التطور الاجتماعي في عصر إسماعيل١

عندما يُذكَر اسم الخديو إسماعيل، تقفز إلى الأذهان — غالبًا — السلبيات التي شابت حكمه؛ من وقوع مصر في ربقة الديون، والأزمة المالية التي أخذت بخناقها قبيل نهاية حكمه، ثم التدخُّل الأجنبي الذي بدأ به العد التنازلي للاحتلال البريطاني الذي حدث بعد ثلاث سنوات من إقصاء إسماعيل عن الحكم. وقد يقترن بتلك الصورة الباهتة لذلك الحاكم إسرافه في إنفاق المال العام، وتبديده لثروة البلاد من أجل تحقيق مجدٍ شخصي مزعوم.

ومن الإنصاف أن نشير إلى أن صورة إسماعيل لم تتشكَّل على هذا النحو على يد ثورة يوليو وإعلامها ونظامها التعليمي، ولكنها ترجع إلى أدبيات الحركة الوطنية المصرية منذ العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وهي التي حمَّلت إسماعيل مسئولية وقوع مصر بين براثن الاحتلال البريطاني، واستمرت حتى عهد ابنه الملك أحمد فؤاد الذي بذل جهدًا كبيرًا في تحسين صورة والده في التاريخ، بتشجيعه بعض الكُتاب الأجانب والعرب على إبراز الجوانب الإيجابية المُهمَلة في عصر والده؛ فكان كتاب كرابيتس «إسماعيل المُفترى عليه»، وإلياس الأيوبي «تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا»، وقطاوي «إسماعيل كما تصوره الوثائق التاريخية»، ومحمد صبري السربوني «الإمبراطورية المصرية في عهد إسماعيل»، وغيرهم من الكُتاب والمؤرخين الذين كتبوا بالفرنسية والإنجليزية والعربية ليقدموا الوجه الآخر لعصرٍ من أهم عصور مصر الحديثة.

غير أن تلك الكتابات لم تنجح إلا قليلًا في تحسين صورة إسماعيل التي استقرت في أذهان المصريين باعتباره المسئول الأول عن تهيئة مصر للوقوع تحت الاحتلال البريطاني.

واليوم، بعد ١١٨ عامًا من نهاية حكم إسماعيل، يجب علينا أن نعيد النظر في تلك السنوات الست عشرة التي حكم فيها مصر (١٨٦٣–١٨٧٩م)، لنرى ما أصاب مصر خلالها من خير، أو لحق بها من ضُر، دون اعتبار لتلك الصورة الباهتة التي لازمت تاريخ الرجل، من أجل فهمٍ أدق لتاريخنا الوطني، وبعث الوعي بالتاريخ عند شبابنا.

•••

شهد عهد إسماعيل تنمية اقتصادية حققت نجاحًا بارزًا في مجال الزراعة، وإخفاقًا كبيرًا في ميدان الصناعة؛ فالعصر — عندئذٍ — عصر التوسُّع الإمبريالي بعد نضج الرأسمالية الصناعية في أوروبا، والتنمية التي سعى إسماعيل إلى تحقيقها تمت في إطار الليبرالية الاقتصادية النسبية التي فُرضَت على مصر عند نهاية حكم محمد علي، وفي ظل زحف رءوس الأموال الأجنبية على مصر الذي بدأ منذ عهد سعيد، وبالتالي كان مجال النجاح في قطاع الزراعة مطلوبًا لخدمة مصالح الرأسمالية العالمية التي كانت في حاجة إلى المواد الأولية (وخاصةً القطن المصري)، بقدر حاجتها إلى فتح السوق المصرية أمام منتجاتها الصناعية، ومن ثَم كان الفشل نصيب محاولات إسماعيل لتحقيق التنمية في مجال الصناعة.

التوسُّع العمراني

وكان للتنمية التي شهدتها مصر في عهد إسماعيل أثرٌ بارزٌ على التطور الاجتماعي الذي بدأت بوادره قبيل نهاية عهده، وبرزت بصورةٍ واضحةٍ حتى جاءت الحرب العالمية الأولى، وما صاحبها من تغيُّرات لتفتح صفحة جديدة في سجل التطور الاجتماعي.

فلا شك أن العمران الحضري الذي كان علامة مميزة لذلك العهد كان له مردود اجتماعي بارز، فتوسَّعت القاهرة وفق تخطيط عمراني نموذجي بمعايير العصر، وكذلك كان شأن الإسكندرية، وأُنشئت مدينتا بورسعيد والإسماعيلية، وتوسَّع ثغر السويس، وساعد مد شبكة الخطوط الحديدية لتربط الصعيد بالدلتا، وأطراف الدلتا بالقاهرة والإسكندرية، على نمو بعض المدن الإقليمية مثل طنطا، وكفر الزيات، والمنصورة، والمنيا، وأسيوط، وغيرها من مدن الأقاليم.

كذلك لعبت مشروعات الري الكبرى كترعة الإسماعيلية وترعة الإبراهيمية وشبكة الترع الأخرى دورًا مهمًّا في إتاحة الري الدائم، وزيادة الإنتاج الزراعي زيادةً رأسيةً وأفقية، استفاد بها مُلَّاك الأراضي الزراعية؛ فكان لذلك كله أثرٌ ملموس على المجتمع الريفي خاصةً، وعلى التطور الاجتماعي في البلاد عامةً.

وكان إقدام إسماعيل على إلغاء الرق متغيرًا مهمًّا في بِنية النخبة التركية الحاكمة التي كانت تجدِّد دماءها حتى نهاية عهد سعيد وأوائل عهد إسماعيل باستيراد العناصر التركية والشركسية للخدمة في سلك ضباط الجيش ومراكز الإدارة، مما كان له أثرٌ كبير على تكوين النخبة الحاكمة، وفتح الباب تدريجيًّا لاندماجها في أعيان الريف من المصريين على نحو ما سنرى، وإن كان إلغاء الرق لم يقض نهائيًّا على استخدام الرقيق الأسود في الخدمة المنزلية؛ فقد ظلت التجارة السرية في الرقيق الأسود قائمةً رغم أنف القانون حتى التسعينيات من القرن الماضي.

فإذا أردنا أن نرصد التطور الاجتماعي الذي برز نتيجة التغيرات التي نجمت عن المشروعات التنموية التي أدخلها إسماعيل، والذي بدأت مؤشراته في عهده، وتجلَّت بشكلٍ واضح عند نهاية العقد الأول من القرن العشرين، لن نجد مجالًا في هذا المقام يتيح لنا رصدًا كاملًا لذلك التطور؛ ومن ثَم فلا نجد مفرًّا من الإشارة إلى أبرز ملامح ذلك التطور.

النخبة الحاكمة

كانت النخبة الحاكمة حتى عهد إسماعيل، تعيش على هامش المجتمع المصري، وتتكوَّن من أفراد الأسرة الحاكمة وكبار الموظفين الأتراك من أبناء آسيا الصغرى، وأتراك تونس والجزائر والشركس والأكراد والأرمن والشوام، الذين كان يجمع بينهم التمسُّك باللغة التركية باعتبارها لغة النخبة، وبالثقافة والعادات التركية. وكانوا ينظرون إلى المصريين نظرة المتبوع للتابع والسيد للمسُود، ويعتبرونهم — مهما علا قدرهم — مجرد «فلاحين» خُلِقوا لخدمتهم، وعُرفوا باسم «الذوات» أو «الذوات المُعتبرين». وكان انتساب بعض كبار الموظفين المصريين إليهم (مثل رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك، وحفنة ممن أتيحت لهم فرصة التعليم في عهد محمد علي وارتقاء بعض الوظائف الكبرى) يُعَد تشريفًا لا يحظى به إلا من يؤدي خدماتٍ كبيرة للدولة.

وبدأت مؤشرات تسلُّل المصريين إلى هذه النخبة منذ عهد إسماعيل، الذي توسَّع في تعيين بعض الأعيان في مناصب مديري المديريات (ما يعادل المحافظين الآن)، وفي بعض وظائف الدواوين الكبرى، وكذلك النظارات (الوزارات)، ولكن هذه العناصر المصرية التي تعلَّقت بأذيال الذوات، واستطاعت أن تقيم علاقات مُصاهرة مع بعض العائلات التركية، نجحت في كسر حِدة انعزال الذوات، وحملت إليهم دماءً جديدة، مما أدَّى إلى إيجاد روابط وصلاتٍ اجتماعية بين الأتراك وعائلات الأعيان المصريين من كبار المُلاك.

ولم يكد القرن التاسع عشر يبلغ نهايته حتى كانت تلك الفئة قد انحصرت في أسرة محمد علي بفروعها المختلفة، وبعض العائلات التركية التي ظلَّت بمنأًى عن مخالطة المصريين، وساعد على ذلك انقطاع سيل العناصر التركية والشركسية بعد إلغاء تجارة الرقيق على نحو ما رأينا، كما أن العناصر التركية والشركسية (من الأحرار) التي كانت تُقبِل على الهجرة إلى مصر طلبًا للعمل في خدمة أسرة محمد علي؛ لم تعُد تفعل ذلك منذ الاحتلال البريطاني، وخاصةً أن الوظائف الحكومية الكبرى في عهد الاحتلال أصبحت من نصيب الأوروبيين عامةً والإنجليز خاصةً، واتجهت سلطات الاحتلال إلى إسناد الوظائف المهمة إلى عددٍ من الشوام (وخاصةً الموارنة) وإلى الجيل الجديد من أبناء أعيان المصريين الذين تلقَّوا تعليمهم بأوروبا.

وبمرور الزمن اتسعت مساحة الوجود المصري في النخبة، وازداد شعور الأعيان بمصريَّتهم نتيجةً للدور الذي لعبوه في الحياة السياسية، وشاع التندُّر على الأتراك والسخرية منهم بين عامة المصريين.

الطبقة الوسطى

وأدَّى نمو المدن وازدهارها في عهد إسماعيل والعقود التالية له، إلى نشوء طبقة وسطى مصرية تركَّزت في المدن، ضمَّت أولئك الذين انحدروا من أصولٍ ريفية، ونالوا حظًّا من التعليم في عهد محمد علي، مكَّنهم من أن يجدوا لأنفسهم مكانًا في أجهزة الحكم، واتصلوا بالثقافة الغربية من خلال البعثات التعليمية، أو من خلال كتابات من قدَّموا المجتمع الغربي وثقافته لقرائهم (مثل كتابات رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك وغيرهما).

وإلى جانب هؤلاء كان هناك المهاجرون الشوام الذين قامت على أكتافهم الصحافة والتجارة والإدارة، وبعض أعيان الريف الذين جذبتهم المدن الجديدة، والأحياء الأوروبية الطراز في القاهرة والإسكندرية؛ فأقاموا فيها، واندمجوا تدريجيًّا في مجتمع المدينة اعتمادًا على ريع أطيانهم، مما كان له انعكاسه على أدبيَّات العقود الأخيرة من القرن الماضي (ككتابات عبد الله النديم في «الأستاذ»، وحديث عيسى بن هشام للمويلحي، والأعمال المسرحية في الربع الأول من القرن العشرين على سبيل المثال).

وما كاد القرن التاسع عشر يبلغ نهايته، حتى كانت العناصر المثقفة من أرباب المهن الحرة كالمحامين والمهندسين والأطباء، تتصدَّر قيام الطبقة الوسطى، وتعبِّر عن مصالحها. وقد كان هؤلاء في الغالب من أبناء الأعيان، وكبار الموظفين الذين اعتنى ذوُوهم بتعليمهم في المدارس بمصر والخارج؛ لتأهيلهم لتولي مناصب الدولة؛ فاختار بعضهم ممارسة المهن الحرة، بينما التحق البعض الآخر بوظائف الحكومة.

وكان هؤلاء يعبِّرون، منذ نهاية القرن الماضي، عن مصالح سكان المدن (رغم أن معظمهم جاءوا من أصولٍ ريفية)، ويسَعون إلى زيادة فاعليتهم عن طريق المطالبة برفع مستوى التعليم، وجعله متاحًا لقطاعٍ أكبر من أبناء الشعب، ومن ثَم كان اهتمامهم بإنشاء الجامعة المصرية، والمطالبة بتوسيع حقوق الانتخاب، ومنح الأمة دستورًا على النمط الليبرالي الغربي.

وزاد من التماسُك النسبي لتلك الطبقة الجديدة، وعيها الواضح بخطورة الوجود الأجنبي في مصر الذي كان ماثلًا أمام العيان من خلال تدفُّق المهاجرين الأوروبيين على المدن المصرية، وسيطرتهم على قطاع التجارة والمال في حماية الامتيازات الأجنبية. ولكنها لم تتخذ لحركتها منحًى ثوريًّا؛ فاكتفت بالنضال السلمي ضد الهيمنة الأجنبية، مستندةً إلى حشد قطاع جماهيري محدود وراءها، تمثَّل في الحرفيِّين وصغار التجار والطلاب (على نحو ما فعل الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل، ومحمد فريد).

الفلاحون

كان للتغيُّرات التي شهدها قطاع الزراعة في عهد الخديو إسماعيل أثرٌ بالغ على المجتمع الريفي. فرغم مساوئ نظام المُقابلة فإنه أدَّى (في نهاية المَطاف) إلى دعم حقوق الملكية الفردية للأرض بعد انقضاء عصر إسماعيل، كذلك أدَّى التوسُّع الكبير في زراعة القطن وتحويل النظام المحصولي إلى التخصُّص في إنتاج القطن، إلى حدوث تركُّز في ملكية الأرض، فاتسعت المِلكيَّات الكبيرة، وتآكلت المِلكيَّات الصغيرة نتيجة عجز الفلاحين عن سداد الديون الربَويَّة التي قدَّمها لهم المُرابون الأجانب، فوضع هؤلاء أيديهم على مساحات كبيرة من أطيان صغار المُلاك، بيعت — في الغالب — لكبار المُلاك، لينضم بذلك الآلاف من صغار المُلاك إلى جيش المُعدَمين، ويتحوَّلوا إلى عمَّال زراعيين بعدما تم إقصاؤهم عن أداة الإنتاج (الأرض).

فإذا أضفنا إلى ذلك زيادة سكان مصر بنسبة ٧٥٪ في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن التاسع عشر، وخاصة أن ما يزيد على ٨٠٪ من السكان كانوا يعيشون في الريف، أدركنا حجم مشكلة الفقر، وأبعاد الأزمة الاجتماعية التي نشأت عن التطورات التي أدخلها إسماعيل على القطاع الزراعي.

وبينما حقَّقت تلك التطورات مكاسبَ كبيرة لأعيان الريف، جلبت الكثير من البؤس والشقاء للفلاحين من صغار المُلاك والمُعدَمين على حدٍّ سواء، فقد وقع عليهم وحدهم عبء الاشتغال بالسُّخرة في الأعمال العامة، وشق الترع، وحفظ الجسور زمن الفيضان، وحتى عندما ألغى الاحتلال السُّخرة في تسعينيات القرن الماضي؛ فإن الإلغاء جاء اسميًّا، لأن الأعمال التي كان يُسخَّر الفلاحون فيها أُسندَت للمقاولين الذين استفادوا من ظروف البطالة في الريف بتعبئة الفلاحين للعمل في تلك المشروعات من خلال «التراحيل» مقابل أجور زهيدة تافهة، لا تكفي لإقامة أوْد الفلاح وأسرته.

وأسقط المُشرِّع الفلاح من اعتباره، فلم يتدخل لحماية حقوقه، وتوفير الحد الأدنى له من أسباب الحياة، ولا عجب في ذلك، فقد كانت السُّلطة في أيدي كبار المُلاك الذين غاب وعيهم الاجتماعي بما قد يلحقه تفاقم مشكلة الفقر على مصالحهم من ضررٍ، وما قد يترتب عليه من ثورة اجتماعية، رغم توافُر المؤشرات الدالة على ذلك أثناء الثورة العرابية، وحتى أثناء ثورة ١٩١٩م.

وساعد امتداد شبكة الخطوط الحديدية التي أنشأها إسماعيل على تدفُّق الهجرة من الريف إلى المدن طلبًا للرزق، وخاصة في محالج القطن بمدن الأقاليم، والمرافق العامة بمدينتَي القاهرة والإسكندرية، وأعمال الشحن والتفريغ بالمواني، وخاصة بورسعيد والسويس، فتدفَّق الفلاحون المُعدَمون من الصعيد على مدن القناة، ومن الدلتا والصعيد على مدينتي القاهرة والإسكندرية، اللتين شهدتا بداية ظاهرة انتشار المستوطنات العشوائية حولهما لسُكنى الفلاحين الوافدين على تلك المدن.

وإضافةً إلى الحرفيِّين من سكان المدن، قدَّم الفلاحون، الذين هاجروا إلى المدن طلبًا للعمل، النواة الأولى للطبقة العاملة المصرية، التي اشتغلت بالصناعات الغذائية المحدودة وقطاع النقل والخدمات، والتي بدأت تنمو نموًّا وئيدًا حتى أعلنت عن وجودها من خلال سلسلة الإضرابات العُمَّالية التي بدأت تنظمها منذ مطلع التسعينيات من القرن التاسع عشر.

التفرنُج

ومن بين التغيُّرات الاجتماعية التي شهدتها مصر مع عصر إسماعيل، واستمرت بعده ظاهرة التفرنُج، ونعني بها تقليد أسلوب الحياة الغربي في المسكن، والملبس، وغيرهما من ملامح مادية لنمط الحياة الأوروبية اليومية. ورغم أن الجيش المصري اتخذ الزي الأوروبي منذ عصر محمد علي، وأنَّ محمد سعيد باشا كان من المتحمسين لالتزام موظفي الحكومة بالزي الأوروبي، إلا أن الخديو إسماعيل قطع شوطًا كبيرًا في هذا المجال، فإلى جانب انتشار الزي الأوروبي بين سكان المدن، وخاصة «الأفندية» من موظفي الحكومة والشركات الأجنبية، أقام إسماعيل أحياءً جديدة على الطراز الأوروبي بالقاهرة والإسكندرية، كما أنشأ مدينتَي بورسعيد والإسماعيلية، وطوَّر مدينة السويس على النمط المعماري الأوروبي أيضًا، وأمدَّ القاهرة والإسكندرية (ثم مدن القناة فيما بعد) بالمياه النقية والغاز (ودخلت الكهرباء بعد عهده بقليل)؛ مما أدَّى إلى ثنائية المجتمع الحضري في مصر، فقد تُركت القاهرة القديمة على حالها، وقامت إلى جانبها قاهرة حديثة أوروبية الطابع بعمائرها ومحلَّاتها وفنادقها وملاهيها ومسارحها وسكانها من الأجانب، ونخبة المصريين من الأعيان والأفندية.

وترتَّب على ذلك تغيُّر كبيرٌ في الأنماط الاستهلاكية لصالح السلع الأوروبية؛ فشاع استخدام الأثاث الأوروبي والزي الأوروبي، وظهرت حِرف جديدة كانت قصرًا (في بداية أمرها) على الأجانب مثل الترزية، وصُنَّاع الأثاث الإفرنجي، والجزمجية (الإسكافية)، وكان معظم أصحاب تلك الحِرف من الإيطاليين واليونانيين والأرمن، كذلك أُدخلت أصناف جديدة من الطعام والشراب أقبل عليها المصريون تدريجيًّا، واتسع كذلك نطاق المصطلحات والمفردات الأجنبية (الفرنسية والإيطالية واليونانية) التي تسرَّبت إلى العامية المصرية في إطار ظاهرة التفرنُج؛ التي اتسع نطاقها في عهد إسماعيل وشاعت بعده. وكانت لها — بالطبع — أثارٌ سلبية على الإنتاج الحِرفي المصري التقليدي، تردَّدت أصداؤها في أدبيَّات العقود الثلاثة التالية لعصر إسماعيل، وتراوحت بين الاستحسان والاستهجان.

•••

ومهما كانت سلبيات عصر إسماعيل، فقد لعبت إنجازاته الاقتصادية دورًا مهمًّا في التطور الاجتماعي الذي شهدته مصر حتى الربع الأول من القرن العشرين، بما لها وما عليها، وتلك عِبرة التاريخ ومغزاه؛ فدراسة التاريخ والوعي به، يوفِّر للأجيال المتعاقبة رؤيةً موضوعية لتجارب الأمة عبر مختلف العصور، للاستفادة بإيجابيَّاتها، واستيعاب دروس سلبياتها، ومن هذا المنطلَق يجب أن نُمعن النظر في تاريخنا الوطني دون تحيُّز لعهدٍ أو لصاحبه، أو تحامُلٍ على عهدٍ آخر ورموزه، إذا كنا ننشد البحث عن مستقبلٍ أفضل لوطننا وأمَّتنا.

١  مجلة الهلال، نوفمبر ١٩٩٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥