة؛ ومع ذلك، لم تَنْهَرْ حجة السحر المتجانس كليًّا. فمن بين مشكلات الدراسات التي أُجريت على الفن الصخري وجود مفهوم ضمني أو صريح يرى أن كل الفن الصخري جزء من ثقافة «بدائية». صحيح أن مظاهر الفن الصخري في جميع أنحاء العالم قد تتشارك ملامح مماثلة، لكن من غير الضروري أن تتشارك المعنى نفسه. يضاف إلى ذلك أن بعضًا من لوحات الفن الصخري التي تصور عمليات الصيد وجمع الثمار لا يزيد عمرها عن بضع مئات من السنين، بينما عمر البعض الآخر يزيد على ٤٠ ألف سنة. وهناك دراسات عن الفن الصخري في ولاية كاليفورنيا، الذي يصور شكلًا يطلق سهمًا على شكل آخر، وُجدت تناظرات مماثلة في السجلات الإثنوغرافية لسكان أمريكا الأصليين في المنطقة نفسها تتعلق بممارسة السحر عن طريق الصورة.
كما يعد السحر المعدي جانبًا آخر من جوانب قانون التجانس، الذي يرى أن الأشياء التي كانت على صلة مع بعضها في وقتٍ ما تحتفظ بهذه الصلة بينها. والمثال التقليدي على ذلك هو شعر الكلب؛ حيث كان يُعتقد أنه إذا عقر كلبٌ ما شخصًا فإن وضع شعر من هذا الكلب الجاني على جرح العضة من شأنه أن يعالج داء الكلب. ويمكن العثور على العديد من الأمثلة الأخرى؛ فالمعتقد الشعبي البريطاني يؤمن بأن وضع مسمار في طبعة لقدم الساحر من شأنه أن يبطل سحره. وثَمَّةَ فكرة أخرى تؤمن بأن الحصول على شيء من ملابس شخصٍ ما أو أثرٍ من جسمه يمكن أن تمنحك التأثير على هذا الشخص؛ ومن ثَمَّ هناك مخاوف في الكثير من الثقافات من أن يقع شيء من شعر الإنسان أو أسنانه في أيدٍ شريرة. وقد سُجلت في ليبيريا في أربعينيات القرن العشرين قصة عن خادم أخذ يلتقط بعناية جميع قصاصات الأظافر من سلة مهملات أحد المبشرين ثم أعادها إليه فخورًا، وهو يؤكد له أن أحدًا لن يستطيع بذلك أن يُلحق به الأذى؛ وهذا لأن هناك ممارسة تتضمن أن يؤخذ شيء من شعر العدو أو من ملابسه التي تخلَّص منها، ثم تُخبأ في شجرة أو تُدفن في حفرة ثم تُتلى عليها بعض التعاويذ. لم يكن القتل هو الغرض من هذا السحر وإنما إعاقة المسحور بحيث يفشل في عمله أو تتكرر معاناته من سوء الحظ. وفي الدول الغربية، يَطلب من يُطلَق عليه «الوسيط الروحي المحقق» شيئًا من ملابس الشخص الميت أو المفقود كي يتمكن من تنشيط استبصاره للتواصل مع روحه.
من يعانِ الملاريا، فليذهب في الصباح الباكر إلى شجرة صفصاف عتيقة، وليعقد عقدًا ثلاثًا في أحد أفرعها ويقول: «صباح الخير أيتها العتيقة! أُلقي عليك الصباح الجميل البارد أيتها العتيقة!» بعد ذلك عليه أن ينسحب سريعًا.
كما يتضح من هذا الطقس، لم يكن من الضروري نقل المرض إلى أي شخص آخر؛ وذلك لأن غسل المرض عن الجسم بالماء الجاري أو نقله إلى الحيوانات يمكن أن يجنب المرء هذه السلوكيات المعادية للمجتمع.
الممارسون المحترفون
في كل الثقافات التي سُجِّل تاريخها، نجد أفرادًا كانوا يكسبون عيشهم من العمل على تلبية احتياجات الناس السحرية. ومثلما هي الحال بالنسبة لكل مظاهر السحر، من السهل أن نملأ مئات الصفحات بجولة استكشافية عالمية لعالم السحرة — من كانوا ومن هم الآن، وماذا فعلوا، وكيف كانت نظرة الناس إليهم — دون أن يمثل ذلك سوى خدش فوق سطح ثراء الممارسة السحرية ومعناها. كل ما بوسعي هنا هو أن أقدم بعض اللوحات التعبيرية. أولًا، دعني أصنف متخصصي السحر تصنيفًا أوليًّا إلى دينيين وغير دينيين.
كما رأينا في مقدمة هذا الكتاب، دائمًا ما كان الرجال ذوو القداسة — أعني ممثلي الدين الرسميين أو الشعبيين — مرتبطين بالسحر؛ خاصةً إذا قبلنا بتعريف السحر على أنه التطبيق العملي للعبادة الدينية من أجل حل المشكلات الواقعية اليومية. وكان مسمى «الكاهن الساحر» عادةً ما يُنسب إلى المسئولين الدينيين في العصور القديمة، لا سيما كهنة مصر القديمة. لكن الكاهن بصفته ساحرًا ظل باقيًا في الديانات التوحيدية التي ظهرت في وقت لاحق. وقد سبق أن أشرت في هذا الصدد إلى مثال «المرابطين» في الإسلام الأفريقي؛ فالمرابط «الحقيقي» ينال احترامه الشعبي من خلال كونه أحد علماء القرآن ومعلميه؛ ذلك لأن درايته بالقرآن وكيفية استخدامه لخدمة مجتمعه هي ما تمنحه ما يتمتع به من قدرات. وقد كان الناس في أجزاء من السنغال حينما يحظَوْن بقدر من حسن الحظ، يقولون: «لديك مرابط جيد.»
ويقدم مرابط سنغالي من القرن التاسع عشر — يدعى أمادو بامبا — مثالًا جيدًا يوضح كيف يبني المرابط سمعته؛ أولًا: إنه ينحدر من سلالة عدة أجيال من المرابطين الموقرين؛ فأبوه كان يعلِّم الأطفال المحليين، وتزوج من عائلة ملك قبيلة، وبعد وفاة أبيه أخذ بامبا مكانه في بطانة الملك، وحينما لقي الملك مصرعه في إحدى المعارك في عام ١٨٨٦، عاد بامبا إلى أحد بيوت أسلافه وأنشأ «طريقة» (صوفية)، وراح يجوب المنطقة ويروِّج للسكان المحليين أن قواه القرآنية تفوق قوى أرواح أسلافهم. وما إن بلغت سمعته مكانة كافية حتى توقف عن جولاته وازدهرت أحواله بعد أن بات الزبائن هم الذين يرتحلون للقائه. لكن القوة أصابته بالغرور فتوقف عن تعليم الأطفال المحليين، في حين بدأت طموحاته السياسية تُقلق السلطات الفرنسية. في عام ١٨٩٥، جرى نفيه إلى الجابون لسبع سنوات، ولدى عودته احتشد آلاف الأتباع للقائه. كان بامبا وقتئذٍ قد بلغ ذروة مهنته، ولم يكن أيٌّ من المرابطين الآخرين يضارعه مكانة في أعين الناس؛ فقد كانت السمعة تتفاوت بين مرابط وآخر، وكان الناس على استعداد لأنْ يقطعوا مسافات طويلة في سبيل لقاء مرابط شهير دون آخَر محلي أدنى منه مكانة.
في المسيحية، طالما لعب الكهنوت الكاثوليكي والأرثوذكسي دورًا مماثلًا؛ فقد كان القس الكاثوليكي الروماني يحظى بصلاحية إلهية من خلال سر الكهنوت؛ فهو الوحيد الممثل للرب في الأبرشية الخاصة به، علاوةً على أنه كان — شأنه شأن المرابط — حتى العصر الحديث ضمن قلة من الأشخاص الذين بمقدورهم التعامل مع الكتاب المقدس. فالإنجيل الكاثوليكي أو ترجمته اللاتينية «الفولجاتا» لم يكن يراد به أن تقرأه عامة رعايا الكنيسة، وإنما كان القساوسة هم المنوط بهم تفسيره للناس، وهذا منحهم هيمنة وسيطرة على الدور العلاجي الروحي والبدني. وازدادت هذه السيطرة قوة من خلال سيطرتهم على طائفة من الموارد السحرية المحتملة الأخرى، كالماء المقدس والأعشاب المباركة وطقس طرد الأرواح الشريرة والمسابح. ورغم أن البروتستانتية حاولت أن تستأصل التصور الشعبي للقس على أنه مورد سحري، ظل الناس ينظرون إلى القساوسة والكهنة البروتستانتيين على أنهم يتمتعون بموهبة تؤهلهم للمداواة ومجابهة السحرة والأرواح الشريرة، حتى لو كانوا لا يقدرون على ممارسة طقس طرد الأرواح الشريرة.
أما في آسيا، وفي الصين قبل الثورة، كان كهنة «ساي كونج» يسوِّقون أنفسهم باعتبارهم كهنة طاويين، وكان المعتقد السائد شعبيًّا أنهم كذلك؛ فقد كانوا يعملون من منازلهم، التي تحمل لافتات إعلانية تقول «يوجد هنا هيكل طاوي» أو شيء من هذا القبيل. وكانوا يؤدون طقوسهم مرتدين لباسًا رسميًّا حول هياكلهم الخاصة التي تحمل صورًا للآلهة. وكانوا يبيعون سلعًا سحرية مثل: الأدعية، والتعاويذ، والصور، والرُّقى. وكان كاهن «الساي كونج» من خلال ما يتمتع به من معرفة وعلمه بالطقوس، يستطيع أن يوجه قوة الآلهة والأرواح لمساعدة زبائنه، ويثبت فعالية في طرد الأرواح الشريرة وعلاج الأمراض الروحية. وكانت سمعة كاهن «الساي كونج» السحرية — شأنه في ذلك شأن غيره من ممارسي السحر في جميع أنحاء العالم — تعتمد أيضًا إلى حدٍّ ما على معرفة الشعب بأصوله العائلية.
كيف للمرء إذنْ أن يكتسب قوة وسمعة سحرية إذا لم تكن هذه القوة وهذه السمعة تعتمدان على الحظوة وعلى السلطة الرسمية الدينية، أو على الأقل سلطة تشبهها؟ الجنس — أو النوع — مسألة أساسية هنا؛ وذلك لأن بعض الثقافات تستثني النساء من مثل هذا الدور الشعبي؛ ففي معظم الثقافات الأفريقية مثلًا قد يبدو أن السحرة الأطباء كانوا في المقام الأول من الرجال. لكن هذا لا يعني أن الناس لم يؤمنوا بأن لبعض النساء قدرات سحرية، وإنما كنَّ غالبًا ما تُعتبرن أقل شأنًا من الرجال في مجالَي السحر المفيد وحماية المجتمع؛ وذلك بسبب مسائل تتعلق بالطهارة أو القوة البدنية. كان من الممكن أيضًا أن تَحُول أعراف التوريث السائدة لدى مجتمعٍ ما دون نيل البعض القوى السحرية التي تمتع بها أسلافه. لكن في بعض الثقافات كانت الساحرات — ولا يزلن — هن الأسمى شأنًا على الإطلاق؛ فقد كانت الساحرات في بعض مجتمعات «الباتاك» في سومطرة يتمتعن بمكانة رفيعة في مجال السحر، ولدى بعض قبائل سكان أمريكا الأصليين كن يلعبن دورًا مهيمنًا في العلاج بالسحر. قد يبدو الحديث عن ممارسة نساء للسحر القرآني من قبيل التناقض في استخدام المصطلحات. لكن على الصعيد المحلي، تمارس النساء المتعلمات — مثل مرابطات الطرق الصوفية في السنغال — بالفعل السحر القرآني، ومعظم زبائنهن من الإناث.
في التاريخ الأوروبي — على الأقل بدءًا من فترة العصور الوسطى وما تلاها — نعلم أهمية السَّحَرة غير الدينيين الذين يصفهم المؤرخون بأنهم زمرة ماكرة، رغم أن لهم العديد من الأسماء الإقليمية والمحلية الأخرى؛ فقد وصفهم قس ألماني عاش في أوائل القرن الثامن عشر — يُدعى جورج زيمرمان — بأنهم: «جلادون، وجزارون، ونساء عجائز، وغجر، ورعاة أغنام، ورعاة أبقار، ويهود، وفلاحون، وصعاليك، ومشعوذون.» قد يكون هذا وصفًا جامحًا لكنه ليس خاطئًا كليًّا. لكن الصفة التي كانت تحدد الزمرة الماكرة لم تكن انعزالهم اجتماعيًّا، وإنما اتساع نطاق خدماتهم السحرية؛ إذ إنهم لم يقصروا نشاطاتهم على مجرد المداواة أو قراءة الطالع، بل أبدَوْا قدرتهم على استعادة الممتلكات المسروقة، واجتلاب الحب، والكشف عن الأبراج، والعثور على الكنوز المدفونة، وتحضير الأدوية العشبية، والأهم من ذلك كله مجابهة شر الساحرات. صحيح أن ممارساتهم لم تكن مشروعة في ظل مجموعة القوانين التي سُنَّت في جميع أنحاء أوروبا خلال القرن السادس عشر لمكافحة السحر والشعوذة، لكن لم يتعرض سوى قلة منهم فقط للمحاكمة نظرًا لأن خدماتهم المفيدة كانت تفوق المخاوف من قدرتهم على ممارسة السحر الضار. لم تفلح القوانين المضادة للاحتيال والتدليس والممارسات الطبية غير القانونية كثيرًا في تقويض دورهم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وظلوا شخصيات هامة في المشهد الاجتماعي الأوروبي حتى بعد حلول القرن العشرين.
هلَّا تخبرني مَن الرجل الذي سيصير زوجًا لي، أو هلَّا تكشف عن طالعي من الأبراج. سيدي، ثَمَّةَ شاب آخر توقف عن التودُّد إليَّ، لقد خرج معي مرتَين واحتسيت الشراب معه؛ هلَّا تجعله يتودَّد إليَّ ويتزوجني إذا أردتُ أنا ذلك؟
ثَمَّةَ سيدة تأتي إلى منزلي الذي أقطن فيه كي تعمل، وهي عدوة لدودة لي، وسوف تأتي يوم الأربعاء؛ هلا تتدبر أمر منعها من المجيء؟
بعد أن سمعت عنك من أحد الأصدقاء أكتب إليك كي أسألك إن كان بمقدورك أن تطلعني على أخبار ابني، إنه بالخارج حاليًّا، أنا أرملة وقلقة قلقًا شديدًا عليه.
هلا تتعطف وتكتب إليَّ تخبرني ما إذا كان هناك خطبٌ ما بي أنا وماشيتي؛ فأنا لا أشهد إلا الحظ العاثر، وكل أمر أُقدِم على فعله يفسد.
من الواضح أنها تشك في أنها مصابة بسحر ضار.
يكتسب المشعوذون القوة التي يتمتعون بها بعدة طرق. بداية من القرن السادس عشر، كانت معرفة القراءة والكتابة تشكل ميزة مهمة، وحيازة كتب السحر مفتاح لبناء سمعة في مجتمع تغلب عليه الأمية. كانت النساء أقل حصولًا على التعليم، وحتى القرن الثامن عشر ظلت معرفة الإناث بالقراءة نادرة جدًّا، لا سيما في البلدان التي تعتنق الكاثوليكية؛ ومن ثَمَّ، كانت سمعة الكثير من النساء الماكرات تعتمد بالأساس على اتصالاتهن بالكائنات الخارقة، مثل أرواح الموتى أو القديسين. وقد أظهرت تحقيقات محاكم التفتيش في أوائل العصر الحديث في صقلية أن هناك نساءً قلن إنهن اكتسبن قدراتهن النافعة من لقاءاتهن المتكررة بالجنيات. وقد كن — اللائي يُطلَق عليهن السيدات من الخارج — يجذبن الجنيات لأن «دماءهن حلوة». كان حق المولد مهمًّا أيضًا من أجل وسم شخصٍ ما بأنه يملك قدرة سحرية؛ فإذا حدث أن نزل مولود من بطن أمه داخل «برقع أو كيس الحمل» كانت تلك إحدى العلامات على امتلاكه قدرة سحرية، أما الابن السابع لأب كان بدوره السابع في ترتيبه بين إخوته فيتمتع بالقدرة على الشفاء. وفي المجر، كان «التالتوشوك» يولدون بإصبع زائدة أو بأسنان نابتة داخل أفواههم.
أما الإسلام، فيعترف رسميًّا بنوعين من المخلوقات الخارقة غير البشرية، هما: الملائكة والجن. والجن مختلفون عن أرواح الموتى والعفاريت، وخُلقوا قبل خلق البشر. الملائكة مخلوقون من النور، بينما الجن مخلوقون من نار لا دخان لها. وهناك «الجن المسلم» غير المؤذي و«الجن الكافر» الشرير، الذي يُلحق المرض، ويمس الناس، ويسبب العُنَّة للرجال. ورغم أن القرآن أكَّد وجود الجن، فإنه شدد على أنهم لا يملكون التنبؤ بالأمور أو القدرة على اكتشاف الأشياء الخفية. والجن يسكنون عادة الأماكن النجسة داخل المنازل وحولها، في الحمامات والمقابر ووسط أكوام القمامة. وهم يحبون الظلمة، وعامةً يتفاعلون مع عالم البشر ابتداءً من فترة الغسق وما بعدها، ويعيشون حياة يومية لا تختلف عن حياة البشر في كثير من النواحي، بَيْدَ أنهم يتمتعون بقدرات استثنائية أيضًا، مثل: قدرتهم على تحويل أشكالهم، وقوتهم التي تفوق قوة البشر. والجن يلحقون الضرر، لكن يُعتقد أيضًا أنهم مصدر هام للسحر المضاد لنيل الشفاء من المرض والوقاية. وتقول الأساطير إن سيطرة الملك سليمان على الجن هي السبب فيما كان يتمتع به من قدرات. ويزعم السَّحَرة المسلمون المعاصرون أنهم يبحثون عن الجن في أوكارهم المظلمة، ويتمكنون من خلالهم من مساعدة زبائنهم على زيادة رواتبهم، واكتساب الصداقات، وتقديم العديد من الخدمات الأخرى.
في بعض الثقافات، لا يكتسب السحرة قدراتهم إلا بعد خضوعهم لطقوس قَبول شاقة، تجري عادةً تحت رعاية ساحر آخر. فمثلًا، الشخص الذي سيصبح واحدًا من السَّحَرة في قبيلة «الماريند» في غينيا الجديدة عليه أن يأكل الموز المقلي لمدة تتراوح بين ٥ و٧ أيام، بينما يُحضر له أحد السَّحَرة المتمرسين شربة تحتوي عصارة جثة. يتعين على هذا الساحر المبتدئ أن يتناول هذه الشربة مرارًا وتكرارًا مع تقطير عصارة الجثة في عينيه وداخل أنفه أيضًا؛ إذ يُعتقد أن كثيرًا من هذه الطقوس تمنح الساحر القدرة على التواصل مع عالم الأرواح، وهذه الصلة هي التي تمنحه قدرته. عادةً ما يرتبط هذا الشكل من طقوس القبول بالشامانية؛ وذلك لأن الشامانية — في جوهرها وباعتبارها مفهومًا أنثروبولوجيًّا — تتعلق بإتقان بلوغ حالات النشوة من أجل التواصل مع عالم الأرواح، إما عن طريق الدخول في حالة الانجذاب المحكوم أو من خلال التحليق في رحلات سحرية إلى عالم الأرواح. من الأمثلة الجلية على عملية التدريبِ المسارُ الشاق الذي يتعين على الشامان المبتدئ أن يسلكه لدى شعب «التامانج» في نيبال، وهي عملية تعليمية ووجدانية في طبيعتها؛ فالساحر الذي يمكن قبوله هو الذي يكون قد مر بأزمة عقلية أو مر بتجربة روحية كاشفة؛ وهذا قد يتضمن رؤًى أو تعرُّضه لهجمات من أرواح شريرة. ويبدأ السَّحَرة تدريبهم الشاماني بتعلُّم عدد كبير من الأساطير و«المانترا» (أي أصوات أو أغاني أو كلمات تولِّد حالة من التحوُّل الروحي). من خلال هذه التدريبات والتعليمات التي تُستقى من شامان آخرين، يتعلم السَّحَرة دخول حالة النشوة. قد يستغرق الأمر سنوات كي يتقن الساحر حِرفته، مع أن ما يكسبه من أموال بعد ذلك لا يكون كثيرًا.
إن التقاليد السحرية ليست محصورة داخل أي إطار ثقافي. فيما يتعلق بالدين الشعبي، لم يمنع قول الكهنة والمرابطين إن سحر الديانات الأخرى لا يعد شيئًا إذا قورن بقوة الكتاب المقدس أو القرآنِ الناسَ من السعي للانتفاع بسحر «الآخر»؛ ولهذا، نجد في سجلات محاكم التفتيش الإسبانية أن إسبانًا مسيحيين كانوا يستشيرون العارفين بالسحر القرآني. ويمكن أيضًا العثور على أمثلة لذلك في دول البلقان؛ إذ تُظهر الوثائق الرسمية للبوسنة في القرن الثامن عشر، أن السلطات التركية العثمانية المحلية كانت في عدد من المناسبات تسأل الرهبان الفرنسيسكان في دير فوينيكا، أن يستخدموا صلواتهم وتعاويذهم وأدويتهم في علاج المرضى المسلمين من المس الشيطاني أو التلبس بالجن. وهناك أمثلة عديدة من أرشيف محفوظات أوروبا تُظهر أن أشخاصًا بروتستانتيين لجَئوا إلى قساوسة كاثوليكيين، كي يساعدوهم في التخلص من الأرواح الشريرة أو يشتروا منهم أشياء مباركة.
وعلى غرار ما حدث مع الماجوي الفرس القدماء، وجد ممارسو السحر أنفسهم بمرور القرون مضطرين جبرًا أو بدافع الحاجة أو الطموح المهني لأنْ يقدموا خدماتهم في أراضٍ غريبة وأجنبية. وقد كانت غرابة الثقافة والدين كذلك تلعب دورًا هامًّا في تشكيل النظرة الشعبية للقدرة السحرية؛ ففي أوروبا، طالما تمتع الغجر بصيت ذائع في ممارسة السحر، وهو ما يستغلونه استغلالًا بارعًا. وفي أمريكا ومنطقة الكاريبي، تشكلت تقاليد سحرية توفيقية نتيجةً لتعدد الأجناس والثقافات واجتماعها على أرض واحدة؛ فكانت تقاليد الاستحضار وجلب الشؤم التي يمارسها الأمريكيون الأفارقة في ولايات الجنوب تمزج المعرفة الشفهية من أفريقيا بتعبيرات السحر المسيحية من خلال استخدام الكتاب المقدس. أُضيفت أيضًا إلى هذا المزيج كتب السحر التي أتت من ألمانيا القرن الثامن عشر، والتي انتشرت من تجمعات الألمان المستوطنين ليعتمدها السحرة مستحضرو الأرواح من الأمريكيين الأفارقة. وقد جرى تبادل المصطلحات والممارسات أيضًا في الاتجاه المعاكس.
الثقافة المادية
لم يكن تاريخ السحر مجرد سجلٍّ شفهيٍّ أو مكتوب؛ فهو غالبًا ما يخلف وراءه أدلة مادية، وحدوة الحصان التي تُعلق فوق أبواب المنازل مثال واضح على هذا؛ لأنها تمثل دليلًا ماديًّا يُذكِّرنا بالمخاوف الشعبية من السحر. ولا يقدم الأرشيف المكتوب لنا سوى فهْم جزئي لطبيعة الممارسات السحرية في الماضي وتنوعها. وقد وُثقت بعض التقاليد التي خلفت سجلًّا أثريًّا بحيث صار مثبَتًا انتماؤها إلى الحقبة التي كانت تُستخدم فيها، وإن معرفتنا بغيرها لا يمكن أن تتشكل كاملة إلا من خلال تفسير طبيعة الأدوات الباقية وموقعها. فعلى سبيل المثال، من الواضح أن تعمُّد وضع الأحذية والملابس في المداخن وتجاويف الحوائط كان ممارسة منتشرة على نطاق واسع عند بناء البيوت، ومع ذلك تخلو السجلات التاريخية من أي إشارة إليها. وبالمثل، الاكتشافات الأخيرة التي أظهرت تعمُّد وضع جماجم الخيول تحت أتون حرق الكلس التي شُيدت في وقت مبكر من العصر الحديث، فضلًا عن العلامات المتعلقة بالطقوس التي تمارس عند البناء؛ لم تدون في أي سجل تاريخي.
للأسف، لم يكن الاهتمام الذي لاقته ثقافة السحر المادية من جانب الباحثين يُذكر مقارنةً بالسجلات الأدبية. الاستثناء الوحيد لهذا هو مفهوم «الفيتش». اشتُقت هذه التسمية من الكلمة اللاتينية «فاكتشوس» ومعناها «مصنوع بفن». وقد دخلت نطاق الاستخدام في اللغة الإنجليزية لأول مرة في القرن السابع عشر عن طريق الكلمة البرتغالية «فيتشيسو». كان البرتغاليون يستخدمون هذه الكلمة لوصف الأصنام التي وجدوا — خلال رحلاتهم التجارية — أن شعوب الساحل الأفريقي الغربي — غينيا في المقام الأول — تعبدها، وكذلك القطع السحرية التي ترتديها هذه الشعوب أو تستخدمها. لكن النسخة الفرنسية من هذه الكلمة «فيتيش» هي التي انتشرت على نطاق واسع بمجرد إدخالها إلى اللغة الإنجليزية. في الوقت نفسه تقريبًا، في القرن الثامن عشر، اقتبس الفرنسيون أيضًا كلمة أخرى من كلمات غرب أفريقيا هي «جِري-جِري»، من لغة شعوب «الميندي»، لوصف التعاويذ والتمائم الأفريقية على وجه التحديد.
في حين صارت كلمة «جِري-جِري» جزءًا من لغة السحر الشعبي الأمريكي الأفريقي في الولايات الجنوبية، صارت كلمة «فيتش» تُستخدم في سياق فكري وثقافي أكبر بكثير. أما في أذهان علماء اجتماع القرن التاسع عشر، فلم تصبح كلمة «فيتش» تعرَّف فقط بأنها مجرد شيء مادي، بل أيضًا شكل من أشكال الدين البدائي الذي كان يقدس الأشياء، إما بمعناه الإحيائي أو باعتباره مرحلة دينية سحرية قائمة بذاتها سبقت ظهور الديانات الشركية. وعلى غرار غيره من مصطلحات علم الاجتماع الأولى — اسم «الطوطم» مثلًا — اعتمد المحللون النفسيون اسم «فيتش» فيما بعد، واستخدموه لتعريف فئة من فئات الأمراض الجنسية. وعلى نطاق أوسع، استُخدمت الفيتشية باعتبارها لفظة ازدرائية عنصرية لوصف المعتقدات الدينية أو السحرية التي يعتنقها الأفارقة «البدائيون». خلال القرن العشرين، صارت هذه التعريفات محل انتقادٍ أكثر فأكثر، وأسقطت بدرجة كبيرة من الخطاب العلمي الأنثروبولوجي. في هذه الأثناء، صارت أدوات وأغراض الفيتش — التي جمعها علماء الإثنوغرافيا والمسئولون الاستعماريون وشحنوها لتصبح مقتنيات في مجموعات خاصة وتُعرض في صالات العرض الفنية والمتاحف — محل اهتمام متزايد باعتبارها قطعًا فنية. واليوم، جذبت دلالة «الفيتش» واستخداماتها الثقافية والاستعمارية الاهتمام مجددًا باعتبارها أداة مفاهيمية في النظرية الثقافية متعددة التخصصات.
نادرًا ما كانت كلمة «فيتش» — باعتبارها اسمًا لأداة سحرية — تطلَق على أدوات الثقافة المادية للسحر الشعبي الأوروبي؛ فقد كانت تُعرَّف على نحو عنصري. لكن يمكن العثور على رصيد هائل من التعاويذ والتمائم والأغراض الوقائية، أو التي تُستخدم لدرء شر العين الحاسدة في مجموعات في المتاحف الأوروبية إلى جانب الأدوات «الغريبة» التي راقت لهواة جمع المقتنيات الأثرية من المستعمرين؛ فهناك أدوات تحمي المرء من الأذى حينما توضع عليه أو تُستخدم معه بطريقة أو بأخرى من قِبل معالج سحري. في جميع أنحاء أوروبا مثلًا، كان يُعتقد أن السهام ذات الرءوس الحجرية والبلطات التي يعود تاريخها لعصور ما قبل التاريخ تتمتع بقوًى سحرية. وكانت هذه الأشياء — التي كان يطلق عليها في بعض الثقافات أحجار الرعد — محل تقدير كبير باعتبارها توفر حماية من خطر البرق. في اسكتلندا وأيرلندا، كان يُعتقد أن رءوس السهام المصنوعة من حجر الصوان التي تعود للعصر البرونزي هي قذائف الجن التي تؤذي الماشية والأشخاص؛ فكان المشعوذون أو الأطباء السَّحَرة يجمعونها لعلاج مَن أصيبوا بقذائف الجن. وقِنِّينة الساحر ما هي إلا أداة أخرى وُجدت وسط مقتنيات المتاحف في إنجلترا، وكانت تستخدم علاجًا مضادًّا للسحر بالاعتماد على السحر المتجانس الذي يبدو أنه شهد تطورًا في القرن السابع عشر. كان ضحايا السحر — بِناءً على نصيحة من أحد المشعوذين في كثير من الأحيان — يسكبون بولهم داخل قنينة مع شيء من أظفارهم وشعرهم، كما كانت تضاف أيضًا أدوات حادة مثل: المسامير والدبابيس والأشواك. وكانت القنينة تمثل مثانة الساحر، وحينما كانت توضع لتُغلى فوق النار أو تُدفن تحت موقد حجري، كان جَيَشان المزيج داخل القنينة يسبِّب للساحر ألمًا شديدًا. انتقلت هذه الممارسة إلى أمريكا وصارت جزءًا من السحر الأمريكي الأفريقي؛ فحلت في بعض المناطق قنينات السحر التي تحوي أدوات مؤذية محل أكياس السحر الأكثر «تقليدية». انتشرت أيضًا الممارسات التي تهدف لحماية المنازل؛ فكان إخفاء أشياء شخصية وجماجم الخيول والقطط النافقة وغيرها من الحيوانات داخل الحوائط وداخل حفر الأرضيات وتحت أعتاب المنازل، يشكِّل ممارسة طقسية مشهودة بدرجة كبيرة في التنقيبات الأثرية وعمليات ترميم المنازل في أوروبا وأستراليا، ولو أن الإشارة إليها لم تَرِدْ إلا قليلًا في السجلات المكتوبة.