السحر والعالم الحديث
لقد أصبحت أرى أو أتصور في الرجال والنساء، وفي المنازل، وفي الحِرف اليدوية، وفي كل الصور والأصوات تقريبًا، شكلًا من أشكال الشر، شكلًا من أشكال القبح الذي ينبع من الهلاك البطيء بمرور القرون لطبيعة العقول التي أرست هذا الاعتقاد [بالسحر] وشواهده المنتشرة حول العالم.
كان ييتس منجذبًا إلى قوة جديدة تبشر بعودة اهتمام الطبقات الوسطى في القرن التاسع عشر بعالم الوهم: المذهب الروحاني. في بريطانيا في أواسط العصر الفيكتوري، كان يوجد ما وصفه بعض المؤرخين بأنه «أزمة إيمان»؛ تحول عن الإيمان العقلاني الجاد بكنيسة إنجلترا، وتلهف على صلة أكثر حيوية وروحانية؛ وهو ما قدمه المذهب الروحاني الحديث. بدأت هذه الحركة في أمريكا عام ١٨٤٨ حينما زعمت الأختان المراهقتان فوكس من مدينة هايدسفيل بولاية نيويورك أن بوسعهما التواصل مع أرواح الموتى بواسطة القرع والدق؛ حينئذٍ بدأت هذه الظاهرة العتيقة — التي كانت توصم في الماضي بأنها من ممارسات الساحرات أو الشياطين — تخضع لإعادة التأويل ولاقت تأييدًا من جانب الكثيرين؛ فانتقلت زيارات الأرواح المثيرة للجدل مجددًا من عالم «الخرافة» إلى صميم الدين. لَكِنِ البعضُ اعتبر الروحانية تمثل عودة ظهور عبادة الشياطين إلى السطح، وآخرون اعتبروها تأكيدًا عميقًا على الحياة الآخرة التي تُرسيها المبادئ المسيحية، في حين اعتبرتها فئة ثالثة خدعة لا بد من كشفها؛ وهكذا عاد السحر — على اختلاف تعريفاته — إلى التحقيقات الدينية والعلمية.
مثَّل المذهب الروحاني «أزمة في إقامة الأدلة» بقدر ما أبرز «أزمة في الإيمان»؛ فقد ظهر هذا المذهب بعد سنوات قليلة من إرسال أول رسالة تلغرافية. وهذا الإنجاز العلمي جعل فكرة التواصل مع عالم الأرواح معقولًا أكثر من ذي قبل بالنسبة للكثيرين من ذوي الخلفيات الدينية والعلمية على حدٍّ سواء. خذ مثلًا كرومويل فارلي (١٨٢٨–١٨٨٣)، وهو خبير بريطاني رائد في مجال هندسة الإلكترونيات، ولعب دورًا كبيرًا في اختراع نظام التلغراف العابر للأطلسي. صار فارلي يؤمن بوجود تلغراف كهربائي مغناطيسي ﻟ «الروح». وهو لم يتوصل إلى هذا الاستنتاج من إيمان أعمى، بل عبر تجارب علمية. ورغم افتضاح العديد من الوسطاء الروحانيين واعتبارهم محتالين، نجح عدد قليل منهم في إثارة حيرة الوسط العلمي؛ فقد أثاروا تساؤلات حول محدودية ما يمكن رصده من أدلة وبراهين ومحدودية المرجعية العلمية.
خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، واصل عدد من المثقفين الأوروبيين — أغلبهم من الرجال — استكشاف أشكال السحر الفكرية التي ظهرت خلال عصر النهضة، والتي تمكَّنت على مدار القرون من الانتشار عبر الكتب المطبوعة والمخطوطات. في الوقت الذي فكَّر فيه الرومانسيون في السحر، شمَّر هؤلاء الدارسون للغيبيات عن سواعدهم ونفَّذوا ذلك. وقد أسهم القبول الاجتماعي لحركة الروحانية — إلى جانب تأثير الحركة «الثيوصوفية»، والكتب التي نشرها إليفاس ليفي — في إلهام مجموعة صغيرة من الماسونيين البريطانيين بإنشاء أخويتهم السرية الخاصة باسم «الفجر الذهبي»، التي كان ييتس عضوًا فيها. ابتكر مؤسسو هذه الأخوية مجموعة من الطقوس التي دمجت السحر اليهودي المسيحي الذي انتشر في أوروبا القروسطية، مع الممارسات السحرية للشرق الأوسط وآسيا القديمة، والتي كانت أدلتها قد تُرجمت حديثًا إلى الإنجليزية. وقد ظهرت أيضًا أخويات سحرية صغيرة أخرى في ألمانيا وفرنسا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
يمكن أن نرى مظهرًا آخر لهذا التبنِّي الثقافي للممارسات السحرية في الحركة «السريالية» التي ظهرت في أوائل القرن العشرين. في عام ١٩٤٢، كتب ماكس إرنست (١٨٩١–١٩٧٦) — أحد رواد الحركة السريالية — أن السحر «وسيلة الاقتراب من المجهول بطرق أخرى غير العلم والدين.» وقد رأى السرياليون — الذين تأثروا بالأبحاث الأنثروبولوجية عن الحضارات الأخرى البعيدة، واستمدوا أفكارهم من مبادئ التحليل النفسي، وأذهلهم علم الغيبيات والروحانية — فَنَّهم عملًا من الاستكشاف السحري. في مذكرات الكاتب السريالي جوليان ليريس (١٩٠١–١٩٩٠) لعام ١٩٢٤ نراه يتأمل قائلًا: «لا غاية للعمل الفني سوى الاستحضار السحري للشياطين الداخلية.» وقد حصل إلهامهم على تجسيد فني في صورة مجموعة من بطاقات التاروت صممها الشاعر أندريه بريتون وأصدقاؤه؛ حيث حملت أوجه البطاقات صور أشخاص مثل: باراسيلسوس وفرويد وماركيز دي ساد وهيجل والوسيطة هيلين سميث وشخصية «أليس» التي ابتكرها لويس كارول، والثائر المكسيكي بانشو فيا. كتب بريتون لاحقًا كتاب «فن السحر» (١٩٥٧) الذي يتناول تاريخ العلاقة بين الفن والسحر منذ عصر ما قبل التاريخ وحتى الوقت الحاضر.
كان التعامل الانتقائي مع مختلِف التقاليد السحرية في أوروبا الغربية في مطلع القرن العشرين بمثابة تدريب فكري على تصفح العالم الحديث عن طريق سحر الماضي، وكان بمنزلة رد فعل واعٍ ليس نابعًا من الحاجة إلى التحكم في الطبيعة، وإنما من الرغبة في إحداث تحول في حياة النفوس الداخلية؛ فقد كان السَّحَرة الجدد يتعقبون رحلتهم الخاصة لبلوغ التنوير الروحي. ويمكن فهم هذه الحركة من منظور تاريخي اجتماعي ثقافي، لكن لا بد من مراعاة مدلولاتها النفسية للأفراد. وبالطبع، ينطبق هذا أيضًا على حالات اللجوء للسحر في أي وقت من الماضي.
الافتتان يخلق عالمًا ثانويًّا يستطيع كلٌّ من المصمم والمتفرج دخوله لإشباع حواسهما وهما بداخله، لكن هذا العالم في نقائه فنيٌّ من حيث الرغبة والغاية. أما السحر فيُحدث — أو يُزعم أنه يُحدث — تغييرًا داخل العالم الأصلي … وهو ليس فنًّا وإنما أسلوب، وغايته حيازة القوة في هذا العالم والسيطرة على الأشياء والإرادات.
لكن هذه التعريفات بعيدة كل البعد عن الوضوح في إطار السياق التاريخي؛ فباحثو القرون الوسطى الذين مارسوا السحر كانوا يحاولون ممارسة الافتتان، من منطلق أن «العالم الثانوي» — أي عالم الغيبيات — موجود أيضًا في «العالم الأصلي». ومع ذلك ظلت هناك أمور كثيرة مجهولة ومبهمة. ومن هذا المنطلق، كان هدف السحر الفعلي هو تحرير العالم من السحر. بالإضافة إلى ذلك، فإن الرغبة في السحر والرغبة في الافتتان لم تكونا على الإطلاق غايتين حصريتين بصورة تبادلية في أي سياق حديث؛ فقد كان آليستر كراولي (١٨٧٥–١٩٤٧) — الذي كان عضوًا في أخوية «الفجر الذهبي» وبات يستمتع بشهرته السيئة بأنه «الوحش الكبير» و«أخبث رجل في العالم» — يسعى لبلوغ الافتتان عن طريق السحر والجنس والمخدرات، لكنه كان يؤمن أن هذه الرحلة منحته قوًى سحرية تمكِّنه من السيطرة على الآخرين.
السحر والتكنولوجيا
إذا انتقلنا من المجرد والفكري إلى العملي والفعلي، فسنجد أن الاحتكاك المبدئي بالتكنولوجيا الجديدة كثيرًا ما يلهم تأويلات غير علمية حول طريقة عمل هذه التقنيات أو استخدامها. فالاعتياد لا الفهم العلمي هو الذي ينزع عن التقنيات ما يكتنفها من طابع سحري لدى بدء ظهورها؛ وهكذا يستطيع الأشخاص نبذ التأويلات السحرية دون أن يتبنَّوْا تفسيرات علمية للتكنولوجيا. فكم شخص يدرك حقًّا كيف يمكن لقطعة معدنية صغيرة أن تلتقط الموجات غير المرئية التي تُبث في الهواء وتحوِّلها إلى صوت وصورة؟ هذا ما يفعله جهاز التلفزيون. إننا نقبل ذلك وحسب ونعتبره أمرًا غير سحري، لكنه لا يزال يثير حيرة عقول كثيرة. أستطيع أن أتفهم تمامًا سبب اعتياد سيدة عجوز في إنجلترا في مطلع القرن العشرين — بعد أن أدخلت الكهرباء إلى منزلها — سد ثقوب المقابس عند عدم استخدامها بغرض منع تسرُّب الكهرباء.
وقد أسفرت ردود الأفعال المبدئية تجاه الكاميرات والكهرباء — في قرى إنجلترا خلال القرن التاسع عشر — عن ظهور تأويلات سحرية لهذه القوى الجديدة الغريبة؛ فكانت عملية التقاط صورة لشخصٍ ما في مقاطعة سومرست تعتبر أن الشخص «خُطف»، بما يعني أنه «طُلب» أو سُحر؛ وأن عواقب ذلك تتمثل في سوء الحظ أو الموت المبكر. وبالمثل، عندما بدأت البطاريات تظهر في المزارع والورش، ثارت اتهامات لأصحابها بأنهم يستخدمون «القوة الكهربائية» لإيذاء الناس بطريقة تشبه السحر. ويمكن العثور على ردود أفعال مبدئية مشابهة تجاه هذه الابتكارات التكنولوجية نفسها في مختلِف الثقافات حول العالم.
في أواخر القرن التاسع عشر، قدَّم المستكشفون والمبشرون الأوروبيون كاميراتهم على أنها أجهزة سحرية كي يؤكدوا تفوقهم، أو لضمان إمكانية الوصول الثقافي لثقافة السكان الأصليين. على سبيل المثال، انتحل الرحالة الاسكتلندي جوزيف طومسون شخصية «مجانجا»، أو معالج في شرق أفريقيا، مخبرًا أبناء قبيلة «ماساي» أن الصور التي يلتقطها لمحاربيهم من شأنها أن تزيدهم بسالة في المعركة على نحوٍ سحري. بعدما انكشفت حقيقة عمل الكاميرا بعد عقود، ظل استخدام الصور جزءًا من ممارسة السحر الشعبي. في غرب كينيا في خمسينيات القرن العشرين، ابتكر الأطباء السحرة طقوسًا لاستنزال اللعنات تتضمن أن تنزف صورة الضحية عند قطعها كدليل على نجاح اللعنة؛ ولهذا السبب، كان الكثيرون يعارضون التقاط صور لهم. لكن إحدى الجماعات المسيحية الأصولية تصدت لذلك بترويج فكرة أن التقاط صورة الشخص مع الكتاب المقدس يبطل مفعول أي أعمال سحرية. استُخدمت الصور أيضًا في ممارسات مماثلة مرتبطة بالسحر المتجانس في أمريكا في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ إذ وجد جامعو الأغراض الفولكلورية الذين عملوا في المجتمعات العرقية الألمانية والأمريكية الأفريقية أن الصور استُخدمت في أشكال قديمة من السحر المتجانس. فمثلًا، كان يُعتقد أن دفن صورة العدو بحيث يكون الوجه نحو الأسفل ستؤدي إلى إنهاء حياة هذا العدو مع اختفاء معالم الصورة. وبالمثل، يمكن حرق الصورة مع التمتمة بتعويذة معينة أو ثقبها بمسمار أو رسم كفن على ظهرها ووضع الصورة مقلوبة لتحقيق الغاية نفسها.
ولم تكن التكنولوجيا أيضًا منيعة أمام التدخلات السحرية؛ فالسيارات في جميع أنحاء العالم اليوم تحفل بالتمائم طلبًا لحمايتها وحماية راكبيها. وقد اكتشف علماء الإثنوغرافيا الذين عملوا في مروج بوكاج الفرنسية خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، أن حوادث السيارات أو حوادث التحطم كانت تُعزى لأسباب سحرية. وهذه الفكرة ليست سوى شكل تكنولوجي معاصر للاتهامات المتكررة التي وردت في المصادر الأوروبية القديمة، التي كانت تعتبر الساحرات مسئولات عن تحطم عجلات العربات التي تجرها الخيول أو وقوعها في الوحل. وفي بعض مناطق أفريقيا، أضاف ظهور الجرارات بُعدًا جديدًا لصراعات أعمال السحر المرتبطة بالزراعة؛ فقد كشفت دراسة عن الحركة على الطرق في غانا أن تحطم السيارات والشاحنات في المواقع التي تكثر فيها الحوادث على الطرق الجديدة الجيدة أثار شكوكًا في أن يكون سبب هذه الحوادث هو السحر.
والهاتف المحمول هو أحدث تكنولوجيا غيَّرت شكل العلاقات الاجتماعية الأفريقية اليومية. بالرغم من عدم النظر إلى الهواتف المحمولة كتقنية سحرية، اعتقد البعض في بدء ظهورها أنها قد تُستخدم كأداة لإلحاق الأذى السحري؛ ففي نيجيريا عام ٢٠٠٤، أدى انتشار الهواتف المحمولة إلى إشاعة الذعر العام بعد انتشار سريع لشائعات مفادها أن أي شخص يرد على مكالمات من أرقام معينة خبيثة سيصاب بالجنون أو يسقط ميتًا؛ فاجتاح الشبكة سيل من الرسائل النصية حيث أخذ كل شخص يتواصل مع أصدقائه وأفراد عائلته لتحذيرهم من تلك الأرقام، التي نُشر بعضها في الصحف. لكن سرعان ما تلاشت تلك المخاوف بالطبع. يُذكِّرنا هذا الذعر بالهلع الشيطاني الذي ساد أمريكا في مطلع الثمانينيات، حين أشيع أن أسطوانات أغاني الهيفي ميتال تحوي رسائل شيطانية لا يمكن سماعها إلا بتشغيل الأسطوانات بالعكس، وزُعم أن هذه الرسائل قد تؤثر على لاوعي الأشخاص وتدفعهم للانتحار أو عبادة الشيطان. وقد أذكى هذه النار الأصوليون المسيحيون الذين ازداد تأثيرهم بقوة بفضل انتشار القنوات التليفزيونية مدفوعة الاشتراك. وفي الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا، أدَّى تطوير «تطبيقات» الهاتف المحمول إلى قيام أصحاب المشروعات ببيع تعاويذ سحرية عبر هذه الوسيلة الجديدة.
تقع الإعلانات في جوهر الفن والتكنولوجيا والتجارة في القرن العشرين؛ ولهذا ليس من المستغرب أن نجد لغة السحر والافتتان تُطبق على أرباب هذه الصناعة. ولا شيء أدل على ذلك من منتجات الحِمية التي تعد بنتائج مذهلة، ومزيلات العرق التي تجذب الجميلات، والعطور التي تثير الرجال، والشامبو الذي يروَّج له على أساس خزعبلات علمية وهمية؛ فاختيار الكلمات المستخدمة في الإعلان عن هذه المنتجات أهم من محتواها الكيميائي؛ فالإعلانات تضيف قيمة للمنتجات، وتحوِّلها بفضل استخدام قوى اللغة والوعد بتحقيق الأمنيات. أهم ما في الأمر أن هذه المنتجات تعد المستهلك بالتحكم في مصيره مثل السحر إذا ما تغاضى عن مبالغاتها، وهو ما يفعله الملايين. فلو لم نكن نعيش حتى الآن في عالم سحري، لما كانت صناعة الإعلانات لتوجد بالطريقة التي نعرفها الآن.
الطفل بداخلنا
نمر جميعًا بلحظات سحرية خاصة. ألم تَقُمْ يومًا بحثِّ سيارتك على الإسراع قليلًا وأنت تصعد مرتفَعًا؟ هل تمنيت يومًا أمنية؟ هل شعرت أن موقفًا معينًا كان أكثر من محض صدفة؟ يمكننا التعبير عن رغبتنا في حدوث شيء بصورة عقلانية — مثلًا «أتمنى أن تفقد وظيفتها» — لكن إذا ما تحققت، فقد تتحول التأويلات إلى تأويلات سحرية. هذه ظواهر شائعة خلال ساعات استيقاظنا. أما في أحلامنا، فتأخذنا عقولنا إلى عوالم وأنشطة سحرية؛ فيمكننا أن نطير. تستطيع أفكارنا أن تغير عالم الأحلام حولنا. والحالة الطبية التي تُعرف باسم شلل النوم — والتي سُجلت في ثقافات مختلفة حول العالم وفي السجلات التاريخية — من شأنها توليد ما يبدو كاعتداءات حقيقية ليلية من كائنات خارقة؛ إذ تصاب «الضحية» بشلل مؤقت، وهلوسة سمعية وبصرية، وشعور بوجود حِمل ثقيل على الصدر والحلق. وقد أدت هذه الحالة إلى ظهور شهادات بوجود اعتداءات من الساحرات والشياطين والأشباح والكائنات الغريبة.
حتى إذا لم يكن بعض القراء قد تعرض لمثل هذه الدوافع والتجارب، فلا شك أنهم مروا ببعض اللحظات السحرية في صغرهم. كما أشرنا في فصل سابق، طالما اهتم علماء النفس ﺑ «التفكير السحري» لدى الأطفال. ويقول التعريف العملي الذي اقترحته الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين إن الحالة تنطبق على الشخص الذي «يعتقد أن أفكاره أو كلماته أو أفعاله تستطيع فعلًا — أو قد تستطيع بطريقةٍ ما — التسببَ في وقوع نتيجة معينة، أو تمنع وقوعها بوسيلة تتنافى مع القوانين الطبيعية للمسببات والنتائج.» وقد ساوى فرويد بين التفكير السحري لدى الأطفال والتفكير الشائع في المجتمعات البدائية ولدى العصابيين، فاعتبره وسيلة بقاء في مرحلة ثورية بدائية. لكن عالم النفس التطوري الرائد جان بياجيه هو أول شخص أجرى دراسات تجريبية مكثفة على عمليات تفكير مرحلة الطفولة، وذلك في عشرينيات القرن العشرين. استنتج بياجيه أن التفكير السحري نابع من عدم قدرة الأطفال على التمييز بين ما هو عقلي وما هو مادي.
ويعتقد أن السن من السادسة إلى التاسعة هي السن التي ينبذ خلالها أغلب الأطفال التفكير السحري كقناعة راسخة. غير أن العديد من الدراسات الحديثة أظهرت أن الأطفال في سن الثالثة قد يكون لديهم إحساس «عقلاني» متطور حول العلاقة السببية المادية، ومع ذلك يمارسون التفكير السحري. أجرى عالم النفس التطوري يوجين سابوتسكي تجربة عرض فيها على أطفال في سن الرابعة مائدة «سحرية» تشبه مائدةً وصفها لهم في قصة تدور حول فتاة تمتلك مائدة سحرية تستطيع تحويل دُمى الحيوانات إلى حيوانات حقيقية. وعندما سأل الأطفال عن إمكانية حدوث ذلك، أجابت قلة منهم بنعم. لكن عندما وُضعت دمية على شكل أسد على المائدة السحرية وتم تحريكها بواسطة مغناطيس، أبدى أغلب الأطفال مظاهر الخوف من تَحوُّل الدمية لأسد حقيقي، أو قاموا بالتلويح بعصًا سحريةٍ كان الاختصاصي النفسي قد أعطاهم إياها لمنع الدمية من التحرك. نستنتج من ذلك أن الأطفال عبروا لفظيًّا عن رأي عقلاني، لكنهم عندما تعرضوا لموقف يبدو سحريًّا، جاءت استجابتهم بطريقة سحرية.
وقد استكشف العلماء موضوع التفكير السحري من حيث «تفسيرات» الأطفال فضلًا عن رغباتهم؛ كرؤيتهم للحياة والموت مثلًا. على سبيل المثال، فسَّر طفل في الخامسة ما يحدث للأشخاص حين يموتون بأنهم: «يعودون إلى بطون أمهاتهم ويرجعون أطفالًا صغارًا مرة أخرى.» وهذا يبدو مثل فلسفة التجسُّد. تستطيع أفكار الطفولة المبكرة التوصل إلى تشابهات أخرى لما هو وارد في أصول الدين؛ فافتراض الأطفال البديهي أن الجمادات تشعر اعتقاد إحيائي في الأساس.
وبعيدًا عن تبنِّي منظور عقلاني للعالم، يشجع الآباء في مختلِف الثقافات التفكير السحري لدى أطفالهم في سن ما قبل المدرسة، ويقدمون تبريرات سحرية لإرضاء أطفالهم في المراحل المبكرة عند الاستفسار عن طريقة عمل الأشياء أو أسباب حدوثها. كما تشجع كتب الأطفال الخيالات السحرية، وتقدم برامج التليفزيون للأطفال الصغار عوالم سحرية لا تربطها بالعالم الواقعي علاقة قوية؛ فلماذا نغذي التفكير السحري في أطفالنا؟ ما تبعات ذلك على المدى البعيد؟ تردد هذا السؤال كثيرًا: هل رواية «هاري بوتر» مضرة؟ وكما هو متوقَّع، تأتي الإجابات متفاوتة وغير حاسمة وتحمل عدة تفسيرات؛ فليس من السهل فهم التطور المعرفي البشري، مع انقسام الآراء على المستوى الأساسي بين تأثير البيئة والتنشئة. من وجهة نظر إيجابية، اقترح البعض إمكانية استفادة الأطفال من القصص الخرافية والخيالية في استخلاص دروس قيِّمة في التعرُّف على خصائص مرغوبة اجتماعيًّا كالإحسان والصداقة والثقة. علاوةً على أن استكشاف العوالم السحرية يساعد الأطفال على فهم الحدود بين الواقع والخيال مع نمو إدراكهم الأساسي. كذلك قد يساعد التفكير السحري في إثارة التفسيرات المجردة والنظرية الضرورية لتطور المَلَكات الفكرية والإبداعية. ويمنح الاعتقاد السحري الأطفال استراتيجيات التأقلم الضرورية للتعامل مع مواقف التوتر والمآسي التي لولا ذلك ما كانوا مؤهلين عاطفيًّا لمواجهتها.
أكد علماء التربية في القرنين السابع عشر والثامن عشر مرارًا وتكرارًا أن سرد القصص الخيالية وقصص الأشباح والساحرات والجنيات على الأطفال قد يسبب آثارًا مضرة مستمرة؛ إذ سيكبر الصبيان ليصبحوا رجالًا جبناء وتعساء، والفتيات ليصبحن نساءً حمقاوات يؤمنَّ بالخرافات. لكن ثَمَّةَ أدلة قليلة في المؤلفات الحديثة حول علم النفس التطوري تدعم هذه الفكرة الخاصة باستمرار الأثر مدى الحياة، غير أن البعض زعم بوجود علاقة بين التفكير السحري لدى الأطفال والإصابة بالوسواس القهري. لكن لم تؤيد دراسة حديثة شملت ١٠٢ من أطفال المدارس هذه المزاعم، إلا أنها كشفت وجود علاقة متبادلة بين التفكير السحري وزيادة أعراض القلق العام.
ما زال السحر يعرَّف في كثير من مؤلفات علم النفس التطوري بأنه شيء ينتمي للآخر، ولكن هذه المرة، ذلك الآخر هو طفولتنا؛ فمع دخول مرحلة البلوغ نظن أننا «نفقد» طفولتنا، ومعها نفقد ذاتنا السحرية. والمجتمع الغربي الحديث يفضل الحفاظ على هذا «الآخر». لكن التعبير عن التفكير السحري في مرحلة البلوغ يعد تصرفًا غير سوي في رأي الكثيرين، ويخضع للتفسير من منظور الإصابة بالقلق والاضطرابات العصبية والعقلية. لكن كما رأينا، لا يمكن تفسير اعتقاد البالغين في السحر من منظور تفسير مرضي فحسب.
أهي تجربة عالمية؟
إذنْ، نحن جميعًا فكَّرنا تفكيرًا سحريًّا في مرحلةٍ ما. وتتأثر طريقة تعاملنا مع الأمر في الكبر بعوامل الماضي والمجتمع والثقافة والتعليم والتجارب الشخصية. في أغلب المجتمعات، تشكل التعاليم الدينية الراسخة إطارًا ثقافيًّا مقبولًا لعقلنة استمرار التفكير السحري، وقد أطلق البعض على ذلك وصف «الاعتقاد السحري المؤسسي». يمكن النظر للصور الميكانيكية للعبادة — كالصلاة والشعائر الأخرى — إما على أنها سحرية أو دينية بحسب من يؤديها والسياق الذي يؤديها فيه، ويمكن الرجوع في ذلك إلى مناقشة الدين الشعبي في مقدمة الكتاب؛ فالاعتقاد بأن إلهًا أو آلهة يمكنها التأثير في الشئون الدنيوية أو تحديد وجودنا بعد الموت يُعد بالأساس تفكيرًا سحريًّا كما هو مفهوم في علم النفس التطوري.
كتب إميل دوركايم ذات مرة يقول: «ثَمَّةَ شيءٌ ما خالد في الدين مقدَّر له البقاء أكثر من كل الرموز المحددة التي أحاط بها التفكير الديني نفسه تباعًا.» يمكن حذف كلمة «الدين» من هذه العبارة ووضع كلمة «السحر» مكانها وستظل العبارة صحيحة. وقد أدت محاولة تحديد ماهية ذلك «الشيء» إلى اقتراح مزيد من الباحثين المعاصرين أن السحر والدين — كتجربة — في الماضي والحاضر، يقومان على عمليات معرفية كلية. وكلمة معرفية تشير إلى الطريقة التي تُحصَّل بها المعرفة، وطريقة تنظيمها في العقل، وطريقة توظيفها، سواءٌ عن وعي أو لاوعي. ويتمثل أحد أمثلة كيفية تطبيق ذلك في الاقتراح بأن النزعة السحرية تنبثق من تطوير البشر المبكر لاستخدام الأدوات؛ ووفقًا لهذه الفكرة، لم تنشأ وظائف المخ المستخدمة في اللغة من أجل التواصل، بل من أجل استخدام الأشياء، فإذا كانت الكلمات قد نشأت بسبب «استخدام الأشياء»، فإن ذلك سيساعد في تفسير حاجة الإنسان لتوظيف الكلمات في تنفيذ أشياء.
إن الدراسات التي تناولت السحر المعديَ والمعرفة أقل اعتمادًا على الافتراضات؛ إذ يمارس البالغون في العصر الحديث مجموعة من الأنشطة الدنيوية التي تعكس مفاهيم العدوى. ضع علبة مشروب بالقرب من قدرٍ من الغائط، وسيرفض أغلب الأفراد تناولها إذا عرضتها عليهم حتى وإن كانت مغلقة وعُقمت لاحقًا. وأغلب الأشخاص يشعرون بالاشمئزاز من فكرة ارتداء ملابس مستعملة. ربما تكون هذه الاستجابات المعرفية السلبية قد نشأت لأنها — بالرغم من عدم عقلانيتها — تؤدي وظيفة منشودة هي تفادي المصادر الحقيقية للعدوى. كما أننا نُظهر نزعات عدوى «إيجابية» مثل السعي للحصول على تذكار من المشاهير؛ حيث نشعر برباط عاطفي دائم بنجم شهير عن طريق امتلاك شيء ملموس. انظر مثلًا إلى رغبة الجماهير في لمس أجسام كبار مطربي البوب. وفي الثقافات الأخرى، لا يزال إدراك فكرة العدوى يجري التعبير عنه بأساليب دينية ودنيوية.
وإذا سلمنا أن السلوك والتفكير السحريين سمات معرفية عالمية، فإنهما — على الأرجح — سيساعداننا في تفسير جوانب من السحر في السياقات التاريخية؛ لأننا نمر اليوم بنفس التجارب العقلية والبدنية. وقد أُجريت محاولات قليلة للبحث في هذا الأمر؛ فاعتمادًا على الكتابات المسيحية الأورثوذكسية الأولى والأسفار وأوراق البردي السحرية الإغريقية كمصادر، ظهرت نظرية معرفية للسحر تستند إلى ثلاثة عوامل متداخلة؛ أولًا: توظيف القصص عن السحر والمعجزات التي تقدم العبر والتفسيرات والإلهام. ثانيًا: المعتقدات التي تؤكد على معقولية السحر. ثالثًا: السلوكيات المشروطة كالأفعال المتكررة والمناورات غير الواعية والنزعات المذكورة أعلاه. وقد تبنَّى كتاب حديث منهجًا أكثر انتقائية يسعى — كما يوضح عنوانه — إلى فهم «حقائق العرافة والسحر الشعبي في بدايات العصر الحديث في أوروبا». يعتمد مؤلف الكتاب على علم النفس والعلوم العصبية لاستكشاف دور الأحلام والانتشاء والثمالة وغيرها من أشكال الإدراك المتغير، في خلق تجارب «حقيقية» تؤكد المعتقدات الخاصة بآثار الممارسات السحرية. وتتضح هنا أهمية الوعي بعلم الإدراك في فهم معنى السحر تاريخيًّا، لكننا بالطبع لا نزال نواجه مشكلة ابتعادنا عن الماضي والبرهان الانتقائي الذي وصل إلينا. فمثلًا، كم عدد الأشخاص الذين تعرضوا لما يمكن أن نسميَه تجربة سحرية بالمعنى الإدراكي الحديث لكنهم لم يفسروها تفسيرًا سحريًّا؟ يبحث مؤرخو السحر والعرافة في المصادر التي تقدم لمحات من التجارب الفردية النفسية العصبية، لكنهم نادرًا ما يؤكدون التفسيرات المعرفية الكلية. لكن هذا لا يعني أنها غير موجودة.
لنعد إلى الحاضر وإلى معنى «التجربة السحرية» في العالم المعاصر. أوضحت عالمة أنثروبولوجيا بريطانية معاصرة كيف أن تجربتها السحرية الخاصة ليست بالضرورة خارقة أو غامضة، وليست بالضرورة جانبًا من جوانب أزمة الحداثة أو ما بعد الحداثة، بل إنها «علاقة «عاطفية» مع المكان من خلال مفاهيم الأسلاف والمعتقدات الشعبية والأساطير.» والطبيعة قابعة في صميم هذا المعنى للسحر. ويمكن تفسير هذا على أنه نتاج التفكير العقلاني الغربي الانعكاسي الذاتي. غير أن أفكار مشابهة حول «الوعي السحري» ظهرت فيما يتعلق بالعلاقة بين السَّحَرة وزبائنهم في مدينة باناراس الهندية: «الساحر هو الشخص — رجلًا أو امرأةً — الذي يخلق السياق الذي تدخل فيه العقول في علاقة، غالبًا ما يُنظر إليها على أنها حدثٌ «سحري». ومع أن التجربة استثنائية في الواقع، فإنها طبيعية تمامًا.» يمكن رفض هذه النتيجة أيضًا بوصفها تعبيرًا عن التفكير العقلاني الغربي، لكن مثل هذه الدراسات تساعد في هدم الحواجز الثقافية والعاطفية بين المراقب والمشارك، وتقدم مفاتيح لفهم معنى السحر عند ممارسته. في الواقع، كثيرًا ما يضيع أحد معاني السحر في عملية دراسته، لكن ينبغي ألا يكون الوضع كذلك.