دولة الإسلام عند المتأسلمين
من المدهشات في بلادنا، والغرائب عندنا كثير، أن تجد مذيعًا في إذاعة مصرية، يطرح فكرًا هو بالمرة ضد الدولة القائمة، وضد مجتمعها، وضد كل النظام العام للمجتمع. والمذيع المقصود هو الدكتور فوزي خليل الذي يُعرِّف نفسه فيما يكتب وينشر بأنه «من كبار مذيعي إذاعة القرآن الكريم بالقاهرة»، وبجوار هذا التعريف تعريفٌ آخر يقول إنه حاصل على درجة دكتوراه في العلوم السياسية.
يقدم لنا رأيَ الشريعة في عملية صنع القرار السياسي «فيكون المطلوب شرعيًّا هو: الاجتهاد في الحياة العامة لجلب المصلحة ودفع المفسدة، وفق شروطٍ وضعتها الشريعة، وأوصافٍ بعينها لا بد أن تتوفر في القائم بصنع القرار الشرعي الجالب للمصلحة والدافع للمفسدة».
كيف يمكن قبول مثل هذا القول من رجل يحمل دكتوراه العلوم السياسية في القرن الواحد والعشرين الميلادي؟ إن الرجل لم يقم بتفعيل أيٍّ مما تعلَّم سنين دراسته كلها بالمطلق وهو يعرفنا برأي الشريعة في عملية صنع القرار السياسي، فلا شيء فيما قال يشير بالمرة إلى سياسة بما هو مفهوم عنها. الرجل يعيش القرن السابع الميلادي وربما حتى العاشر أو الحادي عشر على الأكثر، فيعطينا الدرس لنتعلم كيف نصدر قرارنا السياسي وفق منظومة الشريعة الإسلامية مشروطًا بشروط تتوفر في متخذي القرار، الرجل لا يرى ما حوله بالمرة مثل كل رفاقه من المشتغلين علينا بالدين، يتوهم أن للدول أن تتخذ قراراتها السياسية محليًّا وفق شريعتها، غير عابئ بما حدث حوله من متغيرات عالمية جعلت اتخاذ أيِّ قرار سيكون له تأثيره على بقية العالم، في زمن لم يعد القرار السياسي يتخذ محليًّا وفق شريعة محلية بشروط تتوفر في صانع القرار؛ لأن صانع القرار الإيراني يعجز عن إصدار قرار علني واضح وصريح بتصنيعه السلاح النووي، والدكتور فوزي خليل وكل جماعته يعجزون عن إعادة مبادئ الشريعة للعمل بها؛ لأنه وكلهم معه يعجزون عجزًا فاضحًا أمام العالمين من تطبيق وفرض الجزية على غير المسلمين في بلادهم، وعجز آل الشيخ الوهابية في السعودية عن منع القرار السياسي المطلوب دوليًّا بمنع الرقيق حوالي عام ١٩٦٣ ميلادية. وعجزت حكومة السودان عن تطبيق حدود الشريعة على مجتمعها، ولم تطبق من الإسلام سوى مظاهر شكلية كالحجاب والنقاب وإطالة اللحى. وحماس الفرع الفلسطيني للإخوان ظلوا يطلبون السلطة لتطبيق شرع الله، وها هي حماس حتى اليوم تعجز عن تطبيق الشريعة، التي زعموا أنهم إنما يريدون الحكم من أجل تطبيقها، ويعجزون جميعًا عن إعادة التسري بالجواري بيعًا وشراء وسبيًا لإقامة قصور الحريم. ودول العالم الإسلامي بحكم انتمائها لعالمها وأممه المتحدة وقوانينه، تعجز جميعًا من شرقها إلى غربها عن إعلان إقرار فقه الجهاد الإسلامي كقانون حرب تعمل بموجبه قواتُها المسلحة، حتى أصبح «فقه الجهاد والقتل على الظنة، وحروب الإبادة الصفرية ضد الشعوب والقبائل الأخرى وعدد السبايا وطرق قسمتهن بين المؤمنين، وكذلك فقه العبودية برمته من بابه الأول إلى آخر صفحة في بابه الأخير بين دفتي القرآن وكتب السير والأخبار والطبقات والصحاح وكل علوم الدين» أصبح كلُّ هذا من قبيل الروايات التاريخية، ولم يعد بإمكان أيِّ دولة إسلامية أن تصرِّح به أو تبوح به خارج مدارس التعليم الإسلامي، أو ربما في خطبة عصماء في هذه القناة الخاصة غير المحسوبة على أي حكومة، أو في ذلك المسجد، هذا، علمًا أن فقه الجهاد كان الفريضة العظمى وكان أعظم مجلب لأعظم مصلحة عامة، كما يريد خليل، حيث كان يزود خزائن الدولة بالمال والقصور والنساء والعبيد. إن الدكتور فوزي وحكوماته ووزاراته وشعبه مرغمون جميعًا على القبول بالشرعية الدولية بالقوة الجبرية، فخرج المسلمون على شريعتهم بالإكراه علنًا وخضعوا للشرعية الدولية رسميًّا، والشرعية الدولية هي شرائع لا شأن لنا بها، ولم نتقدم للمساهمة فيها ولو مرة واحدة بمادة من مواد شريعتنا الإسلامية لعدم صلاحيتها لزماننا، وأن من وضع الشرعية الدولية هم غير المسلمين من أمريكا لإنجلترا لفرنسا للصين لروسيا. وجاء قرار هؤلاء السياسي التشريعي ملزمًا للعالم أجمع، ولا علاقة له بالمنظور الإسلامي الذي يحدثنا عنه أستاذ العلوم السياسية.
وحتى نصدق الدكتور ونستمر في قراءة ما يطرحه علينا، كان عليه أن يُشعرَنا أن لاستهلاك الوقت في قراءته فائدة ومصلحة، بأن يشير لنا مثلًا إلى عدد مرات رفضنا لقرارات الأمم المتحدة وتنفيذ هذا الرفض وما ترتب على هذا الرفض، منذ أغلقنا مضيق العقبة بوجه السفن الإسرائيلية وهذا حالنا من سيئ إلى أسوأ حتى اليوم.
وقبلها عندما رفضنا قرار التقسيم الدولي لفلسطين فكانت النتيجة هزيمة مروعة لكل الدول العربية، وضياع أراضٍ عربية ضعف ما كان مقررًا في التقسيم الدولي.
حتى نستوعب ونعلم بقدرتنا على اتخاد القرار السياسي وفق شريعتنا، هل بالإمكان أن تقوم دول العالم الإسلامي برفض قرارات الأمم المتحدة بقيام إسرائيل في قلب العالم العربي الإسلامي؟ هل بالإمكان رفض الدولة العلمانية التركية وإصدار القرار بتكفيرها، وهي تردد كلَّ يوم أن لا علاقة لها كدولة بدين الإسلام لأنها دولة علمانية، رغم أنها كانت آخرَ معقل للخلافة الإسلامية منذ بضع عشرات من السنين.
إن الدكتور خليل ورفاقه يكذبون على شعبنا، ويغشون المسلمين بتقديم ما يوعز بأننا أهل قدرة، وأصحاب منعة، لدرجة أن بإمكاننا العودة بالبلاد إلى زمن العبودية والظلمات، ولا يبقى من ترداد تلك الأقوال سوى ترك أثرها الجارح في النفس الإسلامية وإشعار الشعوب الإسلامية بالدونية بين الأمم، ومع التأجيج المستمر في إعلامنا لمشاعر العداء الإسلامي لغير المسلمين، لا يبقى للنفس كي تطمئن سوى أن تقتل وتُقتَل، لا يبقى بيدنا سوى الإرهاب؛ سلاح الضعيف والمشلول القدرات.
إنهم يغشون شعبنا وهم يتحدثون عن وهمٍ اسمه دولة دينية إسلامية سننتصر بها ونسود العالمين، ويستخرجون لها الأدوات والقرارات والشروط، بينما تاريخ الإسلام كله لم يعرف شيئًا اسمه الدولة الدينية أو الإسلامية سوى زمن الرسول وحده، وكانت في ذلك الوقت عبارة عن تجمع قبلي يدين بالولاء لسيد واحد من قبيلة بعينها أصبحت فيما بعد هي السيد المطلق، ولم تكن بالمرة دولة بالمعنى العلمي المفهوم، حتى إن اسم الدولة أو الحكومة بما نفهمه منه اليوم، غاب بالمرة وبالمطلق عن كل التاريخ الإسلامي منذ جاء جبريل باقرأ وحتى اليوم؛ لأن رب الإسلام لو كان يريد دولة لدينه، لخلق لها الجماعة التي تضع ذلك وتدرسه وتطبقه وتضع له مواصفاته وشروطه ومؤسساته التي تُشرف على تنفيذه وتحميه، وهو كله الكلام الذي لم يكن معلومًا زمن الصحابة ولزمن بعيد بعده، حتى ظهور ابن تيمية وسياسته الشرعية وابن القيم وأعلام الموقعين وحسن البنا والإسلام هو الحل. لو أرادها الله دولة إسلامية لخلق هؤلاء زمن الدعوة ليجلسوا حول الرسول ويشيرون عليه بما يقولونه لنا اليوم، ويعظونه به كما يعظوننا، ولقامت الدولة مواكبة لقيام الدين، ولكانت قد جعلت العالم كله ديار إسلام منذ قرون مضت، وكان الله قادرًا أن يخلق الدكتور فوزي خليل زمن الدعوة مع فريق من الإخوان والأزاهرة ليعلِّموا الصحابة معنى الدولة وشروطها، بدلًا من أن يظل الإسلام والنبي والصحابة غير عارفين بها ولا بطريقة اتخاذ القرار السياسي حسب الشريعة، ويظل إسلامنا طوال تلك القرون ينتظر الدكتور فوزي خليل ليكتشف الدولة وشروطها في الشريعة الإسلامية، لكن بعد أكثر من أربعة عشر قرنًا، ولكان وجود فلاسفة الدولة الإسلامية مع نظريتهم في المساواة والعدل والحريات والحقوق زمن النبي، كفيلًا بقيام هذه الدولة المتحصنة بالشريعة ولما ظهر في تاريخنا الحجاج بن يوسف الثقفي، ولا يزيد بن معاوية، ولا هتك المسلمون أعراض بنات مدينة رسول الله، ولما أبادوا آل بيت الرسول، ولما حدثت الفتنة الكبرى لأنها كانت ستكون دولة حاكمة ذات مرجعية قانونية واحدة للجميع، تطبَّق على الجميع لا أن يدَّعيَ كلُّ فريق أنه الإسلام الصحيح ليقتل الفريق الآخر.
الدكتور خليل بموضوعه هذا يعلن أنه في موقف المعارضة، والمعارضة الإسلامية والمتشددة تحديدًا، ولكن بما أنه موظف في جهاز حكومي وإداري كبير، فإنه لا يذهب لإظهار دوافعه الحقيقية من أجل استيلاء جماعته ومن هم مثله على السلطة، إنما هو يقدم دافع ظاهري هو مصلحة الناس، فيقدم للناس «جلب المصلحة ودفع المفسدة»، يقدم لهم صالحهم كهدف أساسي يسعى إليه وكواجهة يختبئ وراءها بمشروعه الحقيقي، وقد تمرس هذا التيار الإسلامي بفن التخفي والتنكر، وبإشراك الناس نظريًّا في مشروعه، فيقدمون للناس حلولًا يبدو الناس مشاركين فيها وطرفًا من أطرافها، وعبر شعار هو الإسلام هو الحل، يمكن تقسيم المصلحة والمفسدة، فيستفيد أهلُ الدين كراسي الحكم، ويستفيد الناس حل مشاكلهم، مصحوبًا ذلك الحل بالرضى الإلهي مما يعني أنه مضمون النجاح مائة بالمائة. وإن لم يتمَّ حلُّ المشاكل ولو واحد بالمائة، فيكفي الله خيرَ ضامن لأجرهم في الآخرة. والحكاية كلها وهْم في وهْم؛ فلا الله أعلن عن ضمانه هذا المشروع للناس، ولا هو أعطى توكيلًا للإخوان نيابة عنه في الأرض، ولا توجد مشاركة حقيقية للناس، ومن ثَم لن يبقى من كل ما قيل سوى زيادة المفسدة والمزيد من ضياع المصلحة.
والناس أو المسلمون عند هؤلاء هم أعضاء جماعة الإخوان المسلمين فقط، وإن أراد المسلم مكاسب حقيقية ملموسة فعلية عينية، أن يلتحق بعصابتهم للمشاركة في الثورة على الظلم الحكومي القائم، والتمرد عليه لاستعادة عدلنا الإسلامي المفقود، ويتم ذلك بالتشويه الإعلامي المستمر لسمعة الحكومة بحسبانها أُسَّ كلِّ فساد، بل وأنها النموذج لأسوا فساد ممكن؛ لأنه نوع خاص من الفساد، إنه النوع الذي أدَّى إلى سوء علاقة الرب برعيته، وأبرز الأدلة على ذلك هو امتناع السماء عن الاستجابة لدعاء الرعية على الحكومة؛ لأنه كان يكفي في أصل الشريعة أن ندعوَ عليها دعوة رجل واحد بدعاء المظلومين، آناء الليل وأطراف النهار لتسقط شذرَ مذرَ، لكننا ندعو وهي لا تسقط، إذن ثمة خلل في علاقتنا بربنا حتى إنه لم يعُد يستجيب لدعائنا وبكائنا وتضرعنا إليه، ولا يبقى من حلٍّ سوى إزاحة الحكومات الكافرة، هنا سيعلم الله أننا قد أصلحنا ما بأنفسنا وقومنا الخلل ومحقْنا الكفر، ومن ثَم يصالحنا ويستجيب لدعواتنا في تدمير إسرائيل وإزالة أمريكا، عندما نصل بأهل الإسلام إلى السلطة ليطبقوا علينا شرع الله كعلامة خضوع كامل له كخطوة أولى على الطريق الصحيح.
لقد علم المشتغلون علينا بالدين أنه لا بد من إشراك الناس في مشروعهم ولو وهمًا، بجعل الناس أصحاب المصلحة التي سيحلها لهم المتأسلمون عندما يحكموننا عن طريق الرب، وليس عن مشاريع واضحة معلنة تحيطنا علمًا بها كبديل صالح لما تراه فاسدًا، وحتى هذه اللحظة لم نقرأ برنامجًا علميًّا واضحًا لحل مشاكل الوطن تقدَّم به أيُّ فريق من تلك الفرق المتأسلمة.
ولمزيد من التجييش يقدمون الأدلة للمسلمين على كفر الحكومة، بالبنوك الربوية، ووجود الخمارات في البلاد، والصلح مع إسرائيل، والفن الخليع الهابط، وهو ما يجعل الحكومة الحالية عائقًا أمام تعاون الرب معنا واستجابته لدعواتنا.
هؤلاء عندما يفعلون ذلك هم صادقون مع تاريخهم؛ فقد كان تداول السلطة عند أسلافهم يتم بدعاية تقوم بها المعارضة مع دعوة لإشراك الناس في ثورتهم، ثم الانقلاب من بعدها على الناس، معاوية فعلها مع علي ومع المسلمين من بعد، أبو العباس السفاح أعلن عدم شرعية الأمويين حسب المواصفات القياسية الإسلامية الشرعية، وإنه إنما قام يطالب بحقوق الله وهي حكم الهاشميين وبني العباس تحديدًا من آل البيت، وبهم سيقيم دولة البر والتقوى والعدل والإحسان والدين، فأقام دولة القتل والذبح والطغيان.
إدخال الدين في موضوع الدولة والحكومة، يسوغ لكلٍّ أن يرى ما يراه من تفسير لمقصود الشرع، ولإثبات خروج الحكومة على الشرع، وهو ما أدى إلى سوء العلاقة بالله، والحل بالعودة للشرع.
كلهم بلا استثناء لا يريدون تغييرَ الحكومات القائمة لأنها أدت إلى تخلُّف شعوبها، ولا لأنها أهملت الزراعة، أو لأنها فرَّطت في حقوق عامة للمواطنين كالمسكن والعلاج والعمل، أو أنها قصَّرت في حفظ الأمن والمرور وسيادة القانون، أو أنها قصَّرت في مواجهة الكوارث، فكلُّ هذا لا يخطر لهم؛ لأنهم لا يرون الحكم أبعد من كونه نزاعًا على ميراث، ولمن يئول هذا الميراث؟ نفس النزاع كان هو المؤسسَ لحكم الراشدين وفِتَنهم العديدة، كان نزاعًا حول من هو الصاحب الشرعي للميراث، والرعية والأوطان هي التركة. في كل انقلاب قامت به فرقةٌ للاستيلاء على الحكم لتنزيل الشريعة وصالح الدين والديان، لم تخفِّض الجباية عن الناس بل ضاعفتها، ولم تقلِّل من الضرائب بل اعتصرت الناس اعتصارًا، ولم تلغِ العبودية بل زادت من عدد العبيد. كان التغيير المطلوب وما زال هو إجابةً على السؤال: من يحقُّ له امتلاك الأرضين بما فوقها من رعية؟ بإرضاء رب الدين بتفعيل شريعته، وهي الشريعة التي استخدمها كلُّ الفرقاء لإثبات فساد شرعية بقية الفرقاء، فكان أن أصبح كلُّ المسلمين كافرين في نظر كل المسلمين.
يقول أستاذ العلوم السياسية الدكتور فوزي خليل: إن المنفعة العامة (جلب المصلحة ودفع المفسدة) ستكون بالفتوى وبالاجتهاد، ويسميه الاجتهاد السياسي الإسلامي، وهو أمر يركن إلى تعريف للمصلحة العامة بما يراه لها من هو أعلم بمصالحنا منا، قياسًا إلى شريعة الله الذي هو أعلم بمصالحنا منا. لا يرى هؤلاء حولهم في الدنيا أن صالح الناس العام لم يعُد بيد من يفتي فيه من أهل العلم الديني والتقوى العارفين بالشريعة، ولا بيد من يريد الاجتهاد ليستنسخ لنا من الشريعة القديمة شريعةً قديمة برداء محدث. المصلحة العامة هي التي يحددها الرأي العام، من يحددها هم الناس وليس المشايخ والمفتون والمجتهدون، ذلك كان زمان المماليك وأبي الحجاج الثقفي وليالي هارون الرشيد، ويوم نحس الخليفة الذي يعدم فيه أول من يصادفه من رعيته، ويوم سعده الذي ينعم فيه على أول من يصادفه منهم.
اليوم من يقرر الصالح العام هم الناس، هو رأيهم العام. اليوم يصبح الاجتهاد عملًا ضد السلام العام للمجتمع المدني المحلي، وضد أمن وسلام المجتمع الدولي؛ لأن استدعاء ذلك الزمان بما فيه من الجهاد والسبي والفيء واحتلال العالم لإدخاله في نور الله؛ كفيلٌ بتهديد الأمن الوطني والعالمي كله.
لكن لكي يكون الرأي العام معبرًا عن مجتمعه حقًّا، فلا بد أن يتمَّ ذلك في مناخ من الحرية في التفكير وفي القول وفي الاعتقاد، وفي اعتياد وجود آراء مخالفة يمكن أن تنتصر هي في السجال وتعمم نفسها على الرأي العام لثبوت نجاحها. الشرط الأساسي لرأي عام سليم هو أن يكون المجتمع قد ألِف واعتاد التعددية في الرؤى، لأن رأيًا واحدًا سائدًا يُشكِّل عقلًا مجتمعيًّا كاملًا وفق قواعده وشروطه، حتى يصبح الناس كلهم طبعة واحدة؛ هو رأي عام مزيف، ملعوب فيه، وفي عقل المجتمع كله، ليصبح ضدَّ نفسه، ويتحول إلى مجرد صدى للفتاوي. في هذه الحال يصبح الرأي العام غيرَ معبر عن الصالح العام، إنما عن صالح فئوي تتحقق فيه الفوائد لرجال الدين وحلفهم، ولو قمنا بعمل قياس للرأي العام في بلادنا ستندهش أن تجده هو رأي رجال الدين الإسلامي بالتمام في كل شيء وفي كل شأن، وهو رأيٌ صنعه لدى الناس رجلُ الدين وليس الدين، بعدما أصبح رجل الدين رقيبًا على الرأي والفكرة، رقيبًا على الآراء الأخرى حتى لا توجد بالمرة ولا يبقى في السوق سوى رأي واحد للجميع.
رجل الدين الذي يبحث عن المصلحة ويدفع المفسدة، يراقب المصنفات والمطبوعات، يهرع وراء كلِّ مخالف في أي شأن بتهمة التكفير فلا يبقى حرًّا في المجتمع سوى رجال الدين كالعرب السادة القدماء، لهم وحدهم الحقُّ في القول في كل شيء والتدخل في كل علم وفن بالفتوى والتفسير، ولهم كلُّ وسائل التعليم والإعلام وتوجيه الرأي العام، حتى تم استئناس الرأي العام وتدجينه في حظيرة العباد الصالحين، هو النجاح الذي لا بد أن نعترف به لتيار الدكتور فوزي، بتحالف تحتي تمكنوا فيه من الاستيلاء على أجهزة توجيه الرأي العام في الدولة هم وحدهم ودون أيِّ رأي آخر غير رأيهم. إن الاجتهاد الذي يطلبه الدكتور فوزي لا يعبر عن الصالح العام ولا الرأي العام، فهو رأيٌ لا يقدمه المجتمع ولا يصنعه، بل هو رأى فئة وطائفة اختارت نفسها لمهمة الشياخة والفتوى، ومن ثم هيَّئوا الواقع كلَّه ليبصم على قراراتهم وفتاواهم وهو مغمض العينين، فأصبح رأيهم رأيًا عامًّا، بينما هو رأي خاص لجماعة خاصة، لتحقيق مصلحة خاصة، لهذه الجماعة بخاصة، وما أبعد ذلك عن صالح الوطن والمواطنين.
نتابع ما تطرحه الكوكبةُ الجديدة من المشتغلين بالإسلام السياسي، لإدخال الإسلام في كل مدخل ممكن من العمل السياسي، وضمن هؤلاء نتابع ما كتبه أستاذ العلوم السياسية الدكتور فوزي خليل حول كيفية صناعة القرار السياسي في دولة إسلامية تلتزم الشريعة عند صنع هذه القرارات.
يقول الدكتور فوزي: «إن عملية صنع القرار في الرؤية الإسلامية، بحكم مقاصدها ومرجعياتها، هي عملية ترتبط في تفاعلاتها بمفهوم التدبير، الذي يعني التفكير العميق والدراسة الواعية للأمور لتدبير الأمور في الأمة تدبيرًا يصلحها في الدنيا والآخرة.» ودعمًا لما يقول يقدم استشهادًا من كلام الإمام جلال الدين السيوطي في كتاب الأشباه والنظائر؛ إذ يقول: «إن التصرف على الرعية منوط بالمصلحة.»
هنا نجد أنفسنا بإزاء أكثر من سؤال، هل ما يطرحه السيد الباحث هنا هو رأي رجل دين أم رأي أستاذ علوم سياسية؟ لأن الأمر يستشكل علينا ما بين إعلانه عن علميته التي حازها بأرفع الدرجات على المستوى العلمي في دراسة السياسة، وما بين ما يقول لنا هنا، خاصة مع ما يستخدم من ألفاظ ذات نكهة سلفية ورنين إسلامي عتيق، فماذا يقصد مثلًا بالتدبير كمفهوم يرتبط بعملية صنع القرار في الرؤية الإسلامية؟ يعرفه بأنه تفكيرٌ عميق ودرسٌ واعٍ لتدبير الأمة بما يصلحها دنيا وآخرة. إذن التدبير تفكير عميق ودرس واعٍ من أجل ماذا؟ من أجل العثور على التدبير الذي يُصلح شأننا دنيا وآخرة. وهكذا تاه منا التدبير هل هو مبتدأ أم منتهي أم وسط عملية اتخاذ القرار السياسي، وهل هو وسيلة نصل بها مباشرة إلى صالح الأمة، أم أن التدبير هو هدف العملية «لتدبير الأمة بما يصلحها دنيا وآخرة».
ألفاظ زئبقية بلا معنًى محدد واضح يمكن أن تضيف إليها أو تحذف دون أن يتغير أيُّ شيء؛ لأنه في مساحة المفاهيم غير المتفق عليها يمكن لأي شيء أن يكون أي شيء، إن لم يعرفنا ماذا يعني بالتفكير العميق الذي هو التدبير المؤدي إلى التدبير؟ ولا كيف يتأتى لنا هذا التفكير؟ كيف ينشئه العقل البشري ليأتيَ بالشكل السليم؟ إن عبارات الدكتور وما يقدمه من مصطلحات يشير إلى إنها لم تأتِ بالشكل السليم، فليس من الضروري أن يؤديَ التفكير العميق الذي هو التدبير إلى صلاح الدنيا والآخرة؛ فالأساطير والخرافات كلها كانت نتيجة تفكير عميق وتدبير، الدكتور لا يفرق بين عقول تفكر، وأخرى تفكر لكنها لا تعرف كيف تفكر، المسألة هي كيف نفكر؟ لا أن نفكر تفكيرًا عميقًا والسلام.
ومثل هذا التفكير الذي يعرف كيف يفكر ليصل إلى نتائج يطبقها في الواقع فيؤدي للنجاح والصلاح والمصلحة والتفوق، له أصوله الفلسفية والتي تم اكتشافُها حديثًا في عصر النهضة على يد فلاسفة ومفكرين عظام، أسَّسوا لاكتشاف الجديد وإبداع ما لم يكن موجودًا، ووضعوا نظمًا حقوقية لحماية الكرامة الإنسانية، وأسَّسوا لعلوم السياسة وفق أدق المصطلحات، فليس عندهم تدبيرٌ بما يصلح الدنيا والآخرة، وإنما هناك تفكير علمي أنجز وحقق واخترع وأبدع واكتشف فأقام الحضارة الحديثة كأعظم حضارة عرفها الكوكب الأرضي.
وحتى لو قررنا التدبير كما يريد الدكتور فإننا سنعجز عن الوصول به إلى صلاح الدنيا وصالح الآخرة، لعدم أخذ الدكتور في الاعتبار بما وصلت إليه علوم السياسة وهي تخصُّصه الدقيق، وفق عمليات وآليات للتفكير والتعليم. ولأن صلاح الدنيا شأنٌ مدني محض خالص لا دخل للدين فيه، وحتى إعمار المسجد الحرام والمسجد النبوي لم يقُم على تدبير وتفكير عميق، بل قام على علوم الهندسة الحديثة وفنون قام بها متخصصون. ولو كان التدبير هو منشئ الصلاح في الدنيا، لكان مسجد النبي هو أفخمَ بناء أُنشئ على الأرض لأن مدبِّره نبيٌّ وصحابه، بينما كان في واقعه بناءً شديدَ التواضع إذا قِيس ببيت ريفي في كفر من كفورنا. فالتفكير المؤدي للصلاح لا علاقة له بالدين أو بالإسلام أو بمصطلحاتهم السلفية؛ فالمصطلحات ليست أدوات سحرية تُفعل بمجرد النطق بها. أما التفكير العلمي فقام خارج النبع الإسلامي، وقام بجهود أبناء الحضارات السابقة على الإسلام، فتنوعت هندساتُها بتنوع أصولها الحضارية؛ فالمساجد في مصر غير المساجد في الشام غيرها في إسبانيا غيرها في جزيرة العرب، فشأن تدبير الدنيا شأنٌ إنساني أرضي بحت. أما شأن الآخرة فهو ما ليس بيدنا إنما هو بيد رب الدين؛ لأن الآخرة ترتبط بالدين والعبادات وأصول التوحيد … إلخ، ولا دخل بتدبيرنا فيها، فلا نحن نستطيع زيادة ركعات العشاء ولا الصيام في يناير ولا الحج في أمشير. هذه شئون الآخرة، وهكذا لا تجد بين يديك لا صالح الدنيا ولا صالح الآخرة.
ويدهشك ما يرطنون به هذه الأيام حول أخذهم بالحداثة وإيمانهم بالديمقراطية كسبيل للتداول السلمي للسلطة، واكتشافهم أسلوبًا جديدًا يتناول المستحدثات بحسبانها كانت موجودة في صلب الإسلام، فأصبحوا يفعلون في علوم السياسة ما يفعله مصطفى محمود وزغلول النجار في العلوم الفيزيائية.
ورغم كل هذه المشقة التي يبذلونها، تبدر منهم فلتات لسانية تشير إلى المرجع والمصدر الأصيل الذي لا يحيدون عنه، أنظره يدعم ما يقول عن صنع قرار سياسي بلغة تبدو حداثية، بقول الإمام الشافعي: «إن التصرف على الرعية منوط بالمصلحة.»
القوم ما زالوا يعيشون زمنَ كان هناك من يتصرف على الرعية، وأن عليه عندما يتصرف أن يرعى مصالح رعيته. وبدون وعيٍ يُلقي الرجل بشهادة يراها لصالح حداثته، فإذ به ينتكس انتكاسة عنيفة إلى زمنه الذهبي السالف، زمن كان الخليفة هو المتصرف على الرعية. ولا تعلم هل فيما درس من علوم سياسية أن التصرف على الرعية هو شأن من شئون الرعية، وأنها هي التي ترعى شئون نفسها، وأنها ليست قاصرة، وليست مستعبدة لسيد فاتح كما كان زمن الخلافة، حتى نقيمَ لها سادة أوصياء مرة أخرى تكون مهمتهم تدبير شئون مصلحتها.
إن عبارة التصرف على الرعية تعني أن الرعية ليس لها حقُّ التصرف، هي الصورة التي تقبع في خلفيتها صورة الزمن الغابر عندما كنا عبيدًا وعلوجًا وأنباطًا وأهل ذمة وأقنانًا وجواري وإماء وغوغاء وعوام، لا يرون الدنيا حولهم وقد أصبح رجال الدين والعبيد والجواري والعوام كلهم سواء لأنهم كلهم شركاء في وطن واحد، ومن أجله يصنعون قرارًا يعود على المجتمع بالمصلحة، أصبح الموالي وأهل الذمة يشاركون بالتفكير العميق لصنع القرار السياسي رغم أنف الإمام جلال الدين السيوطي.
المدهش في أمر سدنة الفكر الإسلامي اليوم في قولهم بالحداثة، هو تبنِّيهم لمبادئها من عدالة وحقوق إنسان ومساواة وديمقراطية … إلخ، وتبنِّيهم في الوقت ذاته لمتصرف على الرعية منوط تصرفه بالمصلحة، وهو أمر يجد حل دهشته في ثقتهم أنهم قد تمكنوا من التحول بالمجتمع كله بعد تهيئته عبر وسائل الإعلام والتعليم والمساجد لقبول نظام المتصرفين على الرعية.
أما ما يدهش المتخصص في الدراسات الإسلامية، فهو من أين جاء الشافعي نفسه بهذه القاعدة الشرعية ومن أي حدث زمن الدعوة، أو من أي آية أو حديث خرج بها وجعلها أصلًا إسلاميًّا للسياسة الشرعية عند الدكتور فوزي؟
إن إناطة مصلحة المجتمع بالتصرف على الرعية لم يكن واضحًا عند المسلمين الأوائل، بل كان هو الغائبَ الأمثل بلا نظير، وكانت مصلحة المجموع هي آخر ما يعني المتصرف على الرعية، وإذا كان المفروض أن تكون المصالح واحدة غير متغيرة، فإن تاريخنا يقول إن كل خليفة من الخلفاء الراشدين قد تصرف على الرعية بطريقة غير التي تصرف بها الثلاثة الآخرون.
وإذا كانت مصلحة الناس هي المنوط بقرارات المتصرف عليهم حقًّا، فهل كان من المصلحة تغيير لغة مصر إلى العربية، فكان أن فقد المصريون والعالم كله وعاء حضاراتهم القديمة وهي خسارة حضارية فادحة ليس لمصر فقط ولكن للعالم والإنسانية أجمع، حتى تحولت آثارُ تلك الحضارة في نظر المصري المسلم اليوم إلى مجرد مساخيط. ولمصلحة من كان قرار إلغاء المصرية القديمة؟ مصلحة الحاكمين أم مصلحة المحكومين؟
لا يبقى من مفهوم المصلحة فيما تم طرحه حتى الآن، سوى عملية إشراك وهمي للناس لم تتحقق حتى في أفضل قرون التاريخ الإسلامي، هي ذريعة لإشراك الناس في استصدار تشريعات تجور على الناس، حتى إن تذمر الناس قالوا له بمنطق الدنيا إنها المصلحة العامة، وبمنطق الدين إنها إرادة الشريعة.
وإذا كان صنع القرار السياسي في عصر الخلافة الراشدة كان يتم وفق هذه الصياغات الكبيرة المحدثة التي يقدمها لنا الإسلاميون المحدثون أمثال الدكتور فوزي، فهلا عرفنا حضراتهم كيف كان تدبير السيدة عائشة زوجة النبي ﷺ العميق لاتخاذ القرار بشن الحرب على ابن عم النبي وخليفته علي بن أبي طالب، وشقت على الإمام عصا الطاعة؟ كيف صنعت السيدة عائشة قرارها السياسي؟ وهل كان قرارها منوطًا بمصالح المسلمين؟ وكيف رفض معاوية إعطاءَ البيعة للخليفة الشرعي علي بن أبي طالب؟ وكيف صدر قرارُ إبادة آل بيت النبوة إبادة شاملة في مجزرة هي الخزي ذاته في تاريخنا العتيد؟ وكيف تم اتخاذ القرار السياسي منوطًا بالمصلحة لضرب الكعبة بالمنجنيق وتدميرها وحرقها على المستغيثين بها؟ هل كان هذا المجتمع مسلمًا أم غير مسلم؟ لقد كان هذا هو مجتمع الصحابة الذي يدعوننا إليه الدكتور فوزي وجماعته.
لا يشك أحد في سلامة إيمان الصحابة، لكن الواقع أن الإسلام لم يقصد إلى إقامة دولة يُتخذ فيها القرار السياسي من الشريعة، فلم تكن الدولة ضمن أهدافه بالمرة؛ لأنها لو كانت هدفه، فلا شك أن دولة الصحابة كانت هي الهدفَ النموذجي للدولة الإسلامية محققًا على الأرض، ولكن ما كان محققًا على الأرض هو مما لا يليق أن ننسبه إلى الإسلام ولا إلى رب الإسلام؛ فالرب لو أراد دولة لهيَّأ لها ما يجعلها أعظم الدول عبر كل التاريخ؛ لذلك لا يمكن أن نصف دولة كلها دم وقتل وفتن بأنها هي دولة الإسلام التي يريدون عودتنا لها كي ننجوَ مما نحن فيه اليوم فنستجير من الرمضاء بالنار، الأكرم للإسلام ألا تنسبه إلى الصحابة مهما علا قدرهم لأنهم في النهاية بشر بضعف ومطامع البشر، والأكرم للإسلام ألا ننسبه إلى تلك الدولة الراشدة أو غيرها؛ لأنها لم تكن دولة الإسلام بل دولة العرب ودينها الإسلام. كانت إمبراطورية العرب، وما جرى فيها من ظلم وسحق وحرق يعود إلى مطامع تخص البشر العرب الحاكمين ولا علاقة للإسلام كدين بهكذا دولة.
الدين الإسلامي طلب منا الإسلام، ولم يطلب منا الدولة، طلب منا أن نعبد الله ونطيعه أملًا في رحمته وكريم غوثه، ولم يطلب منا الانضمام إلى حزب الله أو حزب البعث، ولم يطلب منا الإسلام أن نستدعيَه اليوم لنستمع إلى رأيه الشرعي في عملية صناعة القرار السياسي، بينما لم تكن السياسة ولا الدولة ضمن شواغله أو اهتماماته أصلًا.
ويبقى أن نصف ما قال الدكتور بأنه عبارة نابية، فقولتُه «التصرف على الرعية»، عبارةٌ تُهين العقل وتشين المواطنين وتفرض عليهم الوصاية والهيمنة. أما كلامه عن التدبير والتفكير العميق فهي أدوات السحر والشعوذة، هي حركات بهلوانية كاذبة تعمد إلى إعطاء الإيحاء أنه يعمل بالعقل، بينما هو لم يعمل فيما قال حتى الآن سوى بالنقل.
الملاحظ أنهم الفريق الوحيد الذي ليس لديه أيُّ حل مبرمج لمشاكل الوطن، فهم يضعون شرطًا مسبقًا هو تمكينهم أولًا من الحكم حتى يأتونا بعد ذلك بالحل، فإذا كان هناك حلٌّ فهل حرام إعلانه على الناس؟ أم أن الحل جاهز وموجود هو ونموذج الدولة الإسلامية الراشدة كما يعلنون في حالات أخرى؟
ولهذا السبب تحديدًا فإن المجتمع لا يبدو مقتنعًا بصدق ما تطرحه عليه فِرق الإسلام السياسي؛ لأنه لو اقتنع حقًّا وصدقًا لصار منهم، ولشاهدنا في مصر سبعين مليون لحية غير مشذبة وسبعين مليون لباس باكستاني. شعبنا خجول وحساس تجاه الدين فيقدم ما يثبت هذا الحياء فيقبل الحجاب ويطبق الشروط الدالة على الإسلام على الطرف الأضعف، لكنه لا يطلق لحيته ولا يربط رأسه برباط أبي الحكم أو أبي لهب. لو كان الناس مقتنعين حقًّا لشاركوا في تغطية الإخوان المسلمين في الانتخابات بالحضور بنسبة ١٠٠٪ وليس ١٥٪. الناس منسحبون من مباراتكم يا دكتور فوزي؛ لأنهم يعلمون أنه صراع على الحكم وأنه ليس لهم ولا لدينهم مصلحة فيما يحدث.
نتابع معًا استكشاف مجاهل الخطاب الإسلامي السياسي للعثور على ما يمكن التعامل معه، رغم خداع هذا الخطاب ومخاتلته وعدم شفافيته ولا وضوحه ولا تدقيق ما يقول من ألفاظ أو عبارات. نتابع أستاذ علوم سياسية يضع لسياستنا في الدولة الإسلامية المقبلة طريقة صنعها للقرار السياسي بالاستناد إلى الشريعة، حتى يتحقق الوئام ونكون قد أصلحنا بما في أنفسنا فينصرنا الله على القوم الكافرين.
يقول الدكتور فوزي خليل في: «إن لدينا قواعد صارمة وضعها علماء الشريعة يجب توافرها في القائمين على إعداد القرارات ذاتها، ومرجعية هذه القرارات.»
انظر هنا إلى اللغة والتعبير، علماء الشريعة وضعوا لنا قواعد صارمة، ولا تفهم لماذا علماء الشريعة دون غيرهم هم من يضع لنا القواعد طوال الوقت، وهي القواعد التي يصفها بأنها «صارمة». ولا تفهم كيف تلتقي الصرامة في التشريع مع ما يغنيه علينا بطول موضوعه، هو وغيره من فريقه، عن ديمقراطية التشريع الإسلامي.
إن الصرامة هي الجمود، وعكس الصرامة هو السلاسة والليونة والمرونة؛ أما الصرامة والحدود القواطع والأمور المنتهية غير القابلة للنقاش، فكلُّها مما لا يتفق لا مع الديمقراطية ولا مع الكرامة ولا مع الحرية. إنه يضع لنا هنا صنفين من البشر، صنف يسوس بشريعة الله ويضع القواعد الصوارم والحدود والقواطع، وصنف مسوس هو الرعية، عليه الطاعة بدون نقاش. هكذا سيحكموننا يا مسلمين … هكذا!
إن الصرامة هي إحدى وسائل التعامل مع العبيد، ولا تصدر إلا عن قلوب صارمة حجرية تتفنن في صرامتها، وتغالي في احتداد هذه الصرامة يومًا بعد يوم. التشريعات الصارمة لا تعرف التسامح ولا الرأي الآخر ولا المحبة ولا الإخاء ولا الليونة ولا التيسير على الناس ولا الرفق بالإنسان ولا بالحيوان. إن الصرامة مكانها الوحيد هو عندما نكون في حالة عداء وحرب مع دولة أخرى، الصرامة لا تكون بين أعضاء المجتمع الواحد؛ لأنهم إخوة لا أعداء؛ إخوة وأهل وأصدقاء على قدم وساق ليس بينهم سيد يفرض صرامته، ومسود يطيع وهو مصروم.
إن الصرامة التي يُعجَب بها المتأسلمون بشدة كما نرى، مأخوذة من تاريخ مضى وانقبر، كانت تُناسب زمنها وتتفق مع وقائع قديمها، حيث الحكم بالسيف والعقاب بالسوط وأيضًا بالسيف وبالرجم، الحاكم أو حد مطلق النفوذ في التصرف على رعيته. إن أدبيات الصرامة هي ما تغص به أرفف مكتبتنا التراثية، تُسبب لمن يقرأها اليوم الألمَ والوجع لما كان يلحق بالعباد في دولة الصرامة من ظلم وطغيان يفطر الأكباد، وتشرح حال الرعية في عصور الظلام حيث في كل اتجاه قواعده صارمة لا تعرف الرحمة، كما أنها لا تعرف أيضًا تيسير الإسلام كما كان في بكارته الأولى، قبل أن يصيبوه بالجهامة والغلظة بما أضافوه له عبر العصور، فأينما مددتَ يدك في تراثنا وجدتَ كنوزًا من قصص الآلام والجبروت، أسوق لكم نموذجًا لطيفًا منه نقرأه معًا من صبح الأعشى للشيخ أبي العباس القلقشندي؛ إذ كتب يقول: «وهذه نسخة مرسوم كتب به عن نائب المملكة الطربلسية إلى نائب حصن الأكراد، بإبطال ما حدث بالحصن من الخمارة والفواحش، وإلزام أهل الذمة بما أجرى عليهم أحكامه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، في أواخر جمادى الأولى سنة خمس وستين وسبعمائة وقد جاء فيه: وأما أهل الذمة ممن رُفع عنهم السيف إلا بإعطاء الجزية والتزام الأحكام، وأخذ عهود أكيدة عليهم من أهل النقض والإبرام، فليتقدم الجناب الكريم بإلزامهم بما ألزمهم به الفاروق رضوان الله عليه، وليلجئهم في كل أحوالهم إلى ما ألجأهم إليه، من إظهار الذلة والصغار، وتغيير النعل، وشد الزنار، وتعريف المرأة بصبغ الإزار، وليمنعوا من إظهار المنكر والخمر والناقوس، وليجعل الخاتم أو الحديد في رقابهم عند التجرد في الحمام، ويلزموا بغير ذلك من الأحكام التي ورد بها المرسوم الشريف من عدة أيام. ومن لم يلتزم منهم بذلك وأعلن بكفره وأعلى حكمه، فما له إلا السيف وغنم أمواله وسبي ذراريه وما في ذلك على مثله حيف. فهاتان مفسدتان أمرنا بإلزامهما فرارًا من سخط الله تعالى وحذرًا منه، إحداهما إبطال الحانة، والثانية إخفاء كلمة اليهود والنصارى، فليقدم الجناب المشار إليه باستمرار ما رسمنا به، ونرجو من كرم الله تعالى استمرار هذه الحسنة مدى الزمان، وليقمع أهل الشرك والضلال بما يلزم من الصغار عليهم والإذلال.»
هذه هي دولة الشريعة التي كانت تطبق الشريعة بدقة وهي الدولة التي يريد أن يستعيدها لنا الدكتور فوزي خليل وإخوانه. ويفلسف لها ويؤسس بلغة معاصرة تناسب زماننا فيقول: «يغدو الاجتهاد في مفهومه الأصولي هو الأساس الذي يقوم عليه الاجتهاد في العملية السياسية، الهادفة إلى الوصول إلى القرارات، التي تستهدف حفظ مقومات المصلحة العامة.»
إذن هو يقول إن الاجتهاد في العملية السياسية يسير عبر هدفين؛ الأول هو الوصول إلى القرارات، والثاني هو هدف هذه القرارات وهو أن تكون مهمتها حفظ مقومات المصلحة العامة، وتكون المصلحة العامة هي المحور الذي تدور حوله عملية الاجتهاد، وهو كلام جميل لا بد أن نتساءل قبله: ما هي المصلحة العامة وكيف نعرفها؟ ربما يكون طرح الأسئلة سبيلًا للوصول إلى تعريف المصلحة العامة، فهل السعي لإقامة دولة دينية تمهيدًا لإقامة خلافة إسلامية إمبراطورية من المصلحة العامة؟ لأنه سيترتب على ذلك حتمًا المصادمة مع دول العالم والمجتمع الدولي، وإعلان تمرد على الشريعة الدولية المتمثلة في مجلس الأمن والأمم المتحدة والقانون الدولي ومعاهدات جنيف.
سؤال آخر: هل من صالحنا العام أن نظل محكومين بإفتاءات تنهال علينا من كل فجٍّ عميق في كل طريق وفي كل مكان؟ إن المصلحة العامة شأنٌ شعبي يخص الجميع، وليس مصلحة لجماعة محظورة أو لفريق من الشعب دون فريق آخر.
إننا كي نتعرف على صالح مجتمعنا العام، نحن في حاجة أولًا إلى رأي عام رشيد يحدد لنا المصلحة العامة ويعرِّفها ليأخذ بها المشرع، وقبل هذا وذاك نحن بحاجة لفكِّ أسْر الرأي العام وإطلاقه حرًّا، بأن توضع أمامه خيارات وبدائل أخرى يمكنه المقارنة بينها والمفاضلة قبل الاختيار. وقبل كل ما سلف وكي نوجد حرية تصنع رأيًا عامًّا رشيدًا، علينا تحطيم الأنصاب والأوثان التي صنعها لنا رجالٌ يشتغلون بالدين وليسوا هم الدين، إنما هم من يلعبون بالدين وبنا ويتحصنون بالدين ضد كل المجتمع. لن توجد حرية ولا رأي عام رشيد يمكنه تحديد صالحه العام طالما كانت قلعة رجال الدين زاخرة بالرماة المتمترسين بمقدساتنا، الذين لا يجدون غضاضة أبدًا في خلع المواطن من الملة بشديد البساطة، ويقتلون مفكرًا مثل فرج فوده بعد صدور فتوى بتكفيره من الأزهر، وينفون نصر أبو زيد من الأرض المسلمة لتأويه بلادُ الكفرة وتحميه من عذاب رجال دين الإسلام وغضب سماحتهم وقاتم لطفهم وعسر تيسيرهم؛ لأن الرأي العام للمسلمين قد تم استئناسه واستعباده بمخترعات الإعلام الحديثة. أليس من قتْل الرأي الحر مصادرة الكتب والروايات ومحاكمة الكتَّاب والمفكرين بتهمة التفكير؟
إن أحداث ميدان الأزهر ودهب وشرم الشيخ والعريش واغتيال الزعيم المصري الوحيد المعاصر الذي آزره رب العزة ونصره وأيَّده، يوم عيد نصره ونصر مصر كلها. اغتالوه رغم الماثل أمامهم من تأييد رباني، ثم حاولوا اغتيال سلفه في أديس أبابا، وقتلوا فرج فودة وطعنوا رجل نوبل العبقري رحمه الله، وطلقوا نصر من ابتهال وكفروا سيد القمني وحاكموه مرتين لولا لطف من الله وتأييده فحاز البراءة، فإن كان الحديث يقول: من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، فهو ما يعني أن الأزهر الذي طالب محاكمة سيد القمني، هو من باء بها، أليس كل هذا الذي يحدث اعتداء صارخ على حرية الفكر؟ أليس الادعاء بأن الإسلام دين ودولة هو دعوة لعودة الاستبداد الخليفي والإرهاب الفكري، لسلب الناس حرياتهم باسم مطالبة رب العزة لنا أن نقيم له دولة في بلادنا، يرأسها نوابه من الإخوان المسلمين؟
من صالحنا العام أن نعيش كبقية البشر في الدنيا أحرارًا، لنا الحق في التفكير والإعلان عن نتائج هذا التفكير للناس، من صالحنا أن يكون لنا حقوق إنسان كاملة غير منقوصة، من صالحنا العام أن نرفض عودة العمل بنصوص الدين في دولة دين تنص على العبودية والجزية وجناح حريم. لقد نسخت القوانين العالمية والرأي العام الدولي العملَ بآيات العبودية والجزية، وهي حتى الآن في فقهنا من نوع الناسخ من الآيات وليست من نوع المنسوخ، الاتفاقات الدولية نسخت الرق من الدنيا رغم أنه غير منسوخ في القرآن، ووافق المسلمون غير راضيين بل وبعد مقاومة، وتم نسْخ الرق من حياة المسلمين بعد أن قالوا للأمر الدولي بهذا النسخ: سمعنا وأطعنا.
قرارات الأمم المتحدة نسخت فقهًا كاملًا بما يرتبط به من حديث وقرآن هو فقه الجهاد والسبي وتغيير أديان الناس بالسيف، اليوم لم يعد هناك خُمس ولا فيء ولا من قتل قتيلًا فله سلبُه، حركة التاريخ نسخت أحكام الرجم والجلد والقطع والجزية.
ورغم درس السماء في التغيير والتبديل والنسخ والرفع والإنساء لآياتها بما يجاري حركة الواقع المتغير المتطور، ورغم اتفاق العالم على إلغاء الرق والجزية فتوقفت الآيات عن العمل، فإن فقهاءنا يرفضون إعلان هذا الإلغاء بما هو في المصلحة العامة للبلاد والعباد؛ لأنهم لم يجرؤا كما جرؤ سلفُهم الصالح على إلغاء تفعيل أحكام لتجاوز الزمن لها، مثل إلغاء عمر لمتعة الحج ومتعة النساء والفرض المعروف بسهم المؤلفة قلوبهم، وأن الرب عندما نسخ آيات، وأن الخليفة عمر عندما نسخ العمل بأحكام آيات ظلت منسوخة بأمره إلى اليوم كإلغائه سهم المؤلفة قلوبهم، ودون تدخل جبريل أو السماء، كان الهدف من النسخ في الحالتين هو مواءمة متغيرات الواقع الأرضي وتطورها من أجل الصالح العام، وتُعَد ظاهرة النسخ في القرآن من أبرز ظواهر مواءمة المقدس الإسلامي للمتغيرات، بحيث كان يُجري تعديلاتٍ على ذاته توافقًا مع هذا المتغير واعترافًا به، من أجل مصالح المجتمع العامة التي لا بد أن تُساير التطور.
تتوافق أيضًا ظاهرةُ النسخ في الوحي مع قانون الكون كلِّه وهو التغير والتطور، وضرب لنا منها القرآن الأمثال لنفهم ونتغير عندما يكون التغير مطلوبًا، وحدثنا عن قوانين سقطت بحكم حركة التاريخ كما في نسخ الأحكام للأحكام؛ لأن التاريخ لو تجمد لما هاجر النبي ﷺ، ولما انتصر في بدر، ولظلت الآيات المكية فاعلة، ولكان القرآن كله مكيًّا داعيًا للمسالمة والمعاملة بالحسنى والصبر الجميل، لكن التاريخ تحرك فظهر الطارئ الجديد، حتى جاءت آية السيف لتنسخ آيات حرية الاعتقاد وأي تفكير خارج المقدس الإسلامي تحديدًا. والتاريخ ما زال يتحرك والدول من يومها تقوم وتسقط لتنتهي ويقوم غيرُها أحدث منها وأقوى، وأكثر نظامًا وانضباطًا لما حصلته من خبرة سابقة تؤدي إلى تحسُّن نوعي مع تراكمها، فتتحقق العدالة اليوم بأفضل مئات المرات مما كانت بالأمس، حتى لو كانت محكومة بقوانين مقدسة، فلم يعُد لدينا عبيد ولا سبي ولا نكاح الإماء، وأمكن محاكمة الطاغية وشنقه علنًا، وما زالت حركة التاريخ تستهلك قوانينا وتخلق الأكثر منها إنسانية. لقد ذهبت حركة التاريخ بقوانين حمورابي وبالحركة النازية والشيوعية، وكذلك نسخت الآيات المدنية آياتٍ مكية، وكذلك فعل التاريخ عندما نسخت قوانين اليوم الحقوقية نظام الجزية والعبودية والجلد والرجم والقطع والمنجنيق والسيف والرمح.
ومن ثَم لا يبقى مع موقف مشايخنا سوى أن يصمتوا أو أن يجترئوا جرأة عمر؛ لأننا نحن أصحاب الصالح العام، ونفهم من ديننا أن الله بمنهج القرآن الخاص جدًّا دون كل الكتب السماوية أن النسخ مطلب دوري كلما طرأ طارئ، وأن عمر عندما نسخ أحكام آيات وأوقف العمل بها نهائيًّا رغم أنها كانت فروضًا بالمعنى الدقيق للكلمة كان يُطبق تلك القاعدة الإسلامية الذبية النادرة بين كل الأديان، كان النسخ في القرآن وعند عمر يهدف إلى الصالح العام للناس بما فعلا، فعل الله أولًا، وفعل الرسول مع أحاديثه نفس الفعل، وفعل عمر بفروض الله نفس الفعل، وأننا عندما نعلن أنه لم يعُد في صالحنا العام أن نتحدث عن جهاد أو هتك أعراض المهزوم أو سبي الأطفال والنساء، رغم وجود آيات بذلك، فهو ما لا يعني أننا قد كفرنا بالله؛ لأن الكافر بالله هو من ينكر وجوده وينكر قدرته الكلية، وهو ما لا ينكره أحد؛ لأننا نعرف الله ونعرف مقدساته ونؤدي له فروضه، كما نعرف أيضًا أنه ترك لنا مساحات حرة واسعة لم ترد في النصوص، وأننا أحرار في اتخاذ القرار فيها بأنفسنا، وأن تلك المساحات اتسعت كثيرًا عن زمن النبوة لظهور متغيرات هائلة لم تكن موجودة زمن النبوة ولم تصدر بشأنها أيُّ أحكام، كما نعرف أنه ضرب لنا المثال بالنسخ عنوانًا لمبدأ إسلامي في التغير، وأكَّده عمر وزاد عليه أنه بإمكان المسلمين أن يفعلوا ذات الفعل في الواقع بدون وحي، فكفانا المثال لنتخذ ما يناسب الصالح العام لزمننا بعد مضي أربعة عشر قرنًا عن عمر الذي غيَّر بعد عشر سنوات واضطرته حركةُ الواقع إلى إلغاء العمل بنصوص قرآنية بل وبفروض.
كل هذا في جانب، ومفلسفو الدولة الإسلامية الآتية في جانب آخر، لا زالوا يتحدثون عن الوصول إلى الصالح العام عبر عملية الاجتهاد الإسلامي، أو كما قال الدكتور فوزي خليل: «يغدو الاجتهاد في مفهومه الأصولي هو الأساس الذي يقوم عليه الاجتهاد في العملية السياسية الهادفة إلى الوصول إلى القرارات التي تستهدف حفظ مقومات المصلحة العامة.»
المصلحة عامة، ويعلم الدكتور فوزي وبطانته ذلك ويفهمه، لكنه لا يرى الناس قادرةً على فهم مصالحها، يرون المسلمين دون العالمين أشدَّ الناس تخلُّفًا وعتهًا وكساحًا حتى إنهم لا يستطيعون معرفة صالحهم العام، فهناك من يعرف لهم هذا الصالح وليس مطلوبًا منهم أيُّ بذل جهد بهذا الخصوص، فسيقوم الشيخ عاكف أو الشيخ قرضاوي بالاجتهاد نيابةً عنَّا؛ لأن الاجتهاد ليس عبثًا مشاعًا بين الجميع؛ لأن المجتهد يجب أن تتوفر فيه شروطٌ صوارم، وعندما تطالع هذه الشروط ستجد أنها لا تتوفر إلا في المشتغلين بالدين على المسلمين، من الأزاهرة، ومن الإخوان المسلمين، ومن مشايخ التلفزة والفضائيات. ومع هذه الشروط يتم استبعادُ جميع المسلمين من الإعلان عن مصلحتهم العامة حتى لو عرفوها، لأنها إن صادمت رأيَ الشرع أو تصادمت مع مصالح راعي الشرع على الأرض من مشايخ، فإنها ستكون كفرًا وعصيانًا لله، ومن ثَم لا يبقى سوى اجتهاد الفقيه ورأْي الفقيه ومصلحة الفقيه إضافة بالطبع إلى جماعات المنتفعين والتنفيذيين في أجهزة الدولة، إن نظرية الاجتهاد تضيف إلى هؤلاء أيضًا الشيوخ المسلحين، الذين أمكنهم في ظرف تاريخي لن يتكرر أن يوقفوا حركة العراق نحو النور، بل وإعادته إلى زمن الحروب الجهادية، ويريدون أن يعيدوا مصر إلى دولة الخلافة بعد أن كانت أولَ دولة تتحرر من الخلافة على يد محمد علي عام ١٨٠٥م.