الكرة السحرية
في وقتٍ من الأوقات، عاشت ساحرةٌ ذات نظراتٍ حادَّة وثاقبة على سفوح جبال الإنديز. تنام طيلةَ فصل الصيف، وتستيقظ مع هطولات الثلج الأولى وهي مليئة بالفرَح. كان فصل الشتاء هو الوقت الأمثل لها للصيد وتناوُلِ الطعام، وكانت تستطيع بقدراتٍ سحرية غامضة استدراجَ ضحاياها من الأطفال الواحدَ تلوَ الآخر. لم يتمكن أحدٌ من معرفة هذا السر الغامض، ولكن الحقيقة أنها كانت تملك كرةً سحرية ملوَّنة مُتوهجة ولامعة، كانت تتركها حيث يلعب الأطفال الصغار، ولكن بعيدة عن مجال رؤية الكبار.
وسرعان ما قامت نتاليا بالركض نحو الكرة، ولكنها شعرَت بالدهشة الشديدة عندما رأَت الكرةَ السحرية، بعد أن أصبحت قريبةً منها، تتدحرجُ بعيدًا عنها لمسافةٍ قصيرة قبل أن تستقرَّ مرةً ثانية. عاودَت نتاليا الركض نحوَ الكرة السحرية مرة ثانية، وكادت تُمسك بها هذه المرة، ولكنها كانت تتدحرج وتطير دائمًا أمامها مثل الزغب الخفيف المُعلَّق على نبات الشوك ويكون دائمًا في مهبِّ الريح.
وهكذا استمرَّت نتاليا بالركض وراء هذه الكرة السحرية، وكانت كلما تُوشك أن تُمسك بها تُفلِت من بين أصابعها. وبينما كانت هي على هذا الحال، كان شقيقها لويس يركض وراءها أيضًا خشيةَ أن يُصيبها مكروه وهي تجري وراء هذه الكرة السحرية. وكان الأمر الغريب أنه كلما توقفَت هذه الكرة كانت تستقرُّ بجانب شجرة كَرز أو نبعِ ماءٍ تتدفَّق منه مياهٌ صافية عذبة. وهكذا كانت نتاليا، مثل جميع الأطفال الذين سبقوها في سعيِهم للإمساك بالكرة السحرية، تجد، عندما كانت تستريح قليلًا من الركض وراءَ الكرة السحرية، شيئًا لذيذًا لتأكله وماءً صافيًا لتشربه؛ لكي تُجدِّد مِن عزمها وقُدرتها على متابعة الجري وراء الكرة.
وأخيرًا وصلت نتاليا ولويس، وهما يَجرِيان وراء الكرة، إلى مكانٍ في الوادي حيث يتدفَّق نهرٌ بقوةٍ من بين تَلَّين عالِيَين. كانت أرض الوادي مليئةً بالصخور القاسية المُحطمة، تُغطيها طبقةٌ صغيرة من الثلوج يتطاير منها من وقتٍ إلى آخر ندفُ الثلج البيضاء وسط رائحة هواءٍ ثقيل وكئيب تُشبه رائحة العفونة. وفجأةً أُصيبت نتاليا وشقيقها بذُعرٍ شديد بعدما أيقنا بأنهما قد ابتعدا كثيرًا عن البيت أثناء جريهما في اتجاهاتٍ مختلفة وراء الكرة، وبأنهما قد أضاعا بالفعل طريقَ العودة، لكن الكرة السحرية كانت لا تزال تتدحرج أمامهما وإن كان بوتيرة أبطأ مما سبق، وهكذا تابعَت نتاليا وشقيقُها الجري وراء الكرة، وأصبح الهواء أكثرَ قوةً وبرودة، والشمس تُواصل الانحدار حتى كادت أن تغيب. وشعرا بسعادة حقيقية عندما وصلا إلى صخرةٍ سوداء كبيرة ورأَيا الكرة تتوقَّف عندها.
وسارعَت نتاليا للإمساك بالكرة، وأخذَت تُحدِّق في جمالها، ولكن ذلك لم يستمرَّ لأكثر من لحظاتٍ معدودة لأن الكرة تلاشت بسرعةٍ من بين يدَيها واختفت عن ناظِرَيها مثل فقاعة الصابون، وأخذت نتاليا، نتيجةً لذلك، تبكي في حزنٍ شديد. حاول شقيقها لويس أن يُهوِّن عليها الأمر، وعندما وجد أن يدَيها أصبحتا باردتَين جدًّا، أخذها إلى قُرب الصخرة، وقال في نفسه إنه بعد أن تستريحَ شقيقته، سيتعيَّن عليهما حتمًا أن يجدا طريق عودتهما إلى البيت. وحاول أن يُغالب النُّعاس لكي يبقى يقظًا ويتمكَّن من حراسة شقيقته وهي نائمة حتى إنه كان يُمسك جفونه بيدَيه لكي يُبقيَها مفتوحة. ولكن ذلك جعله فيما يبدو يشعر بالنعاس بشكلٍ أكثر. وبعد ذلك بقليل، وبينما كانت أشجار الصنوبر تتمايل أمامه بهدوءٍ بفعل الريح، وأوراقُها تتهامس حوله وحول شقيقته، غطَّ لويس في نومٍ عميق بجانب شقيقته.
كانت نتاليا ترقُد في مكانٍ مُريح بجانب الصخرة السوداء الكبيرة بعيدة عن مجرى الريح، وأخذت تحلم بأنها قد عادت إلى البيت وأن أُمَّها تُمشِّط شعرها وهي تُغني لها، كما تفعل في كل يوم. ولكنها شعرَت بأن أمَّها أصبحت تقوم بذلك بلا مبالاةٍ وبشيءٍ من العنف، لدرجةٍ أنها أخذت تشدُّ شعرها؛ مما جعلها تصرُخ من الألم وتستيقظ من النوم على الفور. حاولت نتاليا أن تنهض من مرقدها، ولكنها لم تتمكَّنْ من ذلك.
وسقط قلبُها بين قدمَيها عندما أدركَت ما حدث: بينما كانت نائمة، قامت الساحرة العجوز في جبال الإنديز بتمشيط شعرها وشَدِّه بخشونة، وألقت عليها تعويذةً شريرةً لكي ينموَ شعرها بشكلٍ مُلاصق للصخرة الكبيرة؛ مما جعلها عالقةً بالصخرة وغير قادرة على تحريك رأسها بشكل كامل. وكان كلُّ ما تستطيع القيام به نتيجة لذلك هو أن تمدَّ يدَيها إلى الأمام. وعندما رأت شقيقها لويس يقِف في مكانٍ ليس ببعيدٍ عنها قامت بمناداته بأسًى شديد لمساعدتها في النهوض. لقد عقَلَت الساحرةُ العجوز حركةَ نتاليا بتعويذةٍ شريرة، وأحاطت الصخرة التي ترقد عليها بجدارٍ دائري خفي لا يستطيع شقيقُها تسلُّقَه، مهما حاول، للوصول إليها لمساعدتها.
ونادت نتاليا على شقيقها عبر الجدار الخفي وهي تبكي: «أخي، تعال إليَّ؛ أشعر بخوفٍ شديد.»
وقال شقيقها: «يا أختي، أنا أُحاول ذلك، ولكني لا أستطيع؛ هناك شيء ما أمامي لا أستطيع تجاوُزَه يمنعني من الوصول إليك. إني أراك ولكني لا أستطيع الوصول إليك.»
وسألَت نتاليا شقيقها: «ألا تستطيع يا عزيزي لويس التسلُّق للوصول إليَّ؟»
«لا يا نتاليا؛ لقد تسلقتُ أعلى ما أستطيع، ولكن الجدار الذي لا أستطيع رؤيته يزدادُ ارتفاعًا باستمرار، ولكني سأظلُّ هنا بقُربك فلا تخافي.»
وكانت تقف بالقُرب منهما بومةٌ بيضاء كبيرة على غصن شجرةٍ وهي تُغني.
قالت نتاليا بعد ذلك: «ألا تسمع يا أخي ماذا تقول هذه البومة العجوز؟»
«نعم يا أختي.»
وسألَته: «ألا يعني هذا شيئًا بالنسبة لك؟»
فأجابها قائلًا: «لا شيء.»
فقالت نتاليا: «اسمع ثانيةً هذه الكلمات: «احمينا من الضوء ونار الشعلة الحمراء».»
«لقد سمعتُ ذلك يا نتاليا، ولكن ماذا يعني كلُّ هذا؟»
«هذا يعني يا أخي أن الأرواح في هذا الوادي الرهيب تخشى النار، وهذا هو بالضبط ما يتعيَّن عليك أن تُحضره معك. دعْني الآن وانطلِق حتى تجد النار فتأتيَ بقبسٍ منها بسرعة. سأشعر بالخوف الشديد لكوني سأبقى وحدي؛ ولذلك أسرع من فضلك بقدر ما تستطيع!»
شعر لويس بالحزن الشديد لدى سماعه ذلك؛ لأنه لم يُهيِّئ نفسه ليترك شقيقته تُواجه هذه المصيبة بمُفردها، ولكنها ألحَّت عليه في الذَّهاب وقالت وهي تحثُّه على ذلك: «أسرع يا أخي أسرع، أحضر النار بسرعة!»
وبعد ذلك بقليلٍ ظهر صقرٌ كبيرٌ في السماء يُحلق بجَناحَين كبيرين، ومرَّ سريعًا فوق الصخرة حيث ترقد نتاليا وهو يقول: «النار تهزم برودة الموت.»
وقالت نتاليا: «هل سمعتَ ذلك يا أخي؟ الصقر العجوز يقول الشيء نفسَه. يجب عليك أن تُسرع في الذَّهاب حتى تجد النار وتعود بشعلةٍ منها قبل حلول الظلام، وقبل فوات الأوان.»
قام لويس على الفور بوداع شقيقته وتوجَّه نحوَ أسفل الوادي وهو يتتبَّع بعينَيه المُتعَبتَين الصقر يُحلق جَيئةً وذَهابًا في الفضاء الرحب. كان لويس يُدرك في أعماقه أن هذا الصقر العجوز يُريد أن يُرشده للذَّهاب إلى مكانٍ ما. وظل لويس يتتبَّع الصقر العجوز حتى وصل إلى منبع نهر ريو تشيكو؛ فقام بمواصلة السير على ضفَّته حتى وصل إلى مُلتقى نهرَين في بحيرة كبيرة.
ووجد عند مُلتقى النهرَين بيتًا مُتهالكًا، مَبنيًّا من الطين والحجر بين ثنايا التِّلال الدافئة. لم يجد أحدًا في البيت.
ولكن ما إن أخذ الصقرُ العجوز يحوم عاليًا بشكلٍ دائري فوق البيت والبحيرة مُشكلًا نقطةً صغيرة في السماء لا تُخطِئها العين، حتى أدرك لويس على الفور أنه وصل إلى مُبتغاه. وفتح باب البيت ووجد في المَوقد الجداري جذوة نيران لم تخمد بعد، والكثير من الرماد الحار، فعرَف على الفور أنه يُوجَد هنا مَن يسكن في هذا البيت؛ فعزم، كما يفعل عادةً جميعُ سكان المنطقة في مثل هذه الحالات، على القيام بأشياء مفيدة، فقام بجلب الماء العذب من النبع، وبجمع الحطب ووضعه بشكلٍ مُرتَّب أمام المَوقد، كما قام بإذكاء النار بوضع قِطعٍ جديدة من الحطب فوقها حتى تأجَّجت النار وانتشر الدفء في البيت.
لم يكَد لويس ينتهي مما يقوم به إلا ورأى الرجل صاحب البيت داخلًا عليه وجلس بجانب المَوقد لينعمَ بالدفء. كان يجلس على كرسيٍّ من الخشب ويهزُّ برأسه طيلة الوقت. وقدَّم للويس الخبزَ الساخن والشايَ المُحلَّى بالسكر والحليب. وبعد أن انتهيا من تناول طعامهما وإطفاء ظمئهما بدأ الرجل العجوز في الحديث. وهذا ما قاله: «إن الساحرة العجوز في جبال الإنديز شريرة وبلا رحمة أو شفقة، وهناك طريقة وحيدة لهزيمتها. والآن قل لي أيها الشاب، ما هي الطريقة المُثلى للتخلُّص من هذه الساحرة الشريرة؟»
وتذكَّر لويس على الفور ما قاله الصقر الكبير، وقام بتَكرار ما قاله الصقر أمام صاحب البيت: «النار تهزم برودة الموت.»
فقال الرجل العجوز على الفور وهو يهزُّ برأسه موافقًا: «هذا صحيح يا بُني، وشقيقتك لا تزال هناك. والآن جاءنا صديقنا الصقر العجوز الذي يستطيع أن يرى الأشياء البعيدة ويعرف أفضلَ منا.» يقول الصقر العجوز:
«الآن مع البرد الشديد يُصبح تنفسها صعبًا، والنار تهزم برودة الموت وكل الأشياء حتمًا.»
وهكذا قام الرجل العجوز بإعطاء لويس قبَسًا من النار؛ ليعود به إلى شقيقته، ويتمكن من إنقاذها.
وانطلق لويس على الفور وبأسرعِ ما يستطيع مُتوجهًا نحو مكان شقيقته وهو يحمل بيدِه شعلة النار، وقام بقطع المُستنقعات والترَع في خطٍّ مُستقيم كسبًا للوقت. وبعد فترة من الوقت وصل لويس إلى مُستنقع صغير مياهُه ضحلة. وقام بخوض المُستنقَع والماء يتطاير على جانبَيه. كان يُمسك بشعلة النار عاليًا ولكن ليس بما يكفي؛ مما جعل الماء المُتطاير يصل إليها ويُطفئها. وهكذا عاد لويس أدراجَه إلى الرجل العجوز وهو يشعر بحزنٍ شديد وقام بوضع شعلة النار الخامدة أمام قدَمَيه.
قال لويس: «من فضلك أعطني شعلة نارٍ أخرى؛ لأن شقيقتي لا بدَّ أنها تتجمَّد الآن من شدة البرد وحدَها بجانب الصخرة، ومن يدري؛ لعلَّ العجوز وصلَت بالفعل!»
أعطى الرجل العجوز شعلةَ نارٍ أخرى للويس الشجاع الذي انطلق على الفور على طول طريق العودة نحوَ المكان الذي ترك فيه شقيقته، وأخذ يجري بكل طاقته عبر السهول والأراضي الوعرة المليئة بالمُستنقعات، وعبر التلال التي تُغطيها الثلوج كان يتوقَّف خلالها لأوقاتٍ قصيرة يلتقط خلالها أنفاسه، ولكن وللأسف الشديد سقطت شعلة النار من يده بين الثلوج عندما كان يُحاول أن يُحكِم قبضته عليها. وعندما التقطها من بين الثلوج كانت قد تحوَّلَت على الفور إلى قطعةٍ من الفحم الأسود. شعر لويس بألمٍ شديد في داخله، ولم يكن أمامه إلا أن يعود أدراجه مرة أخرى إلى بيت الرجل العجوز ويضع أمامه شعلة النار الخامدة، ويطلُب منه أن يُعطيه عوضًا عنها شعلة نار جديدة للمرة الثالثة.
وقال العجوز: «حسنًا. ها هو صديقنا الصقر العجوز قد أتى من جديد. يجب علينا أن نسمع ما سيقوله لنا.»
أخذ الصقر العجوز يُحلِّق فوق الرجُلَين على ارتفاعٍ مُنخفض وهو يقول:
«أصبح تنفُّس الفتاة الآن أكثر صعوبة، سوف تموت لا محالة خلال الليل من شدة الصقيع.»
وانطلق الصقر العجوز بعدها كالسهم في أعالي السماء حتى غاب عن الأنظار.
وللمرة الثالثة أمسك لويس بقوةٍ بطرَف شعلة النار، وأخذ يجري بكل قوته حول البحيرة ليتوجَّه بعدَها مباشرة نحو الجبل. كان يُمسك بطرف شعلة النار بيده اليُمنى بإحكامٍ وبكل قوته، حتى إنه أخذ يشعر بألمٍ في أصابع يده، ومع ذلك لم يُرخِ قبضة يده أبدًا ولا حتى لثانية، وأخذ يُواصل الجري بكل طاقته يُسابق الريح مثل غزلان البوادي. وصادف في هذه الأثناء وجود طائر الفلامنكو الذي سارع إلى نشر جَناحَيه الكبيرين أمام لويس ليعملا كشراع سفينة. وقام لويس بوضع يده اليُسرى على ظهر الطائر ممَّا مكَّنه من الجري بنفس سرعة الفلامنكو وهو يُمسك بإحكامٍ بظهر الطائر الذي أخذ يرتفع رويدًا رويدًا في السماء لينطلق بعدها كالسهم في الفضاء الرحب. كانت نار الشعلة خلالها تُصيب الطائر في عنقه وصدره حتى أصبح لونهما أحمر. ومع ذلك استمرَّ الطائر في الطيران بأسرع ما يستطيع.
وهكذا واصل طائر الفلامنكو التحليق بشكلٍ مباشر وبأقصى سرعته وهو يحمل على ظهره لويس مُمسكًا بإحكامٍ بشعلة النار حتى تجاوزا الواديَ واقتربا كثيرًا من الصخرة التي كانت ترقد بجانبها نتاليا بدون حَراك. وقام لويس على الفور بإلقاء شعلة النار فوق كومةٍ من الطحالب اليابسة بجوار الصخرة. وأخذَت ألْسِنة النيران على الفور تتراقَصُ فوق الصخرة وتُمزقها إلى مئات القطع المُتناثرة وهي تُصدِر أصواتًا مُرتفعة. وهكذا تلاشت قوة الساحرة العجوز في جبال الإنديز بعد أن زال تأثيرُ تعويذاتها الشريرة إلى غير رجعة. وتحرَّرَت نتاليا على الفور من عِقالها. وقامت برفقٍ بلمس عُنق وصدر طائر الفلامنكو بيدَيها الناعِمتَين والباردتَين ليزول عنهما معظمُ الأذى الذي لحق بهما من شَعلة النار، ولكن بقي على صدره شيءٌ من الاحمرار منذ ذلك الوقت وحتى هذا اليوم.
وبالنسبة إلى نتاليا وشقيقها لويس فقد عاشا لسنواتٍ طويلة جدًّا في الوادي الأخضر حيث كان يتجمع حولهما الكثيرُ من الطيور التي كانت تلعب طوال الوقت وتعتني بصغارها بجوارهما، وبقِيَت الأحداثُ المُرتبطة بكرة الساحرة العجوز مجردَ ذكرياتٍ عابرة كانت تتلاشى في ذاكرتهما يومًا بعد يوم.