حورية البحر الصغيرة
هناك في أعالي البحر حيث الماء عميق جدًّا، كان يحكُم ملكُ البحر عالَمَ ما تحت البحر.
لقد أقام قلعتَهُ في أعمق نقطةٍ في الماء. كانت جدرانها مَبنيَّةً من المرجان الأزرق، وسقفها من الأصداف التي تفتح وتُغلِق نفسَها كلما داعبَتْها تيَّاراتُ الماء. هناك عاش ملك البحار مع أُمِّه وبناته الأربع اللواتي تكبُرُ الواحدةُ منهنَّ الأخرى بعامٍ واحدٍ فقط.
كانت أصغرُ الأميرات الأربعِ تُدعى الحورية الصغيرة. وكانت تُمضي مُعظم وقتها في العوم إلى السفن الغارقة في قاع البحار. وكانت هذه السفن تحمِل في داخلها كنوزًا مُتنوِّعة من العالَم العلوي. وكانت هي تحمل ما تشاء من هذه الكنوز وتُخبئه هنا وهناك في أنحاءٍ متفرقة من قاع الماء، وفي أثناء ذلك تُغنِّي. وبينما كانت تُغنِّي، كان السمك يتجمَّع حولها ليستمِع إليها؛ إذ كان صوتها هو أجمل صوتٍ في قاع البحر.
كانت الأميرات الأربع يعرفنَ أنهنَّ يستطعنَ الصعود إلى سطح الماء فقط عندما يَبلُغنَ الخامسة عشرة من العمر. وكان على الحورية الصغيرة أن تنتظر سنواتٍ طويلةً حتى تستطيع ذلك؛ إذ كانت هي الأصغر من بينهن! ولهذا طلبَتْ من جدتها أن تُحدِّثها بكلِّ شيءٍ عن الحياة على الأرض، وتحكيَ لها قصص السفن والمدن، وقصص الناس الذين عرَفَتْهم في حياتها.
وسرعان ما بلَغَت الأميرة الكبرى سنَّ الخامسة عشرة من العمر. كانت الأميرة الأولى التي سُمح لها بالصعود إلى سطح الماء. وعندما عادت من هناك، كان لديها الكثيرُ من القصص المُثيرة لترويَها لأخواتها الأميرات. حكَتْ لهنَّ كيف استلقَتْ على رمالٍ بيضاء ناعمة على شاطئ البحر، وكانت فوقها سماءٌ عالية زرقاءُ صافية تسبح فيها غيومٌ بيضاء كثيفة. كما حكَتْ لهن كيف تحوَّلَت السماءُ إلى اللون الذهبي الذي يُخالطه اللون الأحمر عندما بدأت الشمس تميل إلى المغيب. وروَت لهنَّ كيف استمتعت برؤية الطيور وهي تُحلِّق فوقها عاليًا، وتتداخل فيما بينها في السماء الذهبية المَشوبة بالحُمرة.
وعندما بلَغَت الأميرة الثانية سنَّ الخامسة عشرة من العمر، كان ذلك في فصل الشتاء. وحكَت لأخواتها عند عودتها من زيارتها للشاطئ عن رؤيتها للجبال الجليدية العائمة في البحر واللامعة بشدة، وروَت لهنَّ كيف تُحاول السفن الابتعادَ عنها، كما لو كانت تخاف منها. لكن هذه الجبال العائمة لم تَبْدُ وحيدةً في عرض البحر؛ فقد كانت تطفو قريبة بعضها من بعض مثلَ الأصدقاء.
وعندما حان موعد بلوغ الأميرة الثالثة سنَّ الخامسة عشرة، صعدت كأختَيها إلى سطح الماء وحكَتْ عندما عادت لأخواتها كيف اقتربت قدْر ما تستطيع من بوابة إحدى المدن. وهناك استمعت إلى صياح الناس وضجيجهم، وسمِعت صوت الخيول المشدودة باللجام وهي تَسير على الطريق، حتى إنها سمِعَت أيضًا مُوسيقى لم تسمع مثلها من قبل.
كانت الحورية الصغيرة تستمِع إلى حكايات أخواتها بدهشةٍ كبيرة. ولم يكن من الإنصاف أن تنتظِر سنواتٍ طِوالًا حتى يحين دَورُها في خَوض تجرِبتها مثل بقية أخواتها. وأخيرًا حلَّ هذا اليوم الذي بلغت فيه الخامسة عشرة من العمر. وأصبحت الآن تستطيع أن تصعد إلى سطح البحر وترى بنفسها هذا العالم الجديد.
وعندما صعدت إلى سطح الماء، وجدَت نفسها بالقُرب من سفينةٍ كبيرة واقفة وسط البحر. وكانت تصدح منها موسيقى جميلةٌ والبحَّارة يرقصون على سطحها. من الواضح أنهم كانوا يستمتعون بوقتِهم ويتضاحَكون فيما بينهم. ويبدو أنهم كانوا يُقيمون حفلة. ومن آنٍ لآخر كانت الأمواجُ ترفعها أكثرَ فأكثر نحوَ الأعلى، حتى أصبحت ترى بشكلٍ أفضلَ ما يجري على سطح السفينة. وعندما ظهر شابٌّ وسيم على سطح السفينة، انطلقت مئات الطلقات النارية في الهواء. كانت الحفلة مُقامة على شرَفِهِ لمُناسبةٍ ما. هل كانت هذه المناسبة الاحتفال بعيد ميلاده؟ اقتربت الحورية الصغيرة أكثرَ فأكثر من السفينة. وبدا أنَّ جميع البحارة على ظهر السفينة يُحِبون هذا الشاب. وكانوا يضحكون عندما يتحدَّث إليهم. ويُربِّتون في بعض الأحيان بأيديهم على ظهره في مرَح. وفي إحدى المرَّات، وقع تاجُه عن رأسه. وحينها ضحك الرجال والتقطوه. وقالت الحورية الصغيرة: «تاج! لا بدَّ أنه أمير.»
وفجأةً اكفهرَّت السماء بالغيوم السوداء وهبَّت ريح عاتية. وبدأ البحَّارة يُسرعون الخُطى على سطح السفينة، وأنزلوا الأشرعة، وأخذت السفينة تهتزُّ وتتمايل وتتأرجح من جانبٍ لآخَر ولأعلى وأسفل وسطَ الأمواج العاتية.
وسرعان ما هبَّت عاصفةٌ مطيرة هوجاءُ صاحَبَها برقٌ ورعد. وبدأت السفينة تميل على أحد جانبَيها وسط الأمواج العاتية! وأصبح الظلام دامسًا لدرجةٍ أعمَت الحورية الصغيرة عن رؤية ما حولها، ثم أضاء البرقُ السماءَ واستطاعت أن ترى الأميرَ الشابَّ على سطح السفينة. وكان يبدو أنه الوحيد الذي بقِيَ على سطح السفينة! كان يسعى جاهدًا للمحافظة على توازن السفينة ومنعها من الغرق، كما كان يُلقي بالحبال إلى البحَّارة الذين سقطوا في الماء. وفجأةً أصبحت الأمواج عاليةً بشكلٍ كبير، وبدأت السفينة تنقلب. ودفع هذا بالأميرِ الشابِّ إلى طرف السفينة قبل أن يقذِف به عاليًا في الهواء ليسقط بعدَها في عرض البحر.
اختفى الأمير الشاب في قلب البحر بشكلٍ سريع. ولكن ما عسى الحورية الصغيرة أن تفعل من أجله؟ كانت تعلم أنَّ البشر لا يستطيعون العيش مثلها تحت البحر. فغاصَتْ بسرعة تحت الماء وتوجَّهت مباشرةً نحوه، وتمكَّنَت من أن تُمسك بقميصه، وتصعد به إلى السطح بأسرع ما تستطيع. وقد تمكنت أخيرًا من رفع رأسه فوق سطح الماء. وهناك أخذا يَطفُوان بينما كانت الأمواج تعلو وتهبط. وبحلول الصباح هدأت العاصفة. لكنها وجدت الأمير بلا حَراك كما كان طيلةَ الليل. ومن بعيد، رأَتِ الحورية الصغيرة قِمَم تلال. وقالت: «أرض!»
عامَت نحوَ الشاطئ ساحبةً الأمير الشابَّ وراءها. لم يكن من السهل عليها سحبُه إلى الرمال الجافة، لكنها تمكَّنَت أخيرًا من تنفيذ ذلك. هل فارق الأمير الشابُّ الحياة؟ وقفَتْ بجانبه وأخذت تُغنِّي إحدى الأغنيات الحزينة. وفجأةً بدأ الأمير الشابُّ يتحرك. سألته وهي تلمس جبينه: «أوه! هل أنت بخير؟»
وحينها سمِعَت أصوات مجموعةٍ من الفتيات وهن يقتربنَ منها، فغاصت على الفور في البحر واختبأَتْ خلفَ صخرة. لا يجِب أن يرَوها؛ فهي حورية! ووجدت الفتياتُ الأميرَ الذي استيقظ الآن من غفوته. طلبتِ الفتيات النجدة لمساعدة الأمير، وسرعان ما أُخِذ لكي تتمَّ رعايته. ما كان الأمير سيعرف أبدًا أنها أنقذت حياته. دخلت الحورية الصغيرة في حالة حُزن شديد. وعندما رجعتْ إلى بيتها، طلبت منها شقيقاتها أن ترويَ لهنَّ تفاصيل رحلتها بالكامل، لكنها كانت حزينةً بما فيه الكفاية؛ ممَّا منعها من قول أي شيء.
ودارت الأيام والليالي. وذهبَت الأخَوات لمساعدة جَدتِهنَّ، والتفتَت الجدة نحوَ الحورية الصغيرة وقالت لها: «ما الخطب يا بُنيتي؟»
قالت الحورية الصغيرة: «يا جدتي، لا أظنُّ أني سأكون سعيدةً مرةً أخرى!» وروَت لجدتها قصةَ لقائها بالأمير وإنقاذه من الغرق، وكيف كان يتعيَّن عليها أن تتركه. ثم أضافت: «إذا لم أتمكَّن بطريقةٍ ما من السير على الأرض والسعيِ للقاء هذا الأميرِ الشابِّ مرةً أخرى، فإنني سأظلُّ حزينةً طوال حياتي!»
قالت لها جدتها: «تعلمين يا عزيزتي كما نعلم جميعًا أن الحوريات لا يستطعن السير على قدمَين مثل البشر! المخلوق الوحيد الذي يستطيع تغييرَ ذلك هو ساحرة البحر. ولكن بالطبع سيكون الذَّهابُ إليها مسألة بالغة الخطورة.»
لم تسمع الحورية الصغيرة عن تلك الساحرة من قبل، لكن سرعان ما وجدت نفسها تتوجَّه نحوَ أقصى المملكة حيث تعيش الساحرة.
قالت ساحرة البحر عندما أخبرَتْها الحورية الصغيرة بسبب قدومها إليها: «الأمر بسيط جدًّا. عادةً ما أُعالج أمورًا أصعبَ من ذلك بكثير. إذا كنتِ تُريدين أن يكون لك قدَمان مثل البشر، فإن كلَّ ما عليك فِعله هو تناول هذا المشروب السحري.» ثم التفتَتْ نحو الحورية الصغيرة وقالت: «لكنني، وكما يعلم الجميع، لا أفعل ذلك دون مقابل.»
سألتها الحورية الصغيرة: «أوه! إذن، ما المقابل الذي تُريدينه؟» حينها شعرَت في داخلها بارتفاع معنوياتها؛ ففي نهاية الأمر، هناك طريقة تستطيع من خلالها امتلاك قدَمَين تسير بهما للقاء الأمير.
قالت ساحرة البحر: «أوه، إن المقابل ليس كبيرًا. أريد منكِ فقط أن تتخلَّي عن صوتك.»
ردَّت الحورية الصغيرة مُتسائلة: «صوتي أنا؟» فقد كانت تعلم أن أكثرَ شيءٍ يُحبه مَن حولها فيها هو صوتها.
قالت لها ساحرة البحر: «أنتِ لستِ بحاجةٍ إلى هذا الصوت. إن غناءك هذا يُعَدُّ مضيعةً للوقت. ولكن يجب أن تعلمي يا صغيرتي الجميلة أنه إذا تزوَّج الأميرُ من فتاةٍ أخرى غيرك، فسوف تموتين في اليوم التالي، وسيبقى معي صوتك الجميل إلى الأبد. ولكن مرةً ثانية مَن يدري؟ فقد يختارك أنتِ …»
شعَرت الحورية الصغيرة بقلبها يخفق بقوةٍ من شدة الفرح.
وأمسكت ساحرةُ البحر بكأسٍ مُمتلئٍ بشرابٍ أخضر اللون في يدها، وقالت: «والآن! ماذا ستفعلين يا عزيزتي؟ عليك أن تُقرِّري؛ ليس لديَّ الكثير من الوقت لأُضيعه معكِ.»
أخذَت الحورية الصغيرة الكأس وشربت ما فيه. وشعرت على الفور بألمٍ وبِدوارٍ في الرأس، كما لو أن سيفًا اخترق جسدها. وأخذت تئنُّ وتتلوَّى ثم سقطت بعدَها فاقدةً الوعي. وعندما استيقظت وجدت نفسها على نفس الرمال الجافة التي تركَت عليها الأميرَ بعدما أنقذَتْهُ من الغرَق. وعندما رفعت رأسها أدركت أن حُلمها قد تحقَّق بالفعل؛ فقد اختفى ذيلُها وحلَّ محله قدمان بشريَّتان تستطيع السير عليهما!
سألها صوتٌ قادم مِن ورائها: «قولي لي يا آنسة هل عندكِ مشكلة، فأُساعدك؟» لم يكن صاحبُ هذا الصوت سوى الأمير! حاولت أن تقول شيئًا لتُجيبه ولكنها لم تستطِعْ أن تُخرج أي كلماتٍ من فمها. سألها مرة ثانية: «هل تستطيعين الكلام؟» فهزَّت رأسها بالنفي. قال لها: «حسنًا، دعيني آخُذكِ إلى القلعة حيث تستطيعين هناك أن تغتسلي وتحصُلي على ملابسَ أُخرى جافة ترتدينها.»
يُمكن القولُ إن الحورية الصغيرة كانت سعيدةً للغاية بمُرافقة الأمير إلى القلعة. في البداية كانت تهتزُّ قليلًا في مِشيتها، ولكنها سرعان ما أصبحت تمشي بتوازُنٍ كالآخرين. في تلك الليلة أخذها الأمير في جولةٍ ضمنَ أرجاء غُرَف القلعة. وكان يُشير إلى كلٍّ من اللوحات الجدارية الموجودة هناك ويحكي لها حكاية الشخص المرسوم بها. وعندما كان يقول شيئًا طريفًا، كانا يضحكان معًا. وعندما تكون القصة حزينة كانت عيناها الطيبتان تُخبره بأنها فهِمَت مَغزى القصة وبأنها تشعر بالحزن أيضًا.
وفي اليوم التالي كان هناك حفلٌ ملَكي. ولم يكن الأمير يعتزم المشاركةَ فيه؛ لأنه لم يكن يُحب الوقوف لساعاتٍ طويلة مع المَدعوِّين ذَوي الثياب الزاهية الذين يتحدثون ويتحدثون دون أن يكون لحديثهم أيُّ معنًى. سأل الأمير الحورية الصغيرة إذا ما كانت ترغب في الذَّهاب معه إلى الحفل؛ فهزَّت رأسها بسرورٍ بالغٍ مُعلِنة موافقتها الفورية. في ذلك اليوم، ومع وجود الحورية الصغيرة إلى جانبه، شعر الأمير بسرورٍ بالغ. أحيانًا كان يتحدَّث إليها بتعليقٍ بصوتٍ منخفض. وكان يعرف من حركة عينَيها وتعابير وجهها بأنها قد فهمت تمامًا ما قاله لها.
بعد ذلك رغب الأميرُ بأن تبقى الحوريَّة الصغيرة بجانبه كلَّ يومٍ حتى إنه شعر بأنه قد يقع في غرامها في يومٍ ما. لكنه كان لا يزال يأمُل بالزواج من صاحبة الصوت التي أنقذَته من الغرَق والتي لا يزال يتذكَّر جمال صوتها إلى اليوم. وبالطبع لم يخطر بباله أن تكون صديقته الجديدة الرائعة التي لا تستطيع التحدُّث، ناهيك عن الغناء، هي صاحبة هذا الصوت الجميل.
وفي يوم من الأيام، نادى الملكُ على ولده وقال له: «يا بُني، لقد اتخذتُ أنا ووالدتك قرارًا بأنه قد حان الوقت بالنسبة لك لكي تتزوَّج. ومن حُسن الحظ أننا تمكَّنَّا من اختيار عروس لك.»
قال الأمير: «ماذا؟» كان يُريد أن يتزوج الفتاة صاحبة الصوت الجميل الذي لا يزال يتذكَّره جيدًا. ثم أضاف: «ومن تكون هذه الفتاة؟»
قال الملك: «أميرة من منطقةٍ قريبة. ستأتي اليوم بصُحبة والدَيها لنتَّفق على إجراءات الزواج.»
أُصيب الأمير بصدمةٍ كبيرة. وشعرت الحورية الصغيرة بالخوف؛ فقد كانت تعرف ما سيحصل لها في اليوم التالي لزواج الأمير من فتاةٍ غيرَها!
في تلك الليلة واجهت الحورية الصغيرة المزيد من المشاكل. إنها لم تكن تعلم أن ساحرة البحر التي أخذت منها صوتها الجميل قد أعطَته لهذه الأميرة الشابة المُتغطرِسة التي لا تُفكر إلا في نفسها. وعندما تحدثت هذه الأميرة كان يصدُر عنها صوتُ الحورية الصغيرة. وقد ذُهِل الأمير عندما سمِعَها وطلب منها أن تُغنِّي. حينها، كان صوت الحورية الصغيرة يملأ القاعة. لم يُصدِّق الأميرُ أن يكون سعيدَ الحظ لهذه الدرجة، وأن يتمكن في النهاية من الزواج من الفتاة التي طالما حلم بالزواج منها! وعندما أخبر الأميرُ الحوريةَ الصغيرة بفرحِهِ الشديد، حاولت جاهدةً أن تُظهِر له فرحها أيضًا لذلك، وإن كانت الكآبة تملأ قلبها.
وعند الفجر في اليوم التالي ذهبت الحورية الصغيرة إلى شاطئ البحر. وكانت أخواتها، اللاتي شعرن بالقلق عليها لانقطاع أخبارها عنهن، قد صعدْنَ إلى سطح البحر لرؤيتها والاطمئنان على أحوالها. وبثَّت الحورية الصغيرة بطريقةٍ ما همومَها إلى أخَواتها. وقالت لهنَّ بأن حفل زفاف الأمير سيكون في يوم الغد، وبأنها ستموت في اليوم التالي. طلبت الشقيقات من الحورية الصغيرة بألا تشعر بالقلق أبدًا؛ حيث كانت لديهنَّ فكرةٌ ما لإنقاذها. لذا، طلبنَ منها أن تعود إلى الشاطئ مرة أخرى في وقتٍ مُتأخر من الليل، قبل أن يَغُصْنَ في البحر مرةً أخرى.
في تلك الليلة توجَّهت الحورية الصغيرة من جديدٍ نحو الشاطئ كما طُلِب منها أن تفعل. وصعدت الشقيقات الثلاث إلى سطح البحر مرةً أخرى دون أن تظهَر جدائلُ شعرهنَّ الطويلة والجميلة. لقد قُمنَ بقصِّها وتقديمها لساحرة البحر مُقابل سكينٍ تستطيع بها الحورية الصغيرة أن تقتُل الأميرة في نفس هذه الليلة. وبذلك يُلغى حفل الزفاف وتستطيع بعدَها أن تعود إلى أهلها في البحر. أخذت الحورية الصغيرة السكين من شقيقاتها؛ لأنها تعلم مقدار التضحية التي بذلوها من أجلها بدافع مَحبتها، ولكنها كانت تُدرك في أعماقها بأنها لن تقتُل الأميرة.
حلَّ يوم الزفاف. وتقدَّمَت الحورية الصغيرة مع المَدعوِّين الآخَرين لأخذ أماكنهم على ظهر السفينة حيث ستجري مراسم الزفاف عند غروب ذلك اليوم.
وفي هذه الأثناء عادت الشقيقات الثلاث إلى البيت ليُواجهوا أباهم الغاضب الذي صرخ في وجوههنَّ قائلًا: «أين أُختكن؟ وأين كنتنَّ جميعًا؟»
أخبَروه بقصة شقيقتهن الصُّغرى والمشكلةِ التي تُواجهها. على إثر هذا، توجَّه الأب إلى السفينة التي سيجري عليها حفلُ الزفاف، ورأى الأمير والأميرة وهما يستعدَّان للزواج. وأدرك على الفور أن ابنته لم تستخدِم السكين في الليلة الماضية.
وفي الحال أسرع الأب ليرى ساحرةَ البحر. ضحكت الساحرة عندما رأته وأخبرته بأن هناك طريقةً واحدة فقط لإنقاذ ابنته الصغرى من القدَر المحتوم الذي ينتظرها؛ قالت له إنه يُمكنه إنقاذُ ابنته إن سلَّمها صولجانَ الحُكم. وبهذا الصولجان في يدَيها، كانت الساحرة ستستطيع أن تحكم مملكة ما تحت البحار. تنهَّد ملك البحر بعُمق. ووافق على ما قالته الساحرة؛ فما عساه أن يفعل غير ذلك؟
أمسكت ساحرة البحر بصولجان الحُكم وهي تشعر بفرحٍ غامر. وأسرعت نحو السفينة التي يُقام عليها حفل الزفاف لتشهد انتصارها بعينَيها. شاهدت الحورية الصغيرة ساحرة البحر وهي تخرج من البحر. ورأت أن الساحرة، بعد امتلاكها صولجان الحكم، تحوَّلت إلى وحشٍ جبَّار يملك عشراتِ الأذرع المُمتدة من جميع أنحاء جسمه كالأخطبوط. كانت الحورية الصغيرة تعلَم أنه يتعيَّن عليها أن تحمِيَ الأمير وحتى عروسه الجديدة أيضًا. ولهذا أخرجت السكين. وفي ذلك الوقت وصلَتْ إليها إحدى أذرع ساحرة البحر لتخطفها من على ظهر السفينة وحينها صاحت الساحرة في ابتهاج: «هذه نهايتك!»
وقبل أن تُدرك الحورية الصغيرة حقيقة ما يجري، وجدَت نفسها في قبضة ذراعٍ قريب للغاية من صدْر ساحرة البحر. كانت لا تزال تُمسك بالسكين في يدها — سكين ساحرة البحر نفسها — فرفعَتها إلى الأعلى وغرستها بكامل قوتها في صدْر الساحرة.
ترنَّحت ساحرة البحر وهي تئنُّ من الألم، وتحرَّرت الحورية الصغيرة من قبضتها. وأُصيب المَدعوُّون على ظهر السفينة برُعبٍ شديد وبدَءوا يتدافعون في كل اتجاه، بينما كان الأمير يُطلق سهامه الواحد تلوَ الآخر على الساحرة. وفي النهاية سقطت الساحرة في ماء البحر. وبينما كانت تهبط، انطلق صوت الحورية الصغيرة من عقاله وعاد إليها كما كان.
وبدأت الأميرة تصرُخ بمن حولها بصوتٍ خشنٍ وأجشَّ قائلة: «يا لها من مملكة سيئة! لا يستطيع المرءُ فيها أن يُقيم حفل زفافٍ بشكل لائق!» سمع الأمير ما قالته الأميرة وأدرك على الفور بأنها لم تكن الفتاةَ التي أنقذَته من الغرَق في يومٍ من الأيام. وما إن بدأت الحورية الصغيرة بالغناء، حتى أدرك الأميرُ أن الصوت الذي يتذكَّره دائمًا يعود إلى نفس الفتاة التي طالما أحبَّها منذ ذلك اليوم.
وغادرت الأميرة الغاضبة السفينة، وتبعها أهلُها وراءها.
وعندما وصل ملك البحر كان صولجان الحكم يطفو على سطح البحر، كما لو أنه كان ينتظره. ومدَّ الملك ذراعه ليلتقِطه، فعادت إليه مِلكيَّته كما كان في السابق.
وقال ملك البحر: «رائع! أرى ابنتي الآن في أيدٍ أمينة.» ورفع بتلويحةٍ من صولجانه ابنته الصغرى من سطح البحر ووضعها على ظهر السفينة.
قال الأمير وهو يُعانقها: «كنتُ أعلم منذ زمنٍ طويل بأنك أنت صاحبة هذا الصوت الجميل! فهل تتزوَّجينني؟» على الرغم من أن الحورية الصغيرة قد عاد إليها كامل صوتها، فإنها لم تتمكن من الردِّ عليه من شدَّةِ الفرح الذي غمر قلبها، فأومأت برأسها بالموافقة مع ابتسامةٍ دافئة. وبعد ذلك جرَت مراسم حفل زفاف العروسَين على ظهر السفينة.