أرض الأكاذيب
الفصل الأول: فتاة جديدة في المدينة
سألت تراسورذي مُعلمةُ الصف السادس: «ما هي مهنة والدتك يا كلارا؟»
توجَّهَت جميع الأنظار في قاعة الدرس مباشرة إلى الطالبة كلارا جورمان؛ مما جعل وجنتَيها تحمرَّان لدرجةٍ شديدة، حتى كادتا تشتعلان نارًا.
وأجابت كلارا على الفور وبدون تفكير: «إنها طبيبة مُتخصِّصة في جراحة الدماغ وتعمل في مَشفًى ممتاز.»
فقالت المُعلمة لطالبتها وهي تُبدي إعجابها: «أوووه، إنها اختصاصية في جراحة الأعصاب كما تقولين.»
فأجابت كلارا مُتلعثمة: «نعم، جراحة أعصاب (تَلفِظها بشكل خاطئ)، هذا صحيح.»
وسألتها المُعلِّمة مرة ثانية: «وما هي مهنة والدك يا كلارا؟» فأجابت كلارا بفخرٍ واعتزاز: «إنه مهندس معماري. لقد جاء إلى أوشاوا ليُسهِم في بناء مفاعلٍ نووي جديد.»
سألتها المُعلمة أيضًا: «وكيف تُمضين أوقاتَ فراغك يا كلارا؟» فأجابت: «أقرأ الكثير من الكتب، وألعب رياضة الجمباز، وأحيانًا أذهب للتزلُّج على الثلج.»
فقالت المُعلمة مُستفسرةً: «رائع! أهلًا بك هنا يا كلارا في مدرسة هارموني هايتس العامة. أنا أتطلَّع للقاء والدَيك في المدرسة خلال الأسابيع القليلة القادمة. أعتقد أيها الطلاب أننا تعرَّفنا بما فيه الكفاية على أحوال الطالبة الجديدة كلارا التي انضمَّت إلى صفِّنا. والآن دعونا نُتابع درسنا كالمعتاد.»
بدأت كلارا تُحِسُّ بشعورٍ غير مريح في داخل معدتها عندما سمعَت المعلمة وهي تقول بأن والدَيها سيأتيان يومًا إلى المدرسة للاجتماع بمُعلمتها، وأمضت طيلة الفرصة الأولى تقف وحدَها في زاويةِ باحة المدرسة، وتنتابها مشاعرُ مُختلطة. وفجأةً اقتربت منها فتاتان من صفِّها كانتا ترتديان معطفَين أحمَرَين مُتشابهين، يحملان شعار «جامبينج جيمناستيكس» للجمباز.
قالت إحدى الفتاتَين الجميلتين وكانت ذاتَ شعرٍ بُني جميل وقصير: «مرحبًا. أنا آريانا جيفري، وهذه صديقتي كايلي ميلر. لقد سمِعْنا بأنك تُمارسين رياضة الجمباز، فهل هذا صحيح؟»
نظرَت كلارا من جديد إلى الشعار الرياضي المرسوم على معطف كلتا الفتاتَين. كانت تذهب إلى نادٍ رياضي محلي للجمباز في مسقط رأسها هارتلاند في أونتاريو قبل مجيئها إلى هذه المدينة. لقد سمِعَت فيه عن «جامبينج جيمناستيكس» للجمباز. كان هذا النادي مشهورًا جدًّا وقد فاز بعدة جوائز رياضية من قبل.
ردَّت كلارا بتفاخُر ظاهر: «نعم، أنا لاعبة جمباز في نادي جيني للجمباز؛ إنه نادٍ مشهور ومتميز.» فقالت كايلي: «هذا أمر يدعو للاستغراب؛ فأنا لم أسمع من قبل بهذا الاسم.»
فأجابت كلارا بزهوٍ: «كنا نتنافس فقط مع الفرق الرياضية الأجنبية. وفي العام الماضي تنافسْنا مع فرقٍ من الصين والولايات المتحدة. كان النادي الذي أنتسب إليه الأفضلَ بين الأندية المحلية.»
فقالت أريانا: «آمُل أن تنضمِّي إلى نادينا وتُساعدينا على تنمية مهاراتنا لكي يُصبح النادي من الدرجة المُتميزة أيضًا.» فأجابت كلارا بقليلٍ من التردُّد: «يجب عليَّ أن أسأل أمي أولًا؛ ربما كان يتعين عليَّ قبل ذلك أن يكون لديَّ مُدرب خاص في هذه السنة.»
فقالت آريانا بغِيرةٍ ظاهرة: «نعم، إذا كانت أمي طبيبة ووالدي مهندسًا فمن الطبيعي جدًّا أن يكون لديَّ مُدرب خاص، أليس كذلك؟»
وسألت كايلي: «وهل بيتكم كبير أيضًا؟»
تردَّدَت كلارا في البداية قليلًا ثم قالت: «نعم. ويُوجَد فيه مغطَس كبير.»
وقالت كايلي مُتسائلة: «يبدو هذا جيدًا. هل نستطيع أن نأتيَ لزيارتك عمَّا قريب؟» فأجابت كلارا: «أه … أوه … ليس الآن؛ فبعضُ العمال يقومون منذ فترةٍ بأعمال صيانة لأجزاءٍ من البيت.»
وبعدها دقَّ الجرس مُعلنًا انتهاء الفسحة والعودةَ إلى الصفوف لمتابعة الدروس.
الفصل الثاني: انكشاف الحقيقة
مع مرور الأيام والأسابيع أصبحَت كلارا معروفةً تقريبًا من جميع طلاب المدرسة الذين كانت تتحدَّث معهم حول جهاز الحاسوب الشخصي الباهظِ الثمن الذي تملكه، وكلبها اللابرادور المدلَّل بُنِّي اللون، وعن كافة مُقتنياتها الشخصية الأخرى. ولكنها لم تكن تدعو أبدًا أيًّا من هؤلاء لزيارتها في المنزل. وفي أحد الأيام جاءت كايلي وآريانا تبحثان عنها لأمرٍ ما.
ونادت كايلي وآريانا على كلارا في بهو المدرسة: «انتظري لحظةً من فضلك يا كلارا.»
سألَتها كايلي بحماسٍ ظاهر: «سيتمُّ إجراء اختبارات للمُتسابقين لتشكيل مُنتخَب في الأسبوع المقبل. فهل ستأتين معنا إلى النادي للمشاركة فيها؟»
فأجابت كلارا على الفور: «لا، لقد لعبتُ رياضة الجمباز بما يكفي حتى الآن. لقد تعبتُ جدًّا بالفعل من مباراة التنافُس ضدَّ رومانيا والولايات المتحدة في السنة الماضية.»
فقالت آريانا: «أعتقد أنك قلتِ لنا إن المباراة كانت ضد فريقَين من الصين والولايات المتحدة.»
وأجابت كلارا بغطرسةٍ وتعجرُفٍ واضحَين: «أوه، نعم، هذا صحيح؛ لقد نسيت بالفعل. أنا لا أشعر الآن بالرغبة في الذَّهاب إلى أي مكان.»
فقالت كايلي وقد شعرَت بالإحباط: «كما تُريدين.» وأخذتا تبتعِدان عنها بسرعة.
وفي وقتٍ متأخر من ذلك اليوم، كانت كلارا تتناول العشاء مع والدَيها. كان يُوجَد على الطاولة الطعام المتوفر في البيت؛ بقايا من شرائح بيتزا وقليلٌ من شرائح لحم العجل المَشوي تمَّ إعدادُها منذ يومين.
وقالت الأم لابنتها: «كلارا، سأذهب الليلة أنا ووالدك للمشاركة في الاجتماع الدوريِّ لأولياء الأمور في المدرسة.»
فأجابت كلارا وهي تشعُر بقلقٍ شديد: «لا يُمكنكما تركي وحيدةً في البيت؛ فأنا لا أتجاوز الحادية عشرة من العمر.»
فأجابت الأم: «على رِسْلِكِ يا ابنتي. لا تكوني ساذجة إلى هذه الدرجة. لقد رتَّبنا لمجيء سيدةٍ تُدعى دانييل جيفري لتهتمَّ بك طيلة فترة غيابنا عن البيت. إنها الشقيقة الكبرى لصديقتك في الصف آريانا وهما على وشك الحضور.»
وفكرَت كلارا قليلًا: «هي وأختها!» وعندما أدركت كلارا ما تقصده أمها شحب وجهها وشعرت بقلقٍ شديد. وبعد عشر دقائق دقَّ جرس الباب، وقامت السيدة جورمان بفتح الباب لتجد دانييل وخلفها شقيقتها الصغرى آريانا.
وبادرت دانييل في القول وهي تمدُّ يدَها: «يُسعدني لقاؤك يا سيدة جورمان. لقد أحضرتُ معي شقيقتي كما طلبتِ.»
فأجابت السيدة جورمان: «عظيم، نحن سعداءُ لموافقتك على العناية بابنتنا خلال غيابنا عن المنزل ولحضور شقيقتك معكِ أيضًا. لم تقم كلارا بدعوة أيٍّ من صديقاتها في المدرسة لزيارتنا في المنزل منذ قدومنا للمدينة منذ شهرَين.»
نظرت كلارا إلى آريانا التي كان يرتسِم على وجهها ابتسامةٌ باهتة ومضحكة. وبعد التحدُّث مع دانييل لبضع دقائق، اقترحت السيدة جورمان أن تذهب كلارا وآريانا إلى غرفة كلارا في الطابق العلوي ليلعبا هناك.
وما إن أغلقت آريانا عليهما الباب تمامًا حتى استدارت ناحيةَ كلارا وهي تقول لها بدون أن تُفكر جيدًا فيما تقوله: «أنتِ كاذبة كبيرة، وغبية في آنٍ واحد! هذا ليس ببيتٍ كبير، ثم أين هذا الحاسوب الباهظ الثمن التي حدَّثتِنا عنه؟ كما أنني لا أرى مغطسًا في فِناء البيت الخلفي، وأين هو كلب اللابرادور البُني اللون؟»
فقالت كلارا: «اممم أنا آه، حسنًا تعرفين أن …» فردَّت آريانا على الفور بغضبٍ ظاهر: «حسنًا. لننسَ هذا الأمر ودَعِينا نتحدَّث في موضوعٍ آخر.»
«ليس من الرائع أن تجعل الناس تُحبك بالكذب عليهم. لقد انفضحَت الكذبة. سأخرج من هنا على الفور.» واندفعَت آريانا بقوةٍ خارجَ غرفة كلارا، وأمضت كلارا ما تبقَّى من المساء تبكي وحدَها في فِراشها. لم تستطع تقبُّلَ فكرة الذَّهاب إلى المدرسة غدًا. كانت متأكدةً من أن آريانا سوف تكشف هذا السرَّ عن قصدٍ أو غير قصد، وسوف يَكرهها الجميع نتيجةَ ذلك.
وبعد ذلك سمعت كلارا والدَيها يدلفان إلى المنزل. كانا يُهمهِمان بشكلٍ غير واضح، ومن ثَم سمعت صوت إغلاق الباب الخارجي، وتناهى إليها صوتُ خطوات والدَيها وهما يصعدان إلى غرفتها بسرعة، ثم وصلا إلى باب غرفتها الذي كان مفتوحًا، ورأت والدها ترتسِم على وجهه بوضوحٍ تعابيرُ صارمة وجدية. تحدَّثَت والدتها في البدء: «اختصاصية في جراحة أعصاب ومهندس معماري يا كلارا؟ لماذا كذَبْتِ على المُعلمة وجميعِ طلاب الصف بشأننا؟ هل تشعرين بالخجل لكون والدك يعمل في تصميم وتركيب الطواحين، ولكوني أعمل مُمرضةً مساعدة في المشفى؟»
وتدخَّل والدها ديفيد في الحديث وقال: «بماذا كنتِ تُفكرين يا ابنتي. لقد شعرْنا بحرجٍ شديد عندما بدأَت مُعلمتُك في التحدُّث إلينا. أعلم أننا نتنقَّل دائمًا بكثرةٍ من مكانٍ إلى آخر بحُكم طبيعة عملي في تصميم وتركيب الطواحين. ولكن …» لم يستطع السيد جورمان أن يُنهِي حديثه؛ فقد شعر بأنه يختنق من شدة الغضب.
وقالت والدتها بلهجةٍ آمرة: «لقد أصبح الوقتُ مُتأخرًا يا كلارا. ارتدي لباسَ النوم واذهبي إلى فراشك، وسوف نتحدَّث حول ذلك في الصباح.» جلسَت كلارا في فِراشها وأخذت تبكي كما لم تبكِ من قبل. وقامت بإطفاء الضوء في غرفتها ونامت وهي لا تزال ترتدي كامل ثيابها.
الفصل الثالث: بدء يوم التدريب
استيقظت كلارا في فزعٍ شديد وهي تسمع صوتًا غريبًا وعاليًا في الظلام يقول: «أيتها الفتاة، أيتها الفتاة، استيقظي، حان وقت الذَّهاب!»
لم تتمكن كلارا من قول كلمةٍ واحدة. وفجأةً سطع نور قوي يُعمي العيون في غرفتها. كانت تشعر بنفسها تسبح في الهواء، ثم عادت الظلمة الشديدة كما كانت من قبل.
وعندما فتحت عينَيها من جديدٍ وقع نظرُها على سماء زرقاء صافية، وأشجار باسقة. أحسَّت بهواءٍ دافئ ينساب على وجهها والشمس تُشرق على قمم الأشجار وتتسلَّل أشعتها الصفراءُ من بين الأغصان العالية. كانت تستند على صخرةٍ كبيرة.
وقف رجل أمام كلارا وبادرها بالقول: «مرحبًا.» كان طويل القامة يرتدي ثيابًا بيضاءَ مُزينة بالعديد من الجواهر والأحجار الكريمة، ويُغطي رأسَه شعرٌ أسود كثيف مُصفَّف. ويُمسك بيده عصًا كبيرةً للمشي، تنتهي بقبضةٍ ذهبية كبيرة في أعلاها. لم تشعُر كلارا بالخوف، بل كانت تشعر براحةٍ كبيرة لوجودها في هذا المكان.
سألت كلارا: «أين أنا؟ ومَن تكون أنت؟»
فأجاب الرجل: «اسمي نومورا فيبس، وأنتِ الآن في أرض الأكاذيب.»
«ولماذا أتيتَ بي إلى هنا؟»
«أنا أقوم عادةً بإحضار أمثالك إلى عالمنا؛ لمساعدتهم في الكفِّ عن الكذب والتعوُّد على قول الحقيقة. أعتقد أنك كنتِ تكذبين في الآونة الأخيرة مما يجعلك ومَن حولك يشعرون بعدم السعادة والراحة. لقد أتيتُ بك إلى هنا بواسطة ناقلٍ خاصٍّ يتنقَّل على الدوام بين عالَمَينا. سيكون الوقت مُتوقفًا طيلة فترة وجودك هنا. وسوف نلتقي ببعض الناس هنا ونُشاهد بعض الأشياء التي تُساعدك على البدء من جديد في قول الحقيقة والتوقُّف عن الكذب.»
قالت كلارا: «ولكن مهلًا. أعرف صديقًا لي في المدرسة اسمه جوردون ريبلان كان يقول لنا بأنه يذهب إلى أرض الصِّدق. فهل هذا المكان من النوع نفسِه؟»
فأجاب نومورا: «نعم. نعم. جوردون ريبلان. فتًى جيد لقد تذكرتُه الآن. لقد أصبح سلوكه الآن رائعًا جدًّا. كان يُعاني من مشكلةٍ صغيرة تتعلق بروايته لبعض الأكاذيب البيضاء. على كلٍّ، حان الوقت لنذهَب؛ هيا.»
سار نومورا وكلارا على طول طريقٍ يمتدُّ وسط الغابة، ثم استدارا نحو طريق مُعبَّد بالحجارة السوداء، عليه لافتةٌ كبيرة مكتوب عليها «طريق الصدق». وبعد أن سارا لبعض الوقت، وجدا منطقةً صغيرة مقطوعة الأشجار مليئةً بالزهور البيضاء الجميلة. نظرت كلارا عن قُربٍ إلى هذه الزهور البيضاء الجميلة، ورأت كيف تنمو في الأرض مثل الفشار.
سألت كلارا: «ما هذا المكان يا نومورا؟»
فأجاب بقوله: «هذا سهل الأكاذيب البيضاء الصغيرة التي تُعتبَر عادةً غيرَ مؤذية ويقولها الناس عادةً لجلب المنافع وتجنُّب المتاعب. الأكاذيب التي يقولونها للحصول على ما يُريدون ولتجنُّب ما لا يُريدون؛ لكيلا تُؤذى مشاعرهم، أو لمنع الشعور بقلقٍ لا مُبرر له. هذه الزهور البيضاء تُمثل أكاذيبَ بيضاء في عالمكم. عالمنا مرتبط بعالمكم بطريقةٍ لا أستطيع حتى أنا أن أفهمها بشكلٍ واضح.»
قالت كلارا: «تقصد أنه عندما يروي أحدنا في عالمنا كذبة بيضاء، ينمو مقابلَها زهورٌ بيضاء صغيرة هنا.»
فقال نومورا: «نعم، هذا صحيح. ولكن الكثير منها تجعل الأمورَ سيئة بالفعل، وإذا ما نظرتِ إلى أعلى الطريق تجدين كيف نمَت زهورٌ بيضاء كثيرة في مجموعاتٍ متقاربة. وكيف تذبل مع مرور الوقت وتَذْروها الريح لتُصبح سمادًا مُفيدًا للأرض.»
اقتربَت كلارا من الزهور وقطفت إحداها ووضعتْها في جيبها. ثم تابعا سيرهما حتى وصلا إلى نزلٍ صغير على طرَف الطريق. قرأت كلارا اللافتة المُعلقة في أعلى النزل التي تقول «نزل تيجرتي» وبجانبها يُوجَد مُجسَّم حجري كبير، كعلامة للطريق وشارة مُميزة للنزل.
قال نومورا: «صاحب هذا النزل الصغير اسمه جوان أبمان. لا أحد يمكث هنا عادةً لفترةٍ طويلة؛ لأن جوان يُغضِب النزلاء بتصرُّفاته. دعينا ندخل لنقومَ بزيارةٍ قصيرة، وسوف ترين بسرعةٍ ماذا أعني.»
اقترب نومورا وكلارا من رجلٍ قصير القامة ونحيفٍ جدًّا، يقف بجانب قسم الاستقبال، وقال له: «صباح الخير، هذه صديقتي كلارا.»
فأجاب جوان أبمان: «من أرى … نومورا فيبس. لم أعد أراك كثيرًا هنا في هذه الأرجاء، ألا تعرف يا صديقي لِمَ كان فرانك أونستي وأليكسا زاجوراتي هنا هذا الصباح؟»
فقالت كلارا: «لا بدَّ أننا سِرنا ميلًا على الأقل لنصل إلى هنا.»
وردَّ عليها جوان قائلًا: «لقد مارستِ اليوم رياضة المشي لأكثرِ من كيلومترَين. وهذا مُفيد للقلب كما تعلمين.»
قال نومورا: «حسنًا يا جوان، يجب علينا أن نذهب الآن. إننا نُفكر حاليًّا بتسلُّق تلال «قول الحقيقة» القريبة من منجم الصخرة المُزخرفة؛ لنبحث عن بعض أحجار الكوارتز.»
قال جوان: «وأنا أعتزم أيضًا القيامَ بتسلُّق قمةِ بيك فوني ستوني بعد الغداء مباشرة؛ للبحث عن الذهب.»
وبعد ذلك غادر نومورا وكلارا النزل الصغير وهما يُلوِّحان بأيديهما مُودِّعين.
قالت كلارا: «نومورا، جوان يدفع الناسَ إلى الجنون. في كل مرة يقول أحدهم له شيئًا ما، يُجيبه بأنه قد قام به من قبل، أو أنه قام به بطريقة أفضل.»
«هذا ما يفعله جوان دائمًا؛ فهو يُريد لسببٍ ما أن يبدوَ أفضل من أي إنسانٍ آخر. أعتقد أنه يفعل ذلك لأنه يجعله يشعر بأنه أحسنُ حالًا وأكثر أهمية، أو أنه يُحاول أن يُثير إعجابَ الآخرين بشخصه الكريم. لم يعُد يُوجَد أحدٌ في الجوار يُصدِّق ما يقوله، حتى عندما يكون يقول الصدق في بعض الأحيان. في الواقع ليس لديه أيُّ أصدقاء، وهذا أمر يدعو للأسف بالفعل. دعينا نُواصل جولتنا.»
سألت كلارا: «وإلى أين سنتوجَّه الآن؟»
أجاب نومورا: «سنقوم بزيارة رجلٍ يُدعى تلدراترودا. ولكن مهلًا، إننا لا نستطيع رؤيته الآن؛ فقد ذهب لرؤية شقيقه باسدوبودا في أرض السلوك الحسن، كما أننا لا نستطيع أيضًا زيارة الشاب الصغير الذي يرعى قطيع باسدوبودا خلال غيابه. من المفترض أن يكون هذا الشاب جاهزًا دائمًا لقرع الجرس إذا ما هاجمت الذئابُ القطيع؛ لكي يُهرَع أهل القرية لنجدته، وقد قام في الأيام القليلة الماضية بقرْع الجرس مرَّتَين فقط على سبيل التجرِبة لكي يرى ما إذا كنا سنُهرَع فعلًا لنجدته في حال مهاجمة الذئاب للقطيع. ربما لن نُهرَع لنجدته في المرة القادمة عندما يقرع الجرس من جديد.»
وسألت كلارا: «وما هي أرض السلوك الحسَن؟»
فأجاب نومورا: «لا عليك. أعرف إلى أين يتعيَّن علينا أن نتوجَّه الآن.» ولاحظَت كلارا بعد ذلك مصابيحَ باهتة خضراء وحمراء موحلة تسقط بين الحين والآخر بين الأشجار. كان بعضها أكبر من البعض الآخر.
وسألت كلارا: «ما هذه الأشياء بحق السماء؟»
فأجاب نومورا موضحًا: «تُدعى هذه الأشياء مصابيحَ الكذب. يروي بعض الناس في عالمك الأكاذيب التي تُسيء للآخرين وتجرح مشاعرهم. ولكنهم غالبًا ما يُدركون لاحقًا مدى سوءِ ما قاموا به، فيقومون بالاعتذار عن خطئهم هذا، ولكن ذلك يتطلَّب أن يكون الفاعل شخصًا كبيرًا وذا شخصية قوية ومُتزنة. وعندما يتم الاعتذار عن الأكاذيب في عالمكم، يقوم عالمنا عادةً بطريقةٍ ما بامتصاص السموم الناجمة عن هذه الأكاذيب وبتحويلها إلى هذه المصابيح المُلطَّخة بالطين. إن لها مفعول السماد الذي يَزيد خصوبة التربة؛ مما يجعل الأشجار تنمو بشكلٍ أسرع، وتُصبح قويةً أكثر، وبذلك يزدهر عالمنا أكثر فأكثر.»
قالت كلارا: «وهل تقصد بذلك شيئًا مثل روث الحصان؟»
فأجاب نومورا: «نعم، الأكاذيب مثل الروث، ولكنها تُشبه أكثرَ الروث الذي نحصل عليه من الثيران.»
وحادت قليلًا كلارا برفقة نومورا عن الطريق المُعبَّد بأحجار سوداء، وتوجَّها نحو منطقةٍ كثيفة الأشجار؛ حيث شاهدَت كلارا أضخمَ شجرة رأَتها في حياتها. وكان يُوجَد تحتها كوخٌ كبيرٌ جدًّا تُوجَد أمامه بِركة ماء صغيرة، وتنتشر على أطرافه زهورٌ حمراء.
سألت كلارا: «وما هذا المكان يا نومورا؟»
فأجاب نومورا: «هذا بيت فرانك أونستي وأليكسا زاجوراتي اللذَين حدَّثَنا عنهما جوان صاحب النزل الصغير. لقد تزوَّجا على الرغم من كون طبيعة كلٍّ منهما عكس الآخر تمامًا، لكنهما عملا كلَّ جهدهما على أن يُوازن كلٌّ واحد منهما تصرُّفاته لكي يستوعِبَ الآخر بلُطف ولين. وهذه البركة الصغيرة تُدعى فيش تيل بوند.»
قالت كلارا: «ولكن الأشجار باسقة وضخمة جدًّا.»
أجاب نومورا: «نعم. هذا صحيح وهي تُدعى أشجار الجوز الكبيرة، وأنا عادةً ما أقوم باصطحاب أناسٍ من عالَمكم يُدْعَون السياسيين؛ لزيارة هذا المكان.»
أضافت كلارا مُتسائلة: «وهل تقصد بذلك رجالًا مثل محافظ المدينة؟»
«نعم، هذا صحيح، فزراعة هذه الأشجار جزء من تدريبهم إذا كانوا يكذبون على الناس المُكلَّفين بالاهتمام بهم ورعايةِ مصالحهم. ويُمثل هذا دليلًا على رغبتهم الصادقة في تغيير سلوكهم، والكفِّ عن الكذب على رعاياهم. وبمجرد أن يبدَءوا في قول الحقيقية وإصلاح الأخطاء التي قاموا بها من قبلُ، يتمُّ هنا على الفور امتصاصُ مصابيح الكذب المُلطخة بالوحل، حيث تسقط إلى الأرض الواحدةَ تِلْوَ الأخرى، وتتحوَّل إلى سمادٍ يُفيد الأرض. ولسببٍ ما تُساعد هذه المصابيح على نمو هذه الأشجار بهذه الطريقة الغريبة جدًّا، حتى تصِل إلى هذا الحجم والطول. وأنا أحرص على اصطحابهم إلى هنا من وقتٍ إلى آخر؛ لكي يشاهدوا بأنفسهم كم أصبحت أشجارهم كبيرةً وباسقة.»
قالت كلارا: «وهل تقصد بذلك أنه كلما اعتذروا عن أخطائهم التي قاموا بها، زاد حجمُ وطول هذه الأشجار.»
قال مومورا وهو يهمُّ بطرْق باب الكوخ: «نعم. كلَّما أصلَحوا أخطاءهم نتج عن ذلك سماد أكثرُ في عالمنا، وتُصبح ثمار الجوز كبيرةً جدًّا وتُشبه في طعمها أكوابَ زبدة الفول السوداني اللذيذة.»
قال نومورا: «مرحبًا يا أليكسا، هذه صديقتي كلارا.»
وقالت أليكسا: «أهلًا بكما، تعالَيا لنقوم بصيدِ بعض السمك من البحيرة.»
قال نومورا: «موافق.»
قالت أليكسا: «أنت هنا مَوضعُ ترحيب على الدوام يا نومورا. الصيد شيء جيد أيضًا. البارحة شعرتُ بدهشةٍ كبيرة بعدما تمكنتُ من اصطياد حوالي خمس سمكاتٍ كبيرة تزن الواحدةُ منها حوالي عشَرة أرطال.»
وبعد ذلك مباشرة، سمِعَت صوت رجلٍ قادمٍ من خلفها: «مهلًا يا أليكسا. لا تُبالغي الآن في رواية حكايات الأسماك؛ لقد تمكَّنتِ البارحة من اصطياد ثلاثة أسماك فقط كانت إحداها تزن عشَرة أرطال، في حين كانت الأسماك الأخرى تزن الواحدةُ منها ستة أرطال.»
قالت أليكسا على الفور بما يُشبه الاعتذار: «آه، نعم. أعتقد أنك على حق. لا بدَّ أن الأمور قد اختلطَت عليَّ قليلًا لسببٍ ما.»
استعارت نومورا وكلارا صنارتَي صيدٍ من أليكسا وفرانك، وجلسا على كُرسيَّين بجانب حافة البحيرة يتبادلان أطرافَ الحديث.
قال نومورا: «هل تعرفين لماذا أتيتُ بك إلى هنا؛ أرض الأكاذيب؟»
فقالت كلارا: «نعم. أعتقد أنني أصبحتُ أعرف ذلك الآن. كنتُ أروي للناس الكثير من الأكاذيب، لدرجة أنني لم أعُد أتذكَّر ماهيتها ولا عددَها أيضًا، وكنتُ أقوم بتجميل الأشياء الصادقة، حتى، أكثرَ مما ينبغي، بغرَض إثارة إعجاب الآخرين تمامًا مثلما فعلَت أليكسا منذ قليل.»
سأل نومورا: «هل تعتقدين أن الكذب على الآخرين سيجعلهم يُحبُّونك أكثر؟»
فأجابت: «أعتقد أنني كنتُ أريد من وراء ذلك الاندماجَ بشكلٍ أفضلَ مع مَن حولي؛ فقد كنا ننتقل كثيرًا من مكانٍ إلى آخر بحُكم عمل والدي. كنتُ أريد أن أكسب أصدقاء في كل مكانٍ كنا ننتقل إليه، ولكن الطريقة التي كنتُ أتبعها لتحقيق ذلك لم تكن ناجحةً بسبب احتمال ألَّا أكسبَ أحدًا على الإطلاق بعدما يكتشفون الحقيقة في اليوم التالي.»
قال نومورا: «أعتقد أنك ترَين أن كذبةً واحدة تقود إلى كذبةٍ ثانية، ومن ثَم إلى ثالثة. وبعد فترة وجيزة لن يكون هناك أحدٌ يُصدِّقك في كل ما تقولين حتى وإن كنتِ صادقةً فيها، مثلما حدث مع جوان أبمان. لن يثق الآخرون فيما تقولين ومن ثَم سيكون من الصعب جدًّا أن يكون لديك أصدقاء، ولن ينظُر الآخرون إليك بجِدية، وسوف يضحكون عليك من ورائك.»
قالت كلارا: «أعتقد أنني أصبحتُ أُدرك ذلك الآن. والدي قال لي إنه من المُحتمل ألا ننتقل إلى أي مكانٍ آخر بعد الآن، وأننا سنبقى هنا في هذه المدينة التي أفسدتُ فيها على نفسي الكثير من الأشياء.» وغرقَت كلارا من بعدِها في بكاءٍ شديد.
قال نومورا: «إن أول شيءٍ يتعيَّن عليك فعله عندما تعودين إلى عالمك هو أن تقولي لوالدَيك ومعلمتك أنك آسفة على كل الأكاذيب التي قلتِها لهم وللآخرين. ومن المؤكد أنهم سيتفهَّمون ذلك. وربما سيكون الجزءُ الأصعب في ذلك هو كيفية الاعتذار لأصدقائك في الفصل. فربما سيتصرَّف بعضهم في البدء بشكلٍ سيئ نحوك.»
وقالت كلارا والدموع تنهمِر من عينَيها: «لا؛ لا أريد فِعل ذلك.»
قال نومورا بجدِّية مُتناهية: «بل يجب عليكِ فعلُ ذلك؛ فعدم فِعلك إيَّاه سيَجعل الأمور أكثر سوءًا حيث يعتاد الإنسان بعدَها على الكذب بدون سببٍ ليُصبح الكذبُ عنده أمرًا طبيعيًّا حتى فيما يتعلق بالأمور الصغيرة التي لا تستدعي ذلك، ولن يكون في مقدورك مِن بعدها أن يكون لديك أيُّ أصدقاء. وكلما أخذتِ في الكذب وبالَغْتِ في القيام به، انعكس ذلك سوءًا عليك وظهَرْتِ بمظهر الحمقاء بدرجةٍ كبيرة.»
قالت كلارا: «أفهم الآن ما تقول، وسأعمل على ذلك.» قال: «أعتقد إذن أنكِ أصبحتٍ جاهزةً الآن للعودة إلى عالمك، ولم يَعُد هناك حاجةٌ إلى زيارة الجنرال روسيدي في أرض الملكية الخاصة.»
وقالت كلارا: «ومن يكون هذا الجنرال؟»
قال نومورا: «لا عليك. انظري يا كلارا لقد أمسكَتْ صنارتك سمكة.» وبينما كانت كلارا تقوم بسحب السمكة من الماء، سطع وميضٌ خاطف جعلها تُغمِض عينَيها على الفور، وشعَرَت وكأن الصنارة تسقُط من يدِها وأن جسدها يسبح ثانيةً في الفضاء. وفي لمح البصر وجدَت نفسها مُمدَّدةً على سريرها بكامل ثيابها، وأشعَّة الشمس الصفراء تتسلل إلى غرفتها عبر النافذة المُطلَّة على حديقة المنزل.
الفصل الرابع: تصحيح الأخطاء
قالت كلارا لنفسها وهي تمدُّ يدها لتتلمَّس شيئًا كبيرًا في جيبها: «لا بدَّ أنني كنتُ مستغرقة في حلم.» أخرجَت زهرةً بيضاء جميلة من زهور الكذب وهي تقول لنفسها: «ربما لم يكن حلمًا على الإطلاق.»
وفي صباح اليوم التالي وعند تناول الفطور، اعتذرَت كلارا من والدَيها اللذين عانقاها وأخبَراها بأنهما يتفهَّمان جيدًا موقفها، وبأنهما يُحبَّانها كثيرًا أيضًا.
وقالت لها أمُّها بحنانٍ ظاهر: «لا تُحاولي يا ابنتي أن تتظاهري أمام الآخرين بغير ما أنتِ عليه في الحقيقة، وسوف يُحبك الآخرون كما أنت.»
وكانت لحظاتُ العودة إلى المدرسة ولقاء الأصدقاء أكثرَ صعوبةً بالفعل؛ كانت العيون كلها تنصبُّ عليها وهي تسير في باحة المدرسة. وأخذَ بعضُ الفتيات يتهامسنَ وهنَّ يُشِرن بأصابعهن نحوَها في استغرابٍ شديد. اعتذرَت كلارا على الفور من مُعلمتها التي قبِلَت وتفهَّمَت موقفها على الفور. ونهضت كلارا أمام جميع صديقاتها في الصف لتُقدِّم لهم أيضًا اعتذارها وهي تُوضِّح لهم في الوقت نفسِه حقيقة كل الأكاذيب السابقة التي روَتها لهم. وكان من الطبيعي جدًّا أن تكون رُدود أصدقائها متفاوتة؛ فمنهم من تَجهَّم وجهُه وبدأ يرمقها بغضب، والبعض الآخرُ اكتفى بأن يُشيح ببصره جانبًا؛ تفاديًا لإحراجها. كان ذلك بالفعل أصعبَ شيءٍ تعيَّن عليها أن تفعله في حياتها كلها.
ووقفَت كلارا وحيدةً خلال الفسحة في باحة المدرسة تنظُر إلى قدمَيها، وفجأة رأتْ ظلَّين يقتربان منها؛ فنظرت إلى الأعلى لترى كلًّا من صديقتَيها كايلي ميلر وآريانا جيفري.
قالت آريانا: «كان كلُّ ما قلتِه أمامنا اليوم في الفصل جميلًا جدًّا ومُشوقًا أيضًا.»
ردَّت كايلي: «أجل، لم يكن بمقدوري أن أفعل ذلك؛ كنتُ سأشعر حينها بحرجٍ شديد.»
سألت آريانا: «هل تُمارسين الجمباز حقًّا في هارتلاند؟»
فأجابت كلارا: «نعم، لقد كان بالفعل اسم نادي الجمباز جيني. لقد استمتعتُ بالفعل بالتدريب طيلة فترة وجودي هناك، ولكننا في الواقع لم نُجرِ أيَّ مبارياتٍ تنافُسية مع أي فرقٍ رياضية أخرى.»
سألَتها الفتاتان: «ولماذا لا تطلبين من والدتك السماحَ لك بالذَّهاب معنا إلى نادي الجمباز لكي نتدرَّب معًا؟»
ارتسمَت على وجه كلارا ابتسامةٌ عريضة بعد أن شعرت لأول مرةٍ منذ وقتٍ طويل بأن وضعها الآن أصبح أفضلَ بكثيرٍ مما سبق، وأنه لا بدَّ أن يكون هناك في عالَم نومورا مصباحُ كذبٍ آخر مُلطَّخ بالوحل يتدلَّى من بين أغصان الأشجار قد سقط أخيرًا إلى الأرض.