ستيفان وجيرالد الجبان
يُحكى أنه في غابر الزمان، كان هناك ابنُ فارسٍ فقير اسمه ستيفان، أرسله أبوه في يومٍ من الأيام إلى السوق لشراء بعض الأغراض؛ حيث التقى هناك بشابٍّ يُدعى جيرالد الجبان، وقد أصبحا بعدَها صديقَين.
كان جيرالد ابنَ رجلٍ غني، وكان يعشق السفر إلى البلدان الأجنبية. وبعد انقضاء فترةٍ من الزمن على صداقته مع ستيفان سأله إذا كان يرغب في أن يُرافقه في رحلاته التي يعتزم القيامَ بها إلى بعض الممالك المجاورة.
فأجاب ستيفان: «ليس هناك من شيءٍ أحَبُّ إلى نفسي من ذلك.» لكنه سرعان ما هزَّ رأسه في حسرةٍ وهو يقول: «لكن والدي رجل فقير ولا يُمكِنه أن يُوفِّر لي ما يكفيني من المال للقيام بهذه الرحلة.»
فقال جيرالد: «حسنًا. إذا كانت هذه هي مشكلتك الوحيدة فسوف أُساعدك في حلِّها؛ فوالدي معه الكثير جدًّا من المال، حتى إنه لا يعرف ماذا يصنع به، وسوف يُعطيني منه ما يكفيني ويكفيك. هناك شيءٌ واحد فقط يتعيَّن عليك يا ستيفان أن تَعِدني بالوفاء به مقابل ذلك؛ أن تنسب إليَّ أنا فقط كلَّ المغامرات والمواقف الشجاعة التي قد تحصل معنا خلال الرحلة.»
وأجاب ستيفان على الفور: «نعم، هذا معقول جدًّا؛ ولكني لا أستطيع أن أذهب معك في الرحلة دون أن أستأذن والدَيَّ، وأنا متأكد أنهما سينظران إليَّ بوصفي رجلًا محظوظًا لتمكُّني من الحصول على مثل هذه الفرصة.»
سُرَّ والدا ستيفان حقًّا لسماع ذلك منه، مُعتبِرين أن هذه فرصة العمر التي لن تتكرَّر مرةً ثانية، وشجَّعاه على المُضيِّ في الرحلة. وقام والده بإعطائه سيفَهُ الذي علاه الصدأُ نتيجةَ عدم الاستعمال، بينما حرَصَت والدتُه على التأكُّد من سلامةِ ارتدائه سروالَه الداخلي؛ لكيلا يشعُر بالبرد أبدًا طيلةَ الرحلة.
وقالت له والدته وهي تُودِّعه: «احرص يا بني على الوفاء بالعهد الذي قطعتَه على نفسك أمام جيرالد، وألا تَخُونَه أبدًا مهما كانت الأسباب.»
امتطى ستيفان صَهْوةَ جواده وهو يشعُر بحماسٍ وسعادة بالِغَين، وتوجَّه نحو بيت جيرالد. وفي صبيحة اليوم التالي انطلقا في رحلتهما للبحث عن المغامرات والعجائب في الدنيا. ولسوء الحظِّ كانت الأرضُ التي يعيشان فيها يسودها الأمن والنظام بشكلٍ جيد؛ مما يجعل من غير المُتوقع حدوثَ أمور غريبة فيها، وهكذا قاما بعبور الحدود إلى مملكةٍ مجاورة تسُود فيها الفوضى والاضطراب الشديدان.
ولم يمضِ وقتٌ طويل على سيرهما عبر جبالٍ متوسطة الارتفاع حتى شاهدا عن بُعد مجموعةً من اللصوص المُسلحين يختبئون وراءَ عددٍ من الأشجار على جانِبَي الطريق الذي يسلكانه، وتذكَّرا على الفور ما سمِعاه أثناء اجتيازهما الحدودَ عن وجود عصابةٍ مُسلَّحة من اللصوص، مُؤلَّفة من اثنَي عشر لصًّا تقطع الطريق على المُسافرين، وتنهب متاعهم، وخاصة الأغنياء منهم. كان هؤلاء اللصوص في طبيعتهم يُشبهون الحيوانات الوحشيةَ كثيرًا، ويعيشون في كهوفٍ وحُفَر في أعماق الأرض على امتداد سفوح الجبال. وكان زعيمهم يُدعى «حنكور» المعروف فيما بينهم باسم حنكور الطويل. مرَّت كل هذه المعلومات على بالهما بشكلٍ خاطف وهما يُشاهدان لَمَعانَ سيوف اللصوص تحت ضوء القمر.
وقال جيرالد بصوتٍ منخفض بعد أن أوقف حصانه في منتصف الطريق: «مِن المُستحيل مقارعتُهم؛ اثنا عشر مقابل اثنين! الأفضل لنا أن نرجع ونسلك الطريق الأدنى. سيكون من الحُمق أن نزجَّ بأنفُسنا في معركةٍ غير متكافئة لهذه الدرجة، ونخسَر حياتنا نتيجةً لذلك.»
قال ستيفان: «أوه … لا نستطيع الرجوع. وسيكون من المُخزي أن نُواجه الآخرين بعدها! سيكون أمرًا مُخجلًا ومُحرجًا لكلَينا إذا فعلنا ذلك. إضافة إلى كل ذلك، قد نتمكَّن من تعليم هؤلاء اللصوص درسًا لن ينسَوه. دعنا نربُط الحِصانَين هنا إلى جذع هذه الشجرة ونتسلق أعلى الجبل ونقوم بعدها بدحرجة الصخور الكبيرة فوق رءوسهم لتقتُلهم.»
فقال جيرالد: «فكرة جيدة حقًّا ما دُمنا نستطيع في أي وقتٍ نشاء أن نعودَ إلى الحِصانَين.» وقاما في صمتٍ وبشكلٍ خفيٍّ بالصعود إلى أعلى الجبل.
كان اللصوص في الواقع ينتظرون بفارغ الصبر ظهور عابري الطريق، ويتوقَّعون أن يحدُث ذلك في أي لحظةٍ بعد أن يتجاوزوا المُنعطفَ الحاد الذي يختبِئون وراءه بأمتارٍ قليلة. وفجأةً انهال فوق رءوسهم سيلٌ من الصخور والأحجار الكبيرة مما جعل جميع أفراد عصابة حنكور يشعرون بدوار شديد؛ ممَّا سهَّل كثيرًا على ستيفان وجيرالد الانقضاضَ عليهم وهزيمتهم. وقام ستيفان بمبارزة زعيم العصابة حنكور، وتمكَّن من التغلُّب عليه وهزيمته أيضًا، كما قام بعد ذلك بنزعِ سلاح جميع أفراد العصابة وسَوقِهم مُقرَّنين بالأصفاد، يتقدَّمُهم كبيرهم حنكور، كما تمكن ستيفان من نزع خاتمٍ جميل تتوسَّطه ألماسة جميلة وملوَّنة من يد حنكور، وقام بوضعه على الفور في إصبع يده اليسرى.
ذاع صيتُ هذا العمل الرائع في أنحاء البلاد.
وبعد عدة أيام غادر الاثنان أرضَ المملكة مُتوجِّهَين إلى مملكةٍ أخرى مجاورة وهما يعتزمان أن يُمضيا فيها بقية فصل الشتاء؛ لأن جيرالد كان يُفضل الراحة لفترةٍ من الوقت أثناء السفر، ولا يرغب في الانتقال من مكانٍ إلى آخر عبر طرقاتٍ تُغطيها الثلوج والصقيع. لكن ملك البلاد سمح لهما بالبقاء بشرطٍ واحد: أن يُقدِّما إليه قبل انقضاء فصل الشتاء ما يُثبت من جديدٍ شجاعتَهما التي سمع عنها كثيرًا من قبل.
غمر الفرحُ قلب ستيفان عند سماع رسالة الملك، وبالنسبة لجيرالد فقد شعر بأن الأمور ستكون على ما يُرام ما بقِيَ ستيفان إلى جانبِه. وهكذا انحنى الاثنان أمام الملك وقالا له بصوتٍ واحد: «الملك يأمر ونحن نُطيع.»
وقال جلالة الملك: «حسنًا إذن. هذا هو ما أُريد منكما أن تقوما به: يعيش في القسم الشمالي الشرقي من مملكتي رجلٌ عملاق يملك عصًا حديدية طولها عِشرون ذراعًا، يستخدمها بخفَّة ومهارة لدرجةٍ يستطيع بها أن يُواجه خمسين فارسًا في وقتٍ واحد، دون أن يتمكن أيٌّ منهم من القضاء عليه. لقد سقط الكثيرُ من أشجع الفرسان الشباب في البلاط الملكي تحت ضربات هذه العصا الحديدية، ولكن بما أنَّكما تمكَّنتما من التغلُّب على عصابةٍ مؤلَّفة من اثنَي عشر لصًّا، فسيكون من المنطقي بالنسبة لي أن آمُل في أنكما ستتمكنان من التغلُّب على هذا العملاق بسهولة. ويجب عليكما التوجهُ لمُقارعته والتغلُّب عليه خلال فترة ثلاثة أيامٍ من الآن.»
أجاب ستيفان على الفور: «السمع والطاعة يا جلالة الملك.» في حين التزم جيرالد الصمتَ التام.
وما إن أصبحا خارج أسوار القلعة حتى قال جيرالد بصوتٍ أشبهَ بالصراخ: «وكيف يُمكن لنا أن نُواجِه عملاقًا قتل خمسين فارسًا من أشجع فرسان البلاط الملكي وأكثرِهم شبابًا؟ الملك يريد بذلك فقط أن يتخلَّص منا. وهو لن يتذكَّرنا بالتأكيد خلال الأيام الثلاثة المقبلة، وهذا أمرٌ يدعو للراحة والاطمئنان، وبذلك يكون أمامنا مُتَّسَع من الوقت لعبور حدود المملكة والنجاة بأنفسنا.»
قال ستيفان: «قد لا نتمكن فعلًا من القضاء على هذا العملاق، ولكن يُمكننا أن نتصور مقدار الفرحة والبهجة التي سنُدخلها في قلوب أهل المملكة لو تَمكنَّا بطريقةٍ ما من القضاء عليه، خاصة وأنا أعلم نوع السلاح الذي يجب أن نستخدمه في مقارعته. تعالَ معي الآن وسوف ننظر في الأمر معًا.» أخذ صديقه من ذراعه، وتوجَّها نحو حانوتٍ في وسط البلدة حيث اشترى قطعةً كبيرة من الحديد الصُّلب، لدرجة أنهما بالكاد تمكَّنا من رفعها عن الأرض. وتعاوَنا معًا بصعوبةٍ على حملها إلى حانوت الحداد ليصنع لهما بها عصًا حديدية برءوس مُدببة في مقدمتها. وعندما أنجز الحدادُ العمل كما هو مطلوب ولاقت العصا إعجابَ واستحسان ستيفان، قام بوضعها تحت ذراعه عائدًا بها إلى البيت.
وفي وقتٍ مبكِّرٍ من اليوم الثالث، بدأ الاثنان رحلتهما المحفوفة بالمخاطر. ووصلا بعد أربعة أيامٍ إلى مدخل كهف العملاق قبل أن ينهض من النوم. ولدى سماعه جَلبةً ووقْعَ أقدام، نهض العملاق على الفور نحو باب الكهف ليستطلِع الأمر. وقام ستيفان، الذي كان يتوقَّع شيئًا كهذا، بتوجيه ضربةٍ قوية على جبهة العملاق أسقطَته أرضًا على الفور مُضرَّجًا بدمائه، وعاجَلَه قبل أن يتمكَّن من الوقوف ثانيةً بضربة سيفٍ قوية قطع بها رأسه.
وقال ستيفان وهو يلتفتُ نحو جيرالد: «لم يكن الأمر في النهاية صعبًا كثيرًا كما ترى.» وقام على عَجَلٍ بوضْع رأس العملاق داخل كيسٍ من الجلد وألقى به على ظهره، ومن ثَمَّ انطلقا في رحلة العودة إلى القلعة وهما يشعران بسعادةٍ بالِغة.
وعندما أخذا يقتربان من بوابة القلعة، قام ستيفان بإعطاء جيرالد الكيس، وبالسير وراءه وهما يدخلان إلى حضرة الملك.
وقال جيرالد بثقةٍ واعتزاز وهو يُمسك برأس العملاق: «لن يُسبب لجلالتكم بعد اليوم هذا العملاقُ أي مشكلات. لقد قُضي الأمر.» فقام الملك على الفور بالانحناء بشكلٍ كبير أمام جيرالد وبتقبيل وجنتَيه؛ اعترافًا منه بأهمية العمل البطولي الذي قام به، الذي شكَّل خدمةً كبيرة للمملكة ولجميع رعاياها الذين كانوا يعيشون في خوفٍ دائم. وقال الملك وهو يشعُر بسرورٍ بالِغ ويشير بيده نحو جيرالد بأنه أشجعُ فرسان المملكة بل العالَم، وقرَّر إقامة حفل استقبالٍ كبير بهذه المناسبة على شرفِهِ يدعو إليه كبارَ الوزراء والمُستشارين والفرسان؛ للإعلان عن هذا العمل الكبير الذي قام به في جميع أرجاء المملكة. امتلأ قلبُ جيرالد على الفور بفخرٍ كبير لدرجة أنه كاد أن ينسى فيها أن الذي قام بالفعل بهذا العمل الشجاع وقطع رأس العملاق هو في الحقيقة ستيفان، وليس هو نفسه.
وشيئًا فشيئًا أخذَت الشائعات تنتشر في أرجاء القلعة عن حضور سيدة جميلة لهذا الحفل برفقة أربعٍ وعشرين من وصيفاتها الجميلات. كانت هذه السيدة في الواقع أميرةً في مملكةٍ مجاورة تُوفِّي والدها الملك عندما كانت طفلةً صغيرة، فأصبحَت في عُهدة ورعاية عمِّها الذي أصبح الملكَ الجديد لإدارة شئون المملكة حتى تبلُغ سنَّ الرشد وتُصبح الملكة الجديدة خلفًا لوالدها وتحكُم المملكة بنفسها.
وأصبحت السيدة الآن في عمرٍ مناسب لتحكُم المملكة بنفسها، وكانت تبحث عن الزوج المناسب ليُساعدها في إدارة شئون المملكة والاهتمام بشئون رعاياها. وقام الأمراء الواحد تلوَ الآخر بطلب يدِها دون أن يلقى طلبُ أي واحدٍ منهم القَبول المأمول. وقالت لمُستشاريها ووزرائها بكل وضوحٍ إنها إذا ما قرَّرت الزواج فإنها ستختار زوجها بنفسها، ولن تقبل بأي أحدٍ ممَّن اختاروهم لها.
الآن عندما سمِعَت بقدوم شابَّين إلى البلاط الملكي تمكَّنا من القضاء على العملاق الذي أرهب المملكةَ طيلة سنواتٍ عديدة، امتلأ قلبُها بالإعجاب بشجاعتهما حتى قبل أن تراهما. وقرَّرت أنه في حال إقامة حفلٍ في القلعة على شرفهما فسوف تقوم بالحضور بكل تأكيد.
وهذا ما حدث بالفعل. وعند انتهاء الحفل، سألت الملك الوصيَّ على عرشها إذا كان سيسمح لجيرالد الشجاع، الذي أصبح معروفًا بأنه هو من هزم عصابة اللصوص وتخلَّص من العملاق، بالمشاركة في مبارزةٍ تنافُسية تُقام في اليوم التالي مع أحدٍ من أتباعها. ووافق الملك بسرورٍ على ذلك. وأمر بإعداد قائمة تتضمَّن أسماء المشاركين وبدون أن يُساوره أيُّ شكٍّ في أن اسم البطل الشجاع جيرالد سوف يتصدَّر القائمة، وأنه سيكون حريصًا ألَّا يُفوِّت على نفسه هذه الفرصة لكي يُثبت من جديدٍ قُدراته وشجاعته أمام الجميع. ولم يَدُرْ قطُّ في خَلَدِ الملك أن يقنع جيرالد ستيفان بالتسلُّل معه خارج القلعة خلال الليل؛ مُبررًا ذلك لستيفان بقوله: «لا أعتقد أبدًا بأنهم سيختارون أحد أتباع الملكة لمُبارزتي بل سيختارون على الأغلب فارسًا مُجَربًا صاحِبَ خبرةٍ في فنون القتال. وكيف لي في هذه الحالة، وأنا شابٌّ صغير وصاحب خبرة قليلة، أن أقف في مواجهته وأتغلَّب عليه؟»
وأجاب ستيفان قائلًا: «ولكنك ستنال الشرف العظيم إذا تمكَّنتَ من الفوز في نهاية المبارزة اليوم.» ولكن جيرالد لم يكن يهتمُّ قطُّ لما كان يقوله ستيفان، وقال له بكل صراحةٍ إنه لا يهتمُّ على الإطلاق بمثل هذه الأمور، وإنه يُفضل أن يبقى على قيد الحياة من أن يتراكمَ فوق رأسه شرفُ كل الدنيا مُجتمعًا. وهكذا قرَّر جيرالد الهروب من القلعة، وبما أن ستيفان قد أقسم بأن يُلازمه دائمًا وألَّا يُخلف وعدَه مهما كانت الظروف، فقد وافق على الهروب أيضًا.
كان ستيفان قد شعر ولا بدَّ بالحزن الشديد للكلمات التي سمِعها من جيرالد، ولكنه كان يُدرك تمامًا أنه من العبث محاولةُ إقناع جيرالد بالعدول عن رأيه وعما قرَّر القيام به. وفجأة لمعت فكرة رائعة في ذهن ستيفان وهي أن يتبادلا ثيابهما. وقال: «دعنا نقوم بذلك وسوف أُبارز عوضًا عنك، وتكسب أنت وتتمتَّع في النهاية بالجائزة المُخصَّصة للفائز، ولن يشعر بذلك أحدٌ أبدًا.» وافق جيرالد وبسرور بالِغ على ذلك.
وبغضِّ النظر عمَّا إذا كان جيرالد بالفعل على حقٍّ بقوله إنهم سيختارون لمُبارزته فارسًا مُجَربًا صاحبَ خبرةٍ في فنون القتال، فقد كان من المؤكد أن المهمة القادمة أمام ستيفان ستكون أكثرَ صعوبة ممَّا هو متوقع؛ فقد ارتطم جَواد ستيفان بقوةٍ شديدة مع جوادٍ تابع للملكة ثلاث مرات، ولكن ستيفان تمكَّن في الجولة الأولى من المبارزة من ضرب خوذة خصمِهِ ضربةً قوية جعلها تطير في الهواء ليتلقَّى من بعدِها ضربةً على رأسه جعلته يترنَّح للحظاتٍ على ظهر الجواد. وعلَت الأصوات والهتافات بين جمهور المشاهدين عندما بدَتْ لهم نتيجة المباراة بفوز جيرالد. وتمكن ستيفان أخيرًا من غرْز رُمحه في الدرع الذي يُغطي صدر التابع مما حمله على التقهقُر إلى الوراء في الوقت الذي علَت فيه مُجدَّدًا أصوات وهتافات جمهور المشاهدين: «لقد طرَحَه عن صهوة الجواد. لقد طرحه عن صهوة الجواد.» وقام ستيفان على الفور بالنزول عن جواده ليُساعد التابع في النهوض عن الأرض.
وخلال البلبلة التي حدثت بعد ذلك، كان في مقدور ستيفان أن يتسلَّل خفيةً ليعود إلى جيرالد ويتبادَلا من جديدٍ ثيابَهما. وهكذا كان جيرالد هو الذي قام — بثياب القتال المُمزَّقة والمُغبرة التي كان يرتديها ستيفان — بالاستجابة لدعوة الملك للمُثول أمامه بعد انتهاء المبارزة.
وقال الملك: «لقد فعلتَ ما توقَّعتُ منك أن تفعله. والآن اختر مكافأتك.»
وأجاب جيرالد وهو ينحني بشدة أمام الملك: «امنحني يدَ الملكة ابنة أخيكم، وسوف أُدافع بكل شجاعةٍ عن المملكة ضدَّ جميع الأخطار التي تُواجهها.»
وقال الملك: «في الواقع لا يُمكنها أن تختار زوجًا أفضلَ منك. وأنا سوف أوافق على الفور إذا وافقَت هي على ذلك.» والتفت الملك نحوَ الملكة التي لم تكن موجودةً خلال المبارزة، ولكنها جلست بعد ذلك إلى كرسيٍّ كبير على يمينه. كانت الملكة تملك عيونًا حادَّة وثاقبة، وتمكَّنَت على الفور من ملاحظة أن الرجل الذي يقف أمامها، على الرغم من كونه وسيمًا ويتمتع ببَسطةٍ في الطول، يختلف في الشكل بتفاصيلَ صغيرةٍ عديدة، وبشيء واحدٍ جوهري، عن الرجل الذي شارك في المبارزة.
لم تتمكَّن الملكة في البدء من إدراك كيف يُمكن أن يكون هناك خدعةٌ ما في المبارزة التي جرَت أمام الملك وحاشيته. وكان قيام الفائز بالتنازُل طواعيةً عن مكافأته لقاءَ ما حقَّقه من انتصارٍ لصالح رجلٍ آخَر أمرًا أشدَّ غرابة وصعوبةً على الفهم بالنسبة إليها. لكنَّ شيئًا ما في داخلها كان يدعوها إلى توخِّي الحيطة والحذَر في أي خطوةٍ تقوم بها. وأجابت عمَّها الملك قائلة: «قد يكون ما جرى أمامك قد حاز على رضاك، ولكنه لم ينَلْ رضايَ أنا. ويجب أن يكون أمامي أولًا دليلٌ آخَر لكي أقتنع بصحة ما جرى. دع هذَين الشابَّين يتبارزان أمامي من جديد. إن الرجل الذي سأقبل به زوجًا يجب أن يكون الرجلَ نفسه الذي هزم عصابة اللصوص وقتلَ العملاق، وتغلَّب على تابعي في المبارزة.»
اعترى وجهَ جيرالد شحوبٌ كبير وهو يسمع ذلك، وأدرك على الفور أن لا مفرَّ أمامه مما هو فيه الآن.
وهكذا بدأت المبارزة بين جيرالد وستيفان. وعلى الرغم من مخاوف جيرالد، قام ستيفان بمحاولاتٍ غيرِ جدية للنيل من جيرالد وطرحِه عن صهوة جواده مُكتفيًا بأخذ موقف الدفاع عوضًا عن الهجوم طيلةَ فترة المبارزة. ولم يكتفِ ستيفان بذلك بل كان يترك ضرباتِ جيرالد التي كان في وسعه أن يتجنَّبها تصِل إليه. وأخيرًا وبعد أن أظهر قدْرًا كبيرًا من المقاومة سقط ستيفان بقوةٍ على الأرض. كان يُدرك تمامًا وهو يسقط أنه بذلك لا يتخلَّى فقط عن شرفِ الفوز في المبارزة، بل أيضًا يد الملكة التي كانت تُشكل بالنسبة له فرصةَ العمر.
لم ينتظر حتى يرى إذا كان ستيفان قد أُصيب بجرحٍ أم لا، فذهب مباشرة إلى بهو القلعة حيث كانت الرايةُ الملكية تُرفرف، وطالب باستلام مكافأته على الفور.
وتحوَّلَت أنظار جميع المشاهدين نحو الملكة متوقِّعين قيامها بالانحناء أمام جيرالد وبتقديم هديةٍ ثمينة للفائز. وعوضًا عن ذلك ابتسمَتْ بوقار، ممَّا أثار دهشة الجميع، وقالت بأنها قبل أن تُوافق على الزواج فيجب أن يكون هناك اختبارٌ آخرُ وأخير. واقترحَت أن يُواجِهَ كلٌّ من جيرالد وستيفان بمفردهما فارسَين من البلاط الملكي، ومن يستطيع أن يطرح خَصمه عن صهوة جواده سيكون سيِّدَها وسيد المملكة. وحُدِّد موعد بدء المبارزة في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي.
كان جيرالد يذرع أرضَ غرفته طوال الليل جَيئةً وذهابًا، فهو لا يجرؤ على المشاركة في هذه المبارزة القادمة، محاولًا بكل ما يستطيع أن يهتديَ إلى طريقةٍ ما تُمكنه من الهرَب من هذا الاستحقاق الملكي. كان يتنقَّل بقلقٍ ظاهر طوال الليل بين باب الغرفة والنافذة. وفي الصباح عندما انطلق صوت البوق مُعلنًا قُرب بدء المبارزة، وأخذ الفُرسان المتنافسون يمتطون صهوة جيادهم استعدادًا لبدء المبارزة، أرسل الملك عددًا من أتباعه ليرى ماذا حلَّ بجيرالد حيث رأوه يختبئ تحت سريره. ولذلك لم يعُد هناك حاجة إلى أي دليلٍ إضافي لإثبات الحقيقة، ومن ثم تمَّ الإعلان عن إلغاء المبارزة لأنها أصبحَت غير ضرورية بعد انكشاف الحقيقة، وأعلنت الملكة عن قَبولها ورضاها الكامل بستيفان زوجًا لها.
وعندما كانت الملكة تجلس وحيدةً مع ستيفان، قالت له: «لقد نسيتَ شيئًا واحدًا. عندما رأيتُ خاتم والدي الذي سرقه حنكور الطويل في إصبع يدك اليُمنى عرَفتُ أنك أنت وليس جيرالد مَن قتل عصابة اللصوص. أنا كنتُ التابعَ الذي واجهك في المبارزة؛ حيث رأيتُ للمرة الثانية الخاتمَ في إصبعك، الذي افتقدتُه في أصابع جيرالد عندما تقدَّم للمطالبة بمكافأته. وهذا هو السبب في أنني طلبتُ إجراء مبارزةٍ بينكما على الرغم من أن وفاءك للعهد الذي قطعتَه على نفسك أمام جيرالد قد حال دون نجاحِ خُطتي. ولذلك كان يتعيَّن عليَّ أن أُحاول إجراء اختبارٍ آخر. إن الرجل الذي يُوفي بعهده مهما كانت الظروف جديرٌ بأن أثق به بالنسبة لي بشكلٍ شخصي، وبالنسبة لرعايا مَملكتي ككل.»
وهكذا تزوَّح ستيفان الأميرة وعادا إلى مملكتهما، وقاما بالحفاظ على أمن المملكة وحُسن معاملة رعاياها وإدارة شئونها بروح العدل والإنصاف. وبعد انقضاء عدة سنواتٍ طرقَ مُتسوِّلٌ فقير بوابة القصر يطلُب مالًا ومُستذكرًا الأيام الخوالي. لقد كان هذا المتسول جيرالد ولا أحد غيره، وقد رُحِّب به وسُمح له بالدخول.