إبراهيم باشا الكبير١

في التاريخ شخصيات تلعب أدوارًا مهمة في تاريخ بلادها، ولكنها لا تنال حقَّها من اهتمام المؤرخين، ربما لأن دورها جاء في إطار مشروع يعود الفضل فيه لصاحبه، أو في سياق سياسة كان لها دور معين في تنفيذها، ولكن صاحب السياسة يخطف الأضواء وحده؛ فلا يحظى مَن شاركوا في صُنعها إلا ببصيصٍ منها.

من هذه الشخصيات إبراهيم باشا الابن الأكبر لمحمد علي باشا، باعث النهضة المصرية الحديثة، فرغم دوره الأساسي في بناء القوة العسكرية التي استند إليها مشروع والده، وفي قيادتها في مختلف الميادين، والدور المحوري الذي لعبه في بناء الكيان الإقليمي الذي سعى والده إلى إقامته، رغم ذلك كله لم ينَل إبراهيم من اهتمام المؤرخين إلا قليلًا؛ قياسًا بما ناله محمد علي، ونُظِر إلى دوره الخطير على أنه دور ثانوي، لا يُذكَر إلا في سياق أعمال والده، ولا نجد ترجمة مستفيضة له في العربية، أو غيرها من اللغات.

ولكن إبراهيم باشا كان شخصية فذة، جديرة بتسليط الأضواء عليها، لا يبرر ذلك ما أثير حوله من جدلٍ فحسب، بل لما للدَّور الذي لعبه في بناء «دولة محمد علي» من أهمية في تاريخنا القومي.

الشك في نَسبه

وأول ما يواجِه مَن يقرأ تلك الشذرات — التي تناثرت هنا وهناك من سيرة إبراهيم — ما أثير من شكوك حول نَسبه، والزعم بأنه كان ابنًا لأمينة زوج محمد علي من زوجها الأول، وأن محمد علي تبنَّاه بعدما تزوج منها. ولعل تلك الشكوك التي جاءت من صُنع عباس ابن أخيه طوسون، ومن التفُّوا حوله من العناصر التركية، التي أضمرت الكراهية لإبراهيم بسبب صرامته في التعامل مع مَن خدموا تحت قيادته، ومُساواة الترك والمصريين في المعاملة، ولمَّا كانت تسوية لندن ١٨٤١م، التي صدر بموجبها الفرمان الذي جعل من مصر وملحقاتها إرثًا تتعاقب على حُكمه أسرة محمد علي، وأن يكون الحكم للأكبر سنًّا، فإن ذلك جعل من إبراهيم الوريث الأول للسُّلطة يليه عباس، ومن ثَم كان التشكيك في نَسَب إبراهيم يصب في مصلحة عباس.

وقد استُثمرت هذه الشائعة فيما بعد عندما غيَّر الخديو إسماعيل نظام الوراثة ليقتصر على مَن جاءوا من نسله، فحرم بذلك سلالة أبناء محمد علي الآخرين من اعتلاء مقعد الحكم؛ فراح هؤلاء يروِّجون للشائعة القديمة من قبيل الطعن في شرعية حكم إسماعيل بن إبراهيم وسُلالته، وهكذا جاءت الشائعة من صُنع بطانة عباس بن طوسون، واستُخدمت أداةً في الصراع على العرش بين مختلف فروع أسرة محمد علي.

ويأتي إبراهيم (الذي حمل اسم جده إبراهيم أغا والد محمد علي) على رأس من ولدتهم أمينة لمحمد علي، يليه أحمد طوسون الذي وُلِد عام ١٧٩٣م (وسُمي باسم عم والده طوسون) وجاء إسماعيل كامل الذي وُلِد عام ١٧٩٥م في الترتيب الثالث، وكان ختام «عنقود» أمينة توحيدة التي وُلدَت عام ١٧٩٧م، ونازلي التي وُلدت عام ١٧٩٩م.

أما بقية أبناء محمد علي الذكور (١٤ ولدًا) والإناث (١١ بنتًا) فقد استولدهم من جواريه، ومن الغريب أن معظم بنات المستولدات قضين في المهد، فلم تبقَ منهن على قيد الحياة إلا زينب الرابعة (كان محمد علي حريصًا على اسم زينب فكرر إطلاقه على من تُولَد له من البنات كلما تُوفيت من تحمله)، كما مات في المهد عشرة من الذكور من أبناء المستولدات، فلم يبقَ على قيد الحياة منهم سوى محمد سعيد، وحسين، ومحمد عبد الحليم، ومحمد علي (الصغير)، ومن بين الذكور الذين تُوفوا في المهد طفلان حملا اسم «إسكندر» وأربعة حملوا اسم «عبد الحليم».

الابن البكر

وقد أورد محمد علي دائمًا ذِكر إبراهيم باعتباره ابنه البكر في جميع مُراسلاته مع السلطان التي يعود أقدمها إلى أكتوبر ١٨٠٦م، عندما أرسل محمد علي ولده إبراهيم إلى السلطان حاملًا رسالة ولاء و«عبودية» وهدايا ثمينة (بعضها معروض الآن بمتحف طوب قابي سراي بإستانبول)، وليبقى رهينةً لدى السلطان حتى يدبِّر والده المبالغ المالية المطلوبة من والي مصر؛ فبقي إبراهيم هناك نحو العام، وكان لهذه الإقامة أثرها في مشاعر الكراهية التي حملها طَوال حياته للأتراك، ولم يكن من المنطقي أن يقبل السلطان ابنًا بالتبنِّي كرهينة.

كذلك يتخذ دُعاة التشكيك في نسب إبراهيم من تعيين طوسون قائدًا عامًّا على الحملة الموجَّهة إلى الجزيرة العربية عام ١٨٠٩م، وحصول طوسون على رتبة الباشوية وهو في سن السادسة عشرة، ثم تعيين إسماعيل قائدًا لحملة السودان، يتخذون من ذلك سندًا للقول بأن محمد علي فضَّلهما على إبراهيم لكونهما من صُلبه، ولم يتولَّ إبراهيم قيادة حملة السودان إلا بعد مقتل إسماعيل، كما لم يتولَّ قيادة حملة الجزيرة العربية إلا بعد وفاة طوسون بالطاعون عام ١٨١٦م.

وإذا كان محمد علي قد أبلغ السلطان بالاستجابة لطلبه، وتوجيه حملة إلى الجزيرة العربية اختار لها طوسون، مما دعا السلطان إلى منحه رتبة «الباشا» (أي رتبة «اللواء») فقد كان هذا التصرُّف لمجرد كسب الوقت، فلم تتحرك الحملة فعلًا إلا بعد عامين (١٨١١م) عندما استطاع محمد علي، بفضل جهود إبراهيم في الصعيد، أن يقضي على المماليك في مذبحة القلعة، بعد أن اقتلع إبراهيم جذورهم في الصعيد.

وإذا كان محمد علي قد عيَّن طوسون قائدًا، فقد كان حريصًا على أن يكون بجواره بعض أهل الخبرة العسكرية، كذلك فعل مع إسماعيل في حملة السودان، ويرجع ذلك إلى حاجته الشديدة إلى إبراهيم لمساعدته في توطيد أركان حُكمه في مصر باعتبارها القاعدة الأساسية التي يقوم عليها مشروعه السياسي.

حاكم القلعة

يؤكد ذلك الدور المهم الذي لعبه إبراهيم منذ وصوله إلى مصر عام ١٨٠٥م حتى عام ١٨١٤م على أقل تقدير. فقد عيَّنه والده حاكمًا للقلعة (في أغسطس ١٨٠٥م) حيث معسكرات الحامية العثمانية، والمركز الرسمي لإدارة الولاية، وكان — عندئذٍ — في السادسة عشرة من عمره، وخصَّص له مستشارين من ثِقات أهل الخبرة، وظل يشغل المنصب حتى أكتوبر عام ١٨٠٦م، عندما أُوفِد إلى إستانبول؛ حيث قضى نحو العام رهينة في قصر السلطان.

وقبل عودته إلى مصر عام ١٨٠٧م استصدر والده فرمانًا سلطانيًّا بتعيين إبراهيم في وظيفة «دفتردار مصر» وهو الذي يتولَّى إدارة كل ما اتصل بالشئون المالية من أمور. وبهذه الصفة أسند محمد علي إليه مهمَّتين؛ أولاهما، اجتثاث جذور المماليك في البلاد عن طريق إلغاء نظام الالتزام الذي قضى أيضًا على نفوذ التجار (رأس المال التجاري) في الريف، وإصلاح نظام الحيازة الزراعية بإعادة مسح الأطيان وتوزيعها على القرى، وضبط «مكلِّفات الأطيان» في إطار خطة محمد علي الرامية إلى إحكام قبضته على البلاد، وإزاحة فئة الوسطاء بين الإدارة والناس، وإعادة هيكلة العلاقة بين الحكومة والمنتِجين كأفراد، سواء في قطاع الفلاحة أو الإنتاج الحِرفي.

كان دور إبراهيم — بذلك — دورًا تأسيسيًّا لا غنَى عنه، ولا يستطيع القيام به طوسون الذي عُرف عنه التهور والاندفاع، ولا إسماعيل الذي عُرف عنه الاستهتار والطيش؛ فقد اكتسب إبراهيم بعض صفات أبيه، فكان يتسم بالدهاء، وقوة الحُجة، لا يلجأ إلى العنف إلا عندما لا يجد للحيلة سبيلًا، ويؤكد ذلك ما يُورده المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي عند تناوله حوادث تلك السنوات.

أما المهمة الثانية التي أُسندت إلى إبراهيم، فكانت تأمين الصعيد، ومطاردة المماليك جنوبًا حتى بلاد النوبة، وفرض الأمن في تلك الربوع، وخاصةً تأمين الملاحة في النيل. وهذه أيضًا مهمة بالغة الأهمية لتوطيد دعائم الحكم، وضمان وصول الغلال وغيرها من الحاصلات إلى القاهرة بانتظام، في مرحلة دقيقة كان هَم الباشا فيها جمع أكبر قدرٍ ممكن من الموارد المالية التي يستعين بها على تنفيذ مشروعه السياسي.

ويتضح من ذلك أن إبراهيم كان بمثابة الذراع اليمنى لأبيه في أدق مراحل إرساء دعائم حُكمه، وهي المرحلة التي اقتضت اتخاذ إجراءاتٍ حاسمة لوضع أُسس تغيير البنية الأساسية لمصر التي بنى عليها محمد علي مشروعه التنموي في القطاع الزراعي، وفي قطاع الإنتاج الحِرفي/الصناعي بما ترتب على ذلك كله من تغيُّرات اجتماعية وسياسية.

ميولٌ عربية

ورغم المهام الخطيرة التي أُسندت إلى إبراهيم وهو بعد فتًى، تتفتَّح أمامه مرحلة الشباب، حرص محمد علي أن يزوِّده، وإخوته، بما يحتاجون من معارف، فخصَّص لكلٍّ منهم معلِّمين، كما جعل لهم مستشارين من أهل الخبرة الإدارية والعسكرية. وكان ذلك شأن إبراهيم، غير أن إبراهيم تميَّز عن إخوته بالحرص على تعلُّم اللغة العربية، والحرص على الحديث بها، ويفسر ذلك العبارة التي نُسبَت إليه، والتي قال فيها: «جئتُ إلى مصر صغيرًا، فأحببت شمسها ونيلها، وأصبح دمي عربيًّا»، ويعني بذلك أنه قد تمصَّر لأن كلمة «العرب» كانت تُطلَق على المصريين تمييزًا لهم عن «التُّرك» كما يفسِّر حرصه على أن يضم إلى حاشيته الأدباء والشعراء، مما يكشف عن تذوُّقه للأدب العربي وميله إليه.

ومما يُروى من النوادر في هذا الصدد مداعبته لأحد الشعراء الذي كان يكره تناول القلقاس، فدعاه إبراهيم إلى مجلسه، وتسامر الجميع حتى حلَّ موعد الغداء، وانتقلوا إلى تناول الطعام؛ فلاحظ الشاعر أن كل الأصناف على المائدة صُنعَت من القلقاس، فأمسك عن تناول الطعام، وعندما سأله إبراهيم عن سر ذلك قال:

سألوك عن قلبي، وكم قاسى؟
فقل قاسِي وقل قاسي وقل قاسي

فضحك إبراهيم، وأمر بجلب ما يشتهيه الشاعر من أطباقٍ إلى المائدة، مما يعكس رقة حاشيته وتذوُّقه للأدب.

هذا العشق للأدب العربي، والحرص على التحدث بالعربية، والحرص على مقاومة التمييز بين التُّرك والمصريين (أولاد العرب)، والحديث إلى الجنود بالعامية المصرية، كل ذلك جعل البعض ينسب إلى إبراهيم ميولًا عربية «قومية» في وقتٍ لم تكن قد ظهرت فيه الفكرة العربية، بل يشتط البعض فيزعم أن إبراهيم كان يسعى لإقناع والده بإقامة دولة عربية مستقلة عن الدولة العثمانية.

والحق أن إبراهيم كان يشارك والده نظرته «الإسلامية/العثمانية» التي جعلت الوالد يضع في أولوياته السيطرة على مقاليد الأمور في الدولة العثمانية، والعمل على إحياء قوتها بتعميم ما أدخله من إصلاحٍ في مصر والشام على قاعدة الدولة ذاتها، وبناء قوة عسكرية كبرى تحت قيادته لفرض هيبة الدولة على الساحة الدولية … فإذا تعذَّر تحقيق ذلك في إطار الأوضاع الدولية، كان البديل السعي للاستقلال عن الدولة، أو الحصول على الاستقلال الذاتي الكامل الذي لا يترك للسلطان إلا سلطة اسمية أو رمزية.

الزحف على الأناضول

حقًّا اختلف إبراهيم مع والده في خطة الزحف على الأناضول عبر جبال طوروس، ولم يكن مبعث هذا الاختلاف حرصه على التوقُّف عند الحدود التي لا يجد بعدها من يتحدث بالعربية، كما ورد في بعض الكتابات دون سندٍ لذلك، لدعم فكرة تحمُّس إبراهيم «للعروبة»، ولكن كان مبعثه خشية تعريض قواته لمخاطر انقطاع خطوط الإمداد والتموين من مصر عبر الشام لصعوبة تضاريس الأناضول، وعدم وفرة الموارد الغذائية في هضبة الأناضول، مما قد يعرض جيشه للمجاعة، واقترح على والده خطة بديلة، يتم بموجبها إنزال القوات المنقولة بحرًا للاستيلاء على مواني غرب الأناضول، وتأمينها ليسهل وصول الإمدادات من مصر إليها، ثم الزحف السريع من تلك المواني إلى إستانبول، وتنحية السلطان محمود الثاني بموجب فتوى أصدرها مفتي حلب، وتولية ابنه الطفل تحت وصاية محمد علي.

وكان إبراهيم يرى في هذه الخطة ضمانًا لسلامة قواته من ناحية، وسرعة الاستيلاء على إستانبول قبل توصُّل الدول الأوروبية الكبرى إلى قرارٍ بشأن القيام بعملٍ مضاد، مما يجعلها أمام الأمر الواقع. وجاء اعتراض محمد علي مبنيًّا على خشيته من أن يؤدي تحويل بحر إيجة إلى مسرحٍ للعمليات من تدخُّل بريطانيا — القوة البحرية العتيدة — ضده كما فعلت في حرب اليونان.

ونبَّه إبراهيم إلى أن ما تريده بريطانيا هو إضعاف قوات «المسلمين» حتى تسيطر على بلادهم، ولذلك فضَّل اختراق الأناضول ليظل العمل «داخليًّا» في إطار الدولة العثمانية، بعيدًا عن البحار الدولية، وهنا دار خلاف آخر بين إبراهيم ومحمد علي؛ إذ أصر إبراهيم على عدم إنقاص المؤن اللازمة للجيش حتى لا يقع الجنود فريسة المجاعة.

ورغم صعوبة العمل العسكري عبر جبال طوروس، واختراق هضبة الأناضول الشديدة الوعورة؛ استطاع إبراهيم أن يصل بقواته إلى كوتاهية التي لا تبعد عن إستانبول سوى مائة كيلومتر. وعندما أمره والده بالتوقف عن الزحف استجابةً لضغط الدول، حرص على إبرام اتفاقية الصلح التي أعطت محمد علي حكم مصر وملحقاتها والشام؛ مقابل الانسحاب من الأناضول، وجاء اختيار موقع إبرام الاتفاقية (كوتاهية) دليلًا على حرص إبراهيم على تسجيل أن قواته بلغت مشارف إستانبول، وأن المكاسب التي حققتها الاتفاقية لحكام مصر تمثِّل حقًّا كسبه بقوة السلاح.

قائدٌ مميز

وتكشف مراسلات إبراهيم إلى والده عن شخصية القائد الحريص على جنوده، الذي لا يقبل أن يعرِّضهم للمخاطر، بينما كان والده لا يشاركه هذا الاهتمام، حتى إن محمد علي لم يعُد يخاطبه مباشرة، بل كان يراسله من خلال «الباش معاون» تعبيرًا عن ضيقه بإصرار إبراهيم على عدم خفض نفقات تموين الجنود، وتوجُّسه خيفةً من إصرار إبراهيم على ترقية المصريين إلى رتب القيادة الوسطى.

فقد ألحَّ إبراهيم على أبيه في الموافقة على ترقية الضباط المصريين (وكانوا في الأصل جنودًا رقُّوا من تحت السلاح) إلى رتبة «البنباشي» (العقيد)، وأصر محمد علي ألا يتجاوز المصريون رتبة «اليوزباشي» (النقيب)، بحجة أنهم لم يدرسوا بالمدارس العسكرية، وأن تقتصر الترقية إلى الرتب القيادية الوسطى والعالية على الضباط المماليك.

وكان إبراهيم يرى أن الدراسة وحدها لا تكفي مبررًا لترقية الضباط، وأن الخبرة القتالية والشجاعة والانضباط لا بد أن يكون لها المقام الأول عند النظر في ترقية الضباط، ونعى على والده تشكُّكه في ولاء المصريين، مؤكِّدًا له أن «إخلاص أولاد العرب لنا يفوق إخلاص التُّرك، فإذا كان هناك ٣٠٠ بين كل ألف من الأتراك يخلصون لنا، فإن هناك ٧٠٠ بين كل ألف من أولاد العرب من المخلصين.»

هذا الاهتمام الكبير بالجنود، والتقدير التام للشجاعة والإقدام والانضباط يفسر ما تُجمِع عليه المصادر المعاصرة من «امتلاكه لقلوب الجنود»؛ فقد كان حريصًا على مشاركتهم في جميع الأعمال، يتصرَّف كجندي عادي، ينام على الأرض بينهم، وعلى الجليد في بلاد الأناضول، ويتناول طعامهم. وأورثه ذلك كله مرض الروماتيزم ثم داء الصدر الذي أودَى بحياته في نهاية الأمر.

حازمٌ متواضع

ورغم قلة المادة المتاحة عن صفاته الشخصية، تُجمِع المصادر على أنه كان وقورًا متواضعًا رقيق الحاشية، حازمًا، لا تُشَق له عصا الطاعة، لا يتوانى عن عقاب المخطئ، مثلما لا يتردد في مكافأة من يُحسن أداء واجبه.

ويشير نوبار باشا في مذكراته إلى أن إبراهيم اختاره سكرتيرًا خاصًّا له في أواخر أيام حكمه للشام، لكونه من أقارب بوغوص بك، صَفِي محمد علي، حتى يطمئن والده من ناحيته، ويبدِّد الشكوك التي كان سببها خلافه معه حول التوسُّع في الأناضول.

وكان تقدير إبراهيم أن نوبار سينقل لبوغوص كل أخباره، فتصل إلى محمد علي، غير أن نوبار السكرتير الشاب أحبَّ إبراهيم، ورافقه حتى وفاته، ويصفه بالشجاعة ورباطة الجأش وقت الشدة، وصفاء الذهن، والنظرة الثاقبة في تقدير الرجال، وعندما صحبه في رحلته إلى أوروبا التي زار فيها فرنسا وإنجلترا بحثًا عن علاجٍ لما يعانيه من أمراض (١٨٤٧م) ينقل عنه نوبار ما جاء في حديثه معه من أفكار تمنَّى على الله أن يقوم بتطبيقها عندما يعتلي كرسي الحكم، ولعل أهم ما فيها تحسين الأحوال المعيشية للناس بتخفيف الأعباء الضريبية عنهم، وتحميل الأثرياء النصيب الأوفر منها، وتوفير الرعاية الطبية، وكذلك الاهتمام بالتعليم الأساسي الذي يهدف إلى تثقيف أبناء الشعب، وليس مجرد إعدادهم لتولي وظائف الإدارة، وهو ما كان ينوي أن يُسمِّيه «مدارس الملة».

ولكن القدر لم يُمهل إبراهيم لتحقيق ما كان يفكر فيه من إصلاح؛ فلم يمكث في الحكم سوى ستة شهور انتهت بوفاته في ٢٠ نوفمبر ١٨٤٨م، وخلَفه عباس حلمي الأول ابن أخيه طوسون، الذي ظل يكيد له منذ مطلع الأربعينيات، ولعل ذلك يفسِّر ما يذكره نوبار من أن عباس، وغيره من أبناء محمد علي وأحفاده، فرحوا لموت إبراهيم؛ فلم يذرف أحدهم دمعةً عليه، بينما كان والده هناك بالإسكندرية يعاني من مرض «خرف الشيخوخة» (الذي عُرف فيما بعد بالألزهايمر).

كان إبراهيم اليد القديرة التي نفَّذت مشروع محمد علي لبناء قوة إقليمية قاعدتها مصر، كما كان آخر الذكور الأحياء من أبناء محمد علي من زوجته أمينة (الحرة)، وكان الباقون من أبناء محمد علي من أبناء الجواري، كما كانوا ينتمون إلى جيلٍ آخر لم يعانِ مشاق البناء، واهتم بقطف الثمار دون عناء، ولعل ذلك يفسر ارتياحهم لغياب إبراهيم من الوجود (هذا إذا صحَّ ما يذكره نوبار).

١  مجلة الهلال، ديسمبر ٢٠٠٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥