سر المسافر
كان يا ما كان، رجل اسمه أوجست كان يعمل في تجارة النبيذ، ويعيش مع زوجته نينا وابنتهما المحبوبة الصغيرة. كانت الطفلة الصغيرة مصدرَ سعادة لا تُوصَف لوالِدَيها. وفي أحد الأيام، وبينما كانت الزوجة نينا تُعِدُّ حساءَ الخضار لطفلتها التي كانت تلعب في فِناء البيت تحت أشعَّة الشمس الدافئة، دخل خِلسةً رجل شرير وأمسك بالفتاة وهرب بها.
يُمكن للمرء أن يتصوَّر بسهولة مقدارَ حزن وكمَد الأبوَين اللذَين حاولا بكل الطرُق والوسائل استعادة ابنتهما بلا جدوى، ولم يبقَ أمامهما سوى أن يُهون أحدهما على الآخَر هولَ المُصاب، والصبر على المصيبة التي حلَّت بهما وأصابتهما في ابنتهما الوحيدة.
مرت خمس سنواتٍ من البكاء والحزن المتواصل على فقدان ابنتهما، لم يتمكَّنا خلالها من العثور على أي أثرٍ لها.
وفي مساء أحد الأيام، وبينما كان أوجست عائدًا إلى البيت، لقِيَه في الطريق ولدٌ صغير يبلغ من العمر حوالي سبع سنوات، ناداه قائلًا: «من فضلك يا سيدي، أنا جائع.»
فقال أوجست للصغير: «حسنًا يا صغيري. تعال معي إلى البيت لتتناول العشاء معنا.»
ثم أمسك بيد الصغير وسأله: «ما اسمُك يا بني؟»
قال الصغير: «أورستو.»
قال أوجست: «وأين أمك؟»
ردَّ الصغير بحُزن: «تُوفِّيت منذ يومَين فقط ووُورِيَت الثرى.»
شدَّ أوجست برفقٍ على يد الصغير.
وسأله: «وأين والدُك؟»
قال الصغير: «لم أره من قبلُ على الإطلاق. كان عمري سنتَين فقط عندما تركَنا وذهب ليبحث عن الرزق في الأرض، كما ذكر ذلك في رسالةٍ تركها وراءه قبل سفره. ومنذ ذلك الوقت انقطعَت أخباره عنا ولم نَعُد نسمع عنه شيئًا، وأخذَت أُمي تَبكيه كما لو أنه قد فارق الحياة.»
قال أوجست للصغير: «يُؤسِفني ذلك يا بني.» وخطر ببال أوجست على الفور تبنِّي هذا الصغير ليكونَ مصدر سعادةٍ وسلوى له ولزوجته. لكن بالطبع كان عليه أولًا أن يتحدَّث إلى زوجته نينا حول هذا.
شعر أوجست بغِبطةٍ كبيرة لرؤية زوجته كيف أحسنَت استقبال الصغير في بيتها.
وهكذا تبنَّى أوجست وزوجتُه هذا الولدَ الصغير. وأبدى أورستو الكثير من مظاهر الحُب والعرفان بالجميل نحوَ أبوَيه بالتبنِّي حتى إنهما شعرا بالامتنان والرضا لِقيامهما بتبنِّي هذا الصغير الذي ملأ حياتهما بالبهجة والسرور. وكبر أورستو وهو مثالٌ للولد الصالح والبار بأهله، وكان مُتفوِّقًا في دراسته وتعلَّم القراءة والكتابة بشكلٍ جيد.
وعندما بلغ أورستو أشُدَّه، بدأ والده يستعين به في تجارة النبيذ حيث برَع أورستو في عمله وأثبت جدارته وقُدرته في توصيل الطلبات كما يجب من منزلٍ إلى آخر.
لكن هذا النوع من العمل لم يَستهوِ أورستو كثيرًا؛ كان يُريد عملًا آخر يُساعده على زيادة دخلِ والدَيه وزيادة ثروتهما لتُوفِّر لهما حياةً كريمة في مرحلة الشيخوخة. وهكذا أعطى أوجست ابنه بالتبنِّي بعضَ النقود عندما بلغ الثامنة عشرة من العمر ليبدأ بها عملًا جديدًا. واشترى أورستو عددًا من أكياس التِّبن تمكَّن من بيعها برِبحٍ جيد.
اشترى أورستو بعد ذلك المزيد من أكياس التِّبن وبيعها أيضًا بربحٍ جيد. وهكذا أخذَت تجارته بعد فترةٍ قصيرة من الزمن تنمو وتزدهر يومًا بعد يوم، وتمكن من شراء عربةٍ وحصان ودكَّان صغير.
ابتسم الحظ بالفعل كثيرًا لهذا البيت الصغير، لكن دموع الحزن كانت تنهمِر من الأبوَين في غفلةٍ منهما كلَّما تذكَّرا ابنتهما المفقودة التي لم يتمكَّنا من نسيانها على الرغم من فرَحِهما بوجود أورستو. ومن فترةٍ إلى أخرى كانت تظهر الكآبة بوضوح على وجه نينا، وكان أورستو عندما يعود إلى البيت يجد أُمَّه (هكذا كان يُناديها) في أغلب الأحيان غارقةً في حزن شديد.
كم كان يرغب أن يُهوِّن عليها، وكان مُستعدًّا لأن يُضحي بنصف عمره؛ ليعرف المصيرَ الذي لاقته هذه الفتاة الصغيرة المسكينة.
وفي هذه الأثناء قام أورستو ببناء بيتٍ صغير وجميل على تلةٍ تُحيط بها الأعشابُ الخضراء من كل جانب، وطلب من أبوَيه بالتبنِّي أن ينتقِلا إلى البيت الجديد ليعيشا هناك. وهكذا توقَّف أوجست عن العمل في تجارة النبيذ. وأخذ يُمضي كلَّ وقته وهو يعمل في حديقة المنزل بجانب زوجته الوفية، وهما يتحدَّثان طيلة الوقت تقريبًا عن ابنهما الشابِّ أورستو.
وفي أحد أيامِ الآحاد، كانوا يتناولون طعام العَشاء عندما سمِعوا طَرْقًا على الباب. فخرج أورستو ليرى مَن الطارق، وعاد ليُخبر أبويه بوجود أحد عابري الطريق على الباب يطلُب استضافته لفترةٍ من الوقت للراحة. رحَّب الثلاثة بالرجل وأفسحوا له مكانًا على الطاولة ليُشاركهم في تناول طعام العشاء. كان المسافر رجلًا كبيرًا في السن تفُوح منه رائحةُ الطرُقات وقد غزا الشَّيب رأسه، ويضع قبعةَ قشٍّ كبيرةً غطَّت معظم وجهه.
جلس الرجل معهم إلى الطاولة وبادرَهم بالشكر لاستقبالهم له من دون معرفةٍ مُسبقة. وقام بعد ذلك بوضع أغراضه في زاوية البيت وهو ينظر فيما حوله، ثم قال: «كنتُ مسافرًا على الطريق منذ يوم أمسِ بدون راحةٍ ولا زاد، وسأكون مُمتنًّا لكم لو وفَّرتم لي قليلًا منهما.»
قالت نينا للمسافر: «تفضَّل اجلس معنا إلى الطاولة.» وقام أورستو بإحضار طبق طعام ووضعه أمام الضيف. وأضافت نينا قائلة من باب المجاملة: «كما ترى، نحن هنا وحْدَنا، وسنكون سُعداء أن نتحدَّث مع مسافر يستطيع أن يُخبرنا عما يجري في العالَم.»
أجاب المسافر بصوتٍ هادئ: «أخشى يا سيدتي العزيزة ألا أتمكن من إخباركم الكثير؛ لأنني أُعاني من مرضٍ شديد منذ أكثرَ من سنة، ولم يَمْضِ على خروجي من الكهف الذي كنتُ أعيش فيه سوى أيامٍ معدودة فحسب.»
خيَّم الصمت على الجميع، ولم يعُد أحد يتحدَّث حول هذا الموضوع طيلة فترة تناول العشاء، وبدا الجميع كما لو كانوا يتقصَّدون الحديث حول أشياء عادية؛ بُغيةَ تفادي الظهور بمظهر المُتطفِّلين.
وفي وقتٍ لاحق، وبينما كانوا يجلسون حول المدفأة الجدارية، نظرَت نينا في النار المُوقَدة كما تفعل كل يوم. ثم صاحت فجأة:
«أوه، ليتني أعرف شيئًا عن أحوال ابنتي الصغيرة المسكينة الآن؟»
سأل الضيف باهتمامٍ ما إذا كانت لديهم ابنة؛ فأخبرته نينا عن ذلك اليوم المروِّع الذي فقدَت فيه ابنتها، وكيف أنهما تبنَّيَا أورستو لاحقًا ليحلَّ مكان ابنتهما المفقودة. وكان المسافر يُنصت إليها باهتمامٍ مُتزايد وهو يمسح بين الفينة والأخرى قطراتٍ من العرق قبل أن تتساقط عن جبينه مما أثار استغراب أوجست ونينا الشديد؛ وذلك لأن الغرفة باردةٌ أكثر مما هي دافئة. وكثيرًا ما كان المسافر يُقاطع برفقٍ حديث نينا ليستفسِر منها حول بعض التفاصيل.
وعندما انتهت نينا من رواية قصتها، بدا وجه الرجل شاحبَ اللون مثل لون الحجر، وأخذ يُحدق بشكلٍ مُتواصل في أورستو. ثم سرعان ما انهار على الأرض فاقدًا الوعي.
قالت نينا: «لقد كان صديقنا المسكين صادقًا عندما أخبرَنا بمرضه الشديد الذي يبدو أنه لا يزال يُعاني منه. سأُعِدُّ له الفِراش ليستطيع أن يرتاح قليلًا.»
وقام أورستو وحمَل المسافر بين ذراعَيه ووضعه برفقٍ فوق الفراش. فتح الرجل العجوز عينَيه وأخذ يُحدِّق بما حوله في دهشةٍ واستغراب، ثم همس قائلًا: «سيسيليا.»
ثم غطَّ بعدَها في نومٍ عميق. ويبدو أنه نام بعمق طيلة الليل، وذلك لأنه استيقظ عند الفجر وأخذ يستعد للمغادرة.
استيقظ أورستو أيضًا عند الفجر، وانطلق بعربته نحو سوق المدينة ليبيع بضاعته هناك كما يفعل كل يوم. ولكنه تفاجأ كثيرًا عندما رأى هذا المسافر العجوز يقف أمامه في وسط الطريق ويُناديه باسمه وهو يطلُب منه التوقُّف.
سأل أورستو المسافر بعد أن توقف بالعربة ونزل عنها: «ماذا تريد أيها العم الطيب؟»
فأجابه قائلًا: «لديَّ شيء هام جدًّا أريد أن أُخبرك به، ولم أستطع أن أبوح به ليلة أمس أمام والدَيك.»
قال أورستو: «في هذه الحالة، لا حاجة بي إلى سماع ذلك أبدًا؛ فأنا لا أُخفي عنهما أيَّ أسرار. تستطيع أن تقول أمامهما ما تريد أن تقوله لي.»
قال المسافر: «أتوسَّل إليك أن تسمعني وحدَك كاستثناءٍ هذه المرة؛ إكرامًا لي كرجلٍ عجوز ربما يُفارق الحياة قريبًا. عندي سِر يقضُّ مضجعي يجب أن أبوح به لك.»
قال أورستو: «وهل لي علاقة بهذا السر؟»
قال المسافر: «نعم. وسوف تعرف عاجلًا أم آجلًا مَن هما أبواك الحقيقيَّان.»
حدَّق أورستو في الرجل مَليًّا، ثم قال: «أخبرني بما لديك إذن.»
قال المسافر: «لا، ليس هنا. اعقل حِصانك إلى جذع الشجرة وتعالَ معي إلى الكهف حيث لا يسمعنا أحد، وتستطيع في الوقت نفسِه أن تُراقب من هناك عربتَك وحِصانك.»
كان الكهف يبعد عن موقعهما خطواتٍ قليلة. وقام أورستو بعقل الحصان إلى جذع الشجرة، وتوجَّه مع الرجل الغريب إلى داخل الكهف الذي كان غارقًا في ظلامٍ دامس مع خيطٍ بسيط من أشعة الشمس يتسلل إلى داخله. وسرعان ما بدأ الغريب حديثه.
قال: «هل تُحب أوجست ونينا كثيرًا؟»
أورستو: «كيف لك أن تسأل عن هذا. إنني لا أستطيع مهما فعلتُ أن أرُدَّ لهما جميلهما طيلة حياتي مقابل هذا العطف والحنان الذي لقيتُه منهما.»
قال المسافر: «بل تستطيع؛ لأنك سوف تُعيد إليهما ابنتهما المفقودة التي حزنا عليها لسنواتٍ عديدة.»
صاح أورستو: «أين هي؟ هل تعلم أين هي؟»
أجاب العجوز: «نعم أعلم، وسوف أُخبرك ذلك، ولكن مقابل أن تصفح عن الخاطف وألا تُحاول الانتقام منه.»
قال أورستو: «ومن هو ذلك الشقي البائس الذي خطف الفتاة الصغيرة من والديها؟»
قال الرجل: «أنا.»
أفلتَت من أورستو صيحةٌ شديدة من هول المفاجأة، ورفع يده يريد أن يهويَ بها على وجه الرجل من شدَّة الغضب، ولكنه عندما رأى الشيب الذي يكسو رأسه وتذكر الوعد الذي قطعه على نفسه، أمسك نفسَه وأنزل يده.
وفي اللحظة ذاتِها، انفتح جدار خلفي في الكهف، وخرجت منه حورية جميلة تُحيط بها الأنوار الساطعة. أشارت الحورية بأصبعها نحو العجوز وهي تقول: «أورستو، هذا الرجل هو والدك.» لتختفيَ من بعدِها وينغلق الجدار، ويعود الظلام يُخيم على الكهف كما كان من قبل.
شعر أورستو كأنه تلقَّى ضربةً بمطرقة على رأسه. كان هذا والده الذي يقول الآن بأنه هو الذي خطف ابنة والدَيه بالتبنِّي. وكان عليه أن يتلمَّس بيدَيه أطراف جسده عدة مراتٍ ليتأكد أن رأسه لا يزال فوق كتفَيه. ومع ذلك شعر فجأةً في داخله بحبٍّ لا حدود له تجاه ذلك العجوز الذي افتقده لسنواتٍ طويلة ويبدو الآن تجسيدًا حيًّا للبؤس والمعاناة. جثا أورستو على رُكبتَيه وقال: «سامحني يا أبي لعدَم سماعي من قبلُ لنداء الدم الذي يجري في عروقي.»
عانق المسافر أورستو وضمَّه بشدة إلى صدره وهو يقول: «بل أنا مَن يَجِب أن يطلب العفو والمغفرة، وليس أنت. أتوسَّل إليك أن تنظر بعين الرحمة والعطف إلى أفعالي الخاطئة، التي أحاول الآن فقط أن أُصححها قدْر ما أستطيع، وأن أضع كل شيءٍ في نِصابه الصحيح.»
قال أورستو: «على الرغم من أني بالكاد أتذكرك، إلا أنَّ أُمي علَّمَتني أن أحترمك دائمًا.»
قال المسافر: «آه. أمك. لقد أحببتُها كثيرًا.»
سأله أورستو: «ولماذا هجرتَها إذن؟»
قال الرجل: «اسمعني جيدًا يا بني، وآمُل أن تفهم ما سأقوله لك. الإنسان لا يستطيع أن يُفلِح في معارضة قوانين الطبيعة.»
شعر أورستو بحيرةٍ كبيرة.
وروى المسافر قصته على النحو التالي:
«حين كنتُ صغيرًا، كنتُ أخاف الموت بشدة. لقد أرعبني جدًّا هذا الشعور بأن كل البشر سيُلاقون يومًا نفس المصير؛ يُغادرون هذه الحياة الدنيا إلى عالم القبور. لقد كنتُ مُستعدًّا لأن أبيع نفسي للشيطان لو وعدَني بحياةٍ أبدية في هذه الدنيا.
وعندما قابلتُ أمك ووقعتُ في غرامها بجنون، منعني هذا الخوف الوضيع من أن أطلب منها الزواج. وكنتُ أشعر بالقلق حيالَ فكرة أن أموت قبلها وتتزوَّج هي من بعدي مرةً ثانية، وازداد هذا الشكُّ في عقلي المريضِ حتى سبَّب لي قلقًا مُخيفًا.
وأخيرًا علمتُ أن هناك عند سفح الجبل المجاور يعيش ساحرٌ ماكر يتنبَّأ بالغيب، فذهبتُ إليه حيث قال لي إنه يستطيع أن يضمن لي حياةً مستمرة لمدة مائتَي عامٍ بشروطٍ مُعينة. شعرتُ بسرور بالغ لسماع ذلك، وقبلتُ بكل الشروط التي ذكَرها على الفور. قال لي: «يجب أن تتزوَّج آنيتا (وهذا هو اسم أُمِّك)، على أن تُعطوني أول ولدٍ تُرزَقون به. أنا أعيش في قصرٍ بلوري في أعماق البحر الأدرياتيكي لا يُمكن الوصول إليه إلا عبر كهفٍ تحت الماء يُدعى رِواق الدُّلفين. أحضِر الطفلَ إليَّ وستجدُني هناك بانتظارك. وهذا هو المفتاح، وهذه هي خارطة الطريق.» وأعطاني مفتاحًا ذهبيًّا وقطعةً صغيرة من الجلد الملفوف مرسومًا عليها طريق الوصول إلى القصر بطريقةٍ واضحة لا يُمكن معها لأحدٍ أن يضل.
ونظرًا إلى أنني لم أكن أعلم في ذلك الوقت ما هو معنى حُب الأب لأبنائه، استسهلتُ هذه الشروط، وقُمتُ بالتوقيع على العقد الذي أعدَّه الساحر بسرورٍ بالغ. كان جُل همي أن أتزوَّج آنيتا بأسرع وقتٍ ممكن وأن أحصل بعدَها على حياةٍ طويلة معها. وقبل أن يسمح لي الساحر بالمغادرة قال لي: «انتبِه جيدًا. إذا لم تُوفِ بشروط العقد كما يجِب فسوف تموت في الحال أنت وزوجتك وابنك.»
تزوَّجتُ أمَّك بعد عدة أسابيع، وكانت أغلى شيءٍ في حياتي. ولكن سرعان ما بدأت مُعاناتي. وعندما ولدَتك أُمك، لاحظَتْ أنني لم أُظهِر الفرح المُعتاد في مثل هذه المناسبات الجميلة كما كانت تأمُل. ولم أستطع أن أُخبرها بأمر عقدي مع الساحر، وما كنتُ لأُخبرها، وأخذتُ أفكر بتعاسةٍ في أن هذا المخلوق الصغير المسكين الذي هو أنت، والذي كنتُ لأُضحي من أجله بسعادةٍ بكل شيء، سوف يَدفع ثمن السنوات الطوال التي ساومتُ عليها من أجل نفسي. كان حُبي لك يا بُني بلا حدود. وعندما كبرتَ واشتدَّ عودك، نسيتُ تقريبًا كل شيء عن العقد المُرعب. وبدا لي كما لو أنني أكثرُ الناس حظًّا على وجه الأرض. كنتُ أكسب القليل من المال بالكاد يكفينا معًا للبقاء على قيد الحياة، ولكن ذلك لم يُهمَّني. كنتُ أرى نفسي غنيًّا من خلال عينَيك الجميلتَين اللتين كنتَ تنظر دائمًا بهما نحوي عندما بدأتَ تُناديني بأبي.
وهكذا مرت سنوات قليلة بسرعة. وفي إحدى الليالي، ظهر لي الساحر وذكَّرني بالعقد الذي بيننا. هدَّدني وزوجتي بالموت وبموتك أنت أيضًا إذا لم آخُذك إليه في الحال. وفي صباح اليوم التالي، استيقظتُ لأكتشف أنك كنتَ مريضًا وتشعُر بالحُمَّى. وفهمتُ على الفور هذه الرسالة التحذيرية. شعرت بالخوف الشديد لدرجة الجنون، وقمتُ على إثر ذلك بكتابة كلماتٍ قليلة لزوجتي العزيزة آنيتا قلتُ فيها إنني ذاهب للبحث عن فرصة عمل أفضل، وبأنني سأعود يومًا ما عاجلًا أم آجلًا.
انطلقتُ نحوَ الحقول لا ألوي على شيءٍ حتى وصلتُ إلى هذا الحي ولمحتُ فتاةً صغيرة تلعب في فِناء البيت. وقررتُ فورًا أن أخطفها وأُقدِّمها للساحر الماكر عوضًا عنك، وأن أعود بعد ذلك ثانيةً إلى زوجتي في البيت. وبكل أسف، هذا ما فعلته.
وعندما رآني الساحر قادمًا وأنا أُمسك بالطفلة الصغيرة قال لي: «لو تأخَّرتَ ساعةً أخرى واحدة فقط لكانت هذه نهايتكم جميعًا.»
بدأت الطفلة في البكاء. وحاولتُ عَبَثًا تهدئتها. وطرَق الساحر على الجدار البلوري لقصره ليُظهر أمامي دميةً جميلة ناطقة هدَّأَت من روع سيسيليا. هذا هو الاسم الذي كنتُ أُناديها به حتى اليوم.
سألني الساحر: «ماذا كانت ردَّة فعل زوجتك عندما أخذتَ منها الطفلة الصغيرة؟» كنتُ خائفًا وما كان عساي أن أقول له غير أنها لعنَتني وأقسمَتْ بألَّا تراني ثانيةً.
قال الساحر: «آه. كنتُ أتوقَّع منها أن تقول ذلك. والآن دعني أُقدِّم إليك معروفًا آخر.»
سرَتْ في أنحاء جسمي قشعريرة باردة عند سماعي ذلك وتلعثمتُ وأنا أقول له: «شكرًا يا سيدي، أنا لا أرغب بالفعل في أكثرَ من الحياة لمائتي عام التي وعدْتَني بها.»
قال لي: «نعم هذا مفهوم. أنت ستعيش مائتي عام، ولكن هذا بشرط ألا تُحاول خطف سيسيليا منِّي لأن هذا يُشكِّل انتهاكًا للعقد الذي بيننا. ولكني أريد أن أُقدِّم لك معروفًا آخر. وبما أن زوجتك قد طردتك ولم تعُد تستطيع أن تعود إلى البيت، فيمكنك أن تمكُث هنا مع ابنتك لترعاها وتهتمَّ بشئونها.»
أردتُ أن أرُدَّ ولو بكلمةٍ على ما قاله الساحر، لكنه سارع بالقول: «هذه رغبتي. وهذا ما سيكون عليه الأمر. اعتنِ بالطفلة هنا من أجلي، وعندما تبلغ الثامنة عشرة من العمر سأعود لآخُذها. وليكن معلومًا لديك أنك إذا تركتها تهرُب، أو إذا حاولتَ أنت أن تفعل ذلك، فسوف تموت لا محالة، مع العِلم أنه سيكون من المُستحيل بالنسبة لك أن تهرُب من هنا في كل الأحوال؛ لأن قصري منذ هذه اللحظة مفصولٌ عن قاع البحر الأدرياتيكي، ويتنقَّل من مكانٍ إلى آخَرَ وسط أعشاب البحر والمَرجان.» لقد كنتُ مُقتنعًا بصحة ما يقول؛ لأني كنتُ أشعر بالفعل بالقصر يهتزُّ طيلة الوقت كما لو كنَّا على ظهر سفينة.
لن أُحاول أن أصِف لك مدى القلق، والندم، وتأنيب الضمير الذي كان يُؤرِّقني طيلة الفترة التي كنتُ فيها مُحتجزًا في القصر. لقد تركتُ زوجتي وطفلي، وخطفتُ طفلةً صغيرة من أُمِّها، ووقع كِلانا أخيرًا في فخِّ ذلك الساحر الماكر. لكن كان ثمة شيء واحد كنتُ أجد فيه العزاء طيلة الوقت، وهو سيسيليا الصغيرة التي ترعرَعَتْ على مَحبتي الشديدة لها كما لو كنتُ أنا بالفعل والدَها. كانت جميلةً كالوردة. ولم يكن المكان ينقصه أي شيء من وسائل الراحة، كما أن الساحر قدَّم لي كل الكتب التي أحتاجها لتعليم سيسيليا. لم أشَأ أن أُخبرها أبدًا بعزم الساحر بالقدوم عند بلوغها الثامنةَ عشرةَ من العمر ليأخُذها منِّي، وعملتُ جهدي لأقضيَ الوقت معها في أسعد حال.
وبعد رحلةٍ استغرقت عشر سنوات تحت البحر كنتُ فيها مُطيعًا للساحر في كل شيء، استطعتُ على إثرها أن أحوز ثقة الساحر، فقام بتثبيت القصر البلوري بقاع البحر ورواق الدلفين، وهكذا أصبح القصر أخيرًا مُرتبطًا باليابسة. سمح لي بالخروج ثلاثة أيام في السنة حتى أستطيع أن أزور أصدقائي. أراد الساحر أن يُدخِل السعادة إلى قلبي من وراء ذلك، وقد كان مُحقًّا في هذا. ارتديتُ ملابس المسافرين هذه حتى لا يتعرَّف عليَّ أحد، وبما أن شعري قد شاب قبل أوانه فقد أصبح من الصعب على الآخرين التعرُّف على شخصيتي في كل الأحوال. ومنذ ستِّ سنواتٍ وأنا أخرج لمدة ثلاثة أيام في السنة من القصر البلوري. وفي المرة الأولى التي خرجت فيها علمتُ بوفاة زوجتي آنيتا المسكينة، ولكن لم يقُل أحدٌ ماذا حلَّ بك وكيف أصبحَت أحوالك يا بني.
كنتُ أبحث عنك في كل مرةٍ أخرج فيها من القصر إلى اليابسة، وأخيرًا قررتُ أن أبحث عن والِدَي سيسيليا. كنتُ أشعر باليأس من إمكانية الاهتداء إليهما. كان ضميري يُعذِّبني وأشعر بالندم الذي قصَم ظهري. كنت أريد على الأقل أن أُعيد إليهما ابنتهما. وكان القدَر عطوفًا عليَّ في النهاية عندما دعاني والداك بالتبنِّي — كما تعلم — لدخول المنزل.
والآن يا بني لا يُوجَد لديَّ أمنية سوى أن أُساعدك في الظهور بمظهر المُقدِّر للجميل لهذين التعيسين اللذين اهتمَّا بك وقاما بتربيتك، وعانَيا الكثير جرَّاءَ فَعلتي الخرقاءِ هذه منذ سنواتٍ عديدة. أُريدك أن تذهب معي لترى ابنتهما وتعود بها إليهما في النهاية.»
كان أورستو يستمع لما يقوله والده بأقصى درجات الانتباه.
بعدها قال: «ولكن ماذا سيحدُث لك بعد ذلك يا أبي؟»
فأجاب المسافر: «وكيف لي أن أعرف ذلك؟ لكن عمر سيسيليا قد قارب الآن الثامنة عشرة، ويجب أن تعود إلى والدَيها قبل أن يعود الساحر ليأخذها.»
نهض أورستو وعانق العجوز، ثم أخذ منه الإرشادات التالية لإنقاذ سيسيليا.
قال له العجوز: «تعالَ ظُهر يوم الغد حيث يكون الساحر في ذلك الوقت نائمًا وأستطيع بذلك أن أساعدك. والآن يتعيَّن عليَّ أن أُسرع في العودة إلى القصر البلوري لأنه لو استمرَّ غيابي أطولَ من الوقت المسموح لي به، فسوف أتعرَّض أنا وسيسيليا لعقابٍ شديد.»
قال أورستو: «وداعًا يا أبي. سأكون في الغد عند بوابة القصر المؤدية إلى رواق الدلفين. ولا تنسَ أن تترك لي الباب مفتوحًا.»
غادر العجوز المكان، وبدلًا مِن أن يذهب أورستو إلى السوق تحوَّل بسرعة نحو البيت ووصلَهُ بعد وقت قصير.
وفي صباح اليوم التالي، قال أورستو لوالدَيه: «لديَّ شعور بأنني سأتمكن اليوم من إعادة ابنتكما سيسيليا إليكما وهي في أحسنِ حال.»
صاح الوالدان في وقتٍ واحد: «سيسيليا؟» وهما ينظران إلى بعضهما البعض في حيرةٍ ودهشة كبيرة. ثم قالا: «لكن اسمها كان تيريسا.»
شعر أورستو بالأسف لزلَّة اللسان هذه وقال بسرعة: «ربما تكون قد سُمِّيَت بسيسيليا حتى هذا الوقت. ربما تكون قد وجدت أبًا آخرَ أحبَّها واعتنى بها وأعطاها هذا الاسم.»
ساوَرَ أوجست ونينا الشكُّ حول صحة ما يقوله أورستو، ونظر كلٌّ منهما إلى الآخر في حيرةٍ واستغرابٍ شديدَين، ولكنهما لم يرغبا في تثبيط معنويات ولدهما، فتركاه يفعل ما يُريد.
كان المدخل إلى رواق الدلفين محجوبًا عن أنظار جميع الناس، لكن أورستو تمكن من العثور عليه بسهولةٍ بمساعدة الإرشادات التي قدَّمها له والده. فقام بربط الفرَس إلى عمودٍ من المرجان وسار مُتوجِّهًا إلى داخل القصر.
وبعد قليل، وجد نفسه داخل غرفةٍ بلورية كبيرة تمتدُّ مباشرة نحو البحر. وتمكن عبر جُدرانها البلورية الشفافة المدعومة بأطواقٍ فِضِّية قوية من رؤية جميع أنواع الحياة البحرية. حدَّق أورستو بذهولٍ شديد في الأسماك الفضية والذهبية بزعانف لامعة وهي تسبح في المياه الزرقاء المُخضرَّة. وأخذ يسير داخل الرواق لمدة ساعةٍ تقريبًا حتى وصل أخيرًا أمام بوابةٍ ذهبية قام بفتحها بسهولة.
قاده باب بلوري إلى داخل دهليز يُؤدي إلى الكثير من الغُرَف المفروشة بأثاثٍ باهظ الثمن. كانت رائحة البحر قوية لدرجةٍ فظيعة بالفعل. وفي هذه اللحظة بدا له رأس أبيه بشعره الأشيب من خلال أحد الأبواب؛ فابتسم. وأمسك الرجل العجوز بيد ولَدِه وسار به نحو الشرفة.
طلَب من الشاب أن يجلس وينتظره لفترة من الوقت. ثم سرعان ما عاد بصحبة فتاةٍ أصابت أورستو بالذهول من شدَّةِ جمالها. كانت فتاة ذات جمالٍ خارق بوجهٍ بيضَوي وعيونٍ زرقاء تُشبه السماء، فيهما حزنٌ دفين. ويتدلَّى شعرها الكثيف على شكل ضفائرَ ذهبية فوق عباءةٍ رمادية داكنة اللون. مدَّت يدها إلى أورستو بطريقةٍ ودِّية وقالت له: «أعلم أننا سنُحب بعضنا بعضًا كأشقَّاء؛ لكوننا تبادَلْنا آباءنا وأُمهاتِنا عندما كنا صغيرَين. خُذني إلى أبي وأمي لنعيشَ معًا في سعادةٍ واطمئنان.»
وهكذا انطلق الثلاثة مُتوجِّهين نحو البيت، ولكن أورستو كان يُحملق طيلة الوقت في الفتاة التي سحَرَتْهُ من النظرة الأولى في الوقت الذي كان فيه الرجل العجوز يبتسِم طوال الوقت؛ مما أزال عن وجهه آخِرَ علامات الحزن، وبدا كما لو أنه عاد شابًّا من جديد.
قال لهما عندما وصلوا إلى نهاية رواق الدلفين: «اسمعا يا ولدَيَّ، سأُودِّعكما الآن، وربما لن ألقاكما بعد الآن.»
قال الشابُّ والشابة في دهشةٍ وبصوتٍ مُرتفع: «ماذا تقول؟ ألن تذهب معنا؟»
أجاب العجوز: «أخشى أنني لا أستطيع ذلك. أريد أن أُجنِّبكما رؤية مشهد موتي.»
قالت سيسيليا: «ما هذا الذي تقوله؟ لن أُغادر من هنا إذا كان هذا يعني أنك ستُواجه أيَّ نوعٍ من الخطر نتيجةً لذلك. لن أُغادر هذا البيتَ دونك يا أبي.»
عبَّر العجوز عن أسفه لإسهابه في الحديث، وقال في النهاية: «حسنًا إذن. سوف أذهب معكما ما دُمتما تُريدان ذلك.»
خرَجوا جميعًا من القصر البلوري إلى اليابسة، وما إن غادروا رواق الدولفين حتى سمِعوا انفجارًا ضخمًا يُصِمُّ الآذان دمَّر القصر بما فيه ونثر حطامه في قاع البحر.
شعر العجوز بالخوف الشديد وشحب وجهه والتصق بسيسيليا التي أخذت تبكي وهي تقول: «ما الخطب يا أبي؟ هل عاد إليك المرَض من جديد؟»
قال العجوز بصوتٍ واهن: «لا لا. أنا بخير.»
قام أورستو وسيسيليا بمساعدة العجوز على امتطاء ظهر الفرس، وأمسكا بخطام الفرس وسارا به نحو البيت. وصَلوا أخيرًا إلى بيت أورستو وسط عاصفةٍ من القلق، وفرح الجميع بعودة سيسيليا إلى البيت فرحًا شديدًا وإن شابَ هذا الفرحَ شيء من الحزن لمرَض والد أورستو الشديد. وقاموا بوضع العجوز برفقٍ في الفراش، ولكنه سرعان ما فارق الحياة في الليلة ذاتِها.
وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة قال للشابِّ والفتاة اللذَين كانا يجلسان بالقُرب من الفراش يبكيان سوءَ حال والدِهما: «إن انتقام الساحر سيَطالني لا محالة ما دمتُ انتهكتُ شروط العقد الذي أبرمتُه معه، ولكننا سنموت جميعًا في يومٍ من الأيام عاجلًا أم آجلًا. وأنا أُفضِّل أن أموت الآن، بعدما تمكَّنتُ من إعادة الأمور إلى نصابها، على أن أعيش حياةً مليئة بالندم والأسف. وصيَّتي الأخيرة هي طلبُ الغفران من والدَي سيسيليا، وأن أسمع منهما بأفواههما موافقتهما على زواجك من ابنتهما؛ لأنني أعلم تمامًا بأن كلًّا منكما يُحب الآخر.»
وهكذا كان أن تحوَّل الحُب الأخوي الذي وعَدَت به سيسيليا أورستو إلى حُبٍّ رومانسي حقيقي، بدأ منذ أن وقع أورستو في حُبِّ سيسيليا منذ اللحظة الأولى التي وقع فيها بصرُه عليها.
نادَوا على أوجست ونينا لإلقاء النظرة الأخيرة على العجوز وهو يحتضر، فقبَّلا جبينه برفقٍ مؤكِّدَين له أنهما قد غفرا له وسامَحاه، وأنهما سيكونان سعيدَين جدًّا لرؤية الشاب والفتاة مُتزوِّجَين كما يرغب. وهكذا أسلم والدُ أورستو الرُّوحَ بسلامٍ وعلى وجهه علاماتُ الرِّضا والسكينة التي غابت عن وجهه في الحياة.
شعر أورستو وسيسيليا بالحزن الشديد لموت العجوز، وقد خفَّف من مُصابهما مشاعرُ الحُب التي جمعَتهما. وبعد أقلَّ من عام جرى حفل زفافهما، وعاشا بعدها في سعادةٍ وطمأنينة دائمتَين.