المشروع السياسي لمحمد علي باشا١

لعل محمد علي باشا كان أكثر من عاصروا تجربة العدوان الغربي (كما مثَّلته الحملة الفرنسية) فهمًا لدلالة ذلك الحدث التاريخي الخطير بالنسبة للدولة العثمانية، فأدرك أن ضعف هذه الدولة الإسلامية مردُّه إلى تخلُّفها وعجزها العسكري، وأن ما حدث في مصر لا بد أن يتكرر فيها، أو في غيرها من بلاد الدولة العثمانية، وأنه لا مَنجاة للدولة من المصير الذي يتهددها إلا إذا تزوَّدت بأسباب القوة والمَنعة التي تجعلها قادرة على الصمود في وجه التحدي الغربي، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا بإصلاح الأداة العسكرية للدولة، بما يتطلَّبه ذلك من العمل على سد فجوة التخلُّف الحضاري الذي تعاني منه بلاد الدولة.

غير أن محمد علي باشا كان جنديًّا ألبانيًّا متواضعًا، ساعدته ظروف مصر على أن يلي أمرها، ولا يتيح له مركزه المتواضع كوالٍ لمصر أن يُصلِح من شأن الدولة العثمانية كلها إلا إذا فوَّضه السلطان في ذلك، وهو أمر بعيد المَنال بالنسبة لمثله. فلماذا لا يحاول أن يحقق ما يصبو إليه في البلاد التي يتولى حكمها؟ ولماذا لا يستغل ضعف الدولة وعجزها ليوسِّع من رقعة نفوذه حتى تحين الفرصة التي تمكِّنه من تحقيق أمله؟ ولماذا يتقاعس عن تحقيق حلمه، وقد أثبتت الأيام غياب المستحيل من حياته؟ ألم يستطع أن يغيِّر مسار حياته من ضابط غير نظامي مغمور إلى أن أصبح باشا يحكم ولاية من أهم ولايات الدولة؟

وهكذا سعى محمد علي إلى أن يقيم في مصر «دولة نموذجية» حديثة توفِّر له فرصة إقامة دولة إسلامية قوية من خلال تطبيق نموذج مصر على الدولة العثمانية ذاتها. وكان اختيار محمد علي لمصر كقاعدة لمشروعه السياسي ينم عن بُعد نظر ذلك الرجل، الذي كان عطلًا من الثقافة، ولكنه كان يمتلك موهبة رجل الدولة الذي يُدرك أبعاد الظرف التاريخي، ويُحسِن توظيفه.

مشروع سياسي نهضوي

كان محمد علي باشا — إذن — صاحب مشروع سياسي نهضوي، يهدف، في المقام الأول، إلى بناء قاعدة عسكرية وسياسية حديثة ذات شأنٍ، تقي المشرق العربي عدوان الغرب، لا عن طريق المواجهة، وإنما عن طريق التزوُّد بأسباب المَنعة والقوة التي تحقِّق نوعًا من توازن القُوى مع الغرب، وتجعل الأخير يتعامل مع الدولة العثمانية معاملة الند للند. ومن ثَم كانت حروب محمد علي في الجزيرة العربية، وبلاد اليونان، تلبية لدعوة السلطان، تتسق مع تلك الرؤية الاستراتيجية، وحتى فتحه السودان، وحروبه ضد السلطان في الشام، تدور في هذا الإطار، إطار إحياء القوة العسكرية للدولة باعتبارها حجر الزاوية للإصلاح السياسي فيها، ولعل الفكرة التي دارت برأسه يومًا من الأيام تكشف مراميه البعيدة؛ فقد صرَّح يومًا لبعض خُلصائه برغبته في الوصول إلى الآستانة وخلع السلطان، وتولية ابنه الصبي، وتنصيب نفسه وصيًّا عليه لتُتاح له فرصة إصلاح الدولة كلها.

وهكذا كانت مصر — عند محمد علي — قاعدة انطلاق لمشروعٍ سياسي إقليمي، يعتمد على بناء قوة عسكرية كبيرة حديثة، وبناء مثل هذه القوة يحتاج إلى موارد مالية ضخمة تقصُر دونها خزانة والي مصر التي كانت تعتمد على الخَراج والمكوس. ولا يستطيع محمد علي أن ينشد تلك الموارد من مصادر خارجية كالاستدانة مثلًا؛ فقد جعله الحرص على استقلال قراره السياسي ينفر من فكرة الاستدانة ويرفضها، عندما عُرضَت عليه في العَقد الأخير من حكمه.

فلا مفر أمامه من أن يدبِّر الموارد اللازمة لمشروعه السياسي في مصر ذاتها؛ وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا إذا استطاعت «الدولة» أن تضع يدها على موارد البلاد كلها، تديرها وتنمِّيها بالقدر الذي يوفِّر الأموال اللازمة لبناء القوة العسكرية الحديثة، بما تتطلَّبه تلك القوة من مؤسسات إنتاجية وخدمية. ومن ثَم كانت السياسات الاقتصادية التي نفَّذها محمد علي — تدريجيًّا — وانتهت بوضع الاقتصاد تحت إدارة السلطة المركزية، وتعبئة الموارد لخدمة المشروع السياسي الإقليمي، وإدخال تغييرات هيكلية على النظام الإداري، وما ارتبط بذلك من تطور في نظام التعليم، وما نتج عنه من صحوة ثقافية.

سياسة خارجية خاصة

واستطاع محمد علي باشا أن يرسم لنفسه سياسة خارجية خاصة لتحقيق مشروعه السياسي الإقليمي، ودعاه إلى ذلك أنه كان واليًا على قطرٍ مهم في إمبراطورية ضعيفة متهالكة، عانت من ضغوط الدولة الأوروبية في القرن الثامن عشر، ووضعت عشرات المشروعات لاقتسام أملاكها. وأدرك محمد علي أن انهيار الدولة العثمانية سيجرف مصر معه، ولذلك سعى — بسياسته الخارجية — أن يجمع لنفسه من حطام الدولة كيانًا يتولى حكمه وأسرته من بعده، مع بذل الهِمة لتوسيع رقعة ذلك الكيان بقدر الإمكان.

لذلك بذل محمد علي باشا أقصى الجهد ليفيد من ضعف الدولة العثمانية وعجزها؛ فهذا الضعف يُتيح الفرصة ليقوِّي نفسه في إطار الإمبراطورية العثمانية، وبموافقة السلطان. فنجده يلبِّي أوامر السلطان لنجدته في الولايات التي اندلعت فيها الثورات ضد الحكم العثماني؛ فاستخدم الباشا الموارد المصرية لإنفاذ سيادة الباب العالي على بلاد العرب وكريت واليونان.

وأتاح له ذلك فرصة مدِّ نفوذه إلى تلك البلاد وراء قناع السيادة العثمانية، كما أتاح له فرصة بناء قواته العسكرية، فمكَّنته حروب بلاد العرب من بناء أول أسطول له في البحر الأحمر، وكانت حرب المورة أول الميادين التي نزل إليها جيشه الجديد، واشترك فيها أسطوله الذي بناه في دُور الصناعة الأوروبية وفي ترسانة الإسكندرية، فأتاحت له تلك الحروب التي خاضها باسم السلطان فرصة تجربة قواته العسكرية، وإكسابها المهارات القتالية، فضلًا عن الإعلان عن وجود تلك القوة لديه لمن يعنيهم أمر إقليم شرقي البحر المتوسط.

الأكثر من ذلك، فقد أغرى ضعف الدولة العثمانية محمد علي باشا بالتوسُّع خارج حدود ولاية مصر؛ فأصبح حاكمًا على أهم بلاد الدولة العثمانية الناطقة بالعربية. وأراد محمد علي بهذا الاتساع أن يبسط سلطانه على المنافذ المؤدية للطرق التجارية القديمة، وإلى أن يجعل من بلاد إمبراطوريته الصغيرة: مصر، والسودان، وبلاد العرب والشام، وحدةً اقتصادية متكاملة ومكتفية ذاتيًّا؛ فيعوض بذلك النقص في موارد مصر، ويخفِّف اعتماده عليها وحدها في المال والرجال.

كذلك فكَّر محمد علي — وقتًا ما — في أن يستغل ضعف الدولة العثمانية، فيعزل السلطان، ويولِّي مكانه ابنه الصبي، ويُقيم من نفسه وصيًّا عليه؛ وبذلك يحتفظ بالأسرة العثمانية الحاكمة، ويحافظ على وحدة الإمبراطورية، ولكنه — في الوقت نفسه — يسُوس أمورها ويوجِّه سياستها، فيصلح من شأنها ويجدِّد شبابها، ويحوِّلها إلى ندٍّ للقُوى الأوروبية الطامعة فيها.

جهود إصلاحية، وإنجازات مختلفة

ولكن محمد علي باشا كان يعلم أن جهوده الإصلاحية وإنجازاته المختلفة، وتلك الإمبراطورية التي كوَّنها، ومركزه الشخصي، ومصير أسرته من بعده، معلَّق على إرادة السلطان، ولا سبيلَ إلى ضمانه إلا بقبول الأخير منحَ مصر وضعًا خاصًّا داخل الدولة العثمانية، يتيح لمحمد علي قدرًا أكبر من الحركة على الصعيدَين الإقليمي والدولي.

وقد فكَّر محمد علي في أن يقيم هذا الكيان الخاص خارج إطار الدولة العثمانية؛ فيستقل عنها، ويخلِّص نفسه من القيود التي تربطه بها، وبذلك يسلَم بملكه من مصير هذه الدولة الضعيفة العاجزة أمام الضغط الأوروبي، ويستطيع أن يتابع في «دولته» إصلاحاته الاقتصادية والإدارية والعسكرية، دون أن تقيِّده بتبعية لسلطان، أو جزية يؤدِّيها لدولة تمارس حق السيادة على «أملاكه».

فإذا حالت الظروف الدولية دون تحقيق هذا الاستقلال، سعى الباشا إلى أن ينال هذا الكيان الخاص داخل الدولة، ويعني ذلك أن يظل مُعترِفًا بسيادة الدولة العثمانية الاسميَّة على البلاد المنضوية تحت لواء حكمه، على أن يكون الحكم في «دولته» وراثيًّا في أسرته، ويمنحه الباب العالي الضمانات الكافية لبقاء حُكم تلك البلاد في أسرته، واستقلاله بإدارتها. وكان محمد علي يُدرك أن بقاء مصر عضوًا في المجموعة التي تتألَّف منها الدولة العثمانية لا يخلو من مزايا، بل قد ترجُح هذه المزايا على ما عداها، لأن الدولة العثمانية لم تحتفظ بكيانها إلى ذلك الوقت إلا بفضل عدم اتفاق الدول الأوروبية جميعًا على اقتسامها، ونتج عن ذلك إقرار المبدأ الذي ظل من المبادئ الأساسية في سياسة دول غربي أوروبا، وهو ضمانة الدول لسلامة أملاك الدولة العثمانية ووحدتها؛ ومصر — باعتبارها ولاية عثمانية — تستطيع أن تستفيد من هذه الضمانة العامة.

أطماع أوروبا ضد الرجل المريض

ولكن محمد علي كان يدرك — في الوقت نفسه — أن هذه الضمانة وحدها لا تفيد إلا إذا دعمتها القوة العسكرية التي تشكِّل الدرع الواقي ضد الأطماع الخارجية؛ إذ كان محمد علي يعرف تمامًا خطورة العصر الذي يعيش فيه، فقد ظهرت أطماع الدول الأوروبية في بلاد الشرق القريب والبعيد. وقبل اعتلائه الحكم بقليل، تصارع على مصر الفرنسيون والإنجليز، وعجزت الدولة العثمانية صاحبة السيادة على مصر أن تُجلي الفرنسيين إلا بمساعدة عسكرية وسياسية من الإنجليز. وبعد بضع سنواتٍ عاد الإنجليز يطرقون أبواب مصر، ويحاولون احتلالها. أما في الشرق، فقد اشتد ضغط الرُّوس على البلاد الإسلامية الواقعة جنوبي بحر قزوين. وبدأت بقايا الحكم الإسلامي في الهند تنهار أمام تقدُّم الاستعمار البريطاني، بل استولى الفرنسيون على الجزائر التي كانت من ولايات الدولة العثمانية.

أما مصر، فقد وجهت الحملة الفرنسية أنظار السياسة الأوروبية نحوها، حقيقةً أن أوروبا لم تكن لها في مصر مصالح مباشرة اقتصادية أو ثقافية، غير أن الوجود الفرنسي القصير في مصر أبرز أهميَّتها الاستراتيجية على طريق المواصلات إلى الشرق؛ حيث اشتد المد الاستعماري. ولا عجب أن بدأت الأفكار الخاصة بربط أوروبا بالشرق بطرقٍ برية أو بحرية تمرُّ عبر مصر، تتبلور في العَقدَين الأخيرين من حكم محمد علي، ولعل قيامه بإحياء الطريق البري-النهري الذي ربط السويس بالإسكندرية عبر القاهرة، على نحو ما أشرنا، جاء محاولةً لاحتواء المخططات الأوروبية الرامية إلى مدِّ نفوذها السياسي إلى مصر بدعوى المصالح الاستراتيجية.

تحرُّر البلاد من القيود العثمانية

وحاول محمد علي أن يقنع الدول الأوروبية بتأييد سياسته؛ فهذه إصلاحاته وجهوده تنبِّئ بما يستطيع الحاكم أن يقوم به لإنهاض البلاد إذا أُطلقت يداه، وتحررت البلاد من قيود السيادة العثمانية؛ فقد أصاب الباشا من النجاح في مصر أكثر مما أصاب السلطان نفسه في الآستانة، ولا يرجع هذا النجاح إلى إرادة الحاكم وحدها، وإنما إلى قدرة البلاد على إنماء مواردها الكفيلة بأن تجعل منها «دولة» حديثة من الطراز الأول.

وقد بسط محمد علي الأمن في ربوع البلاد، وأنشأ المصانع، وأسَّس المدارس، واستعان بالأوروبيين في إدارته، وأحسن استقبال الأجانب، ومهَّد الطرق البرية للتجارة الأوروبية، وكوَّن من أهل البلاد قوةً حديثة لا ينبغي أن تخشى أوروبا خطرها على الدولة العثمانية؛ فإن في قوة محمد علي قوة السلطان، وما بلاؤه في خدمة السلطان في بلاد العرب والمورة إلا خير شاهد على ذلك. لقد قدَّم للسلطان كلَّ شيء؛ جيشه وماله، وخسر في سبيله أسطوله، دون أن ينال من السلطان شيئًا.

كان أمام السياسة الأوروبية — إذن — أن تختار أحدَ الأمرين: أن توافق على ما يطلبه محمد علي من الانفصال بمصر والبلاد التي تقع تحت حكمه عن الدولة العثمانية لتصبح دولةً مستقلة ذات سيادة، أو أن تبقى مصر في حظيرة الدولة العثمانية، وأن تمنح بعض الحقوق التي توسع نطاق الحركة أمام حاكمها، فتجعل منها وتوابعها كيانًا خاصًّا داخل مجموعة الولايات العثمانية.

والأمر الأول — أي الاستقلال التام — يقتضي أن تنبذ الدول الأوروبية سياستها التقليدية إزاء الدولة العثمانية، وتتخذ لها سياسةً جديدةً في ذلك الركن من الشرق الأدنى المتسلِّط على منافذ التجارة القديمة، وتتمتع بقوة عسكرية يُحسَب لها حساب، ويرأسها حاكِم قوي الأطماع، وهو ما لا يتفق مع مصالح الدول الأوروبية التي كانت تفضِّل بقاء المنطقة تحت الحكم العثماني الضعيف، الذي لا يمثِّل تهديدًا للمصالح الأوروبية. كما أن بريطانيا وفرنسا كانتا تخشيان أن يُغري تحدي محمد علي للسلطان روسيا بالانقضاض على الدولة العثمانية، وتوطيد أقدامها على البسفور، مما يؤدي إلى الإخلال بتوازن القُوى على الساحة الأوروبية والدولية.

ولم تقتنع أوروبا — وخاصة بريطانيا — بقيمة الإصلاحات التي يفخر محمد علي بإنجازها؛ فهي ترى أنه حرم الفلاح من ثمرة كدِّه، وساقه إلى السُّخرة والتجنيد، وأقرَّ الرق، واحتكر موارد البلاد، بل إن المعتدلين من الأوروبيين الذين قدَّروا محمد علي، واعترفوا بنجاحه في إنهاض البلاد، كانوا يرَون أن كل شيء في مصر يرتبط بشخصه، وأن تلك الإصلاحات قد تختفي بمجرد اختفائه من السلطة.

كما أن الدول الأوروبية لم ترَ في قيام محمد علي ضد السلطان «ثورةً قومية» تبغي التحرُّر من السيطرة الأجنبية، كما فعل اليونان، وكما ستفعل شعوب أخرى كثيرة في البلقان، وفي غيرها من بلاد أوروبا الخاضعة للدولة العثمانية، لأن محمد علي لم يكن مصريًّا، كما أن نظامه في مصر لم ينبع من إرادة شعبية، ولم يعكس تطلُّعًا «قوميًّا»، في وقت كان الشعور السائد بين الجماهير في الوطن العربي شعورًا إسلاميًّا محضًا.

الاصطدام بالسياسة الأوروبية

وقد ظل محمد علي حريصًا — طَوال حكمه — على عدم الاصطدام بالسياسة الأوروبية، أو بقوة حربية أوروبية؛ فهو لا يستطيع أن يُسقط من حسابه الدول الأوروبية وموقفها إزاء الدولة العثمانية والشرق الأدنى عامةً ومصر خاصةً، بل إنه كان يرحب بأن يتم إقرار العلاقات العثمانية المصرية برضًا من الدول الأوروبية صاحبة الشأن، ويسعى إلى أن ينال موافقةً على التسوية النهائية ليتخذ من هذه الموافقة ضمانةً لمصر إزاء المطامع الأوروبية من ناحية، والتدخُّل العثماني من ناحية أخرى.

وكان محمد علي يقدِّر قيمة الصداقة البريطانية وينشدها؛ فقوة بريطانيا تواجهه من أمام؛ حيث الوجود البريطاني في البحر المتوسط، ومن خلف حيث الاستعمار البريطاني في الهند، والنفوذ البريطاني في البحر الأحمر والخليج العربي. وقد نال الباشا تقدير الإنجليز — في أعقاب حملة فريزر عام ١٨٠٧م — حين ردَّ أسراهم، وتعهَّد مرضاهم، وبادر إلى الاتفاق معهم، وفي عام ١٨١٠م أبرم اتفاقًا مع شركة الهند الشرقية تعهَّد فيه بأن يحمي القوافل التي تجتاز مصر، وبألَّا يجبي رسومًا على المسافرين من الإنجليز الذين يمرُّون بمتاعهم الشخصي، وبأن يظل قائمًا على حماية الرعايا والممتلكات البريطانية إذا قامت الحرب بين بريطانيا والدولة العثمانية.

وفي أثناء حرب المورة أظهر محمد علي رغبته في أن ينال صداقة بريطانيا، فانسحب من المورة أملًا أن ينال بذلك تقديرها، فتُعينه على زيادة حجم أسطوله، ولا تعارض توسُّعه في بلاد العرب، وتوافق على استقلاله عن الدولة العثمانية.

ثم عاد محمد علي يلوِّح للإنجليز بمفاوضاته مع الفرنسيين حول عرضهم الخاص باشتراكه معهم في غزو الجزائر (عام ١٨٣٠م)، وفي خلال ذلك يُبدي الباشا للإنجليز استعداده للعمل معهم لوقف النفوذ الروسي في تركيا وفارس. ولكن الحكومة البريطانية لم تنسَ أن توسُّع محمد علي هو الذي أتى بالروس إلى الآستانة، وأخضع الدولة العثمانية للنفوذ الروسي. وفضَّلت بريطانيا أن تُعالج الخطر الروسي بالاعتماد على قوتها البحرية لتقوية مركزها في الطرق التجارية إلى الهند؛ طريق البحر الأحمر، وطريق الفرات، فلم تكن بحاجة إلى التحالف مع حاكم طموح كمحمد علي، مصيره في كف القدَر.

محمد علي وموقفه من الإنجليز وفرنسا

وقد كادت هذه السياسة أن تؤدي إلى الصدام بين الإنجليز ومحمد علي، الذي احتل — وقتًا ما — موقعًا على الفُرات، ومدَّ سلطانه نحو الخليج العربي ومدخل البحر الأحمر، وخضعت له الحسا والقطيف، وانتصرت قواته في عسير، واحتل — لفترة قصيرة — عدن. وزاد محمد علي من توجُّس الإنجليز منه عندما بادل شاه فارس مشاعر الود. ولكن الحكومة البريطانية نجحت في وضع حدٍّ لتوسُّع محمد علي في مناطق كانت تعدُّها من مناطق نفوذها.

هذه العوامل كلها — مُضافًا إليها الخوف من تهديد السلم الأوروبي — جعلت بريطانيا تتمسَّك بسياستها التقليدية الرامية إلى المحافظة على سلامة الدولة العثمانية، فردَّت قوة محمد علي إلى داخل مصر ذاتها.

أما فرنسا، فكانت تنظر إلى الدولة العثمانية نظرةً أخرى؛ فقد أقدمت على احتلال مصر (١٧٩٨م)، ثم عادت فاحتلت الجزائر (١٨٣٠م)، ولم تتورَّع عن إرسال أحد وزرائها المفوَّضين إلى الإسكندرية رأسًا، وقدَّمت لمحمد علي بعثةً عسكرية، وعرض عليه الماليُّون الفرنسيون قرضًا، وبادل الباشا الفرنسيين أقوى صلات الود؛ فأحسن معاملة الفرنسيين في حكومته، واستعان باللوائح والنظم الفرنسية في التعليم والجيش، وأوفد إلى فرنسا أكثر الطلاب.

ولكن فرنسا كانت مترددةً في سياستها الشرقية، وكانت تخشى — كبريطانيا — أن يهدِّد توسُّع محمد علي السِّلم الأوروبي، ويهيِّئ لروسيا الفرصة لبسط سيطرتها على الدولة العثمانية. ولهذا كانت السياسة الفرنسية تميل إلى حل النزاع بين محمد علي والسلطان بالاتفاق والتراضي، وليس هناك ما يحُول دون أن يتم الاتفاق بين الطرفين مباشرةً، ومواجهة الدول بذلك.

ومن أجل القضاء على النفوذ الروسي، وتحديد مركز محمد علي، والحيلولة دون انفراد فرنسا بالتوسُّط بينه وبين الباب العالي، عملت السياسة البريطانية على تحويل مسألة النِّزاع بين محمد علي والسلطان إلى مسألة أوروبية، وشاركتها فرنسا في هذا السعي لضرب النفوذ الروسي، ولتحقيق مصلحة محمد علي — في الوقت نفسه — بالاشتراك مع الدول، وهما هدفان متناقضان. ولكن روسيا فوَّتت على فرنسا غرضها، وانضمَّت إلى الدول، وشاركتها في إرسال المذكرة المشتركة إلى الباب العالي (عام ١٨٣٩م) لمنع الاتفاق المباشر بين محمد علي والسلطان.

ولكن ضعف سياسة فرنسا (على عهد ملكية يوليو) سواء في أوروبا أو في الشرق، ما لبث أن أبعدها عن مجال العمل الدولي المشترك، وتزعَّمت بريطانيا مجمع الدول، وأعلنت معاهدة لندن (يوليو ١٨٤٠م)، التي قامت على مبدأ المحافظة على الدولة العثمانية، مع إعطاء مصر مركزًا يقل كثيرًا عما كان محمد علي يتطلَّع إليه، ولكنه يمتاز عن مركز الولايات العثمانية الأخرى.

فأعطت محمد علي حكم مصر وراثيًّا في أسرته، وجنوب الشام (فلسطين) مدى حياته، فإذا رفض ذلك في مدة عشرة أيام؛ نُزعَت منه الأراضي الشامية، وإذا استمر في الرفض مدة عشرة أيام أُخر؛ نُزعت منه مصر أيضًا، وأعانت الدول السلطان على إخضاعه.

ورفض محمد علي هذه التسوية التي اتخذت طابع الإنذار، على أمل أن ينفرط عقد التحالف الأوروبي، وأن تتحرك فرنسا لتأييده، ولكن لوي فيليب ملك فرنسا كان يخشى التورُّط في الحرب، فلم تخرج حكومته على إجماع الدول. وحوصرت السواحل المصرية، وانهار الحكم المصري في الشام، وانتهى الأمر بقبول محمد علي حكم مصر الوراثي، وأصدر السلطان الفرمان المعدَّل (يونيو ١٨٤١م) المؤسَّس على معاهدة لندن.

وأكدت التسوية النهائية أن مصر جزء من الدولة العثمانية، تسري عليها قوانينها ومعاهداتها مع الدول، وأن جيش مصر جزء من جيش السلطان، وأنه لا يجوز لوالي مصر أن يبني سفنًا حربية إلا بموافقة السلطان، ومنحت التسوية حكم مصر وراثيًّا لأسرة محمد علي. وبذلك لم يبقَ لمحمد علي سوى حق التصرف في موارد البلاد وفق ما يراه، بعد أن يؤدي الجزية المفروضة على مصر للدولة العثمانية.

وقد ظلَّت هذه التسوية — في أساسها — قائمةً حتى ١٨ ديسمبر ١٩١٤م، عندما انتهت — من الناحية الفعلية — السيادة العثمانية على مصر بإعلان الحماية البريطانية، فيما عدا بعض التعديلات التي وسَّعت حقوق والي مصر، والتي نالها الخديو إسماعيل. أما من الناحية القانونية، فقد ظلَّت تلك التسوية تحدِّد علاقة مصر بتركيا حتى تنازلت الأخيرة عن سيادتها على مصر في مؤتمر لوزان عام ١٩٢٣م.

١  مجلة الهلال، أكتوبر ١٩٩٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥