الرهان
كان هناك في الدنمارك في قديم الزمان أبٌ فقير يعيش مع ولده في كوخ صغير. كان يتعيَّن عليهما أن يعملا بكدٍّ ليكسبا قوتَ يومهما. كان الأب يعمل كأجير، في حين كان ابنُه، جون، يقوم بتوصيل الرسائل والطُّرود.
وفي يومٍ من أيام الصيف الحارة، كان على الابن السيرُ لمسافة طويلة لتوصيل رسالةٍ ما. وبعد أن سار لوقتٍ طويل، لاحظ شجرة صفصافٍ قريبةً من بِركة ماء، وكانت جذورُها مكشوفةً وعلى وشك أن تموت، فقام على الفور بوضعِ كمية من التراب عليها وغطَّاها بالماء.
وفجأةً لاحظ وجود شيءٍ ما في التراب. تبيَّن له بعد أن التقطَه بأنه بلا شك محفظة، وكانت مليئةً بالنقود.
عاد جون إلى المدينة وأخذ يسأل كل من يلتقيه إذا كان قد ضاعت منه محفظة مليئة بالنقود.
ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى التقى بفارسٍ يعدو بجواده. وعندما سأله جون إن كان قد فقد محفظةً مليئة بالنقود، أجاب الرجل بأنه في واقع الأمر قد فقد محفظته في صباح ذلك اليوم عند خروجِه من البيت، ووصف لجون شكل المحفظة بالتفصيل، فقام جون على الفور بإرجاعها إليه.
وتبيَّن لاحقًا أن هذا الفارس يملك ضيعةً كبيرة في مدينة أوسترجارد المجاورة، وقد شعر بعظيم الامتنان لاسترجاع محفظته، وأعطى جون على الفور مكافأة مُجزية، كما عرَض على جون العملَ في ضيعته مقابل الطعام والسكن، إضافةً إلى الراتب الشهري.
ردَّ عليه جون وهو يشعر بالسرور لتمكُّنِه من إيجاد عمل دائم: «نعم، أرغب في ذلك حقًّا.» وقام على الفور بإيصال الرسالة التي سُلِّمَت له في الصباح إلى أصحابها. وانطلق عائدًا إلى البيت بأقصى سرعةٍ ممكنة ليزفَّ هذا الخبر السعيد إلى والده. وبعد مضيِّ ثلاثة أيامٍ انتقل جون إلى مدينة أوسترجارد ليبدأ عمله الجديد هناك.
وحدث في اليوم التالي أن زار صاحبَ الضيعة في بيته بعضُ أصدقائه. وأخذ صاحب الضيعة ولورد المدينة يتفاخر أمام ضيوفه بخادمه الجديد والأمين. وقال إنه يتصف بالأمانة والإخلاص والشرَف، حتى إنه لا أحد يستطيع حملَهُ على الكذب بأي طريقةٍ كانت.
قال أحد الضيوف: «لو كنتُ في مكانك لما كنتُ متأكدًا كثيرًا من ذلك.» وكان هذا المُتحدث أيضًا من اللوردات، ويملك ضيعةً كبيرة في مدينة نيبيجارد المجاورة.
وأضاف المتحدث: «أعتقد أنه لو جرى إغراؤه بشكلٍ كافٍ، فسوف يقوم بالكذب لا محالة.»
لكن لورد مدينة أوسترجارد كان متأكدًا لدرجةٍ كبيرة مما يقوله حول صفة الصدق المُتأصِّلة في شخصية خادمه الجديد، لدرجة أنه قال بأنه مُستعد للرهان بأي مبلغ يُحدِّده جاره لورد مدينة نيبيجارد إذا نجح في حمل خادمه جون على الكذب، وأضاف أن أي لورد يكسب الرهان سوف يكسب أيضًا ضيعة اللورد الخاسر.
وأخذ لورد مدينة نيبيجارد يُفكِّر في خطةٍ للإيقاع بالخادم، وقرَّر أن يقوم بكتابة رسالة إلى ابنته الشابة البكر والجميلة؛ على أن يقوم الخادم جون بإيصالها إليها في مدينة نيبيجارد، وأن يطلُب فيها من ابنته أن تُحاول خداع جون حتى يُعطيَها جواد سيده. وهكذا عندما يعود الخادم إلى سيده بدون الجواد، فإنه من المؤكد سيكون مُضطرًّا إلى اختلاق كذبة من نوع ما لتبرير فقدان الجواد!
وهكذا قام لورد مدينة نيبيجارد بكتابة الرسالة إلى ابنته على هذا النحو، وأعلمها أيضًا بموضوع الرهان، مؤكدًا على الأهمية الكبيرة التي يُوليها لكسب هذا الرهان. وأوضح في الرسالة لابنته أن حامل الرسالة اسمه جون، وأنه يتعين عليها أن تُعامله بمودَّة قدْر ما تستطيع لكسب ثقته. واختتم رسالته بالقول بأن مهمتها هي حمل الخادم على إعطائها الجوادَ الذي سيمتطيه وهو قادمٌ إليها لإيصال الرسالة.
وهكذا قام لورد مدينة نيبيجارد بطيِّ الرسالة ووضعها في ظرفٍ مُحكَم الإغلاق، وسلَّمها للورد مدينة أوسترجارد الذي دعا على الفور خادمه الجديد جون، وطلب منه أن يقوم بإيصال الرسالة إلى وِجْهتها في ضيعة نيبيجارد.
وقال له: «جون، هذه أول مهمة أُكلفك بها في عملك الجديد. خذ جوادي حتى تتمكن من العودة بسرعةٍ أكبر، وقم بإيصال الرسالة إلى ضيعة ضَيفي في نيبيجارد. وعليك ألا تُجهِد الجواد بالعدْوِ السريع، أو أن تَفقده بأي طريقة؛ فهو أفضل وأغلى الخيول الموجودة لديَّ في الإسطبل.»
وقال جون إنه سيقوم بما أمره به سيده.
وبعد فترة، نزل عن الجواد وسار أمامه مُمسكًا بلجامه، وبذلك يستطيع أن يُريح الجواد من ثقل وزنه. لكن ذلك أدَّى بالطبع إلى إطالة فترة الرحلة. وعندما وصل مدينة نيبيجارد، كان الظلام قد أوشك على الحلول على المدينة.
قرأت الفتاة الشابة رسالة والدها، فقامت على الفور بالتصرُّف مع جون بطريقةٍ وُدية بأقصى ما تستطيع. في الواقع لم يكن من الصعب عليها القيامُ بذلك؛ لأنها منذ اللحظة الأولى التي رأت فيها الشاب شعرت بنفسها تنجذِب إليه. ومع ذلك، كان يتعين عليها في كل الأحوال أن تتصرَّف على النحو الذي طلبه منها والدها في الرسالة.
ولذلك قامت باستقبال الشاب بترحابٍ شديد. وبقيا يتحدَّثان ويضحكان طوال فترة المساء. وما إن حلَّ منتصف الليل حتى قامت بتقديم شرابٍ في كأس مُرصَّعة بالجواهر تحتوي على مادة تدفع بشاربها إلى النوم. وعندما بدأ الشاب يشعر بالتعَب والنعاس الشديد في هذه الأجواء العاطفية توسَّلت إليه ليسمح لها بالاحتفاظ بالجواد.
وافق جون على طلبها وهو يتثاءب، وبعدها أخذ يغطُّ في نومٍ عميق.
وفي صباح اليوم التالي اكتشف جون بأنه لم يعُد معه الجواد. وهكذا حمَل — وهو يشعر بحزنٍ كبير — السرج وخطام الجواد على كتفه، وعاد أدراجَه إلى مدينة أوسترجارد. وكان يُؤنِّب نفسه طيلة طريق العودة على سوء تصرُّفه وحماقته بالتخلي عن جواد سيده.
وأخذ يُحدِّث نفسه طوال الطريق قائلًا: «ماذا يجب عليَّ أن أقول عندما أصل البيت ويكتشف سيدي بأنني رجعتُ بدون الجواد؟ سيقول لي بالطبع: «حسنًا يا جون، هل قمتَ بإيصال الرسالة كما طلبتُ منك؟» عندئذٍ سأُجيبه: «نعم.» وبعدها سيقول سيدي: «وماذا حلَّ بجوادي الذي عهدتُ به إليك؟» ماذا سأقول حينها؟ ربما يجب عليَّ في هذه الحالة أن أقول: «اعترضني في الطريق عصبة من اللصوص وسرقوه مني».»
توقف جون في طريقه وهو يهزُّ رأسه تعبيرًا عن الرفض قائلًا: «لا، لا، لا يُمكن أن يحدث هذا أبدًا. لم يسبق لي في حياتي أن كذبتُ على الإطلاق؛ ولذلك لن أكذب الآن مهما كانت العاقبة.»
ثم أخذ جون يتخيَّل مقدار خيبة أمل والده عندما يعلم بمدى سوء تصرُّفه وحماقته في عمله الجديد وخلال المهمة الأولى التي كلَّفَه بها سيدُه. وجالت في ذهنه فكرة أخرى: «سأقول إن الجواد سقط ومات من شدة التعب وقمتُ بدفنه في خندق … ولكن لا، هذا لن يُجْديَ نفعًا أيضًا.»
ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى قرَّر جون أن يقول لسيده بأن الجواد أفلَت من يده فجأة بعد أن سقط عنه السرج والخطام، ولم يتمكَّن من استعادته، وهذا هو السبب في كونه قد رجع من المهمة وهو يحملهما على ظهره.
وقبل أن يصل جون للباب الأمامي لضيعة سيده في أوسترجارد، رآه ضيوف سيده قادمًا من بعيدٍ على قدمَيه وهو يحمل السرج والخطام على ظهره.
قال لورد مدينة نيبيجارد مُتعجبًا: «ها هو خادمكم الأمين قد أتى. انظر كيف يسير ببطءٍ شديد وبدون أن يكون معه الجواد. إنك تعلم التعليمات التي أرسلتُها إلى ابنتي في الرسالة. مَن تعتقد أنه سيكسب الرهان الآن؟»
رأى لورد مدينة أوسترجارد جون أيضًا، وشعر بغضبٍ شديد لرؤية خادمه يعود بدون الجواد. وحالَما دخل الخادم البيت، جرى استدعاؤه على الفور للمثول أمام سيده وجميع ضيوفه، وبادره سيدُه على الفور بالسؤال بصوتٍ هادر: «حسنًا يا جون، هل أنجزتَ المهمة التي أرسلتُك من أجلها وأوْصلتَ الرسالة؟»
أجاب جون وهو يرتجف من الخوف: «نعم يا سيدي الكريم.»
«وماذا حل بجوادي الأصيل الذي استخدمتَه خلال المهمة وعهدت به إليك وأمرتُك أن تهتمَّ به بشكلٍ جيد؟»
لم يتجرَّأ جون على النظر في عينَي سيده، وأطرق ببصره نحو الأرض، وقال في صوت منخفضٍ وحزين:
«طوَّقَتني الفتاة بذراعَين مفتوحتَين وناعمتَين، وعاملَتني بمودَّة شديدة؛ فشربتُ كأسها، فذهب عني عقلي وغطَطتُ في نومٍ عميق، وهكذا فقدتُ جوادَ سيدي.»
وما إن انتهى من قول ذلك حتى سارع سيده نحوَهُ وعانَقه في سعادة كبيرة.
والتفت نحوَ ضيفه وقال: «أترى؟ كنتُ متأكدًا بما فيه الكفاية بأن هذا الشابَّ سيقول الحقيقة. والآن من منَّا كسب الرهان؟»
اندهَش جون بشدة. كيف يكون سيده مسرورًا منه بعد كل ما فعله؟ وأخذ سيده يُربِّت برفقٍ على ظهره وهو يقول له: «كن يا بني دائمًا طيب القلب! واصل السير على طريق الحق والصواب، وعندما تكبر بالقدْر الكافي، سأُعطيك منزلًا وأرضًا وخيولًا أيضًا.»
شعر لورد أوسترجارد بسعادة بالغة لكسبه الرهان، لدرجة أنه سمح للورد نيبيجارد بأن يحتفظ بضيعته في نهاية المطاف. ودعا والد جون للعيش معهما في البيت.
ومن جهتها شعرت الفتاة الشابة بفرحٍ غامر لدى سماعها ما جرى في البيت بعد عودة جون، وكيف أنه استطاع أن يُثبت صدقه وأمانته. وشعرَت بالأسف الشديد للدَّور الذي قامت به في حملِه على التخلِّي عن جواد سيده. وسرعان ما غفر الشابُّ جون للفتاة الشابة ما فعلته، ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى تزوَّجا.
وبعد مرور فترةٍ من الوقت، ونظرًا لكون لورد مدينة أوسترجارد لم يُرزَق بأبناء، فقد أعلن أن جون سيكون الوريثَ الشرعيَّ لكامل ضيعته. وهكذا عاش جون وزوجته، الوفيَّان دائمًا كلٌّ منهما للآخر، في سعادة دائمة.